الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من ذلك، واستدلُّوا بحديث عائشةَ: "كُنْتُ أفتِلُ قلائدَ الهدْي لرسولِ اللَّه
صلى الله عليه وسلم فلا يُحَرَّم عليه شيء أحلَّهَ اللَّهُ له ".
وأجابَ كئيرٌ منْ أهلِ القولِ الأولِ: بأنه يُجْمع بين الحديثينِ، فيؤخَذُ
بحديثِ أمّ سلمةَ فيمن يُريد أن يُضحّي في مصره، وبحديثِ عائشةَ فيمن
أرْسلَ بهَدْيه مع غيرِهِ، وأقام في بلدِهِ.
وكان ابنُ عمرَ إذا ضَحَّى يومَ النَّحْرِ حَلَقَ رأسه، ونصَّ أحمدُ على
ذلك.
* * *
قوله تعالى: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
قال تعالى: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) والشَّفع ضدُّ الوتْرِ: فالوترُ: الفردُ
والشَّفع الزَّوْج.
ولهذا فُسِّرَ "الشَّفع " في الآية بالخَلْقِ، لأنَّ الخلقَ كُلَّهُ زوج، قال تعالى:
(وَمِن كلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)، وقال:(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) .
وفُسِّر "الوِتْرُ" باللَّه عز وجل لأنَّه وِتْر يُحبُّ الوِتْر.
* * *
قوله تعالى (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) .
قال اللَّه عز وجل: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) .
وقال تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) .
قال الربيعُ بنُ أنسٍ في قولِهِ: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى) قال:
كُشِفَ عنْها غِطَاؤها.
وقال تعالى: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) .
وروى العلاءُ بنُ خالد الكاهليُّ، عن أبي وائل، عن ابنِ مسعودٍ، عن
النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
"يُؤتى يومئذ بجهنَّم لها سبْعون ألفَ زِمامٍ، مع كلِّ زمامٍ سبْعون ألفَ
ملَك يجرُّونها" خرَّجه مسلمٌ من طريقِ حفصِ بنِ غياث، عن العلاءِ به.
وخرَّجه الترمذيُّ من طريقِ سفيانَ عن العلاءِ موقوفًا على ابنِ مسعودٍ، ورجَّح وقْفه العقيليُّ والدارقطنيُّ.
وخرَّج ابنُ أبي حاتم منْ طريقِ عُبيدِ اللَّهِ بنِ الوليدِ الوصافيُّ، عن عطيةَ.
عن أبي سعيدٍ الخدريّ، قال: لما نزلتْ هذه الآية: (وَجِيءَ يَوْمَئذٍ بِجَهَنَّمَ)
تغيَّر لونُ النبى صلى الله عليه وسلم وعُرِفَ ذلك في وجْههِ حتَّى اشتدَّ ذلك على أصحابِهِ، فسألوه فقال:
"إنه جاءني جبريلُ فأقْرأني هذه الآيةَ "
قال: "كيف يُجاءُ بها؟
قال: يَجيءُ بها سبْعونَ ألفَ ملَكٍ يقودونها بسبعينَ ألف زمامٍ تشرد مرة، لو تُركتْ لأحرقتْ أهلَ الجمع ومَنْ عليه، ثم تُعْرضُ جهنَّم فتقول: ما لي وما لكَ يا محمد، لقد حرَّمَ اللَّه لحْمَك عليَّ، فلا يبقى أحدٌ إلا قال: نفْسِي نفْسِي، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم يقول: أُمَّتي
أُمَّتي " الوصافيُّ شيح صالحٌ لا يحفظ فكثرتِ المناكيرُ في حديثِهِ.
وخرَّج أبو يعلى الموصليُّ من حديثِ أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ الخدريَ
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا جَمَع اللَّهُ الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، يومَ القيامةِ أقبلتِ النارُ.
يركبُ بعضُها بعضًا، وخزنتها يكفونها، وهي تقول: وعزةِ ربي لتخلُنَّ بيني وبين أزواجي أو لأغشينَّ الناسَ عنقًا واحدًا، فيقولون: مَنْ أزواجُكِ؟
فتقولُ: كل متكبِّرٍ جبَارٍ".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من حديثِ الأعمشِ عن أبي صالح، عن
أبي هُريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
"يخرجُ يومَ القيامةِ عنقٌ من النارِ لها عينانِ تُبْصرانِ.
وأذنانِ تَسمعانِ، ولسان ينطقُ، تقولُ: إني وُكِّلتُ بثلاثةٍ: بكُل جبارٍ عنيدٍ، وبكلِّ مَنْ دعا مع اللَّه إلهًا آخرَ، وبالمصوِّرين "
وصحَّحه الترمذيُّ وقد قِيل: إنه ليسَ بمحفوظ
بهذا الإسنادِ، وإنَّما يرويه الأعمشُ عن عطيةَ عن أبي سعيدٍ، فقد روى
الأعمشُ وغيرُ واحد عن أبي سعيدٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يخرجُ عنقٌ من النارِ يتكلمُ، يقولُ: وُكَلتُ اليومَ بثلاثةٍ: بكلّ جبارٍ عنيدٍ، ومن جَعَلَ مع اللهِ إلهًا آخرَ، ومنْ قتَلَ نفْسًا بغير نفسٍ، فتنطوي عليهم فتقذفهم في غمراتِ جهنَّم "
خرَّجه الإمامُ أحمد، وخرَّجه البزار، ولفظُه:
"يخرجُ عنق من النارِ يتكلَّمُ بلسانٍ طلقٍ ذلقٍ،
لها عينانِ تُبصرُ بهما، ولها لسان تتكلَّم به، فتقولُ: إني أمرتُ بِمَنْ جعلَ مع اللَّه إلهًا آخر، وبكُلِّ جبار عنيد، وبِكُلِّ من قتل نفْسًا بغير نفسٍ، فتنطلقُ بهم قبْلَ سائرِ الناسِ بخمسمائة عامٍ "
وقد رُوي عن عطية عن أبي سعيدٍ موقوفًا.
وروى ابنُ لهيعةَ، عن خالدِ بنِ أبي عمرانَ، عن القاسم، عن عائشة عن
النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
"يخرجُ عنقٌ من النارِ، فتنطوي عليهم وتتغيَّظُ عليهم، ويقول ذلك
العنقُ: وُكلتُ بثلاثةٍ، وُكِّلتُ بثلاثةٍ، وُكِّلتُ بثلاثةٍ، وُكِّلتُ بمن دعا مع الله إلهًا آخر، ووكِّلتُ بمن لا يؤمن بيوم الحسابِ، ووكِّلتُ بكلِّ جبار عنيدٍ، فتنطوي عليهم، فتطرحُهُم في غمراتِ جهنَّم "
خرَّجه الإمامُ أحمدُ.
ورُوي عن شهرِ بنِ حوشب عن أسماءَ بنتِ يزيدَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يخرجُ عنقٌ من النارِ فيظلّ الخلاتق كلَّهم، فيقولُ: أمرتُ بكلِّ جبارٍ عنيدٍ، ومن زعم أنَه عزيزٌ كريم ومن دعا مع اللَّه إلهًا آخر".
ورواهُ أبو المنهالِ سيارُ بنُ سلامةَ عن شهرِ بنِ حوشبٍ عن ابنِ عباسٍ
موقوفًا، قالَ: إذا كان يومُ القيامة خرجَ عنق من النارِ فأشرفتْ على الخلائقِ
لها عينانِ تبصرانِ ولسان فصيحٌ تقولُ: إني وُكِّلتُ بكلِّ جبارٍ عنيد.
فتلقُطُهم من الصفوفِ فتحبسهم في نارِ جهنَّم، ثم تخرجُ ثانيًا فتقولُ: إنِّي
وكلتُ بمن آذَى اللَّه ورسولَه فلتقطُهم من الصفوف فتحبسُهُم في نارِ جهنَّم.
ثم تخرجُ ثالثةً، قال أبو المنهالِ: أحسبُ أنها قالتْ: إني وُكِّلتُ اليومَ
بأصحابِ التصاويرِ فتلقطُهُم من الصفوفِ فتحبسهم في نارِ جهنَّم.
وفي حديثِ الصورِ الطويلِ الذي خرَّجه إسحاقُ بنُ راهويه وأبو يعْلَى
الموصليُّ وغيرُهما بإسنادٍ فيه ضعف عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "ثم يأمرُ
اللَّهُ تعالى جهنَّم فيخرجُ منها عنق ساطعة مظلمة فيقولُ: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا
الْمُجْرِمُونَ) إلى قوله: (أَفَلَمْ تَكونُوا تَعْقِلُونَ) ".
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من طريقِ الشعبيِّ، عن أبي هريرة، قال:
"يُؤتَى بجهنَّم تقاد بسبعينَ ألف زمامٍ آخذٌ بكلِّ زمامِ سبعونَ ألفَ ملك، وهي تمايلُ عليهم حتَّى توقف عن يمينِ العرشِ، ويلقي اللَهُ عليها الذل يومئذٍ، فيوحِي اللَّهُ إليها ما هذا الذلُّ؟
فتقول: يا ربِّ أخافُ أن يكونَ لك فيَّ نقمةٌ، فيوحي
اللَّهُ إليها: إنما خلقتُكِ نقمة وليس لي فيك نقمةٌ، ويوحي اللَّهُ إليها فتزفرُ
زفرةً لا تبقي دمعةً في عين إلا جرتْ، ثم تزفرُ أخرى فلا يَبْقَى ملَكٌ مقربٌ
ولا نبي مرسلٌ إلا صعقَ، إلا نبيكم نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يقولُ:"ياربِّ أُمَّتي أُمَّتي".
وروى عبدُ اللَّه بنُ الإمامِ أحمدَ بإسنادِهِ عن أبي عبدِ اللَّه الجدليِّ، عن
عبادة بن الصامتِ وكدب قالا: يخرجُ عنقٌ من النارِ فيقولُ: أمرتُ بثلاثة:
بمن جعلَ مع اللَّه إلهًا آخر، وبكلِّ جبارٍ عنيدٍ، وبكُل معتد، ألا إني أعرفُ
بالرجلِ من الوالد بولدِهِ والمولودِ بوالدِهِ.
* * *
[قالَ البخاريُّ] : حدثنا أبو اليمانِ: نا شُعَيْبٌ، عن الزُّهريِّ: أخبرني
سعيدُ بنُ المسيب وعطاءُ بنُ يزيد الليثي، أن أبا هريرة أخبرهما أنَّ الناس
قالوا: يا رسول اللَّه: هل نَرَى ربَّنا يومَ القيامة؟
قال: "هل تُمَارُون في القمر ليْلةَ البدْرِ ليس دُونَه سحابٌ "
قالوا: لا يا رسول اللَّه، قال: "هل تُمارُون في رؤيةِ
الشمس ليس دونها سحابٌ؟ "
قالوا: لا.
قال: "فإنكم ترونه كذلك، يُحْشرُ الناسُ يومَ القيامةِ، فيقولُ: مَنْ كان يعبدُ شيئا فليتَبعْهُ، فمنهم من يتبعُ الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمَّةُ فيها منافقوها، فيأتيهم اللهُ، فيقولُ: أنا ربُّكم، فيقولون: هذا مكانُنا حتى يأتينا ربُّنا، فإذا جاء ربُّنا عرفْنَاه، فيأتيهم الله عز وجل فيقول: أنا ربُّكم فيقولون: أنت ربُّنا، فيدعوهم، ويُضْربُ الصراطُ بيْنَ ظهراني جهتم، فأكونُ أول من يجُوزُ من الرسلِ
بأمَّته، ولا يتكلَّمُ يومئذ أحدٌ إلا الرسل، وكلامُ الرسلِ يومئذ: اللَّهمَّ سلِّم سلِّم، وفي جهنم كلاليبُ مثلُ شوْكِ السَّعدانِ، هل رأيتُم شوْك السَّعْدان؟! قالوا: نعم.
قال: "فإنها مثلُ شوْكِ السَّعْدان، كير أنه لا يعلمُ قدرَ عِظَمها إلا اللَّهُ، تخطفُ الناسَ بأعمالهم، فمنهم من يُوبقُ بعملِهِ، ومنهم من يُخَرْدَلُ، ثمَ ينْجُوا، حتى إذا أراد اللَّه رحمةَ من أرادَ منْ أهل النار، اْمرَ اللَهُ عز وجل الملائكةَ أنْ يُخْرِجوا من النَّارِ منْ كان يعبُدُ اللَّه، فيُخْرِجُوهم ويعرفُونَهُم بآثارِ السجود.
وحرَّم اللَّهُ عز وجل على النارِ أن تأكل أثر السجودِ، فيخْرُجون من النَارِ، فكُل ابنِ آدمَ تأكله النارُ إلا أثرَ السجودِ، فيخْرُجُون من النَّارِ قد امتحشوا، فيُصبُّ عليهم ماءُ الحياةِ فينبتونَ كما تنبُتُ الحبَّةُ في حميلِ السيل ".
وفي الحديث: دليلٌ على أنَّ المشركينَ الذين كانوا يعبدونَ في الدنيا من
دون اللَّه آلهة يتبعون المهتَهم التي كانوا يعبدون يوم القيامة، فيردنهم النار.
كما قال تعالى في حقِّ فرعون: (يَقْدُمُ قوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) .
ويبقى من كان يعبدُ اللَّهَ وحدَه ظاهرًا، مؤمنًا كان أو منافقًا، فهؤلاءِ
ينظرونَ من كانُوا يعبدونه في الدنيا، وهو اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له.
ففي هذا الحديث: أنَّ اللَّه يأتيهم أولَ مرة فلا يعرفونه، ثم يأتيهم في المرة
الثانية فيعرفونه.
وقد دلَّ القرآن على ما دلَّ عليه هذا الحديث في مواضعَ، كقوله
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ)
وقال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)
وقال: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) .
ولم يتأولِ الصحابة ولا التابعونَ شيئًا من ذلك، ولا أخرجُوه عن مدلوله.
بل رُوي عنهم ما يدلُّ على تقريرِه والإيمانِ به وإمرارِه كما جاء.
وقد رُوي عن الإمامِ أحمدَ، أنه قال في مجيئِهِ: هو مجيءُ أمرِهِ.
وهذا مما تفرَّدَ به حنبلٌ عنه.
فمن أصحَابنا من قال: وهِمَ حنبلٌ فيما رَوى، وهو خلافُ مذهبه المعروفِ
المتواتر عنه.
وكان أبو بكر الخلَاّلُ وصاحبُه لا يثبتان بما تفرد به حنبلٌ، عن أحمدَ
روايةً.
ومن متأخرِيهم من قال: هو روايةٌ عنه، بتأويلِ كلِّ ما كان من جنسِ
المجيءِ والإتيانِ ونحوهِما.
ومنهم من قال: إنَّما قال ذلك إلزامًا لمن ناظرَهُ في القرآن، فإنهم استدلُّوا
على خلقِهِ بمجيءِ القرآنِ، فقال: إنَّما يجيءُ ثوابُهُ، كقولِهِ:(وَجَاءَ رَبُّكَ) .
أي: كما تقولون أنتم في مجيءِ اللَّه أنه مجيءُ أمر.
وهذا أصحُّ المسالكِ في هذا المرويِّ.
وأصحابُنا في هذا على ثلاثِ فرقٍ:
فمنهم من يثبتُ المجيءَ والإتيانَ، ويصرحُ بلوازمِ ذلك في المخلوقاتِ.
وربما ذكروه عن أحمدَ من وجوهٍ لا تصحُّ أسانيدُها عنه.
ومنهم من يتأول ذلك على مجيء أمره.
ومنهم من يقرُّ ذلك، ويُمِرُّه كما جاء، ولا يفسِّره، ويقولُ: هو مجيءٌ
وإتيانٌ يليقُ بجلالِ اللَّه وعظمتِهِ سبحانه.
وهذا هو الصحيحُ عن أحمدَ، ومن قبلَه منَ السلفِ، وهو قولُ إسحاقَ
وغيرِه من الأئمةِ.
وكان السلفُ ينسبونَ تأويلَ هذه الآياتِ والأحاديثِ
الصحيحةِ إلى الجهميةِ.
لأن جهمًا وأصحابَهُ أولُ منِ اشتُهِرَ عنهم أنَّ اللَّه تعالى منزهٌ عما دلتْ
عليه هذه النصوصُ بأدلةِ العقولِ التي سمَّوْها أدلةً قطعيةً هي المحكماتُ.
وجعلُوا ألفاظ الكتاب والسنة هي المتشابهاتُ، فعرضُوا ما فِيهَا على تلكَ
الخيالاتِ، فقبِلُوا ما دلَّتْ على ثبوتِهِ بزعمهم، وردُّوا ما دلتْ على نفيه
بزعمهم، ووافقَهم على ذلك سائرُ طوائفِ أهلِ الكلامِ من المعتزلةِ وغيرِهم.
وزعمُوا أنَّ ظاهرَ ما يدلُّ عليه الكتابُ والسنةُ تشبيهٌ وتجسيمٌ وضلالٌ.
واشتقُّوا من ذلك لمن آمنَ بما أنزل اللَّهُ على رسولِهِ أسماءً ما أنزلَ اللَّه بها من
سلطان، بل هي افتراءٌ على اللَّه، ينفِّرون بها عن الإيمانِ باللَّه ورسولِهِ.
وزعمُوا أنَّ ما وردَ في الكتابِ والسنة من ذلك - مع كثرتِهِ وانتشارِهِ - من
بابِ التوسع والتجوزِ، وأنه يحملُ على مجازاتِ اللغةِ المستبعدةَ، وهذا من
أعظم أبوابِ القدح في الشريعةِ المحكمة المطهرةِ، وهو من جنسِ حملِ
الباطنيةِ نصوصَ الإخبارِ عن الغيوبِ كالمعادِ والجنَّة والنارِ على التوسع والمجازِ
دونَ الحقيقةِ، وحملِهم نصوصَ الأمرِ والنهي على مثلِ ذلك، وهذا كلُّه
مروق عن دينِ الإسلام.
ولم ينهَ علماءُ السلفِ الصالح وأئمةُ الإسلامِ كالشافعيِّ وأحمدَ وغيرِهما
عن الكلامِ وحذَّرُوا عنه، إلا خوفًا من الوقوع في مثلِ ذلك، ولو علمَ هؤلاءِ الأئمةُ أنَّ حملَ النصوصِ على ظاهرِها كفر لوجبَ عليهم تبيينُ ذلك وتحذير الأُمَّة منه " فإنَّ ذلك من تمامِ نصيحة المسلمين، فكيفَ كان ينصحونَ الأُمَّةَ فيما يتعلقُ بالأحكامِ العملية ويدَعُون نصيحتَهم فيما يتعلقُ بأصولِ
الاعتقاداتِ، هذا من أبطلِ الباطلِ.
قال أبو عبد الرحمنِ السلميّ الصوفيُّ: سمعتُ عبد الرحمن بن محمد بن
جابر السلميَّ يقول: سمعتُ محمدَ بنَ عقيلِ بنِ الأزهرِ الفقيهَ يقولُ: جاء
رجلٌ إلى المزني يسأله عن شيءِ من الكلامِ، فقال: إنِّي أكرهُ هذا، بل أنْهى
عنه، كما نهَى عنه الشافعي؛ فإني سمعتُ الشافعيَّ يقولُ: سئلَ الليث عن
الكلامِ والتوحيد، فقال مالكٌ: محالٌ أن يُظنَّ بالنبى صلى الله عليه وسلم أنه علَّم أُمته الاستنجاءَ ولم يعَلمْهُمُ التوحيدَ، فالتوحيدُ ما قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"أمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يقولُوا: لا إله إلا اللَّه، فإذا قالُوها عصموا مني دماءَهم وأموالَهم "
فما عصَم الدمَ والمالَ فهو حقيقةُ التوحيدِ. انتهى.
وقد صحَّ عن ابنِ عباسٍ أنه أنكر على من استنكرَ شيئًا من هذه
النصوصِ، وزعمَ أنَّ اللَّه منزهٌ عما تدلُّ عليه.
فروى عبدُ الرزاقِ في "كتابِهِ " عن معمر، عن ابنِ طاووسَ، عن أبيه.
قال: سمعتُ رجلاً يحدِّثُ ابنَ عباسٍ بحديثِ أبي هريرة: "تحاجَّتِ الجنةُ
والنارُ"، وفيه: "فلا تمتلئُ حتَى يضع رِجْله " - أو قال: "قدمَهَ فيها"
قال: فقامَ رجلٌ فانتفضَ، فقال ابنُ عباسٍ: ما فرقُ هؤلاءِ، يجدونَ رقةً عند محكمِهِ، ويهلكُون عند متشابهه.
وخرَّجه إسحاقُ بنُ راهويه في "مسندِهِ " عن عبدِ الرزاق.
ولو كانَ لذلكَ عندَهُ تأويل لذكرهُ للناسِ ولم يسعْه كتمانُه.
وقد قابَل هؤلاءِ المتكلمينَ طوائف آخرون، فتكلَّموا في تقريرِ هذه
النصوصِ بأدلة عقلية، وردُّوا على النفاةِ، ووسَّعوا القولَ في ذلك، وبيَّنوا أن لازَم النَّفْي التعطيلُ المحضُ.
وأما طريقةُ أئمة أهلِ الحديثِ وسلفِ الأمَّة: فهي الكفُّ عن الكلامِ في
ذلك من الطرفينِ، وإقرارُ النصوصِ، وإمرارِها كما جاءتْ، ونفي الكيفيةِ
عنها والتمثيلِ.
وقد قال الخطابيُّ في "الأعلامِ": مذهبُ السلفِ في أحاديثِ الصفاتِ:
الإيمانُ، وإجراؤها على ظاهرِها، ونفيُ الكيفيةِ عنها.
ومن قال: الظاهرُ منها غيرُ مرادٍ، قيلَ له: الظاهرُ ظاهرانِ: ظاهرٌ يليقُ
بالمخلوقينِ ويختصُّ بهم، فهو غيرُ مراد، وظاهرٌ يليقُ بذي الجلالِ والإكرامِ.
فهو مرادٌ، ونفيهُ تعطيلٌ.
ولقد قال بعضُ أئمةِ الكلامِ والفلسفةِ من شيوخ الصوفيةِ الذي يحسنُ به
الظنَّ المتكلمونَ: إن المتكلمينَ بالغُوا في تنزيهِ اللَّهِ عن مشابهةِ الأجسامِ.
فوقعُوا في تشبيهه بالمعاني، والمعانِي محدَثةٌ كالأجسامِ، فلم يخرجُوا عن
تشبيهه بالمخلوقاتِ.
وهذا كلُّه إنَّما أتى من ظنِّ أن تفاصيلَ معرفةِ الجائزِ على اللَّه والمستحيلِ
عليه يُؤخذُ من أدلةِ العقولِ، ولا يُؤخذُ مما جاءَ به الرسولُ.
وأمَّا أهلُ العلم والإيمانِ، فيعلَمون أنَّ ذلك كلَّه متلقًى مما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم وأنَّ ما جاءَ به من ذلك عن ربِّه فهو الحقُّ الذي لا مزيدَ عليه، ولا عدولَ عنه، وأنه لا سبيل لتلقي الهُدى إلا منه، وأنه ليس في كتاب اللَّه ولا سنة رسولِهِ الصحيحة ما ظاهرُه كفرٌ أو تشبيهٌ أو مستحيلٌ، بل كلُّ ما أثبته اللَّهُ لنفسِهِ، أو أثبته له رسولُهُ صلى الله عليه وسلم، فإنه حق وصدقٌ، يجبُ اعتقادُ ثبوتِهِ مع نفْي التمثيلِ عنه، فكما أنَّ اللَّهَ ليس كمثلِهِ شيء في ذاتِهِ، فكذلك في صفاتِهِ.
وما أُشكلَ فهمُهُ من ذلك، فإنه يقالُ فيه ما مدَح اللَّه الراسخينَ من أهل
المحلم، أنهم يقولون عند المتشابهاتِ:(آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .
وما أمر به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في متشابِهِ الكتابِ، أنه يُردُّ إلى عالمِهِ، واللَّهُ يقول الحقَّ ويهدي السبيلَ.
وكلمةُ السلفِ وأئمةِ أهلِ الحديثِ متفقة على أنَّ آياتِ الصفاتِ وأحاديثَها
الصحيحةَ كلَّها تُمَر كما جاءتْ، من غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، ولا تحريفٍ ولا
تعطيلٍ.
قال أبو هلالٍ: سأل رجل الحسنَ عن شيءٍ من صفة الربِّ عز وجل.
فقال: أمِرُّوها بلا مثال.
وقال وكيع: أدركتُ إسماعيلَ بنَ أبي خالد وسفيانَ ومِسْعرًا، يحدِّثون
بهذه الأحاديثِ، ولا يفسِّرون شيئًا.
وقال الأوزاعيُّ: سُئلَ مكحولٌ والزهريُّ عن تفسيرِ هذه الأحاديثِ، فقالا:
أمِرَّها على ما جاءتْ.
وقال الوليدُ بنُ مسلم: سألتُ الأوزاعيَّ ومالكًا وسفيانَ وليثًا عن هذه
الأحاديثِ التي فيها الصفةُ والقرآنُ، فقالوا: أمِرُّوها بلا كيفٍ.
وقال ابنُ عيينةَ: ما وصفَ اللَّهُ به نفسَهُ فقراءتُهُ تفسيرُه، ليسَ لأحدٍ أن
يفسرَهُ إلا اللَّهُ عز وجل.
وكلامُ السلفِ في مثلِ هذا كثير جدًّا.
وقال أشهبُ: سمعتُ مالكًا يقولُ: إيَّاكم وأهلَ البدع.
فقيلَ: يا أبا عبد اللَّه، وما البدعُ؟
قال: أهلُ البدع الذين يتكلمونَ في أسماءِ اللَّه وصفاتِهِ
وعلمِهِ وقدرتِهِ ولا يسكتونَ عما سكتَ عنه الصحابةُ والتابعونَ لهم بإحسانٍ.
خرَّجه أبو عبد الرحمن السلميُّ الصوفيُّ في كتابِ "ذمِّ الكلامِ ".
وروى - أيضًا - باسانيدِهِ ذمَّ الكلامِ وأهلِهِ عن مالكٍ، وأبي حنيفةَ، وأبي
يوسُفَ، ومحمدٍ وابن مهدي، وأبي عبيدِ، والشافعيِّ، والمزنيِّ، وابن خزيمة.
وذكر ابنُ خزيمةَ النهيَ عنه عن مالكٌ والثوريِّ والأوزاعي والشافعي وأبي
حنيفةَ وصاحبيه وأحمدَ وإسحاقَ وابنِ المبارك ويحعى بنِ يحيى ومحمد بنِ
يحى الذُّهليِّ.
وروى السلميّ - أيضًا - النهيَ عن الكلامِ وذمَّه عن الجنيدِ وإبراهيم
الخواصِ.
فتبيَّنَ بذلك أن النهي عن الكلامِ إجماعٌ من جميع أئمةِ الدين من المتقدمينَ
من الفقهاءِ وأهلِ الحديثِ والصوفيةِ، وأنه قولُ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيَ
وأحمد وإسحاقَ وأبي عبيدٍ وغيرِهم من أئمة المسلمينَ.
ومن جملة صفاتِ اللَّه التي نؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءتْ عندهم:
قولُه تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) ونحو ذلك مما دلَّ على إتيانه
ومجيئهِ يومَ القيامة.
وقد نصَّ على ذلكَ أحمدُ وإسحاقُ وغيرُهما.
وعندهما: أن ذلك من أفعالِ اللَّه الاختياريةِ التي يفعلُها بمشيئَتِهِ واختيار.
وكذلك قالَه الفضيلُ بنُ عياضٍ وغيرُه من مشايخ الصوفيةِ أهلِ المعرفةِ.
وقد ذكرَ حربٌ الكرْمانيُّ أنه أدركَ على هذا القولِ كلَّ مَن أخذَ عنه العلمَ
في البلدانِ، وسمى منهُم: أحمدَ وإسحاقَ والحميدي وسعيدَ بنَ منصورٍ.
وكذلكَ ذكرَه أبو الحسنِ الأشعريِّ في كتابِهِ المسمَّى بـ "الإبانة"، وهو من
أجلِّ كتبِهِ، وعليه يعتمدُ العلماءُ وينقلُون منه، كالبيهقي وأبي عثمان الصابونيِّ
وأبي القاسم ابنِ عساكرٍ وغيرِهم.
وقد شرحَهُ القاضي أبو بكرِ ابنُ الباقلانيِّ.
وقد ذكرَ الأشعريُّ في بعص كتبِهِ أن طريقةَ المتكلمينَ في الاستدلالِ على
قدَمِ الصانع وحدوثِ العالَم بالجواهرِ والأجسامِ والأعراضِ محرمةٌ عندَ علماء
المسلمين.
وقد رُوي ذمُّ ذلك وإنكارُه ونسبتُه إلى الفلاسفة عن أبي حنيفةَ.
وقال ابن سريج: توحيدُ أهلِ العلم وجماعةِ المسلمين: الشهادتان.
وتوحيدُ أهلِ الباطنِ من المسلمينَ: الخوضُ في الأعراضِ والأجسامِ، وإنَّما
بُعِث النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإنكارِ ذلك.
خرَّجه أبو عبد الرحمن السلمي.
وكذلك ذكره الخطابيُّ في رسالتهِ في "الغنية عن الكلامِ وأهلِهِ ".
وهذا يدلُّ على أن ما يؤخذُ من كلامِهِ في كثيرٍ من كتبِهِ مما يخالفُ ذلك
ويوافقُ طريقةَ المتكلمينَ فقد رجعَ عنه، فإن نفيَ كثيرٍ من الصفاتِ إنما هو
مبنيٌ على ثبوتِ هذه الطريقةِ.
قال الخطابيُّ في هذه الرسالةِ في هذه الطريقةِ في إثباتِ الصانع: إنما هو
شيءٌ أخذهُ المتكلمونَ عن الفلاسفةِ، وإنما سلكتِ الفلاسفةُ هذه الطريقةَ لأنهم لا يُثبتون النبوَّاتِ ولا يرون لها حقيقةً، فكان أقوى شيءٍ عندَهم في الدلالةِ على إثباتِ هذه الأمورِ ما تعلَّقوا به من الاستدلالِ بهذه الأشياءِ، فأمَّا مثبتو النبوَّاتِ، فقد أغناهم اللَّهُ عن ذلك، وكفاهم كلفةَ المؤنةِ في ركوبِ هذه الطريقةِ المتعرِّجةِ التي لا يُؤمَنُ العنتُ على مَن ركبَها، والإبداع والانقطاعُ
على سالِكها.
ثم ذكرَ أن الطريقَ الصحيحةَ في ذلك: الاستدلالُ بالصنعةِ على صانعها.
كما تضمَّنه القرآنُ، وندب إلى الاستدلالِ به في مواضعَ، وبه تشهدُ الفطرُ
السليمةُ المستقيمةُ.
ثم ذكر طريقتَهم التي استدلُّوا بها، وما فيها من الاضطراب والفسادِ
والتناقضِ والاختلافِ.
ثم قال: فلا تشتغلْ - رحمكَ اللَّهُ - بكلامهِم، ولا تغترَّ بكثرةِ مقالاتهم.
فإنَّها سريعةُ التهافتِ، كثيرةُ التناقضِ، وما من كلامٍ تسمعُه لفرقة منهم إلا
ولخصومِهِم عليه كلامٌ يوازيه ويفارقُه، فكل بكلٍّ معارضٌ، وبعضهم ببعضٍ
مقابلٌ.
قال: وإنَّما يكونُ تقدُّمُ الواحدِ منهم وفلجه على خصمِهِ بقدرِ حظّه من
الثبات والحذقِ في صنعةِ الجدالِ والكلامِ، وأكثرُ ما يظهرُ به بعضُهم على
بعضٍ إَنّما هو إلزامٌ من طريقِ الجدلِ على أصولِ مؤصلة لهم، ومناقضات
على مقالاتٍ حفظُوها عليْهم [. . .](1) تقودها وطردها، فمَّنَ تقاعدَ عن شيءَّ
مَنها سمَّوْه من طريقِ [. . .](1) جعلوه مبطلاً، وحكموا بالفلج لخصمِه عليه.
والجدلُ لا يقومُ به حقٌّ [. . .](1) به حجة.
وقد يكون الخصمانِ على مقالتينِ مختلفتينِ، كلاهما باطل، ويكونُ
الحقُّ في ثالث غيرهما، فمناقضةُ أحدِهما صاحبَه غيرُ مصحِّح
مذهبَه، وإن كانَّ مَفسدًا به قولَ خصمِهِ، لأنهما مجتمعان معًا في الخطأ.
(1) بياض بالأصل.
مشتركان فيه، كقول الشاعر:
حُجَج تهَافَتُ كالزَّجاج (1) تخَالُها. . . حقًّا وكُلٌّ واهِن مكسُورُ
ومتى كان الأمرُ كذلك، فإنَّ أحدًا من الفريقينِ لا يعتمدُ في مقالتِه التي
نصرَها أصلاً صحيحًا، وإنَّما هو أوضاع وآراءُ تتكافأ وتتقابلُ، فيكثر المقالُ، ويدومُ الاختلافُ، ويقلُّ الصوابُ، كما قال تعالى:
(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) ، فأخبرَ تعالى أنَّ ما كثرَ فيه الاختلافُ فليسَ من عندِهِ، وهو من أدلِّ الدليلِ على أنَّ مذاهبَ المتكلمين مذاهبُ فاسدة، لكثرة ما يوجدُ فيها من الاختلافِ المفضي بهم إلى التكفيرِ والتضليلِ.
وذكرَ بقيةَ الرسالةَ، وهي حسنة متضمِّنة لفوائدَ جليلةٍ، وإنما ذكرْنا هذا
القدرَ منها ليتبيَّن به أنَ القواعدَ العقليةَ التي يدَّعي أهلُها أنه قطعيات لا تقبلُ
الاحتمالَ، فتردُّ لأجلِها - بزعمِهم - نصوصُ الكتابِ والسنةِ وتصرفُ عن
مدلولاتها، إنما هي عندَ الراسخينَ شبهاتٌ جهلياتٌ، لا تساوِي سماعَها، ولا
قراءتَها، فضلاً عن أنْ يُردَّ لأجلها ما جاءَ عن اللَّه ورسولِهِ، أو يحرفَ شيء
من ذلك عن مواضعِهِ.
وإنَّما القطعياتُ ما جاءَ عن اللَّهِ ورسولِهِ من الآياتِ المحكماتِ البينات.
والنصوصِ الواضحاتِ، فتردُّ إليها المتشابهاتُ، وجميعُ كتبِ اللَّه المنزلةِ متفقة
على معنًى واحدٍ، وإن ما فيها محكماتٌ ومتشابهاتٌ، فالراسخونَ في العلم
يؤمنونَ بذلك كلِّه، ويردونَ المتشابهَ إلى المحكم، ويكلُون ما أُشْكِلَ عليهم
(1) الزجاج: رعاع الناس.
فهمُه إلى عالمِهِ، والذين في قلوبِهِم زيغٌ يتبعونَ ما تشابَهُ منه ابتغاءَ الفتنة
وابتغاءَ تأويلِهِ، فيضربونَ كتابَ اللَّه بعضَه ببعض، ويردُّون المحكمَ.
ويتمسكونَ بالمتشابهِ ابتغاءَ الفتنةِ، ويحرّفون المحكمَ عن مواضعِه، ويعتمدونَ
على شبهاتٍ وخيالاتٍ لا حقيقةَ لها، بلْ هي من وساوسِ الشيطانِ
وخيالاتِهِ، يقذفُها في القلوبِ.
فأهلُ العلم والإيمانِ يمتثلون في هذه الشبهاتِ ما أمرُوا به من الاستعاذةِ
باللَّه، والانتهاء عما ألقاه الشيطانُ، وقد جعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك من علاماتِ الإيمانِ، وغيرُهم فيصغونَ إلى تلك الشبهاتِ، ويعبرون عنها بألفاظ مشتبهات، لا حرمةَ لها في نفسها وليس لها معنىً يصحُّ، فيجعلون تلك الألفاظ - محكمةً لا تقبلُ التأويلَ، فيردُّون كلامَ الله ورسولِهِ إليها، ويعرضونه عليها، ويحرّفونه عن مواضعِه لأجلها.
هذه طريقةُ طوائف أهلِ البدع المحضةِ من الجهميةِ والخوارج والروافضِ
والمعتزلةِ ومن أشبَههُم، وقد وقعَ في شيء من ذلك كثيرٌ من المتأخرينَ
المنتسبين إلى السنة من أهلِ الحديثِ والفقهِ والتصوفِ من أصحابِنا وغيرِهم في
بعضِ الأشياءِ دونَ بعضٍ.
وأمَّا السلفُ وأئمةُ أهلِ الحديثِ، فعلى الطريقةِ الأولى، وهي الإيمانُ
بجميع ما أثبتَهُ اللَهُ لنفسه في كتابِهِ، أو صحَّ عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه أثبتَه له، مع نفي التمثيلِ والكيفيةِ عنه، كما قالَه ربيعةُ ومالكٌ وغيرُهما من أئمةِ الهدى في الاستواء، ورُوي عن أمِّ سلمةَ أمِّ المؤمنين، وقال مثلَ ذلك غيرُهم من العلماء في النزولِ، وكذلك القولُ في سائر الصفاتِ، واللهُ سبحانه وتعالى الموفقُ.
وقولُه صلى الله عليه وسلم:، فأكون أولَ من يجوزُ بأمَّتِه حتى يقطع الجسرَ بأمَّتِه.
وروي: "يجيزُ"، وهما لغتان، يقال: جُزتُ الوادِي وأجزتُه، وهما
بمعنىً.
وعن الأصمعى، قال: أجزته: قطعتُه، وجزته: مشيتُ عليه.
وقولُه: "منهم الموبَقُ بعملِه" أي: الهالك.
وقولُه: "ومنهم المخردلُ"، هو بالدالِ المهملةِ والمعجمةِ -: لغتانِ مشهورتانِ، والمعنى: المقطَّعُ، والمراد - واللَّه أعلم -: أن منهم من يهلكُ فيقعُ في النارِ، ومنهم من تقطعه الكلاليب التي على جسرِ جهنَّم، ثم لا ينجوُ ولا يقع في النارِ.
وقيل: معناه أنه ينقطعُ عن النجاةِ واللحاقِ بالناجينِ.
والمقصودُ من تخريج الحديثِ بطولهِ في هذا البابِ: أنَّ أهلَ
التوحيدِ لا تأكل النار منهم مواضعَ سجودِهِم، وذلك دليلٌ على فضلِ
السجودِ عندَ اللهِ وعظمتِهِ، حيث حرَم على النارِ أن تأكل مواضعَ سجودِ أهلِ التوحيدِ.
واستدل بذلك بعضُ من يقول: إنَّ تارك الصلاةِ كافرٌ، فإنَه تأكلُه النارُ
كلَّه، فلا يبقى حالُه حالَ عصاةِ الموحدينَ.
وهذا فيمَنْ لم يصل للهِ صلاةً قطُّ ظاهرٌ.
وقولُه: "امتُحِشوا" أي: احترقوا، وضُبطت هذه الكلمة بفتح التاءِ والحاءِ.
وفي بعضِ النسخ بضم التاء وكسرِ الحاءِ.
و"الحِبَّةُ" بكسر الحاء، قال الأصمعي: كُلُّ نبتٍ له حبٌّ فاسْمُ جميع ذلك
الحبِّ الحِبَّةُ، وقال الفراء: الحِبةُ: بذور البقلِ، وقال أبو عمروٍ: الحِبَّةُ نبت
ينبت في الحشيش صغارٌ.
وقال الكسائيُّ: الحِبَّةُ بذرُ الرياحين، واحدتها حبَّةٌ، وأما الحِنطة فهو الحبُّ
لا غير، يعني الفتح.
و"الحميل ": ما حمله السيل من كل شيءٍ، فهو حميلٌ بمعنى محمول.
كقتيل بمعنى مقتول.
* * *