الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سُورَةُ القَدْرِ
قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
في "الصحيحينِ " عن أبي سعيد الخُدريّ رضي الله عنه، قال: كانَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يعتكِفُ في العشرِ الأوسطِ من رمضانَ، فاعتكفَ عامًا، حتَّى إذا كانتْ ليلةُ إحدى وعشرينَ، وهي الليلةُ التي يخرُجُ في صبيحتها من اعتكافِهِ.
قال: "من كانَ اعتكفَ معي فليعتَكِفِ العشرَ الأواخِر، وقد أريتُ هذه الليلةَ ثم أنسيتُها، وقد رأيتُني أسجدُ في ماء وطين من صبيحتِها، فالتمسُوهَا في العشرِ الأواخرِ، والتمسوها في كلِّ وتر".
فمطرتِ السَّماءُ تلكَ الليلةَ، وكان المسجدُ على عريشٍ، فوكفَ المسجدُ.
فبصُرتْ عيناي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على جبهتهِ أثرُ الماءِ والطِّينِ من صُبح إحدى وعشرين، هذا الحديثُ يدل على أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكفُ العشرَ الأوسطَ من شهرِ رمضانَ؛ لابتغاءِ ليلةِ القدرِ فيه، وهذا السِّياقُ يقتضِي أنَّ ذلك تكرَّر منه صلى الله عليه وسلم.
وفي روايةٍ في "الصحيحينِ " في هذا الحديثِ: أنه اعتكفَ العشرَ الأوَل،
ثم اعتكفَ العشرَ الأوسطَ، ثم قالَ:"إني أُتيتُ، قيلَ لي: إنها في العشر الأواخر - فمن أحبَّ منكُم أن يعتكفَ فليعتِكفْ "، فاعتكفَ الناسُ معه.
وهذا يدلُّ على أنَّ ذلكَ منه قبلَ أن يتبين لهُ أنَّها في العشر الأواخر، ثم
لمَّا تبين له ذلك اعتكفَ العشرَ الأواخرَ حتَّى قبضَه اللَّه عز وجل، كما رواه
عنه عائشة وأبو هريرة وغيرُهما.
ورُوي أنَّ عمرَ رضي الله عنه جمعَ جماعةً من الصحابةِ، فسألهم عن ليلةِ القدرِ، فقالَ بعضُهم: كنَّا نراها في العشرِ الأوسطِ، ثم بلغنا أنها في العشرِ الأواخر.
وخرَّج ابنُ أبي عاصم في كتاب "الصيام " وغيرُه من حديث خالدِ بن
محدُوج، عن أنيى: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
"التمسُوها في أوَل ليْلَةٍ، أو في تسعٍ، أو في أربع عشرةَ".
وخالدٌ هذا فيه ضعفٌ، وهذا يدلُّ على أنَّها تُطلبُ في ليلتين
من العشرِ الأوَل، وفي ليلة من العشر الأوسطِ، وهي أربع عشرةَ، وقد
سبق من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا:
"إن الإنجيلَ أنزِل لثلاث عشرة من رمضانَ ".
وقد ورد الأمر بطلب ليلةِ القدْر في النصفِ الأواخرِ من رمضانَ.
وفي أفراد ما بقي من العشرِ الأوسطِ من هذا النصف، وهما ليلتانِ: ليلةُ
سبعَ عشرةَ، وليلةُ تسعَ عشرةَ.
أمَّا الأولُ: فخرَّجه الطبراني، من حديثِ عبدِ اللَّهِ بن أُنيسٍ، أنه سألَ
النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ليلةِ القدر، فقالَ:
"رأيتُها ونسيتُها، فتحرَّها في النّصفِ الأواخرِ".
ثم عادَ فسالهُ، فقال:"التمسْها في ليلةِ ثلاثٍ وعشرين تَمضِي من الشهرِ".
.
ولهذا المعنى - واللَّهُ أعلمُ - كان أبيّ بن كَعب يقنُتُ في الوتر في ليالي
النصف الأواخرِ؛ لأنَّه يُرجى فيه ليلةُ القدرِ.
وأيضًا فكُلُّ زمانٍ فاضلٍ من ليلٍ أو نهار، فإنّ آخرَه أفضلُ من أوَّلِه، كيومِ
عرفَةَ، ويومِ الجُمعة، وكذلك الليلُ والنَّهار عمومًا؛ آخِرُهُ أفضل من أوَّلهِ.
ولذلك كانتِ الصلاةُ الوسطَى صلاةَ العصْر، كما دلَّتِ الأحاديثُ الصحيحةُ
عليه، وآثار السَّلفِ الكثيرةُ تدُلُّ عليهِ، وكذلكَ عشرُ ذي الحجةِ والمحرمِ "
آخرُهما أفضلُ من أوَّلهِمَا.
وأمَّا الثاني: ففي "سننِ أبي داود" عن ابنِ مسعودٍ مرفوعًا:
"اطلُبُوها ليلةَ سبع عشرةَ مِن رَمضانَ، وليلةَ إحدَى وعشرين، وليلةَ ثلاثٍ وعشرين "، ثم سكتْ.
وفي روايةٍ: "ليلةَ تسعَ عشرةَ"، وقيلَ: إنَّ الصحيحَ وقْفُه على ابنِ مسعودٍ، فقد صحَّ عنه أنَّه قال: تحرُّوا ليلةَ القدْرِ ليلةَ سبعَ عشرةَ، صباحيَّةَ بدرٍ، أو إحدى وعشرين، وفي روايةٍ عنه، قالَ:
"ليلةَ سبعَ عشرةَ، فإنْ لم يكن ففي تسعَ عشرةَ".
وخرَّج الطبرانيُّ من روايةِ أبي المُهزِّم، وهو ضعيف، عن أبي هريرةَ
مرفوعًا، قال:
"التمسُوا ليلةَ القدْرِ في سبعَ عشرةَ أو تسعَ عشرةَ، أو إحدى وعشرين.
أو ثلاثٍ وعشرين، أو خمسٍ وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسعٍ وعشرين ".
ففي هذا الحديثِ: التماسُها في أفرادِ النصفِ الثاني كلها، ويروى من حديثِ
عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا كان ليلةَ تسعَ عشرةَ من رمضانَ شدَّ المئزرَ وهجرَ الفراشَ حتى يُفطرَ.
قال البخاريُّ: تفرَّد به عُمرُ بن مسكينٍ، ولا يتابع عليهِ، وقد رُويَ عن
طائفة من الصحابةِ. إنَّها تُطلبُ ليلةَ سبعَ عشرةَ، وقالُوا: إن صبيحتَها كانَ يومَ بدرٍ، رويَ عن علي، وابنِ مسعودٍ، وزيدِ بنِ أرقمَ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، وعمرِو ابنِ حريثٍ، ومنهم من رُويَ عنه، أنَّها ليلةُ تسعَ عشرةَ.
رُوي عن علي، وابنِ مسعودٍ، وزيدِ بن أرقمَ.
والمشهورُ عندَ أهلِ السِّيرِ والمغازي: أنَّ ليلةَ بدْرٍ كانتْ ليلةَ سبعَ عشرةَ.
وكانت ليلةَ جُمعةٍ، وروي ذلك عن علي، وابنِ عباسٍ وغيرهما، وعن ابنِ
عباسٍ، رواية ضعيفة أنَّها كانت ليلةَ الاثنين.
وكان زيد بن ثابتٍ لا يُحيي ليلةً من رمضان، كما يُحيى ليلةَ سبعَ عشرةَ.
ويقول: إنَّ اللَّه فرَّق في صبيحتها بين الحقِّ والباطلِ، وأذلَّ في صبيحتها أئمةَ
الكفرِ.
وحكى الإمامُ أحمدُ هذا القولَ عن أهل المدينة: أنَّ ليلةَ القدْر تُطلبُ
ليلةَ سبعَ عشرةَ، قال في رواية أبي داود فيمن قال لامرأته: أنت طالقٌ ليلة
القدر، قال: يعتزلُها إذا دخلَ العشرُ، وقبل العشر، أهلُ المدينة يرونها في
السبع عشرةَ، إلا أنَّ المثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في العشْرِ الأواخر.
وحكي عن عامر بن عبدِ اللَّهِ بن الزُّبيرِ: أنَّه كانَ يُواصِلُ ليلةَ سبعَ عشرةَ.
وعن أهلِ مكةَ أنَّهمُ كانُوا لا ينامونَ فيها، ويعتمرونَ.
وحُكِيَ عن أبي يوسُفَ ومحمد، صاحِبي أبي حنيفةَ: أنَّ ليلةَ القدْرِ في النصفِ الأواخرِ من رمضانَ من غيرِ تعيينٍ لها بليلةٍ، وإن كانتْ في نفسِ الأمرِ عندَ اللَّهِ مُعينةً.
ورويَ عن عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ، قالَ: ليلةُ القدْرِ ليلةُ سبعَ
عشرةَ، ليلةُ جمعة.
خرَّجه ابنُ أبي شيبة.
وظاهرُه أنَّها إنما تكونُ ليلةَ القدرِ إذا كانتْ ليلةَ جمعةٍ، لتُوافق ليلةَ بدرٍ، وروَى أبو الشيخ الأصبهاني بإسنادٍ
جَيِّدٍ، عن الحسنِ، قالَ: إنَّ غلامًا لعثمانَ بنَ أبي العاص، قالَ لهُ:
يا سيِّدي، إن البحرَ يعذُبُ في هذا الشهر في ليلةٍ، قال: فإذا كانتْ تلك الليلةُ فأعلِمني، قال: فلما كانتْ تلكَ الليلةُ أذنَه، فنظرُوا فوجدوه عذبًا، فإذا هي ليلةُ سبعَ عشرةَ.
ورُويَ من حديثِ جابرٍ، قالَ: كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يأتي قُباءً صبيحةَ سبعَ عشرةَ من رمضانَ، أيَّ يومٍ كان.
خرَّجَه أبو موسى المدينيّ.
وقد قيلَ: إنَّ المعراجَ كانَ فيها أيضًا، ذكرَ ابنُ سعدٍ، عن الواقديّ، عن
أشياخِهِ: أنَّ المعراجَ كانَ ليلةَ السبتِ لسبعَ عشرةَ خلتْ من رمضانَ قبلَ
الهجرة إلى السماءِ، وأن الإسراءَ كان ليلةَ سبعَ عشرةَ من ربيع الأوَّل قبلَ
الهجرةِ بسنةٍ إلى بيتِ المقدسِ، وهذا على قولِ مَن فرَّق بين المعراج
والإسراءِ؛ فجعلَ المعراجَ إلى السَّماء، كما ذُكر في سورةِ النجم؛ والإسراءَ
إلى بيتِ المقدسِ خاصَّةً، كما ذُكرَ في سورةِ سبحانَ.
وقد قيلَ: إنَّ ابتداءَ نبوَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان في سابعَ عشرَ رمضان، قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر: نزلَ جبريلُ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ السبتِ وليلةَ الأحدِ، ثم ظهر له بحراءَ برسالةِ اللَّهِ عز وجل يومَ الاثنين لسبعَ عشرةَ خلتْ من رمضانَ.
وأصحُّ ما روي في الحوادث في هذه الليلة أنَّها ليلةُ بدْرٍ.
كما سبقَ أنَّها كانتْ ليلةَ سبعَ عشرَة.
وقيلَ: تسعَ عشرةَ، والمشهورُ أنَّها كانتْ ليلةَ سبعَ عشرةَ، كما تقدَّمَ.
وصبيحتُها هو يومُ الفرقانِ، يوم التقى الجمعانِ، وسُمِّي يومُ الفرقانِ؛ لأنَّ
اللَّهَ تعالى فرَّق فيه بينَ الحقِّ والباطلِ، وأظهرَ الحقَّ وأهلَهُ على الباطلِ وحزْبهِ،
وعلَتْ كلمةُ اللَّهِ وتوحيدُه، وَذُلَّ أعداؤهُ من المشركينَ وأهلِ الكتاب، وكان ذلكَ في السنةِ الثانيةِ من الهجرةِ؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قدمَ المدينةَ في ربيع الأولِ في أول سنةٍ من سني الهجرةِ، ولم يُفرضْ رمضان في ذلكَ العامِ، ثم صامَ عاشوراءَ، وفُرضَ عليه رمضانُ في ثاني سنةٍ، فهو أوَّل رمضان صامهُ وصامَه المسلمون معه.
ثم خرَجَ النبي صلى الله عليه وسلم لطلبِ عيرٍ من قريش قدمتْ من الشامِ إلى المدينةِ في يوم السبتِ لاثنتي عشرةَ ليلةً خلتْ من رمضانَ، وأفطرَ صلى الله عليه وسلم في خروجهِ إليها.
قال ابنُ المُسيّب: قال عُمر: غزونَا مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم غزوتينِ في رمضانَ يومَ بدْرٍ، ويومَ الفتح، وأفطرنَا فيهما، وكان سببُ خروجِه حاجةَ أصحابِه، خصوصًا المهاجرين (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) .
وكانتْ هذه العِيرُ فيها أموالٌ كثيرةٌ لأعدائِهِم الكفار الذينَ أخرجُوهم من ديارِهم وأموالِهم ظُلمًا وعُدوانًا، كما قالَ اللَّهُ تعالى:
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) .
فقصدَ النَبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذ أموالَ هؤلاء الكفار الظالمين المعتدين على أولياءِ اللَّهِ وحزبه وجندهِ، فيردَّها على أولياءِ اللَّه وحزبهِ المظلومينَ المخرجينَ من ديارِهِم وأموالِهِم ليتقوُّوا بها على عبادةِ اللَّهِ وطاعتِهِ وجهادِ أعدائِهِ، وهذا مما أحلَّه اللَّهُ لهذه الأمَّة؛ فإنَّه أحلَّ لهم الغنائمَ، ولم تحل لأحدٍ قبلَهم، وكان عدَّةُ من معهُ ثلثمائة وبضعةَ عشرَ، وكانوا على عدَّةِ أصحابِ طالُوتَ الذين جازُوا معه النهرَ، وما جازَه معه إلا مؤمنٌ.
وفي "سنن أبي داودَ" من حديثِ عبدِ اللَّهِ بن عمرو، قالَ: خرجَ
رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومَ بدر في ثلاثمائةِ وخمسةَ عشرَ من المقاتلةِ، كما خرجَ طالُوت، فدعا لهم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حينَ خرجُوا، فقالَ:"اللهمَّ، إنَّهم حُفَاةٌ فاحْملهُم، وإنَّهم عُراةٌ فاكسُهُم، وإنهم جياعٌ فأشبعْهُم ".
ففتحَ اللَّهُ يومَ بدرٍ، فانقلبُوا حينَ انقلبوا وما فيهم رجلٌ إلا وقد رجع بجملِ أو جملين، واكتسوا وشبعُوا، وكان أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم حين خرجُوا على غايةٍ من قلَّة الظهرِ والزاد؛ فإنَّهم لم يخرجوا مستعدين لحربٍ، ولا لقتالٍ، إنَّما خرجُوا لطلبِ العير، فكانَ معهُم نحو سبعينَ بعيرًا يعتقبونها بينهم، كُل ثلاثة على بعير.
وكان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم زميلان، فكانوا يعتقبونَ على بعير واحدِ، فكان زميلاه يقولان لَهُ: يا رسولَ اللَّه، اركبْ حتَّى نمشيَ عنك، فيقولُ: ما أنتما بأقوَى على المشي منِّي، ولا أنا بأغنى عن الأجرِ منكُما، ولم يكنْ معهُمَا إلا فرسانِ، وقِيلَ: ثلاثة، وقيل: فر سٌ واحدٌ للمقدادِ.
وبلغَ المشركينَ خروجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لطلبِ العيرِ، فأخذَ أبو سُفيان بالعِير نحو الساحلِ، وبعثَ إلى أهلِ مكَّة يخبرُهُم الخيرُ، ويطلبُ منهم أن ينفروا لحمايةِ عِيرهم، فخرجُوا مستصرخين، وخرجَ أشرافُهم ورؤساؤُهم، وسارُوا نحوَ بدْرٍ، واستشارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمينَ في القتالِ فتكلَّم المهاجرونَ فسكتَ عنهُم.
وإنما كانَ قصدُه الأنصارَ لأنَه ظنَّ أنَهم لم يبايعوه إلا على نُصْرته على من
قصدهُ في ديارِهِم، فقام سعد بنُ عُبادةَ، فقالَ: إيَّانا تريدُ، يعني الأنصارَ.
والذي نفسِي بيدِه، لو أَمرتَنا أن نَخِيضَها البحرَ لأخضناها، ولو أمرْتنا أن
نضربَ أكبادَها إلى برك الغمادِ لفعلنا، وقال له المقدادُ: لا نقُول لكَ كمَا
قالَ بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)
ولكن نقاتلُ عن يمينِكَ وشمالك، وبينَ يديكَ، ومِن خلفكَ.
فَسُرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك وأجمعَ على القتالِ.
وبات تلكَ الليلةَ، ليلةَ الجمعةِ سابعَ عشرَ رمضانَ قائمًا يُصلّى ويبكِي
ويدعُو اللَّه ويستنصرُهُ على أعدائِهِ.
وفي "المسندِ" عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، قالَ: "لَقَدْ رأيتُنا وما فينا إلا
نائمٌ، إلا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تحتَ شجرة يُصلِّي ويبكي حتَى أصبحَ ".
وفيه عنه أيضًا، قال: أصابنا طَشٌّ من مطرٍ، يعني ليلَةَ بدْرٍ، فانطلقنا
تحتَ الشَّجرِ والحَجَفِ نستظلُّ بها من المطرِ، وبات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربَّهُ، ويقول:
"إن تُهْلكْ هذه الفئةَ لا تُعْبَدْ".
فلمَّا أن طلعَ الفجر نادى: الصلاةَ عبادَ اللَّهِ، فجاءَ الناسُ من تحت الشَّجر والحجفِ، فصلَّى بنا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وحثَّ على القتال.
وأمدَّ اللَّهُ تعالى نبيَّهُ والمؤمنينَ بنصرٍ من عندِه وبجند من جندِه، كما
قالَ تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) .
وفي "صحيح البخاريِّ " أنَّ جبريلَ قالَ للنبي صلى الله عليه وسلم:
"ما تَعُدُّون أهلَ بدرٍ فيكم؟
قال: " مِن أفْضَل المسلمين " أو كلمة نحْوَهَا، قال: وكذلك مَن شهِدَ بدْرًا من الملائكة".
وقال اللَّهُ تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) .
وقال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) .
ورُوي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما رآهمُ قالَ:
"اللهمََّ، إن هؤلاءِ قُريشٌ قد جاءتْ بخُيلائها يُكَذبون رسولَك، فانجِزْ لي ما وَعدْتَنِي ".
فأتاه جبريلُ، فقال:"خُذْ قبضةً من تُراب فارمهم بها"، فأخذَ قبضةً من حصْباءِ الوادي فرمَى بها نحوَهم، وقال:"شاهتِ الوُجُوه " فلم يبقَ مُشركٌ إلا دخلَ في عينيهِ ومنْخرِه وفمه شيءٌ، ثم كانتِ الهزيمةُ.
وقال حكيمُ بنُ حزامٍ: سمعنا يومَ بدرٍ صوتًا وقع من السَّماء كأنَّه صوتُ حصاةٍ على طَسْتٍ، فرمى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تلكَ
الرَّميةَ، فانهزمنا، ولما قدمَ الخبرُ على أهلِ مكةَ قالُوا لمن أتاهُم بالخبرِ: كيفَ
حالُ الناسِ؟
قال: لا شيءَ، واللَّهِ إن كانَ إلا أن لقيناهُم فمنحناهم أكتافنا.
يقتلُونا ويأسرُونا كيفَ شاؤُوا، وأيْمُ اللَّهِ، مع ذلكَ ما لمتُ النَّاسَ، لقينا رجالاً على خيلٍ بُلق بين السَّماءِ والأرضِ ما يقومُ لها شيءٌ.
وقتلَ الله صَّنَاديدَ كفارِ قريشٍ يومئذٍ، منهم عُتبةُ بنُ ربيعةَ، وشيبةُ.
والوليدُ بنُ عتبةَ، وأبو جهلٍ، وغيرُهم، وأسرُوا منهم سبعينَ، وقصَّة بدرٍ
يطولُ استقصاؤها، وهي مشهورةٌ في التفسيرِ وكتبِ الصحاح والسنن
والمسانيدِ والمغازي والتواريخ وغيرها، وإنما المقصودُ هاهنا التنبيةُ على بعضِ
مقاصدها.
وكان عدوُّ اللَّه إبليسُ قد جاء إلى المشركينَ في صورةِ سُراقةَ بن مالكٍ.
وكانت يدُهُ في يدِ الحارث بن هشامٍ، وجعل يُشجعهم ويعدُهم ويمنَيهم، فلمَّا
رأى الملائكةَ هربَ وألقى نفسه في البحر.
وقد أخبرَ اللَّهُ عن ذلك بقوله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) .
وفي "الموطأ" حديثٌ مرسلٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
"ما رُؤِي الشَّيطانُ أحقرَ ولا أدحَر ولا أصغرَ من يوم عرفَةَ، إلا ما أُرِي يوْمَ بدر".
قيل: وما رأى يومَ بدرٍ؟
قال: "رأى جبريلَ يزعُ الملائكة"، فإبليس عدوُّ اللَّهِ يسعَى جهدَه في إطفاءِ نورِ اللَّه وتوحيدهِ، ويُغرِي بذلك أولياءَه من الكفَّار والمنافقين، فلمَّا عجزَ عن ذلكَ بنصرِ اللَّهِ نبيَّه وإظهارِ دينه على الدِّينِ كُلِّه، رضِيَ بإلقاءِ الفتن بين المسلمينَ.
واجْتَزَى منهُم بمحقرَاتِ الذنوبِ حيثُ عجزَ عن ردِّهم عن دينهِم؛ كما قالَ
النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ الشيطانَ قد أيسَ أن يعبدهُ المصلُّونَ في جزيرةِ العربِ، ولكن في
التحريشِ بينَهمُ ".
خرَّجهُ مسلمٌ من حديثِ جابرٍ، وخرَّج الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ والترمذيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ عمروِ بنِ الأحوصِ، قالَ:
سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ في حجةِ الوداع:
"ألا أنَّ الشَّيطانَ قد أيسَ أن يُعبدَ في بلدكُم هذا أبدًا، ولكنْ سيكونُ له طاعةٌ في بعضِ ما تحتقرُون من أعمالُكم، فيرضَى بها".
وفي "صحيح الحاكم " عن ابنِ عبَّاس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خطبَ في حجةِ الوداع، فقال:
"إنَّ الشيطان قد يئس أن يُعبدَ بأَّرَضكم، ولكنَّه يرضَى أن يُطاعَ فيما
سِوى ذلكَ؛ فيما تحاقرونَ من أعمالِكم؛ فيرضَى بها فاحذَروا.
يا أيُّها الناسُ، إنِّي قد تركتُ فيكم ما إنْ اعتصمتُم به فلن تضِلُّوا أبدًا: كتابَ اللَّه، وسُنَّةَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم ".
ولم يعظم على إبليسَ شيء أكبرُ مِن بعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وانشارِ دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، فإنَّه أيسَ أن تعودَ أمّته كلُّهم إلى الشرك الاكبر.
قال سعيدُ بنُ جُبَير: لمَّا رأى إبليسُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قائمًا بمكَةَ يصلِّي رَنَّ، ولمَّا افتتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكَّةَ رَنَّ رنَّةً أخرى؛ اجتمعتْ إليه ذريته، فقال: ايئسوا أن تردوا أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الشرك بعدَ يومكم هذا، ولكن افتنُوهم في دينهم.
وأفشُوا فيهم النوحَ والشِّعرَ.
خرَّجَه ابنُ أبي الدنيا.
وخرَّج الطبرانيّ بإسنادِه، عن مجاهدٍ، عن أبي هريرة، قال:
"إنَّ إبليسَ رَنَّ لمَّا أُنزلتْ فاتحةُ الكتابِ، وأُنزِلَتْ بالمدينةِ".
والمعروفُ هذا عن مجاهدٍ من قوله، قال: رنَّ إبليسُ أربعَ رنَّاتٍ: حينَ لُعنَ، وحينَ أُهبطَ من الجنَّة، وحينَ بُعثَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وحين أُنزلت فاتحةُ الكتاب، وأُنزلتْ بالمدينة.
خرَّجه وكيعٌ وغيرُه.
وقال بعضُ التابعين: لمَّا أُنزلتْ هذه الآية ُ:
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) الآية.
بكى إبليسُ، يشيرُ إلى شدَّةِ حزنهِ بنزولِها، لما فيها من الفرح لأهلِ الذنوبِ، فهو لا يزالُ في همٍّ وغمٍّ وحُزنٍ منذُ بُعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما رأى منه ومن أمَّتهِ ما يُهمُّه ويُغِيظُه.
قال ثابت: لمَّا بُعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قال إبليسُ لشياطينه: لقد حدثَ أمر فانظرُوا ما هُو، فانطلقُوا، ثم جاؤُوه، فقالُوا: ما ندري، قال إبليسُ: أنا آتيكم بالخبر، فذهبَ وجاءَ، قالَ: قد بُعثَ محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل يُرسِلُ شياطينَه إلى أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيجيؤون بصُحفهم ليسَ فيها شيء، فقال:
ما لكُم لا تُصيبون منهم شيئًا؛ قالوا: ما صحِبْنا قوما قطُّ مثلَ هؤلاءِ؛ نُصيبُ منهم ثم يقومونَ إلى الصلاةِ، فيُمْحَى ذلك، قالَ: رُويدًا! إنَّهُم عسَى أنْ يفتحَ اللَّهُ لهُمُ الدنيا، هنالكَ تُصِيبُون حاجَتكم منُهم.
وعن الحسنِ، قالَ: قالَ إبليسُ: سَوَّلتُ لأمَّةِ محمدٍ المعاصِي، فقطعُوا
ظهرِي بالاستغفارِ، فسوَّلتُ لهم ذنوبًا لا يستغفرونَ منها، يعني الأهواءَ.
ولا يزالُ إبليسُ يرى في مواسم المغفرة والعتقِ من النار ما يسُوءُه؛ فيومُ
عرفةَ لا يُرى أصغرَ ولا أحقرَ ولا أدحَر فيه منه؛ لما يرى من تنزُلِ الرَّحمةِ
وتجاوُزِ اللَّهِ عن الذُّنوبِ العظامِ، إلا ما رُؤي يومَ بدْرٍ.
وَرُويَ أنَّه لمَّا رأى نزولَ المغفرةِ للأمَّةِ في حجَّةِ الوداع يومَ النَّحرِ بالمزدلفةِ.
أهوَى يحثِي على رأسِهِ الترابَ، ويدعوُ بالويل والثبور، فتبسَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ممَّا رأى من جزع الخبيثِ، وفي شهرِ رمضانَ يلطفُ اللَهُ بأمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فيغلُّ فيه الشياطينَ ومردةَ الجنّ حتَّى لا يقدروا على ما كانُوا يقدرونَ عليه في غيره من تسويل الذنوب، ولهذا تقل المعاصي في شهر رمضان في الأمَّة لذلك.
ففي "الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
"إذا دَخلَ رمضانُ فُتحتْ أبوابُ السَّماءِ، وغُلِّقتْ أبوابُ جهنَّم، وسُلسلت الشَّياطينُ "،
ولمسلم:
"فُتحتْ أبوابُ الرَّحمةِ"، وله أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
"إذا جاء رمضان فتِّحت أبوابُ الجنَّةِ، وغُلِّقتْ أبوابُ النّار، وصُفِّدتِ الشياطينُ ".
وخرَّج منه البخاري ذِكرَ فتح أبوابِ الجنَةِ.
وللترمذي وابن ماجةَ عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ِ، قال:
"إذا كان أوَّلُ ليلةٍ من شهر رمضانَ صُفِّدتِ الشَّياطينُ ومردةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النَّارِ، فلم يُفتح منها باب؛ وفُتحت أبوابُ الجنَّة، فلم يُغلَقْ منها بابٌ؛ ويُنادِي منادٍ: يا باغيَ الخير أقبلْ، ويا باغيَ الشر أقصِرْ، وللَّهِ عُتقاءُ من النّارِ، وذلك في كُلِّ ليلة".
وفي رواية للنسائي: "وتُغَلُّ فيه مردةُ الشياطينِ ".
وللإمامِ أحمد عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
"أُعطِيتْ أمَّتي في رمضانَ خمسَ خصالٍ، لم تُعْطَه أمةٌ قبلَهم: خُلُوفُ فم الصَّائم أطيبُ عندَ اللَّه مِن ريح المِسْكِ، وتستغفرُ لهم الملاِئكةُ حتَى يُفطِروا، ويُزيِّنُ اللَهُ عز وجل كُل يوم جنَّته، ثم يقولُ:
يُوشِكُ عِبادِي الصالحون أن يُلقُوا عنهم المؤونَةَ والأذَى ويصيرُوا إليك، وتُصفَّدُ فيه مردةُ الشّياطينِ، فلا يخلُصُون فيه إلى ما كانوا يخلُصُون إليه في غيره، ويُغفرُ لهم في آخرِ ليلة".
قيل: يا رسولَ اللَّه، أهِي ليلةُ القَدْرِ؟
قال: "لا، ولكنَّ العاملَ إنَّما يُوفَّى أجرَه إذا قضَى عملَه ".
وفي ليلة القدر تنتشرُ الملائكةُ في الأرض، فيبطُلُ سُلطانُ الشَّياطِين، كما
قال اللَّه تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) .
وفي "المسند" عن أبي هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال: "الملائكةُ تلك الليلة في الأرض أكثرُ من عدَدِ الحَصى".
وفي "صحيح ابن حبَّان "، عن جابرٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلةِ القدْرِ:
"لا يخرجٌ شيطانُها حتَّى يخرُجَ فجرُها".
وفي "المسند" من حديث عُبادةَ بن الصَّامت، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَه قال في ليلة القدر:
"لا يَحِلّ لكَوكبِ أن يُرْمَى به فيها حتَّى يُصبحَ، وأن أمَارَتَها أنَّ الشَّمسَ تخرُجُ صبيحتَها مُستويةً ليسَ لهَا شُعاعٌ مثلَ القمرِ ليلةَ البدْرِ، لا يحلُّ للشَّيطانِ أن يخرجُ معها يومئذ".
ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ ضى، قال: إنَّ الشيطان يطلُعُ مع الشَّمسِ كُلَّ يومٍ
إلا ليلةَ القدرِ، وذلك أنَّها تطلُع لا شعاعَ لها.
وقال مجاهدٌ في قوله تعالى: (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، قال: سلام أن
يحدُثَ فيها داءٌ أو يستطيعَ شيطانٌ العملَ فيها، وعنه قال: ليلةُ القدْرِ ليلة
سالمة لا يحدثُ فيها داءٌ، ولا يُرسلُ فيها شيطان، وعنه قال: هي سالمةٌ لا
يستطيعُ الشيطانُ أن يعملَ فيها سُوءًا، ولا يُحدثُ فيها أذىً.
وعن الضحَّاك عن ابن عباس، قال: في تلك الليلة تصفدُ مردةُ الجنِّ، وتُغَلُّ عفاريتُ الجنِّ، وتُفتحُ فيها أبوابُ السماءِ كلُّها، ويقبلُ اللَّهُ فيها التوبةَ لكُلِّ تائبٍ؛ فلذلك قال:(سَلامٌ هِيَ حَتَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) .
ويُروى عن أبي بن كعبٍ رضي الله عنه، قال:
لا يستطيعُ الشَّيطانُ أن يُصيبَ فيها أحدًا بخبلٍ أو داءٍ أو ضربٍ من ضُرُوبِ
الفسادِ، ولا ينفُذُ فيها سِحْرُ ساحِرٍ.
ويُروى بإسنادٍ ضعيفٍ عن أنسً مرفوعًا:
"أنَّه لا تَسْرِي نجومُها، ولا تنبحُ كلابُها".
وكل هذا يدُل على كفِّ الشياطين فيها عن انتشارِهم في الأرض،
ومنعِهم من استراقِ السَّمع فيها من السَّماء.
ابنَ آدَم، لو عرفتَ قدْرَ نفسكَ ما أهنتَها بالمعاصِي، أنتَ المختارُ من
المخلوقات، ولك أُعدَّتِ الجنَّة، إن اتقيتَ فهي أقطاعُ المتقين، والدنيا أقطاعُ إبليس، فهو فيها من المنظرينَ، فكيفَ رضِيتَ لنفسِكَ بالإعراض عن أقطاعِكَ ومزاحمةِ إبليسَ على أقطاعِه، وأن تكونَ غدًا مَعَهُ في النَّار من جملة أتباعِهِ؛ إنَّما طردناهُ عن السَّماء لأجلك حيثُ تكبَّر عن السّجود لأبيك، وطلبْنا قربكَ " لتكونَ من خاصتنا وحزبنا، فعاديْتَنا وواليْتَ عَدُوَّنا.
(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) .
* * *