الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
أما سماعُ الموتى لكلامِ الأحياءِ: ففي "الصحيحينِ " عن أنسٍ، عن أبي
طلحةَ، قال: لمَّا كانَ يومُ بدرٍ وظهرَ عليهم رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أمرَ ببضعةٍ وعشرينَ رجلاً، وفي رواية أربعةً وعشرينَ رجلاً من صناديدِ قريشٍ، فألقُوا في طوىً من أطواءِ بدرٍ، وإنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نادَاهم قالَ: "يا أبا جهلِ بنَ هشامٍ، يا أميَّة بنَ خلفٍ، يا عتبةَ بنَ ربيعةَ، يا شيبةَ بنَ ربيعةَ، أليسَ قدْ وجدتُم ما وعدَ ربُّكم حقًّا؟
فإنِّي قد وجدتُ ما وعدنِي ربِّي حقَّا"
فقال عمرُ: يا رسولَ اللَّه ما تُكلِّم من أجسادٍ لا أرواحَ فيها، فقال:"والذي نفسِي بيدِهِ ما أنتُم بأسمعَ لمَا أقولُ منهم ".
وفي "صحيح مسلم" من حديث أنسٍ نحوُهُ من غيرِ ذكرِ أبي طلحةَ.
وفي حديثِهِ قال:
"والذي نفسِي بيدِهِ، ما أنتُم بأسمعَ لمَا أقولُ منهم، ولكنهم لا
يقدرونَ أن يجيبُوا".
وفيه - أيضًا - عن أنسٍ، عن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة بمعناها.
وفي "الصحيحينِ " عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما، قال: اطَّلع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على أهلِ القَليبِ، فقالَ:
"وجدتُم ما وعدَكُم حقًّا؟ "
فقيلَ له: أتدعُو أمواتًا؟
قال: "ما أنتُم بأسمعَ منهم، ولكنَّهم لا يجيبون "
وفي روايةٍ قالَ: "إنهم الآنَ يسمعونَ ما أقولُ ".
وقد أنكرتْ عائشةُ رضي الله عنها ذلك، كما في "الصحيحينِ "
عن عروةَ، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالتْ: ما قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليسمعونَ الآنَ ما أقولُ ".
وقد وهِمَ - يعني ابن عمرَ - إنما قال: "إنهم ليعلمونَ الآنَ ما كنتُ أقولُ لهُم إنه حقٌّ " ثم قرأت قولَه: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) .
(وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبورِ) .
وقد وافقَ عائشةَ على نفي سماع الموتى كلامَ الأحياءِ طائفة من العلماءِ.
ورجَّحَهُ القاضي أبو يعْلى من أصحابِنا، في كتابِ "الجامعِ الكبيرِ" له.
واحتجّوا بما احتجتْ به عائشةُ رضي الله عنها، وأجابُوا عن حديثِ قليبِ بدرٍ بما أجابتْ به عائشة رضي الله عنها وبأنه يجوزُ أن يكونَ ذلك معجزةً مختصةً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم
دون غيرِهِ، وهو سماعُ الموتى لكلامِهِ.
وفي "صحيح البخاريِّ " عن قتادةَ قالَ: أحياهُم اللَّهُ تعالى يعني أهلَ
القليبِ حتى أسمعَهُم قولَه، توبيخًا وتصغيرًا ونقمةً وحسرةً وندمًا.
وذهب طوائفُ من أهلِ العلم إلى سماع الموتى في الجملةِ.
قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: ذهبَ إلى ذلكَ جماعة من أهلِ العلم - وهم الأكثرونَ - وهو اختيارُ الطبريِّ وغيره، ويعني بالطبريِّ: ابنَ جريرٍ، وكذلكَ ذكرَهُ ابنُ قتيبةَ وغيرُه من العلماءِ، وهؤلاءِ يحتجونَ بحديثِ القليبِ، كما سبق، وليسَ هو بوهم ممن رواه، فإن عمرَ وأبا طلحةَ وغيرَهما ممن شهدَ القصةَ حكاه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وعائشةُ لم تشهدْ ذلك، وروايتُها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:"إنهم ليعلمونَ الآنَ أن ما كنتُ أقولُ لهم حق" يؤيد روايةَ من رَوى: "إنهم ليسمعون "، ولا ينافيه، فإن الميتَ إذا جازَ أن يعلمَ جازَ أن يسمعَ، لأنَّ الموتَ ينافي العلمَ، كما ينافي
السمعَ والبصرَ، فلو كان مانِعًا من البعضِ لكانَ مانعًا من الجميع.
وروى أبو الشيخ الأصبهانيُ بإسناده عن عبيدِ بنِ مرزوق، قالَ: كانتِ
امرأة بالمدينةِ يقالُ لها: أمُّ محجنٍ، تقمُّ المسجدَ، فماتتْ، فلم يعلمْ بها النبيُّ
صلى الله عليه وسلم فمرَّ على قبرِها، فقال:"ما هذا القبرُ؟ "
فقالوا: قبرُ أمِّ محجنٍ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"التي كانتْ تقمُّ المسجدَ؟ "
قالوا: نعم، فصفَّ الناسَ وصلَّى عليها، ثم قالَ:
"أيَّ العملِ وجدتِ أفضل؟ "
قالوا: يا رسولَ اللَّهَ أتسمع؟
قالَ: "ما أنتم بأسمعَ منها".
فذكرَ أنها أجابتْهُ، قَمُّ المسجدِ، وهذا مرسل.
وأمَّا أنَّ ذلك خاصّ بكلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فليسَ كذلكَ، وقد ثبت في الصحيحينِ عن أنسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"إن العبدَ إذا وُضِعَ في قبر وتولَّى عنه أصحابُهُ، إنه ليسمعُ قَرْعَ نعالِهِم "، وقد سبقَ ذكرُهُ، وسنذكر الأحاديثَ الواردةَ بسماع الموتى سلامَ من يسلِّمُ عليهم فيما بعدُ إن شاء اللَّه تعالى.
وأما قولُهُ تعالى: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) .
وقولُه: (وَمَا أَنتَ بِمسْمِعٍ من فِي الْقُبُورِ) فإنَّ السماعَ يطلقُ ويرادُ به إدراكُ
الكلامِ وفهمُهُ، ويرادُ به أيضًا الانتفاعُ به، والاستجابة لهُ، والمرادُ بهذه الآية.
نفيُ الثاني دون الأولِ، فإنَّها في سياقِ خطابِ الكفَّارِ الذينَ لا يستجيبونَ
للهُدى ولا للإيمانِ إذا دُعوا إليه، كما قالَ اللَّهُ تعالى:
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) ، الآيةُ في نفي السماع والإبصارِ عنهم، لأنَّ الشيءَ
قد ينفى لانتفاءِ فائدتِهِ وثمرتِهِ، فإذا لم ينتفع المرءُ بما سمعَهُ وأبصرَهُ،
فكأنَّه لم يسمعْ ولم يبصرْ، وسماعُ الموتى هو بهذه المثابةِ، وكذلكَ سماعُ الكفَّارِ لمن دعاهُم إلى الإيمانِ والهُدى.
وقولُ قتادةَ في أهلِ القليبِ: أحياهُمُ اللَّهُ تعالى حتى أسمعَهُم.
قولُهُ يدلُّ على أنَّ الميتَ لا يسمعُ القولَ إلا بعد إعادةِ الروح إلى جسده، كذلك قال طوائفُ من السلفِ كثيرةٌ أنه لا يُسأل في قبره إلا بعد إعادةِ الروح إلى جسدهِ، كما جاء ذلك مصرَّحًا به في حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم الطويل، وقد سبقَ ذكرُ بعضِه، وفيه في حقِّ الكافرِ:"وتُعَاد روحُهُ إلى جسدِه".
وفي "مسند الإمامِ أحمدَ" من حديث الأعمشِ عن المنهالِ، عن زاذانَ.
عن البراءِ، فَي حقِّ المؤمنِ والكافرِ في كل منهما، قال:
"وتُعاد روحُهُ إلى جسده".
وكذلك عند ابنِ منده، إعادتُها إلى جسدِهِ عند ضربِ الملَكِ له، بعد أن
يضربه فيصيرُ ترابًا، من روايةِ يونسَ بنِ خبابٍ، عن المنهالِ، وقد سبقَ ذلك
كلُّه.
وخرَّج ابنُ ماجةَ وغيرُه، من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفةِ قبضِ الروح والمسألةِ، وقال في روح الكافرِ:"فتصيرُ إلى القبرِ" وقد سبقَ أيضًا.
وخرَّج ابنُ منده بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا - عن ابنِ عباسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم في
صفةِ قبضِ الروح، وفيه قالَ:"فيهبطونَ بها - يعني الروح - على قدرِ فراغِهم من غسلِهِ وأكفانِهِ، فيدخلونَ ذلك الروحَ بين جسده وأكفانِهِ " وهذا لا يثبتُ.
وخرَّج الخلالُ في كتابِ "شرح السنة" من طريقِ أبي هاشمٍ، عن أبي
إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ، عن عبدِ اللَّهِ، قال:
إنَّ المؤمنَ إذا نزلَ به الموتُ أتاهُ ملَكُ الموتِ ينادِيه: يا روح طيبة اخرجِي من الجسدِ الطيبِ، قال: فإذا خرجتْ روحُه لفّتْ في خرقةٍ حمراءَ، فإذا غسِّل وكفِّن، وحملَ على السريرِ وارتفعتِ الروحُ فوقَ السريرِ حيثُ تحولَ السريرُ، تحولتْ حتى يوضعَ في قبره، فإذا وُضِعَ في قبر أُجْلسَ، وجيءَ بالروح، فَجُعِلَتْ فيه، فقيل له: من ربُّك، وما دينُك، ومن نبيُّك؟
فيقولُ: ربي اللَّهُ، وديني الإسلامُ، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيقالُ له: صدقَتَ، فيوسَعُّ له في قبر مدَّ البصرِ، ثم ترفعُ
روحُه، فتجعَلُ في أعْلَى عليينَ، ثم تلا عبدُ اللَّهِ هذه الآيةَ: (إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ
لَفِي عِلِّيِّينَ) .
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا، من طريقِ سالم بنِ أبي الجعدِ، قال: قال حذيفةُ:
الروحُ بيدِ ملَكٍ، وإن الجسدَ ليغسَّلَ، وإنَّ الملَكَ ليمشِي معه إلى القبرِ، فإذا
سُوي عليه سلَكَ فيه، فذلكَ حين يخاطبُ.
ومن طريقِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي الزنادِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى.
قال: الروحُ بيد ملَكٍ يمشي مع الجنازةِ، يقولُ: اسمعْ ما يقالُ لك، فإذا بلغ
حفرتَهُ دفنَ معه.
ومن طريقِ داودَ العطارِ، عن أبي نجيحِ، قإل: ما مِنْ ميِّت يموتُ إلا روحُهُ
في يد مَلَكٍ ينظرُ إلى جسدِهِ، كيف يغسلُ ويكفَّنُ، وكيف يُمشَى به إلى
قبر، ثم تُعاد إليه روحُه، فيجلسُ في قبره.
وكذا قال أبو صالح وغيرُه من السلفِ في قوله تعالى: (كَيفَ تَكْفرونَ
بِاللَّهِ وَكنتُمْ أَمْوَاتًا فَأحْيَاكمْ ثمَّ يمِيتكمْ ثمَّ يحْيِيكمْ ثمَّ إِلَيْهِ ترْجَعونَ) ، فدلَّ
على أنَّ الحياةَ الأولى هي القبرُ للسؤالِ، وإنْ كانَ الأكثرونَ خالفُوا في ذلك.
فهؤلاء السلفُ كلُّهم صرَّحُوا بأن الروح تعادُ إلى البدنِ عند السؤالِ.
وصرَّح بمثلِ ذلك طوائفُ من الفقهاءِ والمتكلمينَ من أصحابِنا وغيرِهِم.
كالقاضي أبي يعْلى وأصحابِهِ، وأنكر ذلك طائفة منهم ابنُ حزمٍ وغيرُه.
وذكرَ أن السؤال للروح خاصةً، وكذلك سماعُ الخطابِ، وأنكر أن تعادَ الروحُ إلى الجسدِ في القبرِ للعذابِ وغيرِه، وقالُوا: لو كان ذلك حقًّا للزمَ أن يموتَ الإنسانُ ثلاثَ مراتٍ ويحيى ثلاثَ مراتٍ، والقرآنُ دلَّ على أنَهما موتتانِ وحياتانِ فقط، وهذا ضعيف جدًّا، فإنَّ حياةَ البرزخ ليستْ حياةً تامةً مستقلة كحياةِ الدنيا وكالحياةِ الآخرةِ بعدَ البعثِ، وإنما فيها نوعُ اتصالِ الروح في البدنِ بحيثُ يحصلُ بذلكَ شعورُ البدنِ وإحساس بالنعيم والعذاب وغيرِهما، وليستْ هي حياةً تامةً حتى يكونَ انفصالُ الروح به موتًا تامًّا، وإنًّما هو شبيهٌ بانفصالِ روح النائم عنه، ورجوعِها إليه، فإنَّ ذلك يسمَّى موتًا وحياةً.
كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ إذا استيقظَ من منامِهِ: "الحمدُ للهِ الذي أحيانَا بعد ما أماتنا، وإليه النشور"
وسماه اللَّهُ تعالى وفاةً، لقوله تعالى:(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى) ، مع هذا فلا ينافي ذلكَ أن يكونَ النائمُ حيًّا، وكذلك اتصالُ روح الميتِ ببدنه وانفصالها عنه لا يوجبُ أن يصيرَ للميتِ
حياةً مطلقةً.
وممن رجَّح هذا القولَ - أعني السؤالَ والنعيمَ والعذابَ للروح خاصةً - من
أصحابِنا ابنُ عقيلٍ وأبو الفرج ابن الجوزيِّ. في بعضِ تصانيفِهما.
واستدلَّ ابنُ عقيلٍ بأنَّ أرواحَ المؤمنينَ تنعمُ في حواصلِ طيرٍ خضرٍ، وأرواح الكافرينَ تعذَّب في حواصلِ طيرٍ سودٍ، وهذه الأجسادُ تبْلَى فدلَّ ذلك على أنَّ الأرواحَ تعذبُ وتنعمُ في أجسادٍ أخرَ، وهذا لا حجةَ فيه لأنَّه لا ينافي اتصالَ الروح ببدنِها أحيانًا مع بقائِهِ واستحالتِهِ.
واستدل طائفة ممن ذهبَ إلى هذا القول بما روى منصورُ بنُ عبدِ الرحمنِ.
عن أبي أُمامة قال: دخلَ ابنُ عمرَ المسجدَ، وابنُ الزبيرِ قد قتلَ وصلبَ.
فقيلَ له: هذه أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ في المسجدِ، فقال لها: اصبري فإنًّ هذه
الجثث ليستْ بشيءٍ، وإنَّما الأرواحُ عند اللَّهِ، فقالت: وما يمنعنِي من الصبرِ، وقد أُهدِيَ رأسُ يحيى بنِ زكريا إلى بغيٍّ من بَغايا بني إسرائيلَ.
وروى ابنُ أبي الدنيا، من طريقِ ابنِ عمرَ - صاحبِ السقيا - قال: نزلَ ابنُ
عمرَ إلى جانبِ قبورٍ قد درستْ، فنظرَ إلى قبر منها، فإذا بجمجمةٍ بادية.
فأمرَ رجلاً فواراهَا، ثم قال: إنَّ هذه الأبدانَ ليست يضرُّها هذا الثرى شيئًا، وإنَّما الأرواح التي تُعاقَبُ وتثابُ إلى يوم القيامةِ.
وروى محمدُ بنُ سعدٍ، عن الواقديِّ، حدثني ثورُ بنُ يزيدَ، عن خالدِ بنِ
معدانَ قال: لما انهزمتِ الرومُ يومَ أجنادينَ، انتهَوا إلى موضع لا يعبرُه إلا
إنسان، فجعلت الروم تقاتل عليه، فتقدَّم هشام بن العاصِ فقاتلهم حتى
قُتِل، ووقع على تلك الثلمة فسدَّها، فلما انتهى المسلمون إليها، هابوا أن
يوطئه الخيل، فقال عمرو بنُ العاص: إنَّ اللَّهَ قد استشهدَهُ ورفعَ روحَهُ وإنما
هو جثةٌ فأوطِئوهُ الخيلَ، ثم أوطأه وتبِعَهُ الناسُ حتى قَطَّعوهُ.
وهذه الآثارُ لا تدلُّ على أنَّ الأرواح لا تتصلُ بالأبدانِ بعد الموتِ، وإنَّما
تدلُّ على أنَّ الأجسادَ لا تتضررُ بما ينالها من عذابِ الناسِ لها ومن أكل
الترابِ لها، وهذا حقٌّ، فإنَّ عذابَ القبرِ ليسَ من جنسِ عذابِ الدنيا، وإنَّما
هو نوعٌ آخرُ يصلُ إلى الميتِ بمشيئةِ اللَّهِ وقدرتِهِ.
وقولهم: إنَّ الأرواحَ عندَ اللَّهِ تعالى تعاقَبُ وتثابُ لا ينافي أنْ تتصلَ
بالبدنِ أحيانًا، فيحصلُ بذلكَ إلى الجسدِ نعيمٌ أو عذابٌ، وقد تستقلُّ الروحُ
أحيانًا بالنعيم والعذابِ، إما عند استحالةِ الجسدِ أو قبلَ ذلك.
وقد أثبتَ طائفة أخرى النعيمَ والعذابَ للجسدِ بمجرَّدِهِ، من غيرِ اتصالِ
الروح به، وممن ذكرَ ذلك من أصحابِنا: ابنُ عقيلٍ في كتابِ "الإرشادِ" له
وابنُ الزاغوني، وحُكي عن ابنِ جريرٍ الطبريِّ - أيضًا - وذكرَ القاضي
أبو يعْلى أنه ظاهرُ كلامِ الإمامِ أحمدَ، فإنه قال في روايةِ حنبلٍ: أرواحُ
المؤمنينَ في الجنةِ، وأرواحُ الكفارِ في النارِ، والأبدانُ في الدنيا يعذَب اللَّهُ من
يشاءُ، ويرحمُ من يشاءُ منها بعفوه.
قال القاضي: ظاهرُ هذا أن الأرواحَ تعذَّبُ وتنعمُ على الانفرادِ وكذلكَ
الأبدانُ إذا كانتْ باقيةً أدَّى إلى الأجزاءِ التي استحالتْ، قال: فلا يمتنعُ أن
يُخلقَ في الأبدانِ إدراك تحسُّ به النعيمَ والعذابَ، كما خُلقَ في الجبلِ لما تجلَّى
له ربُّه ثم جعلَهُ دكًّا.
وقال ابنُه القاضي أبو الحسين: ولأنه لمَّا لم يستحِلْ نطقُ الذراع المسمومةِ،