الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"مَنْ نصرَ أخاهُ بالغَيبِ وهو يستطيعُ نصرَه نصرهُ اللَّهُ في الدنيا والآخرةِ".
ومن ذلكَ: كذبُ المسلم لأخيه، فلا يُحِل له أن يُحدِّثه فيكذبهُ، بل لاْ يُحدِّثه إلا صدقًا.
وفي "مسندِ الإمام أحمدَ" عن النَّوَّاس بنِ سَمعانَ، عن النبيِّ
صلى الله عليه وسلم قالَ:
"كَبُرَت خيانة أنْ تُحدِّثَ أخاكَ حديثًا هو لك مُصدِّق وأنتَ به كاذبٌ ".
ومن ذلكَ: احتقارُ المسلم لأخيهِ المسلم، وهو ناشئ عن الكِبْر، كما قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ وغمْطُ النَّاسِ ".
خرَّجه مسلمٌ من حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه.
وخرَّجهُ الإمامُ أحمدُ، وفي روايةٍ لهُ:"الكِبْرُ سَفَهُ الحَقِّ، وازدراءُ الناسِ "، وفي روايةٍ:"وغمصُ الناسِ "، وفي روايةٍ زيادةٌ:"فلا يَراهم شيئًا".
وغمصُ النَّاسِ: الطَّعْنُ عليهم وازدراؤهُم.
وقالَ اللَّهُ عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) .
فالمتكبرُ ينظرُ إلى نفسِهِ بعينِ الكمالِ، وإلى غيره بعينِ النَّقصِ، فيحتقرُهُم ويزدريهِم، ولا يراهمُ أهلاً لأنْ يقومَ بحقُوقِهِم، ولا أن يقبلَ مِنْ أحدٍ منهمُ الحقَّ إذا أوردَهُ عليهِ.
* * *
قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)
[قَال البخاريُّ] : بَاب إذا لم يكُنِ الإسلامُ علَى الحقيقةِ وكان على
الاستسلامِ أوِ الخوْفِ مِنَ القَتْلِ:
لقولِهِ عز وجل: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) .
فَإِذَا كانَ على الحقيقةِ فهُوَ علَى قولِهِ: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ) .
وَقولِهِ: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) .
معنى هذا الكلامِ: أن الإسلامَ يُطلقُ باعتبارينِ.
أحدُهما: باعتبارِ الإسلامِ الحقيقيِّ، وهو دينُ الإسلامِ الذي قالَ اللَّهُ فيهِ:
(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ) .
وقال: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) .
والثاني: باعتبارِ الاستسلامِ ظاهرًا، مع عدمِ إسلامِ الباطنِ إذا وقَع خوفًا.
كإسلامِ المنافقينَ.
واستدلَّ بقوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) .
وحملَهُ على الاستسلامِ خوفًا وتقيةً.
وهذا مرويٌّ عن طائفةٍ من السلفِ، منهم: مجاهدٌ وابنُ زيدٍ ومقاتلُ بنُ
حيانَ وغيرُهم.
وكذلك رجَّحه محمدُ بنُ نصرٍ المروزيُّ، كما رجَّحه البخاريُّ؛ لأنهما لا
يفرقانِ بينَ الإسلامِ والإيمانِ، فإذا انتفى أحدُهما انتفَى الآخرُ.
وهو اختيارُ ابنِ عبدِ البرِّ، وحكاهُ عن أكثرِ أهلِ السنةِ من أصحابِ مالكٍ
والشافعيِّ وداودَ.
وأما من يفرقُ بين الإسلامِ والإيمانِ، فإنه يستدلُّ بهذه الآيةِ على الفرقِ
بينهُما، ويقول: نفيُ الإيمانِ عنهم لا يلزمُ منه نفيُ الإسلامِ، كما نَفَى الإيمانَ
عن الزاني والسارقِ والشاربِ، وإن كان الإسلامُ عنهم غيرَ منفيً.
وقد وردَ هذا المعنى في الآيةِ عن ابنِ عباسٍ وقتادَة والنخَعيِّ.
ورُوي عن ابنِ زيدٍ - معناه - أيضًا.
وهو قولُ الزهريِّ وحمادِ بنِ زيدٍ وأحمدَ.
ورجَّحه ابنُ جريرٍ وغيرُه.
واستدلُّوا به على التفريقِ بينَ الإسلامِ والإيمانِ.
وكذا قال قتادةُ في هذه الآيةِ، قال:(قُولُوا أَسْلَمْنَا) : شهادةَ أن لا إله إلا
اللَّهُ، وهو دينُ اللَّهِ، والإسلامُ درجةٌ، والإيمانُ تحقيقٌ في القلب.
والهجرةُ في الإيمانِ درجةٌ، والجهادُ في الهجرةِ درجةٌ، والقتلُ في سبيل الله درجةٌ.
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ.
فجعل قتادة الإسلام الكلمة، وهي أصلُ الدينِ، والإيمان ما قام بالقلوبِ
من تحقيقِ التصديقِ بالغيب، فهؤلاء القومُ لم يحقَقُوا الإيمانَ في قلوبِهم.
وإنما دخلَ في قلوبِهم تصديق ضعيفٌ، بحيثُ صحَّ به إسلامُهم.
ويدلُّ عليه: قولُه تعالى: (وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) .
واختلفَ مَنْ فرَّق بين الإسلامِ والإيمانِ، في حقيقة الفرقِ بينهما:
فقالت طائفةٌ: الإسلامُ كلمةُ الشهادتينِ، والإيمانُ العملُ.
وهذا مرويٌّ عن الزهري وابنِ أبي ذئبٍ، وهوَ روايةٌ عن أحمدَ، وهي
المذهبُ عند القاضي أبي يعلَى وغيرِه من أصحابهِ.
ويشبه هذا: قولَ ابنِ زيدٍ في تفسير هذه الآية، قال: لم يصدِّقُوا إيمانَهم
بأعمالهم، دردَّ اللَّه عليهم، وقال:(لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قولُوا أَسْلَمْنَا) .
فقال: الإسلامُ إقرارٌ والإيمانُ تصديقٌ.
وهو قولُ أبي خيثمةَ وغيرِه من أهلِ الحديثِ.
وقد ضعَّفَ ابنُ حامدٍ من أصحابِنا هذا القولَ عن أحمدَ، وقال: الصحيحُ
أن مذهَبَه أن الإسلامَ قولٌ وعملٌ، روايةً واحدةً، ولكن لا تدخلُ كلّ
الأعمالِ في الإسلامِ كما تدخلُ في الإيمانِ.
وذكر: أنَّ المنصوصَ عن أحمدَ، أنه لا يكفرُ تاركُ الصلاةِ، فالصلاةُ من
خصالِ الإيمانِ دونَ الإسلامِ، وكذلك اجتنابُ الكبائرِ من شرائطِ الإيمانِ دونَ الإسلام.
كذا قالَ، وأكثرُ أصحابنا: أن ظاهرَ مذهبِ أحمدَ تكفيرُ تاركِ الصلاةِ، فلو
لم تكنِ الصلاةُ من الإسلامِ، لم يكنْ تاركُها عندَه كافرًا.
والنصوصُ الدالةُ على أن الأعمالَ داخلةٌ في الإسلامِ كثيرة جدًّا.
وقد ذهَب طائفةٌ إلى أن الإسلامَ عامٌّ، والإيمانَ خاصٌّ، فمنِ ارتكبَ
الكبائرَ خرجَ من دائرةِ الإيمان الخاصةِ إلى دائرةِ الإسلامِ العامَّةِ.
هذا مرويٌّ عن أبي جعفرٍ محمدِ بنِ عليٍّ.
وضعفه ابنُ نصرِ المروزيُّ، من جهة راويه عنه، وهو فضيل بنُ يسار،
وطعنَ فيه.
ورُوي عن حمادِ بنِ زيدٍ نحو هذا - أيضًا.
وحُكي روايةً عن أحمدَ - أيضًا -؛ فإنه قال - في رواية الشالنجيِّ - في
مرتكبِ الكبائرِ: يخرجُ من الإيمانِ، ويقعُ في الإسلامِ.
ونقل حنبلٌ، عن أحمدَ - معناه.
وقد تأوَّلَ هذه الروايةَ القاضي أبو يعلَى، وأقرَّها غيرَه، وهي اختيارُ أبي
عبدِ اللَّهِ ابن بطةَ وابنِ حامدٍ، وغيرِهما من الأصحابِ.
وقالت طائفةٌ: الفرقُ بينَ الإسلامِ والإيمانِ: أن الإيمانَ هو التصديقُ.
تصديقُ القلبِ، فهو علمُ القلبِ وعملُه، والإسلامُ الخضوعُ والاستسلامُ
والانقيادُ، فهو عملُ القلبِ والجوارح.
وهذا قولُ كثيرٍ من العلماءِ، وقد حكاهُ أبو الفضلِ التميميُّ عن أصحابِ
أحمدَ، وهو قولُ طوائفَ منَ المتكلمينَ.
لكن المتكلمونَ عندَهُم أن الأعمالَ لا تدخلُ في الإيمانِ، وتدخلُ في
الإسلامِ، وأما أصحابُنا وغيرُهم من أهلِ الحديثِ، فعندهم أن الأعمالَ تدخل في الإيمانِ، مع اختلافِهم في دخولِها في الإسلامِ، كما سبق.
فلهذا قالَ كثير من العلماءِ: إن الإسلامَ والإيمانَ تختلفُ دلالتُهما بالإفراد
والاقترانِ، فإن أُفردَ أحدُهما دخلَ الآخرُ فيه، وإن قُرنَ بينهما كانا شيئينِ
حينئذ.
وبًهذا يجمعُ بينَ حديثِ سؤالِ جبريلَ عن الإسلامِ والإيمانِ، ففرَّق النبي
صلى الله عليه وسلم بينهما، وبينَ حديثِ وفدِ عبدِ القيسِ حيث فسَّر فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإيمانَ
المنفرد بما فسَّر به الإيمانَ المقرونَ في حديثِ جبريلَ.
وقد حكى هذا القولَ أبو بكرٍ الإسماعيليّ عن كثيرٍ من أهلِ السنةِ
والجماعة.
ورُويَ عن أبي بكرِ بنِ أبي شيبة ما يدلُّ عليهِ.
وهو أقربُ الأقوالِ في هذه المسألةِ وأشبهُها بالنصوصِ. واللَّهُ أعلمُ.
والقولُ بالفرقِ بين الإسلام والإيمانِ مرويٌّ عن الحسنِ وابنِ سيرينَ وشريكٍ
وعبدِ الرحمنِ بنِ مهديً ويحيى بنِ معينٍ، ومؤمَّلِ بنِ إهابٍ، وحُكي عن
مالك - أيضًا.
وقد سبقَ حكايتُه عن قتادةَ، وداودَ بنِ أبي هندٍ، والزهرىِّ، وابنِ أبي
ذئبٍ، وحمادِ بنِ زيدٍ، وأحمدَ، وأبي خيثمةَ.
وكذلك حكاهُ أبو بكرِ بنُ السمعانيِّ عن أهلِ السنةِ والجماعةِ جملةً.
فحكايةُ ابنِ نصرٍ وابنِ عبدِ البرِّ عن الأكثرينَ التسويةَ بينهما غيرُ جيِّدٍ.
بل قد قيلَ: إن السلفَ لم يُروَ عنهم غيرُ التفريقِ. واللَّهُ أعلمُ.
وخرَّج البخاريُّ في هذا البابِ:
حديثَ: الزُّهريّ، عن عامِر بن سعدٍ، عَن أبيهِ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعطَى رهطا، وسعد جَالسٌ، فتركَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رجُلاً، هُو أعجبُهُم إليَّ، فقلتُ: يَا رسُولَ اللَّهِ، مَا لكَ عن فُلانٍ، فواللَّهِ، إنِّي لأراهُ مُؤمنًا؟
فقالَ: "أَو مسلمًا"، فسكتُّ قليلاً، ثمَّ غلبني ما أعلمُ منهُ، فقلتُ: يارسولَ اللَّهِ، ما لك عن فلانٍ؛ فواللَّهِ إنّي لأراهُ مُؤمنًا؛ قالَ:"أو مُسلمًا"، فسكتُّ قليلاً، ثمَّ غلبني ما أعلمُ منهُ، فعدتُ لمقالتِي، وعادَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قالَ: "يا سعدُ، إنِّي
لأعطي الرجل، وغيرهُ أعجبُ إلي منهُ، خشيةَ أن يكبَّهُ اللَهُ في النارِ".
خرَّجَه من طريقِ: شعيب، عن الزهري.
ثم قال: رواهُ يُونسُ وصالح ومعمرٌ وابنُ أخي الزُّهري، عن الزُّهري.
وقد رواهُ ابنُ أبي ذئبٍ - أيضًا -، عن الزهريِّ - كذلك.
ورواه العباسُ الخلالُ، عن الوليدِ بنِ مسلم، عن ابنِ وهب ورشدينَ بنِ
سعد، عن يونُسَ، عن الزهريِّ، عن إبراهيمَ بنِ عبد الرحمنِ بنِ عوف، عن
أبيه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. "
وأخطأ في ذلكَ -: نقلَه ابنُ أبي حاتمٍ الرازيُّ، عن أبيهِ.
فهذا الحديثُ محمولاً عند البخاريِّ على أن هذا الرجلَ كانَ منافقًا، وأن
الرسولَ صلى الله عليه وسلم نفى عنه الإيمانَ، وأثبتَ له الاستسلامَ دونَ الإسلامِ الحقيقيِّ.
وهو - أيضًا - قولُ محمدِ بنِ نصر المروزيّ.
وهذا في غايةِ البعدِ، وآخرُ الحديثِ يردُّ على ذلك، وهو قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم
"إني لأعطي الرجلَ وغيرُه أحبُّ إليَّ منه ".
فإن هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وكَلَه
إلى إيمانه، كما كان يعطي المؤلفةَ قلوبُهم، ويمنعُ المهاجرينَ والأنصار.
وزعمَ عليٌّ بن المدينيَ في كتابِ " العللِ " له: أن هذا من بابِ المزاح منَ
النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كانَ يمزحُ ولا يقولُ إلا حقًّا، فأوهم سعدًا أنه ليس بمؤمنٍ بل مسلم، وهما بمعنًى واحد، كما يقول لرجل يمازحُه - وهو يدعي أنه أخ لرجل -، فيقول: إنما أنتَ ابنُ أبيه، أو ابنُ أمِّه، وما أشبَه ذلكَ، مما يوهمُ
الفرقَ، والمعنَى واحد.
وهذا تعسفٌ شديد.
والظاهرُ - واللَّهُ أعلمُ -: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم زجرَ سعدًا عن الشهادةِ بالإيمانِ؛ لأن الإيمانَ باطن في القلبِ لا اطلاعَ للعبدِ عليه، فالشهادةُ به شهادة على ظنٍّ، فلا ينبغي الجزمُ بذلك، كما قال:
"إن كنتَ مادحًا لا محالةَ، فقل: أحسِبُ فلانًا كذا، ولا أزكِّي على اللَّهِ أحدًا".
وأمرَه أن يشهدَ بالإسلامِ؛ لأنه أمرٌ مطَّلع عليه.
كما في "المسندِ" عن أنسٍ - مرفوعًا -: "الإسلامُ علانيةٌ والإيمانُ في
القلبِ ".
ولهذا كرِه أكثرُ السلفِ أن يطلقَ الإنسانُ على نفسه أنه مؤمن، وقالوا: هو
صِفةُ مدح، وتزكية للنفسِ بما غابَ من أعمالِها، وإنما يشهدُ لنفسِه بالإسلامِ؛ لظهورِه.
فأما حديثُ: "إذا رأيتمُ الرجلَ يعتادُ المسجدَ، فاشهدُوا له بالإيمانِ ".
فقد خرَّجهُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ درَّاج، عن أبي الهيثم
عن أبي سعيدٍ - مرفوعًا.
وقال أحمد: هو حديثا منكرٌ.
ودراجٌ له مناكيرُ. واللهُ أعلمُ.
وهذا الذي ذكرَه البخاريُّ في هذا البابِ، من الآية والحديثِ إنما يطابق
التبويبَ، على اعتقادِه: أنه لا فرقَ بين الإسلامِ والإيمانِ.
وأما على قولِ الأكثرينَ بالتفريقِ بينهما، فإنما ينبغي أن يُذكرَ في هذا البابِ
قولُه عز وجل: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) .
فإنَّ الجمهورَ على أنه أرادَ استسلامَ الخلقِ كلهم له وخضوعَهم، فأما المؤمنُ
فيستسلمُ ويخضعُ طوعًا، وأما الكافرُ فإنه يضطرُ إلى الاستسلام عند الشدائدِ
ونزولِ البلاءِ به كرهًا، ثم يعودُ إلى شركِه عندَ زوالِ ذلك كلِّه، كما أخبرَ اللَّهُ عنهم بذلكَ في مواضعَ كثيرةٍ من القرآنِ.
والحديثُ الذي يطابقُ البابَ - على اختيارِ المفرقينَ بينَ الإسلام والإيمان -
قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم - في ذكر قرينهِ من الجنِّ -:
"ولكنَّ اللَّهَ أعاننِي عليه، فأسلَمُ ".
وقد رُوي بضمِّ الميم وفتحِها:
فمن رواهُ بضمِّها، قال: المرادُ: أي: أنا أسلمُ من شرِّه.
ومن رواه بفتحها، فمنهم من فسَّره بأنه أسلمَ من كفرِه، فصار مسلمًا.
وقد وردَ التصريحُ بذلكَ في روايةِ خرَّجها البزارُ في "مسندِه "، بإسنادٍ
فيه ضعفٌ.
ومنهم من فسَّره بأنه استسلمَ وخضعَ وانقادَ كرهًا. وهو تفسير ابنِ عيينة
وغيرهِ.
فيطابقُ على هذا ترجمةَ البابِ. واللَّهُ أعلم.
* * *
قال المحقِّقون مِنَ العُلماءِ: كلُّ مؤمِنِ مُسلم، فإنَّ من حقَّق الإيمانَ، ورسخَ
في قلبِهِ، قام بأعمالِ الإسلامِ، كما قالَ صلى الله عليه وسلم:
"ألا وإن في الجسدِ مُضغة، إذا صلحتْ، صلَّحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدتْ، فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهيَ القلبُ ".
فلا يتحقَّقُ القلبُ بالإيمانِ إلا وتنبعِثُ الجوارحُ في أعمالِ الإسلامِ، وليسَ كلُّ
مسلم مؤمنًا، فإنَّه قد يكونُ الإيمانُ ضعيفًا، فلا يتحقَّقُ القلبُ به تحقُّقًا تامًّا.
معَ عملِ جوارحِهِ بأعمالِ الإسلامِ، فيكونُ مسلمًا وليس بمؤمنِ الإيمانَ التامَّ
كما قالَ تعالَى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ، ولم يكونُوا مُنافقينَ بالكُلَيَّةِ على أصحِّ
التفسيرينِ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ وغيرِه، بل كانَ إيمانُهم ضعيفًا، ويدلُّ عليه
قولُه تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) .
يعني: لا ينقُصعكم من أجورِها، فدلَّ على أنَّ معهم من الإيمانِ ما تُقبلُ به
أعمالُهم.
وكذلك قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقَّاص لمَّا قال له: لمْ تعطِ فلانًا وهو مؤمنٌ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"أو مسلمٌ " يُشيرُ إلى أنَّه لم يُحقق مقامَ الإيمانِ.
وإنما هو في مقامِ الإسلامِ الظَّاهرِ، ولا ريبَ أنَّه متى ضعفَ الإيمانُ الباطنُ.
لزمَ منه ضعفُ أعمالِ الجوارح الظاهرةِ أيضًا، لكن اسمَ الإيمانِ يُنفى عمَّن
تركَ شيئًا مِن واجباتهِ، كَمَا في قوله:"لا يزني الزاني حينَ يزني وهو مؤمن ".
وقد اختلفَ أهلُ السُّنةِ: هل يُسمَّى مؤمنًا ناقصَ الإيمانِ، أو يقالُ: ليسَ
بمؤمنٍ، لكنَّهُ مسلمٌ، على قولينِ، وهمَا روايتانِ عن أحمدَ.
وأمَّا اسمُ الإسلامِ، فلا ينتفِي بانتفاءِ بعضِ واجباتِهِ، أو انتهاكِ بعضِ
محرَّماتِهِ، وإنما يُنفَى بالإتيانِ بما يُنافيهِ بالكُلِّيَّةِ، ولا يُعرَفُ في شيءٍ من السُّنَّةِ
الصَّحيحةِ نفيُ الإسلامِ عمَّن تركَ شيئًا من واجباتِهِ، كما يُنفَى الإيمانُ عمَّن
تركَ شيئًا من واجباتِهِ، وإنْ كانَ قد وردَ إطلاقُ الكُفرِ على فعلِ بعضِ
المحرَّماتِ، وإطلاقُ النِّفاقِ أيضًا.
واختلفَ العلماءُ: هل يُسمَّى مرتكبُ الكبائرِ كافرًا كفرًا أصغر أو منافقًا
النِّفاق الأصغرَ، ولا أعلمُ أنَّ أحدًا منهم أجازَ إطلاقَ نفي اسم الإسلامِ عنهُ.
إلا أنه رُوي عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قالَ: ما تاركُ الزكَاةِ بمسلم.
ويُحتملُ أنَّه كان يراه كافرًا بذلكَ، خارجًا عنِ الإسلام.
وكذلكَ رُوي عن عمرَ فيمن تمكَّن مِنَ الحجِّ، ولم يحجَّ أنهم ليسُوا
بمسلمينَ، والظَّاهرُ أنَّه كانَ يعتقدُ كفرَهم، ولهذا أرادَ أن يضربَ عليهمُ
الجزيةَ، يقولُ: لم يدخُلُوا في الإسلامِ بعدُ، فهُم مستمرُّونَ على كتابيتِهِم.
وإذا تبيَّن أنَّ اسمَ الإسلامِ لا ينتفي إلا بوجودِ ما ينافيهِ، ويُخرجُ عن الملَّةِ
بالكلِّيَّةِ، فاسمُ الإسلامِ إذا أُطلِقَ أو اقترنَ به المدحُ، دخلَ فيهِ الإيمانُ كلُّه منَ
التَّصديقِ وغيرِه.
وخرَّج النَّسائيُّ مِن حديثِ عقبةَ بنِ مالكٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثَ سريَّةً،
فغارت على قوم، فقال رجل منهم: إنِّي مُسلم، فقتلُه رجل منَ السَّريَّة.
فنُمي الحديثُ إلىَّ رَسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال فيه قولاً شديدًا، فقال الرجلُ: إنَّما قالها تعوُّذًا مِنَ القتلِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه أبَى عليَّ أن أقتلَ مؤمنًا" ثلاثَ مرَاتٍ.
فلولا أنَّ الإسلامَ المطلقَ يدخُلُ فيه الإيمانُ والتَّصديقُ بالأصول الخمسةِ، لم
يصِر من قال: "أنا مسلم" مؤمنًا بمجرَّدِ هذا القول، وقد أخبرَ اللَّه تعالى عن
ملكةِ سبإٍ أنها دخلتْ في الإسلامِ بهذهِ الكلمةِ وقالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) .
وأخبرَ عن يوسفَ عليه السلام أنه دعَا بالموتِ على الإسلامِ.
وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ الإسلامَ المطلقَ يدخُلُ
فيهِ ما يدخلُ في الإيمان مِنَ التَّصديق.
وفي "سننِ ابنِ ماجةَ " عن عدي بنِ حاتمٍ، قال: قال لي رسول اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم:
"يا عديُّ، أسلمْ تسلمُ! ، قلتُ: وما الإسلامُ؟
قال: "تشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وتشهدُ أني رسولُ اللَّه، وتؤمنُ بالأقدارِ كلِّها، خيرِها وشرِّها حلوِها ومرِّها".
فهذا نصّ في أنَّ الإيمانَ بالقدرِ مِنَ الإسلامِ.
* * *