الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَبَا (1) سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ، فِيمَا سَأَلَهُ مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: هَلْ (2) كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: لَا -وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ إِذْ ذَاكَ رَأْسَ الْكَفَرَةِ وَزَعِيمَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَعَ هَذَا اعْتَرَفَ (3) بِالْحَقِّ:
وَالفَضْلُ مَا شَهدَتْ بِهِ الأعداءُ
…
فَقَالَ لَهُ هِرَقْلُ: فَقَدْ أَعْرِفُ (4) أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ليدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ. (5) !
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِلنَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ: بَعَثَ اللَّهُ فِينَا رَسُولًا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةَ مَقَامِهِ، عليه السلام، بَيْنَ أَظْهُرِنَا (6) قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ
(17) }
يَقُولُ تَعَالَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمَ وَلَا أَعْتَى وَلَا أَشَدَّ إِجْرَامًا {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} وتَقَوّل (7) عَلَى اللَّهِ، وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ أَحَدٌ أَكْبَرَ جُرْمًا وَلَا أَعْظَمَ ظُلما مِنْ هَذَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى أَمْرُهُ عَلَى الْأَغْبِيَاءِ، فَكَيْفَ يُشْتَبَهُ حَالُ هَذَا بِالْأَنْبِيَاءِ! فَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا، فَلَا بُدَّ أَنَّ اللَّهَ يَنصب عَلَيْهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى برِّه أَوْ فُجُوره مَا (8) وَأَظْهَرَ مِنَ الشَّمْسِ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ [لَعَنَهُ اللَّهُ](9) لِمَنْ شَاهَدَهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ وَقْتِ الضُّحَى وَوَقْتِ نِصْفِ اللَّيْلِ فِي حنْدس الظَّلْمَاءِ، فَمِنْ سِيمَا كُلٍّ مِنْهُمَا وَكَلَامِهِ وَفِعَالِهِ يَستدّل مَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَكَذِبِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، وسَجَاح، وَالْأَسْوَدِ العَنْسي. (10)
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ انْجَفَل النَّاسُ، فَكُنْتُ فِيمَنِ انْجَفَلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَرَفَتْ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ رَجُلٍ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، [وَصِلُوا الْأَرْحَامَ] (11) وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ". (12)
وَلَمَّا قَدم ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي (13) قَوْمِهِ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ فِيمَا قَالَ لَهُ (14) مَنْ رَفَعَ هَذِهِ السَّمَاءَ؟ قَالَ: "اللَّهُ". قَالَ: وَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ؟ قَالَ: "اللَّهُ". قال: ومن
(1) في ت: "لأبي".
(2)
في ت: "فهل".
(3)
في ت: "أعرف".
(4)
في ت: "أعترف".
(5)
في ت، أ:"ربه".
(6)
في ت، أ:"أضهرهم".
(7)
في ت: "ويقول".
(8)
في ت: "وما".
(9)
زيادة من أ.
(10)
في أ: "العبسي".
(11)
زيادة من ت، أ: والمسند.
(12)
رواه أحمد في المسند (5/451) والترمذي في السنن برقم (2485) وقال الترمذي: "حديث صحيح".
(13)
في أ: "من".
(14)
في ت: "فيما قاله".
سَطَحَ هَذِهِ الْأَرْضَ؟ قَالَ: "اللَّهُ". قَالَ: فَبِالَّذِي رَفَعَ هَذِهِ السَّمَاءَ، وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ، وسَطَح هَذِهِ الْأَرْضَ: اللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" ثُمَّ (1) سَأَلَهُ عَنِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالصِّيَامِ، وَيَحْلِفُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ (2) هَذِهِ الْيَمِينَ، وَيَحْلِفُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: صَدَقْتَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَنْقُصُ. (3)
فَاكْتَفَى هَذَا الرَّجُلُ بِمُجَرَّدِ هَذَا، وَقَدْ أَيْقَنَ بِصِدْقِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِمَا رَأَى وَشَاهَدَ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
لَو لَمْ تَكُن (4) فِيهِ آياتٌ مُبَيّنة كَانَتْ بَديهَتُه (5) تَأتيكَ بالخَبَرِ
وَأَمَّا مُسَيْلِمَةُ فَمَنْ شَاهَدَهُ مِنْ ذَوي الْبَصَائِرِ، عَلِمَ أَمْرَهُ لَا مَحَالَةَ، بِأَقْوَالِهِ الرَّكِيكَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِفَصِيحَةٍ، وَأَفْعَالِهِ غَيْرِ الْحَسَنَةِ بَلِ الْقَبِيحَةِ، وَقُرْآنِهِ الَّذِي يُخَلَّدُ بِهِ فِي النَّارِ يَوْمَ الْحَسْرَةِ (6) وَالْفَضِيحَةِ، وَكَمْ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الْبَقَرَةِ: 255] . وَبَيْنَ عُلاك (7) مُسَيْلِمَةَ قَبَّحَهُ اللَّهُ وَلَعَنَهُ: "يَا ضُفْدَعُ بِنْتَ (8) الضُّفْدَعَيْنِ، نَقِّي كَمَا تُنَقِّينَ لَا الْمَاءُ تُكَدِّرِينَ، وَلَا الشَّارِبُ تَمْنَعِينَ". وَقَوْلُهُ -قُبّح وَلُعِنَ -: "لَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْحُبْلَى، إِذْ أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمة تَسْعَى، مِنْ بَيْنِ صِفَاق وحَشَى". وَقَوْلُهُ -خَدّره (9) اللَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ فَعَلَ -:"الْفِيلُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْفِيلُ؟ لَهُ زُلقُومٌ (10) طَوِيلٌ" وَقَوْلُهُ -أَبْعَدَهُ اللَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ: "وَالْعَاجِنَاتِ عَجْنًا، وَالْخَابِزَاتِ خَبْزًا، وَاللَّاقِمَاتِ (11) لَقْمًا، إِهَالَةً وَسَمْنًا، إِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ" إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْهَذَيَانَاتِ وَالْخُرَافَاتِ الَّتِي يَأْنَفُ الصِّبْيَانُ أَنْ يَتَلَفَّظُوا بِهَا، إِلَّا عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ؛ وَلِهَذَا أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَهُ، وَشَرِبَ يَوْمَ "حَدِيقَةِ الْمَوْتِ" حَتْفَهُ. ومَزّق (12) شَمْلَهُ. وَلَعَنَهُ صحبُه وَأَهْلُهُ. وَقَدِمُوا عَلَى الصِّدِّيقِ تَائِبِينَ، وَجَاءُوا فِي دِينِ اللَّهِ رَاغِبِينَ، فَسَأَلَهُمُ الصِّدِّيقُ خَلِيفَةُ الرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ [اللَّهُ](13) عَنْهُ -أَنْ يَقْرَءُوا عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ قُرْآنِ مُسَيْلِمَةَ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَقْرَءُوا شَيْئًا مِنْهُ لِيُسْمِعَهُ مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ النَّاسِ، فَيَعْرِفُوا فَضْلَ مَا هُمْ عَلَيْهِ (14) مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ. فَقَرَءُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَأَشْبَاهَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ لَهُمُ الصِّدِّيقُ، رضي الله عنه: وَيْحَكُمْ! أَيْنَ كَانَ يُذهب بِعُقُولِكُمْ؟ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمْ يَخْرُجْ من إلٍّ.
(1) في أ: "قال: ثم".
(2)
في ت: "واحد".
(3)
رواه مسلم في صحيحه برقم (12) مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه بنحو هذا السياق.
(4)
في ت: "يكن".
(5)
في أ: "بدايته".
(6)
في ت، أ:"الحشر".
(7)
في ت: "علال".
(8)
في ت: "بين".
(9)
في ت، أ:"خلده".
(10)
في ت، أ:"زلوم".
(11)
في ت، أ:"فاللاقمات".
(12)
في ت، أ:"وتمزق".
(13)
زيادة من ت.
(14)
في ت، أ:"فيه".
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الشِّرْكَ حَادِثٌ فِي النَّاسِ، كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ، وعُبدت الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ وَالْأَوْثَانُ، فَبَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ بِآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ وحُجَجه الْبَالِغَةِ وَبَرَاهِينِهِ الدَّامِغَةِ، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الْأَنْفَالِ: 42] .
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَيْ: لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ؛ وَأَنَّهُ قَدْ أَجَّلَ الْخَلْقَ إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ لَقَضَى بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ اخْتَلَفُوا، فَأَسْعَدَ الْمُؤْمِنِينَ، وأعنَتَ الْكَافِرِينَ.
{وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ
(20) }
أَيْ: وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ [الْمُلْحِدُونَ](1) الْمُكَذِّبُونَ الْمُعَانِدُونَ: "لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ"، يَعْنُونَ كَمَا أَعْطَى اللَّهُ ثَمُودَ النَّاقَةَ، أَوْ أَنْ (2) يُحَوِّلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبَا، أَوْ يُزِيحَ عَنْهُمْ جِبَالَ مَكَّةَ وَيَجْعَلَ مَكَانَهَا بَسَاتِينَ وَأَنْهَارًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا اللَّهُ عَلَيْهِ قَادِرٌ (3) وَلَكِنَّهُ حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الْفُرْقَانِ: 10، 11] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الْإِسْرَاءِ: 59]، يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ سُنَّتِي فِي خَلْقِي أَنِّي إِذَا آتَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، فَإِنْ آمَنُوا وَإِلَّا عَاجَلْتُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ. وَلِهَذَا لَمَّا خيَّر رَسُولُ اللَّهِ، عليه الصلاة والسلام، بَيْنَ أَنْ يُعطى مَا سَأَلُوا، فَإِنْ أَجَابُوا وَإِلَّا عُوجلوا، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُمْ ويُنْظرهم، اخْتَارَ إِنْظَارَهُمْ، كَمَا حَلَمَ عَنْهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى إِرْشَادًا لِنَبِيِّهِ إِلَى الْجَوَابِ عَمَّا سَأَلُوا:{فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} أَيْ: الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ الْعَوَاقِبَ فِي الْأُمُورِ، {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تُؤَمِّنُونَ حَتَّى تُشَاهِدُوا مَا سَأَلْتُمْ فَانْتَظَرُوا حُكْمَ اللَّهِ فيَّ وَفِيكُمْ. هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، عليه السلام (4) أَعْظَمَ مِمَّا سَأَلُوا حِينَ أَشَارَ بِحَضْرَتِهِمْ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ إِبْدَارِهِ، فَانْشَقَّ بِاثْنَتَيْنِ (5) فِرْقَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ، وَفِرْقَةٍ مِنْ دُونِهِ. وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ سَائِرِ الْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ مِمَّا سَأَلُوا وَمَا لَمْ يَسْأَلُوا، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ سَأَلُوا ذَلِكَ اسْتِرْشَادًا وَتَثَبُّتًا لَأَجَابَهُمْ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، فَتَرَكَهُمْ فِيمَا رَابَهُمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُ (6) مِنْهُمْ أَحَدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ: 96، 97]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111] ،
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
في ت، أ:"وأن".
(3)
في ت: "مما الله قادر عليه".
(4)
في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(5)
في ت، أ:"باثنين".
(6)
في ت، أ:"ولكن ممن لم يؤمن".
وَلِمَا فِيهِمْ مِنَ الْمُكَابَرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الْحِجْرِ: 14، 15]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطُّورِ: 44]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الْأَنْعَامِ: 7] ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُجَابُوا إِلَى مَا سَأَلُوهُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي جَوَابِ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّهُ دَائِرٌ عَلَى تَعَنُّتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، لِكَثْرَةِ فُجُورِهِمْ وَفَسَادِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ
(21)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) }
يُخْبِرُ (1) تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا أَذَاقَ النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ، كَالرَّخَاءِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَالْخِصْبِ (2) بَعْدَ الْجَدْبِ، وَالْمَطَرِ بَعْدَ الْقَحْطِ وَنَحْوَ ذَلِكَ {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} .
قَالَ مُجَاهِدٌ: اسْتِهْزَاءٌ وَتَكْذِيبٌ. كَمَا قَالَ: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يُونُسَ: 12]، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ عَلَى (3) أَثَرِ سَمَاءٍ -مَطَرٍ (4) -أَصَابَهُمْ (5) مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ:"هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمُ اللَّيْلَةَ؟ " قَالُوا (6) اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطرنا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَاكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ". (7)
وَقَوْلُهُ: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} أَيْ: أَشَدُّ اسْتِدْرَاجًا وَإِمْهَالًا حَتَّى يَظُنَّ الظَّانَّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَذَّبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مُهْلَةٍ، ثُمَّ يُؤْخَذُ عَلَى غِرَّةٍ مِنْهُ، وَالْكَاتِبُونَ الْكِرَامُ يَكْتُبُونَ عَلَيْهِ جَمِيعَ ما يفعله،
(1) في ت: "فخبر".
(2)
في ت: "والخصيب".
(3)
في ت، أ:"في".
(4)
في ت، أ:"أي مطر".
(5)
في ت: "أصابتهم".
(6)
في ت: "قلنا".
(7)
صحيح البخاري برقم (846) وصحيح مسلم برقم (71) .
ويحصونه عليه، ثم يعرضون عَلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَيُجَازِيهِ عَلَى الْحَقِيرِ وَالْجَلِيلِ (1) وَالنَّقِيرِ والقِطْمير.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أَيْ: يَحْفَظُكُمْ (2) وَيَكْلَؤُكُمْ بِحِرَاسَتِهِ {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} أَيْ: بِسُرْعَةِ سَيْرِهِمْ رَافِقِينِ، فَبَيْنَمَا (3) هُمْ كَذَلِكَ إِذْ {جَاءَتْهَا} أَيْ: تِلْكَ السُّفُنَ {رِيحٌ عَاصِفٌ} أَيْ: شَدِيدَةٌ {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} أَيْ: اغْتَلَمَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أَيْ: هَلَكُوا {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أَيْ: لَا يَدْعُونَ مَعَهُ صَنَمًا وَلَا وَثَنًا، بَلْ يُفْرِدُونَهُ بِالدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 67]، وَقَالَ هَاهُنَا:{دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ} أَيْ: هَذِهِ الْحَالُ {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أَيْ: لَا نُشْرِكُ بِكَ أَحَدًا، وَلَنُفْرِدَنَّكَ (4) بِالْعِبَادَةِ هُنَاكَ كَمَا أَفْرَدْنَاكَ بِالدُّعَاءِ هَاهُنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ} أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْوَرْطَةِ {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أَيْ: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَاكَ شَيْءٌ (5){كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أَيْ: إِنَّمَا يَذُوقُ وَبَالَ هَذَا الْبَغْيِ أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ وَلَا تَضُرُّونَ (6) بِهِ أَحَدًا غَيْرَكُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:"مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ (7) أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدخر (8) اللَّهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ، مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ". (9)
وَقَوْلُهُ: {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ: إِنَّمَا لَكُمْ مَتَاعٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الدَّنِيئَةِ الْحَقِيرَةِ {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} أَيْ: مَصِيرُكُمْ وَمَآلُكُمْ (10){فَنُنَبِّئُكُمْ} أَيْ: فَنُخْبِرُكُمْ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ، وَنُوَفِّيكُمْ (11) إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وجد غير ذلك فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
(24)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) }
(1) في ت: "القليل والحقير".
(2)
في ت، أ:"يحيطكم".
(3)
في ت: "فبينا".
(4)
في أ: "ولنفردك".
(5)
في ت، أ:"كأن لم يكن شيء من ذاك".
(6)
في ت: "يضرون".
(7)
في ت: "أحذر".
(8)
في ت: "يؤخر".
(9)
رواه أبو داود في السنن برقم (4902) والترمذي في السنن برقم (2511) وابن ماجه في السنن برقم (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح".
(10)
في ت: "ومآبكم".
(11)
في ت: "ونوفكم".
ضَرَبَ [تَبَارَكَ وَ](1) تَعَالَى مَثَلًا لِزَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَسُرْعَةِ انْقِضَائِهَا وَزَوَالِهَا، بِالنَّبَاتِ الَّذِي أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَرْضِ بِمَا أَنْزَلَ (2) مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْمَاءِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ مِنْ زَرْعٍ (3) وَثِمَارٍ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا، وَمَا تَأْكُلُ (4) الْأَنْعَامُ مِنْ أَبٍّ وقَضْب وَغَيْرِ ذَلِكَ، {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا} أَيْ: زِينَتَهَا الْفَانِيَةَ، {وَازَّيَّنَتْ} أَيْ: حَسُنت بِمَا خَرَجَ مِنْ (5) رُباها مِنْ زُهُورٍ نَضِرة مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، {وَظَنَّ أَهْلُهَا} الَّذِينَ زَرَعُوهَا وَغَرَسُوهَا (6) {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي: على جَذاذها وحصادها فبيناهم (7) كذلك إذ جاءتها صاعقة، أو ريح بادرة، فَأَيْبَسَتْ أَوْرَاقَهَا، وَأَتْلَفَتْ ثِمَارَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} (8) أَيْ: يَبَسًا بَعْدَ [تِلْكَ](9) الْخُضْرَةِ وَالنَّضَارَةِ، {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ} أَيْ: كَأَنَّهَا مَا كَانَتْ حَسْنَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ} كَأَنَّ لَمْ تَنْعَمْ.
وَهَكَذَا الْأُمُورُ بَعْدَ زَوَالِهَا كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ (10) يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا، فيُغْمَس فِي النَّارِ غَمْسَة ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ [هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟](11) فَيَقُولُ: لَا. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا (12) فَيُغْمَسُ فِي النَّعِيمِ غَمْسَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا" (13)
وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُهْلَكِينَ: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هُودٍ: 94، 95] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} أَيْ: نُبَيِّنُ الحُجج وَالْأَدِلَّةَ، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فَيَعْتَبِرُونَ بِهَذَا الْمَثَلِ فِي زَوَالِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِهَا سَرِيعًا مَعَ اغْتِرَارِهِمْ بِهَا، وَتَمَكُّنِهِمْ (14) بِمَوَاعِيدِهَا وتَفَلّتها (15) مِنْهُمْ، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِهَا الْهَرَبَ مِمَّنْ طَلَبَهَا، وَالطَّلَبَ لِمَنْ هَرَبَ مِنْهَا، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِنَبَاتِ الْأَرْضِ، فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الْكَهْفِ: 45] ، وَكَذَا فِي سُورَةِ الزُّمَرِ (16) وَالْحَدِيدِ (17) يَضْرِبُ بِذَلِكَ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ (18) حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هشام قال: سمعت مروان -يعني: ابن
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
في ت، أ:"أنزل الله".
(3)
في ت: "زروع".
(4)
في ت: "يأكل".
(5)
في ت: "في".
(6)
في ت: "وعرشوها"
(7)
في ت، أ:"فبيناها".
(8)
في ت، أ:"جاءها" وهو خطأ.
(9)
زيادة من ت، أ.
(10)
في ت، أ:"الصحيح".
(11)
زيادة من ت، أ، وابن ماجه.
(12)
في ت، أ:"ويؤتى بأبأس أهل الدنيا".
(13)
سنن ابن ماجه برقم (4321) .
(14)
في ت، أ:"وتمسكهم".
(15)
في ت: "وتفلها".
(16)
الآية: 21.
(17)
الآية: 20
(18)
في ت: "الحرب".
الْحَكَمِ -يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: "وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَهَا (1) إِلَّا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا"، قَالَ: قَدْ قَرَأْتُهَا وَلَيْسَتْ فِي الْمُصْحَفِ فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: هَكَذَا يَقْرَؤُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ. فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: هَكَذَا أَقْرَأَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. (2)
وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ غَرِيبَةٌ، وَكَأَنَّهَا زِيَادَةٌ لِلتَّفْسِيرِ.
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} الْآيَةَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الدُّنْيَا وَسُرْعَةَ [عَطَبِهَا وَ](3) زَوَالِهَا، رغَّب فِي الْجَنَّةِ وَدَعَا إِلَيْهَا، وَسَمَّاهَا دَارَ السَّلَامِ أَيْ: مِنَ الْآفَاتِ، وَالنَّقَائِصِ وَالنَّكَبَاتِ، فَقَالَ:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
قَالَ أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلابة عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قِيلَ لِي: لتنَمْ عينُك، وليعقلْ قَلْبُكَ، وَلْتَسْمَعْ (4) أُذُنُكَ فَنَامَتْ عَيْنِي، وَعَقَلَ قَلْبِي، وَسَمِعَتْ أُذُنِي. ثُمَّ قِيلَ: سيّدٌ بَنَى دَارًا، ثُمَّ صَنَعَ مَأْدُبَةً، وَأَرْسَلَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَلَمْ يَرْضَ عَنْهُ السَّيِّدُ فَاللَّهُ السَّيِّدُ، وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ، وَالْمَأْدُبَةُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. (5)
وَهَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وَقَدْ جَاءَ مُتَّصِلًا مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ (6) عَنْ سَعِيدِ بن أبي هلال، عَنْ جَابِرِ (7) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي، وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلِي، يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اضْرِبْ لَهُ مَثَلًا. فَقَالَ: اسْمَعْ سَمعت أُذُنُكَ، وَاعْقِلْ عَقَل قَلْبُكَ، إِنَّمَا مَثَلُك وَمَثَلُ أمَّتك كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا، ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ، فَاللَّهُ الْمَلِكُ، وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ، وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ الرسُول، فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ الْإِسْلَامَ، وَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مِنْهَا" رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. (8)
وَقَالَ قَتَادَةُ: حَدَّثَنِي خُلَيْد العَصَري، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ شَمْسُهُ إِلَّا وبجنَبَتَيْها مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يَسْمَعُهُمَا (9) خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: يَا أيها الناس،
(1) في ت: "ليهلكهم".
(2)
تفسير الطبري (15/57) وانظر تعليق الأستاذ محمود شاكر في الحاشية، فقد ذكر أن هذا الإسناد هالك.
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
في ت: "وليسمع".
(5)
رواه الطبري في تفسيره (15/60) .
(6)
في ت، أ:"سويد".
(7)
في ت: "جبار".
(8)
تفسير الطبري (15/61) وعلقه البخاري في الصحيح برقم (7281) ورواه الترمذي في السنن برقم (2860) من طريق قتيبة عن الليث به، وقال الترمذي:"هذا حديث مرسل، سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد الله" قال: "وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد أصح من هذا" قلت: رواه البخاري في صحيحه برقم (7281) من طريق يزيد عن سليم بن حيان، عن سعيد بن أبي ميناء، عن جابر بن عبد الله بنحوه.
(9)
في ت، أ:"يسمعه".
هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، إِنَّ مَا قلَّ وكَفَى، خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى". قَالَ: وَأَنْزَلَ ذَلِكَ فِي (1) الْقُرْآنِ، فِي قَوْلِهِ:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ. (2)
(1) في ت، أ:"في ذلك".
(2)
تفسير الطبري (15/60) ورواه أحمد في مسنده (5/197) من طريق همام عن قتادة بنحوه.
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(26) }
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ لِمَنْ أَحْسَنَ الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَبْدَلَهُ (1) الْحُسْنَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ} [الرَّحْمَنِ: 60] .
وَقَوْلُهُ: {وَزِيَادَة} هِيَ (2) تَضْعِيفُ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَزِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ [أَيْضًا](3) وَيَشْمَلُ مَا يُعْطِيهِمُ اللَّهُ فِي الْجِنَانِ مِنَ القُصُور والحُور وَالرِّضَا عَنْهُمْ، وَمَا أَخْفَاهُ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْلَاهُ النظرُ إِلَى وَجْهِهِ (4) الْكَرِيمِ، فَإِنَّهُ زِيَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ مَا أُعْطُوهُ، لَا يَسْتَحِقُّونَهَا بِعَمَلِهِمْ، بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ (5) وَقَدْ رُوِيَ تَفْسِيرُ الزِّيَادَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ (6) الْكَرِيمِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ [قَالَ الْبَغَوِيُّ وَأَبُو مُوسَى وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ](7) وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أحاديثُ كَثِيرَةٌ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَفَّانُ، أَخْبَرَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ البُناني، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وَقَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوه. فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُثقِّل مَوَازِينَنَا، وَيُبِيِّضْ وُجُوهَنَا، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَيُزَحْزِحْنَا مِنَ النَّارِ؟ ". قَالَ: "فَيَكْشِفُ (8) لَهُمُ الْحِجَابَ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَلَا أَقَرَّ لِأَعْيُنِهِمْ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، به. (9)
(1) في ت، أ:"أن لهم".
(2)
في ت، أ:"تشمل هي".
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
في ت: "وجه".
(5)
في ت: "ورحمته".
(6)
في ت: "وجهه".
(7)
زيادة من ت، أ.
(8)
في ت: "فكشف".
(9)
صحيح مسلم برقم (181) ورواه الترمذي في السنن برقم (2552) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11234) وابن ماجه في السنن برقم (187) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنَا شَبِيبٌ، عَنْ أَبَانٍ (1) عَنْ أَبِي تَمِيمَة الهُجَيْمي؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنَادِيًا يُنَادِي: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ -بصَوْت يُسْمعُ أوَّلهم وَآخِرَهُمْ -: إِنَّ اللَّهَ وَعْدَكُمُ الْحُسْنَى وَزِيَادَةً، الْحُسْنَى: الْجَنَّةُ. وَزِيَادَةٌ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ عز وجل".
(2)
وَرَوَاهُ أَيْضًا ابنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ الهُذلي (3) عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ، بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُخْتَارِ (4) عَنِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرة، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قَالَ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ عز وجل. (5)
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ (6) حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، سَمِعْتُ زُهَيْرًا عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا الْعَالِيَةِ، حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: أَنَّهُ سَأَلَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قَالَ: "الْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عز وجل". (7)
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ، بِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} أَيْ: قَتَامٌ وَسَوَادٌ فِي عَرَصات الْمَحْشَرِ، كَمَا يَعْتَرِي وُجُوهَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ مِنَ القُتْرة والغُبْرة، {وَلا ذِلَّةٌ} أَيْ: هَوَانٌ وَصَغَارٌ، أَيْ: لَا يَحْصُلُ لَهُمْ إِهَانَةٌ فِي الْبَاطِنِ، وَلَا فِي الظَّاهِرِ، بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ:{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} أَيْ: نَضْرَةً فِي وُجُوهِهِمْ، وَسُرُورًا فِي قُلُوبِهِمْ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، آمِينَ.
{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(27) }
لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِ السُّعَدَاءِ الَّذِينَ يُضاعف لَهُمُ الْحَسَنَاتِ، وَيَزْدَادُونَ (8) عَلَى ذَلِكَ، عَطَفَ بِذِكْرِ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ، فَذَكَرَ عَدْلَهُ تَعَالَى فِيهِمْ، وَأَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا، لَا يَزِيدُهُمْ عَلَى ذلك،
(1) في ت، أ:"وأبان".
(2)
تفسير الطبري (15/65) وابن وهب روى عن شبيب مناكير وأبان بن أبي عياش ضعيف.
(3)
في ت: "الهذل".
(4)
في ت: "المختار به".
(5)
تفسير الطبري (15/68) ورواه أبو نعيم في الحلية (5/204) من طريق محمد بن حميد به، وقال:"غريب من حديث عطاء وابن جريج تفرد به إبراهيم بن المختار". وإبراهيم بن المختار ضعيف.
(6)
في أ: "عبد الرحمن".
(7)
تفسير الطبري (15/69) ورواه اللالكائي في السنة برقم (780) من طرق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عمن سمع أبا العالية يحدث عن أبي بن كعب فذكره مرفوعا.
(8)
في ت: "ويزادون".
{وَتَرْهَقُهُم} أَيْ: تَعْتَرِيهِمْ وَتَعْلُوهُمْ ذِلَّةٌ مِنْ مَعَاصِيهِمْ وَخَوْفِهِمْ مِنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشُّورَى: 45]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَاب} [إِبْرَاهِيمَ: 42 -44]، وَقَوْلُهُ {مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أَيْ: مِنْ مَانَعٍ وَلَا وَاقٍ يَقِيهِمُ الْعَذَابَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [الْقِيَامَةِ: 10 -12] .
وَقَوْلُهُ: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} إِخْبَارٌ عَنْ سَوَادِ وُجُوهِهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 106، 107]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عَبَسَ: 38 -42] . الْآيَةَ.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ
(28)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} أَيْ: أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ، مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ (1) وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ، كَمَا قَالَ:{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 47] .
{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} أَيْ: الْزَمُوا أَنْتُمْ وَهَمَ مَكَانًا مُعَيَّنًا، امْتَازُوا فِيهِ عَنْ مَقَامِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59]، وَقَالَ {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الرُّومِ: 14] ، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الرُّومِ: 43] أَيْ: يَصِيرُونَ صِدعين، وَهَذَا يَكُونُ إِذَا جَاءَ الرَّبُّ تَعَالَى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: ذَلِكَ (2) يَسْتَشْفِعُ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَيُرِيحَنَا مِنْ مَقَامِنَا هَذَا، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ على كَوْم فوق الناس. (3)(4)
(1) في ت، "من جن وإنس".
(2)
وقع هنا بياض في هـ، ووصل في ت، أ. وحديث الاستشفاع رواه البخاري في صحيحه برقم (4476) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
في أ: "النار".
(4)
رواه أحمد في المسند (3/345) من حديث جابر رضي الله عنه. والكوم: الموضع المشرف العال.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِخْبَارًا عَمَّا يَأْمُرُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ (1) وَأَوْثَانَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} أَنْكَرُوا عِبَادَتَهُمْ، وَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ [كَلا] سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} الْآيَةَ. [مَرْيَمَ: 82] . (2) وَقَالَ: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [الْبَقَرَةِ: 166]، وَقَالَ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الْأَحْقَافِ: 5، 6] .
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِخْبَارًا عَنْ قَوْلِ الشُّرَكَاءِ فِيمَا رَاجَعُوا فِيهِ عَابِدِيهِمْ عِنْدَ ادِّعَائِهِمْ عِبَادَتَهُمْ: {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} أَيْ: مَا كُنَّا نَشْعُرُ بِهَا وَلَا نَعْلَمُ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَنَا مِنْ حَيْثُ لَا نَدْرِي بِكُمْ، وَاللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنَّا مَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَى عِبَادَتِنَا، وَلَا أَمَرْنَاكُمْ بِهَا، وَلَا رَضِينَا مِنْكُمْ بِذَلِكَ.
وَفِي هَذَا تَبْكِيتٌ عَظِيمٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، مِمَّنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبَصِّرُ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ وَلَا رَضِيَ بِهِ وَلَا أَرَادَهُ، بَلْ تَبْرَأُ مِنْهُمْ فِي وَقْتٍ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَرَكُوا (3) عِبَادَةَ الْحَيِّ الْقَيُّومِ، السَّمِيعِ الْبَصِيرِ، الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَقَدْ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، آمِرًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، نَاهِيًا عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النَّحْلِ: 36]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الْأَنْبِيَاءِ: 25]، (4) وَقَالَ:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزُّخْرُفِ: 45] .
وَالْمُشْرِكُونَ أَنْوَاعٌ وَأَقْسَامٌ كَثِيرُونَ، قَدْ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وبَيّن أَحْوَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ، ورَد عَلَيْهِمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ أَتَمَّ رَدٍّ.
وَقَوْلُهُ: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} أَيْ: فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُخْتَبَرُ كُلُّ نَفْسٍ وَتَعْلَمُ مَا أَسْلَفَتْ مِنْ [عَمَلِهَا مِنْ](5) خَيْرٍ وَشَرٍّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطَّارِقِ: 9]، وَقَالَ تَعَالَى:{يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [الْقِيَامَةِ: 13]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الْإِسْرَاءِ: 13، 14] .
وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ: {هُنَالِكَ تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} وفسَّرها بَعْضُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ، وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى تَتْبَعُ مَا قَدَّمَتْهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ: "تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تعبد، فيتبع من
(1) في ت، أ:"المشركون".
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
في ت: "يكون إليه وقد ترك".
(4)
في أ: "نوحي".
(5)
زيادة من أ.
كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ" الْحَدِيثَ. (1)
وَقَوْلُهُ: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} أَيْ: وَرَجَعْتِ الْأُمُورُ كُلُّهَا إِلَى اللَّهِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ، فَفَصَّلَهَا، وَأَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ} أَيْ: ذَهَبَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أَيْ: مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ افْتِرَاءً عَلَيْهِ.
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا
(31)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) }
يَحْتَجُّ تَعَالَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِاعْتِرَافِهِمْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الْإِلَهِ (2) فَقَالَ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} أَيْ: مَنْ ذَا الَّذِي يُنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءَ الْمَطَرِ، فَيَشُقُّ (3) الْأَرْضَ شَقًا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا {حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عَبَسَ: 27 -31] ، أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ؟ فَسَيَقُولُونَ: اللَّهُ، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الْمُلْكِ: 21] ؟، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ} [يُونُسَ: 31] ؟ (4) ؟ أَيْ: الَّذِي وَهَبَكُمْ هَذِهِ الْقُوَّةَ السَّامِعَةَ، وَالْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ، وَلَوْ شَاءَ لَذَهَبَ بِهَا وَلَسَلَبَكُمْ إِيَّاهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} [الْمُلْكِ: 23]، وَقَالَ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الْأَنْعَامِ: 46] .
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} أَيْ: بِقُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ، وَمِنَّتِهِ الْعَمِيمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ} أَيْ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسأل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُون، {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرَّحْمَنِ: 29] ، فَالْمُلْكُ كُلُّهُ الْعُلْوِيُّ وَالسُّفْلِيُّ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ مَلَائِكَةٍ وَإِنْسٍ وَجَانٍّ، فَقِيرُونَ إِلَيْهِ، عَبِيدٌ لَهُ، خَاضِعُونَ لَدَيْهِ، {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أَيْ: هم يعلمون ذلك
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (182) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
في ت، أ:"وحدانيته الإلهية".
(3)
في ت، أ:"ويشق".
(4)
في أ: "قل من" وهو خطأ.
وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ، {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} أَيْ: أَفَلَا تَخَافُونَ مِنْهُ أَنْ تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ بِآرَائِكُمْ وَجَهِلِكُمْ؟.
وَقَوْلُهُ: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أَيْ: فَهَذَا الَّذِي اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ كُلَّهُ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكُمُ الْحَقُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} أَيْ: فَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَاحِدٌ (1) لَا شَرِيكَ لَهُ.
{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (2) أَيْ: فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ (3) عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ الرَّبُّ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَالْمُتَصَرِّفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ؟
وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ: كَمَا كَفَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، مَعَ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْمُلْكِ وَحْدَهُ، الَّذِي بَعَثَ رُسُلَهُ بِتَوْحِيدِهِ؛ فَلِهَذَا حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ أَنَّهُمْ أَشْقِيَاءُ مِنْ سَاكِنِي النَّارِ، كَقَوْلِهِ:{قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71] .
(1) في ت، أ:"لا إله إلا هو لأن الإله واحد".
(2)
في ت: "يصرفون".
(3)
في ت: "يصرفون".
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
(34)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) }
وَهَذَا إِبْطَالٌ لِدَعْوَاهُمْ فِيمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ، وَعَبَدُوا مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أَيْ: مَنْ بَدَأَ خَلْقَ هَذِهِ السموات وَالْأَرْضِ ثُمَّ يُنْشِئُ (1) مَا فِيهِمَا مِنَ الْخَلَائِقِ، ويفرق أجرام السموات وَالْأَرْضِ وَيُبْدِلْهُمَا بِفَنَاءِ مَا فِيهِمَا، ثُمَّ يُعِيدُ الْخَلْقَ (2) خَلْقًا جَدِيدًا؟ {قُلِ اللَّهُ} هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا وَيَسْتَقِلُّ بِهِ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أَيْ: فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ طَرِيقِ الرُّشْدِ إِلَى الْبَاطِلِ؟!
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} أَيْ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ شُرَكَاءَكُمْ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ ضَالٍّ، وَإِنَّمَا يَهْدِي الْحَيَارَى وَالضُّلَّالَ، وَيُقَلِّبُ الْقُلُوبَ مِنَ الْغَيِّ إِلَى الرُّشْدِ اللَّهُ، الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى} أَيْ: أَفَيُتَّبَع [العبد الذي يهدي إلى
(1) في ت، أ:"يفنى".
(2)
في ت: "الخلائق".
الْحَقِّ ويُبَصّر بَعْدَ الْعَمَى، أَمِ الَّذِي لَا يَهْدِي إِلَى شَيْءٍ إِلَّا] (1) أَنْ يُهْدَى، لِعَمَاهُ وَبُكْمِهِ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مَرْيَمَ: 42]، وَقَالَ لِقَوْمِهِ:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون} [الصَّافَّاتِ: 95، 96] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أَيْ: فَمَا بَالُكُمْ (2) يُذْهَبُ بِعُقُولِكُمْ، كَيْفَ سَوَّيْتُمْ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلقه، وَعَدَلْتُمْ هَذَا بِهَذَا، وَعَبَدْتُمْ هَذَا وَهَذَا؟ وَهَلَّا أَفْرَدْتُمُ الرَّبَّ جل جلاله الْمَالِكَ الْحَاكِمَ الْهَادِيَ مِنَ الضَّلَالَةِ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَأَخْلَصْتُمْ إِلَيْهِ الدَّعْوَةَ وَالْإِنَابَةَ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ فِي دِينِهِمْ هَذَا دَلِيلًا وَلَا بُرْهَانًا، وَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ مِنْهُمْ، أَيْ: تَوَهُّمٌ وَتَخَيُّلٌ، وَذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} تَهْدِيدٌ لَهُمْ، وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ (3) أَنَّهُ سَيُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءِ.
{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(37)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) }
هَذَا بَيَانٌ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَلَا بِعَشْرِ سُوَرٍ، وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ ووَجازته وحَلاوته، واشتماله على المعاني العزيزة (4)[للعزيرة](5) النَّافِعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ فِي ذَاتِهِ وَلَا صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، فَكَلَامُهُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} (6) أَيْ: مِثْلُ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا كَلَامَ (7) الْبَشَرِ، {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أَيْ: مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهَا، وَمُبَيِّنًا لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّبْدِيلِ.
وَقَوْلُهُ: {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ: وَبَيَانُ الأحكام والحلال والحرام، بيانًا
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
في ت: "لكم".
(3)
في ت، أ:"يخبر".
(4)
في ت، ا:"الغزيرة".
(5)
زيادة من ت.
(6)
في ت: "لهذا".
(7)
في ت، أ:"بكلام".
شَافِيًا كَافِيًا حَقًّا لَا مِرْيَةَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:"فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ، وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ، وَفَصْلُ مَا بَيْنَكُمْ"، أَيْ: خَبَر عَمَّا سَلَفَ وَعَمَّا سَيَأْتِي، وَحُكْمٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِالشَّرْعِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ.
وَقَوْلُهُ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ: إِنِ ادَّعَيْتُمْ وَافْتَرَيْتُمْ وَشَكَكْتُمْ فِي أَنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَقُلْتُمْ كَذِبًا ومَيْنا:"إِنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ"، فَمُحَمَّدٌ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَقَدْ جَاءَ فِيمَا زَعَمْتُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَأْتُوا أَنْتُمْ بِسُورَةٍ (1) مِثْلِهِ، أَيْ: مِنْ جِنْسِ الْقُرْآنِ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ مَنْ قَدرتم عَلَيْهِ مِنْ إِنْسٍ وَجَانٍّ.
وَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي التَّحَدِّي، فَإِنَّهُ تَعَالَى تَحَدَّاهُمْ وَدَعَاهُمْ، إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي دَعْوَاهُمْ، أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ، فَلْتُعَارِضُوهُ (2) بِنَظِيرِ مَا جَاءَ بِهِ وَحْدَهُ وَاسْتَعِينُوا بِمَنْ شِئْتُمْ (3) وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 88] ، ثُمَّ تَقَاصَرَ مَعَهُمْ إِلَى عَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ، فَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هُودٍ: 13] ، (4) ثُمَّ تَنَازَلَ إِلَى سُورَةٍ، فَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (5) وَكَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ -وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ -تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ أَبَدًا، فَقَالَ:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} الْآيَةَ: [الْبَقَرَةِ: 24] .
هَذَا وَقَدْ كَانَتِ الْفَصَاحَةُ مِنْ سَجَايَاهُمْ، وَأَشْعَارِهِمْ وَمُعَلَّقَاتِهِمْ إِلَيْهَا الْمُنْتَهَى فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَكِنْ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِهِ، وَلِهَذَا آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمَا عَرَفَ مِنْ بَلَاغَةِ هَذَا الْكَلَامِ وَحَلَاوَتِهِ، وَجَزَالَتِهِ وَطَلَاوَتِهِ، وَإِفَادَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ، فَكَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ، وَأَفْهَمَهُمْ لَهُ، وَأَتْبَعَهُمْ لَهُ وَأَشَدَّهُمْ (6) لَهُ انْقِيَادًا، كَمَا عَرَفَ السَّحَرَةُ، لِعِلْمِهِمْ (7) بِفُنُونِ السِّحْرِ، أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مُوسَى، عليه السلام، لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ مُؤيَّد مُسَدد مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ لِبَشَرٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ عِيسَى، عليه السلام، بُعِث فِي زَمَانِ عُلَمَاءِ الطِّبِّ وَمُعَالَجَةِ الْمَرْضَى، فَكَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا مَدْخَلَ لِلْعِلَاجِ وَالدَّوَاءِ فِيهِ، فَعَرَفَ مَنْ عَرَفَ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ (8) وَرَسُولُهُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا (9) .
(1) في ت، أ:"من مثله".
(2)
في ت، أ:"فليعارضوه".
(3)
في ت، أ: "وليستعينوا بمن شاءوا
(4)
في ت: "ما" وهو خطأ.
(5)
في ت: "ما" وهو خطأ.
(6)
في ت، أ:"وأشهرهم".
(7)
في ت، أ:"بعلمهم".
(8)
في ت: "من عبد الله"، وفي أ:"من عند الله".
(9)
رواه البخاري في صحيحه برقم (4981) ومسلم في صحيحه برقم (152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وَقَوْلُهُ: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} يَقُولُ: بَلْ كَذَّبَ هَؤُلَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَلَمْ يَفْهَمُوهُ وَلَا عَرَفُوهُ، {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أَيْ: وَلَمْ يُحصّلوا مَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ إِلَى حِينِ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ جَهْلًا وَسَفَهًا {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أَيْ: فَانْظُرْ كَيْفَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَنَا ظُلْمًا وَعُلُوًّا، وَكُفْرًا وَعِنَادًا وَجَهْلًا فَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} أَيْ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بُعثتَ (1) إِلَيْهِمْ يَا مُحَمَّدُ مَنْ يُؤْمِنُ (2) بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَيَتَّبِعُكَ وَيَنْتَفِعُ بِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ، {وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ} بَلْ يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ وَيُبْعَثُ عَلَيْهِ، {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} أَيْ: وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ فَيَهْدِيهِ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَةَ فَيُضِلُّهُ، وَهُوَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، بَلْ يُعْطِي كُلًّا مَا يَسْتَحِقُّهُ، تبارك وتعالى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ
(41)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) }
(1) ت في ت: "الذين من بعثت".
(2)
في ت، أ:"سيؤمن".
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ
(43)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) }
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّ كَذَبَّكَ (1) هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ وَمِنْ عَمَلِهِمْ، {فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} كَقَوْلِهِ تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين} [سُورَةُ الْكَافِرُونَ] . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَأَتْبَاعُهُ لِقَوْمِهِمُ الْمُشْرِكِينَ: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الْمُمْتَحَنَةِ: 4] .
وَقَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} أَيْ: يَسْمَعُونَ (2) كَلَامَكَ الْحَسَنَ، وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَالْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْفَصِيحَةَ (3) النَّافِعَةَ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَدْيَانِ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ وَلَا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إِسْمَاعِ الْأَصَمِّ -وَهُوَ الْأَطْرَشُ -فَكَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ هَؤُلَاءِ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} أَيْ: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَإِلَى مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ مِنَ التُّؤَدَةِ، وَالسَّمْتِ الْحَسَنِ، وَالْخُلُقِ الْعَظِيمِ، وَالدَّلَالَةِ الظَّاهِرَةِ، عَلَى نُبُوءَتِكَ لِأُولِي الْبَصَائِرِ (4) وَالنُّهَى، وَهَؤُلَاءِ يَنْظُرُونَ كما ينظر
(1) في أ: "وإن كذبوك".
(2)
في ت: "يستمعون".
(3)
في ت: "الفصيحة الصحيحة".
(4)
في ت: "الأبصار".
غَيْرُهُمْ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ مِمَّا (1) يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ، بَلِ الْمُؤْمِنُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بِعَيْنِ الْوَقَارِ، وَالْكَافِرُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ، {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الْفُرْقَانِ: 41، 42] .
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ هَدَى بِهِ مِنْ هَدَى [مِنَ الْغَيِّ](2) وَبَصَّرَ بِهِ مِنَ الْعَمَى، وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، وَأَضَلَّ بِهِ عَنِ الْإِيمَانِ (3) آخَرِينَ، فَهُوَ الْحَاكِمُ الْمُتَصَرِّفُ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَشَاءُ، الَّذِي لَا يُسْأل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ (4) عَنِ النَّبِيِّ (5) صلى الله عليه وسلم، فِيمَا يرويه عنه رَبِّهِ عز وجل:"يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا -إِلَى أَنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِطُولِهِ. (6)
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ
(45) }
يَقُولُ تَعَالَى مُذكِّرًا لِلنَّاسِ قِيَامَ السَّاعَةِ وَحَشْرَهُمْ مِنْ أَجْدَاثِهِمْ إِلَى عَرَصات الْقِيَامَةِ: كَأَنَّهُمْ (7) يَوْمَ يُوَافُونَهَا لَمْ يَلْبَثُوا فِي الدُّنْيَا {إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النَّازِعَاتِ: 46]، وَقَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} [طه: 102 -104]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الرُّومِ: 55، 56] .
وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقْصَارِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 112، 114] .
وَقَوْلُهُ: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أَيْ: يَعْرِفُ الْأَبْنَاءُ الْآبَاءَ (8) والقرابات بعضهم لبعض، كما كانوا في
(1) في ت: "ما".
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
في ت: "وأضل عن الإيمان به".
(4)
في ت، أ:"حديث أبي ذر".
(5)
في ت، أ:"رسول الله".
(6)
صحيح مسلم برقم (2577) .
(7)
في ت، أ:"وكأنهم".
(8)
في ت، أ: "الآباء الأبناء.
الدُّنْيَا، وَلَكِنْ كُلٌّ مَشْغُولٌ بِنَفْسِهِ {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101] ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلا} [الْمَعَارِجِ: 10، 15] .
وَقَوْلُهُ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الْمُرْسَلَاتِ: 15] . لِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. فَهَذِهِ هِيَ الْخَسَارَةُ الْعَظِيمَةُ، وَلَا خَسَارَةَ أَعْظَمُ مِنْ خَسارة مَنْ فُرّق بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ (1) يَوْمَ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ.
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ
(46)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أَيْ: نَنْتَقِمُ (2) مِنْهُمْ فِي حَيَاتِكَ لِتَقَرَّ عينُك مِنْهُمْ، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أَيْ: مَصِيرُهُمْ ومتقَلَبهم، وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ بَعْدَكَ.
وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مَكْرَمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الْجَارُودِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ (3) عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"عُرضت عَلَيَّ أُمَّتِي الْبَارِحَةَ لَدَى هَذِهِ الْحُجْرَةِ، أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عُرِضَ عَلَيْكَ مَنْ خُلِق، فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ؟ فَقَالَ: "صُوِّروا لِي فِي الطِّينِ، حَتَّى إِنِّي لأعْرَفُ بِالْإِنْسَانِ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِصَاحِبِهِ". (4)
وَرَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مَكْرَمٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْر، عَنْ زِيَادِ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، بِهِ نَحْوَهُ. (5)
وَقَوْلُهُ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
{قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ (6) وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزُّمَرِ: 69] ، فَكُلُّ أُمَّةٍ تُعْرَضُ عَلَى اللَّهِ بِحَضْرَةِ رَسُولِهَا، وكتابُ أَعْمَالِهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ موضوعٌ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ، وَحَفَظَتُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ شهودٌ أَيْضًا أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ. وَهَذِهِ الْأُمَّةُ الشَّرِيفَةُ وَإِنْ كَانَتْ آخِرَ الْأُمَمِ فِي الْخَلْقِ، إِلَّا أَنَّهَا أَوَّلُ الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُفْصَلُ بَيْنَهُمْ، وَيُقْضَى لَهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نحن
(1) في ت، أ:"أخيه".
(2)
في ت: "ينتقم".
(3)
في جميع النسخ: "أبي السليل" والتصويب من المعجم الكبير للطبراني.
(4)
المعجم الكبير (3/181) .
(5)
المعجم الكبير (3/181) وقال الهيثمي في المجمع (10/69) : "وفيه زياد بن المنذر وهو كذاب".
(6)
في ت، أ:"وهو خطأ".
الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ" (1) فَأُمَّتُهُ إِنَّمَا حَازَتْ قَصَب السَّبْقِ لِشَرَفِ رَسُولِهَا، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ [دَائِمًا](2) إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(48)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِعْجَالِهِمُ العذَاب وَسُؤَالِهِمْ عَنْ وَقْتِهِ قَبْلَ التَّعَيُّنِ، مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَهُمْ (3) كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشُّورَى: 18] أَيْ: كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ وَوَاقِعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا وَقْتَهَا عَيْنًا، وَلِهَذَا أرشَدَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَوَابِهِمْ فَقَالَ:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} أَيْ: لَا أَقُولُ إِلَّا مَا علَّمني، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ إِلَّا أَنْ يُطلعني عَلَيْهِ، فَأَنَا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَيْكُمْ، وَقَدْ أَخْبَرْتُكُمْ بِمَجِيءِ السَّاعَةِ وَأَنَّهَا كَائِنَةٌ، وَلَمْ يُطْلِعْنِي عَلَى وَقْتِهَا، [وَلَكِنْ] (4) {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أَيْ: لِكُلِّ قَرْنٍ مدَّة مِنَ الْعُمُرِ مقدَّرة (5) فَإِذَا انْقَضَى أَجْلُهُمْ {فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [الْمُنَافِقُونَ: 11] ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ سَيَأْتِيهِمْ بَغْتَةً، فَقَالَ:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} أَيْ: لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِه} يَعْنِي: أَنَّهُمْ إِذَا جَاءَهُمُ الْعَذَابُ قَالُوا: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السَّجْدَةِ: 12]، وَقَالَ تَعَالَى:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غَافِرٍ: 84، 85] .
{ثُمَّ قِيلَ (6) لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ هَذَا، تَبْكِيتًا وَتَقْرِيعًا، كَقَوْلِهِ:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 13 -16] .
(1) هذا اللفظ في صحيح مسلم برقم (856) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وروى البخاري أوله برقم (876) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
في ت، أ:"لهم فيه".
(4)
زيادة من ت، أ.
(5)
في ت: "تقدر".
(6)
في ت: "قل".
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ
(53) }
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
(54) }
يَقُولُ تَعَالَى: وَيَسْتَخْبِرُونَكَ {أَحَقٌّ هُوَ} أَيْ: الْمَعَادُ وَالْقِيَامَةُ مِنَ الْأَجْدَاثِ بَعْدَ صَيْرُورَةِ الْأَجْسَامِ تُرَابًا. {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أَيْ: لَيْسَ صَيْرُورَتُكُمْ تُرَابًا بِمُعْجِزِ اللَّهِ عَنْ إِعَادَتِكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ مِنَ الْعَدَمِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] . (1)
وَهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا آيَتَانِ أُخْرَيَانِ، يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِهِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْمَعَادَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سَبَأٍ: 3] . وَفِي التَّغَابُنِ: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التَّغَابُنِ: 7] .
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ يَوَدُّ الْكَافِرُ لَوِ افْتَدَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أَيْ: بِالْحَقِّ، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .
يُخْبِرُ تَعَالَى أنه مالك السموات وَالْأَرْضِ، وأنَّ وَعْدَهُ حَقٌّ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ مَرْجِعُهُمْ، وَأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، الْعَلِيمُ بِمَا تَفَرَّقَ مِنَ الْأَجْسَامِ وَتَمَزَّقَ فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَالْبِحَارِ وَالْقِفَارِ [سبحانه وتعالى تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ] . (2)
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى خَلْقِهِ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أَيْ: زَاجِرٌ عَنِ الْفَوَاحِشِ، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أَيْ: مِنَ الشُبَه وَالشُّكُوكِ، وَهُوَ إِزَالَةُ مَا فِيهَا مِنْ رِجْسٍ ودَنَس، {وَهُدًى وَرَحْمَةً} أَيْ: محصلٌ لَهَا الْهِدَايَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْمُصَدِّقِينَ الْمُوقِنِينَ بِمَا فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الْإِسْرَاءِ: 82]، وَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] .
(1) في ت: "إنما قوله" والصواب مل أثبتناه.
(2)
زيادة من أ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) أَيْ: بِهَذَا الَّذِي جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ (2) فَلْيَفْرَحُوا، فَإِنَّهُ أَوْلَى مَا يَفْرَحُونَ بِهِ، {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أَيْ: مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ الذَّاهِبَةِ لَا مَحَالَةَ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: "وذُكِر عَنْ بَقيَّة (3) -يَعْنِي ابْنَ الْوَلِيدِ -عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، سَمِعْتُ أَيْفَعَ بْنَ عَبْدٍ الْكُلَاعِيَّ يَقُولُ: لَمَّا قُدم خراجُ الْعِرَاقِ إِلَى عُمَرَ، رضي الله عنه، خَرَجَ عُمَرُ وَمَوْلًى لَهُ فَجَعَلَ عُمَرُ يَعُدُّ الْإِبِلَ، فَإِذَا هِيَ (4) أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَقُولُ مَوْلَاهُ: هَذَا وَاللَّهِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. فَقَالَ عُمَرُ: كَذَبْتَ. لَيْسَ هَذَا، هُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وَهَذَا مِمَّا يَجْمَعُونَ.
وَقَدْ (5) أَسْنَدَهُ (6) الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ، فَرَوَاهُ عَنْ أَبِي زُرْعَة الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ حَيوة بْنِ شُرَيح، عَنْ بَقِيَّةَ، فَذَكَرَهُ. (7)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ
(59)
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) }
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ إِنْكَارًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ وَيُحِلُّونَ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَايَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا} [الْأَنْعَامِ: 136] الْآيَاتِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ أَبَا الْأَحْوَصِ -وَهُوَ عَوْفُ بْنُ [مَالِكِ بْنِ] (8) نَضْلَةَ -يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا قَشْف الْهَيْئَةِ، فَقَالَ:"هَلْ لَكَ مَالٌ؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟ " قَالَ: قُلْتُ: مِنْ كُلِّ الْمَالِ، مِنَ الْإِبِلِ وَالرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ وَالْغَنَمِ. فَقَالَ (9) إِذَا آتَاكَ مَالًا فَلْيُرَ عَلَيْكَ". وَقَالَ: "هَلْ تُنْتِجُ إِبِلُ قَوْمِكَ صِحَاحًا آذانُها، فتعمَد إِلَى مُوسَى فَتَقْطَعُ آذَانَهَا، فَتَقُولُ: هَذِهِ بَحْرٌ وَتَشُقُّهَا، أَوْ تَشُقُّ جلودها
(1) في ت: "وبرحمة".
(2)
في أ: "الله".
(3)
في ت: "ذكر عن نفسه".
(4)
في أ: "هو".
(5)
في ت: "وهذا".
(6)
في أ: "أسند".
(7)
أورده السيوطي في الدر المنثور (4/368) وعزاه لابن أبي حاتم والطبراني.
(8)
زيادة من ت، أ، والمسند.
(9)
في ت، أ:"والنعم قال".
وَتَقُولُ: هَذِهِ صُرُم، وَتُحَرِّمُهَا (1) عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَإِنَّ مَا آتَاكَ اللَّهُ لَكَ حِلٌّ، وَسَاعِدُ اللَّهِ أَشُدُّ مِنْ سَاعِدِكَ، وَمُوسَى اللَّهِ أَحَدُّ مِنْ مُوسَاكَ" وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. (2)
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءِ عَمْرِو بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَمِّهِ أَبِي الْأَحْوَصِ (3) وَعَنْ بَهْز بْنُ أَسَدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، بِهِ (4) وَهَذَا حَدِيثٌ جَيِّدٌ قَوِيُّ الْإِسْنَادِ.
وَقَدْ أَنْكَرَ [اللَّهُ](5) تَعَالَى عَلَى مَنْ حَرّم مَا أَحَلَّ اللَّهُ، أَوْ أَحَلَّ مَا حَرَّمَ بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، الَّتِي (6) لَا مُسْتَنَدَ لَهَا وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ:{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَة} أَيْ: مَا ظَنُّهُمْ أَنْ يُصنَع بِهِمْ يَوْمَ مَرْجِعِهِمْ إِلَيْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي تَرْكِهِ مُعَاجَلَتَهُمْ (7) بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا.
قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فِيمَا أَبَاحَ لَهُمْ مِمَّا خَلَقَهُ مِنَ الْمَنَافِعِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا هُوَ ضَارٌّ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ أَوْ دِينِهِمْ.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} بَلْ يُحَرِّمُونَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ [بِهِ](8) عَلَيْهِمْ، وَيُضَيِّقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَجْعَلُونَ بَعْضًا حَلَالًا وَبَعْضًا حَرَامًا. وَهَذَا قَدْ وَقَعَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا شَرَعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ فِي دِينِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحِوَارِيِّ، حَدَّثَنَا رَبَاحٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ الصَّبَّاحِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يُؤْتَى بِأَهْلِ وِلَايَةِ اللَّهِ عز وجل، فَيَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عز وجل ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ قَالَ: فَيُؤْتَى بِرَجُلٍ مِنَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ فَيَقُولُ: عَبْدِي، لِمَاذَا عَمِلْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ: خَلَقْتَ الْجَنَّةَ وَأَشْجَارَهَا وَثِمَارَهَا وَأَنْهَارَهَا، وَحُورَهَا وَنَعِيمَهَا، وَمَا أَعْدَدْتَ لِأَهْلِ طَاعَتِكَ فِيهَا، فأسهرتُ لَيْلِي وأظمأتُ نَهَارِي شَوْقًا إِلَيْهَا. قَالَ: فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: عَبْدِي، إِنَّمَا عَمِلْتَ لِلْجَنَّةِ، هَذِهِ الْجَنَّةُ فَادْخُلْهَا، وَمِنْ فَضْلِي عَلَيْكَ أَنْ أَعْتَقْتُكَ مِنَ النَّارِ، [وَمِنْ فَضْلِي عَلَيْكَ أَنْ أُدْخِلَكَ جَنَّتِي] (9) قَالَ: فَيَدْخُلُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ الْجَنَّةَ.
قَالَ: ثُمَّ يُؤْتَى بِرَجُلٍ مِنَ الصِّنْفِ الثَّانِي، قَالَ: فَيَقُولُ: عَبْدِي، لِمَاذَا عَمِلْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، خَلَقْتَ نَارًا وَخَلَقْتَ أَغْلَالَهَا وَسَعِيرَهَا وَسَمُومَهَا ويحمُومها، وما أعددت لأعدائك وأهل معصيتك فيها
(1) في ت: "حرام ويحرمها".
(2)
المسند (3/473) .
(3)
المسند (4/137) .
(4)
المسند (3/473) .
(5)
زيادة من ت، أ.
(6)
في أ: "الذي".
(7)
في ت: "معالجتهم".
(8)
زيادة من ت، أ.
(9)
زيادة من ت، أ.
فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي خَوْفًا مِنْهَا. فَيَقُولُ: عَبْدِي، إِنَّمَا عَمِلْتَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ نَارِي، (1) فَإِنِّي قَدْ أَعْتَقْتُكَ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ فَضْلِي عَلَيْكَ أَنْ أُدْخِلَكَ جَنَّتِي. فَيَدْخُلُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ الْجَنَّةَ.
ثُمَّ يُؤْتَى بِرَجُلٍ مِنَ الصِّنْفِ الثَّالِثِ، فَيَقُولُ: عَبْدِي، لِمَاذَا عَمِلْتَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ (2) حُبًّا لَكَ، وَشَوْقًا إِلَيْكَ، وَعِزَّتِكَ لَقَدْ أَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي شَوْقًا إِلَيْكَ وَحُبًّا لَكَ، فَيَقُولُ تبارك وتعالى: عَبْدِي، إِنَّمَا عَمِلْتَ حُبًّا لِي وَشَوْقًا إِلَيَّ، فَيَتَجَلَّى لَهُ الرَّبُّ جل جلاله، وَيَقُولُ: هَا أَنَا ذَا، انْظُرْ إِلَيَّ ثُمَّ يَقُولُ: مِنْ فَضْلِي عَلَيْكَ أَنْ أُعْتِقَكَ مِنَ النَّارِ، وَأُبِيحَكَ جَنَّتِي، وأزيرَك مَلَائِكَتِي، وَأُسَلِّمَ عَلَيْكَ بِنَفْسِي. فَيَدْخُلُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ الْجَنَّةَ.
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
(61) }
يُخْبِرُ تَعَالَى نَبِيَّهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ (3) أَنَّهُ (4) يَعْلَمُ جَمِيعَ أَحْوَالِهِ وَأَحْوَالِ أُمَّتِهِ، وَجَمِيعَ الْخَلَائِقِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَآنٍ وَلَحْظَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يعزُب عَنْ عِلْمِهِ وَبَصَرِهِ مثقالُ ذَرَّةٍ في حقارتها وصغرها في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْهَا وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، كَقَوْلِهِ:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ (5) الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الْأَنْعَامِ: 59]، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ حَرَكَةَ الْأَشْجَارِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجَمَادَاتِ وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ السَّارِحَةُ فِي قَوْلِهِ:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الْأَنْعَامِ: 38]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هُودٍ: 6] .
وَإِذَا كَانَ هَذَا عِلْمَهُ بِحَرَكَاتِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَكَيْفَ بِعِلْمِهِ بِحَرَكَاتِ الْمُكَلَّفِينَ الْمَأْمُورِينَ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 217 -219] ؛؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أَيْ: إِذْ تَأْخُذُونَ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ نَحْنُ مُشَاهِدُونَ لَكُمْ رَاءُونَ سَامِعُونَ، وَلِهَذَا قَالَ، عليه السلام (6) لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنِ الْإِحْسَانِ [قَالَ](7) أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". (8)
(1) في ت، أ:"النار".
(2)
في أ: "ربي".
(3)
في ت: "صلوات الله وسلامه عليه".
(4)
في ت: "بأنه".
(5)
في ت: "مفاتح".
(6)
في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(7)
زيادة من ت، أ.
(8)
رواه مسلم في صحيحه برقم (8) من حديث عمر بن الخطاب الطويل.
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
(62)
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) }
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، كَمَا فَسَرَّهُمْ (1) رَبُّهُمْ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا: أَنَّهُ {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [أَيْ](2) فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} عَلَى مَا وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِر اللَّهُ.
وَقَدْ وَرَدَ هَذَا فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ كَمَا قَالَ الْبَزَّارُ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْب الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْعَرِيُّ -وَهُوَ الْقُمِّيُّ -عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ؟ قَالَ:"الَّذِينَ إِذَا رءُوا ذُكر اللَّهُ". ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا. (3)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفاعي، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ (4) حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَة بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ البَجَلي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عِبَادًا يَغْبِطُهُمُ (5) الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ". قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ لَعَلَّنَا نُحِبُّهُمْ. قَالَ: "هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا (6) فِي اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالٍ وَلَا أَنْسَابٍ، وُجُوهُهُمْ نُورٌ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ". ثُمَّ قَرَأَ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (7)
ثُمَّ رَوَاهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ. (8)
وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، إِلَّا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ أَبِي زُرْعَةَ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(1) في ت، أ:"فسر بهم".
(2)
زيادة من ت.
(3)
مسند البزار برقم (3626)"كشف الأستار". والمرسل رواه الطبري في تفسيره (15/119) من طريق أشعث بن إسحاق، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بن جبير مرسلا.
(4)
في جميع النسخ "أبو فضيل"، وكذا وقع في مخطوطة الطبري وصوبه المعلق.
(5)
في ت: "يعطيهم".
(6)
في أ: "تحابون".
(7)
تفسير الطبري (15/20) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11236) عن واصل بن عبد الأعلى عن محمد بن فضيل عن أبيه وعمارة بن القعقاع - هكذا مقرونا - كلاهما عن أبي زرعة عن أبي هريرة به نحوه، ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2508) من طريق عبد الرحمن بن صالح عن ابن فضيل عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ به.
(8)
تفسير الطبري (15/121) وسنن أبي داود برقم (3527) .
وَفِي حَدِيثِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي النَّضِرِ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَام، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَب، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْم، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ قَوْمٌ لَمْ تَتَّصِلْ (1) بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللَّهِ، وَتَصَافَوْا فِي اللَّهِ، يَضَعُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". وَالْحَدِيثُ مُتَطَوِّلٌ. (2)(3)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ذَكْوَان أَبِي صَالِحٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} قَالَ: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرى لَهُ". (4)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي قَوْلِهِ:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا الدَّرْدَاءِ (5) عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْ شَيْءٍ مَا سمعتُ [أَحَدًا](6) سَأَلَ عَنْهُ بَعْدَ رَجُلٍ سَأَلَ عَنْهُ رسولَ اللَّهِ، فَقَالَ: "هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، بُشْرَاهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَبُشْرَاهُ فِي الْآخِرَةِ [الْجَنَّةُ] . (7)
ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ المنْكَدِر، عَنْ عَطَاء بْنِ يَسَار، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا الدَّرْدَاءِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. (8)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَال، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَة، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، وَسُئِلَ عَنِ:{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى} فَذَكَرَ نَحْوَهُ سَوَاءً. (9)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبَانٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ؛ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} ؟ فَقَالَ: "لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي -أَوْ: أَحَدٌ قَبْلَكَ" قَالَ: "تِلْكَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ".
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ القَطَّان، عَنْ يحيى بن أبي كثير، به (10) ورواه
(1) في ت: "يتصل".
(2)
في ت، أ:"يطول".
(3)
المسند (5/343) .
(4)
المسند (6/445) .
(5)
في أ: "سأل رجل من أهل مصر أبا الدرداء".
(6)
زيادة من ت، أ، والطبري.
(7)
زيادة من ت، أ، والطبري.
(8)
تفسير الطبري (15/128) ورواه الترمذي في السنن برقم (3106) من طريق سفيان عن محمد بن المنكدر به نحوه.
(9)
تفسير الطبري (15/136) ورواه الترمذي في السنن برقم (3106) من طريق أحمد بن عبدة عن حماد بن زيد به.
(10)
مسند الإمام أحمد (5/315) وهو في مسند الطيالسي برقم (583) عَنْ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سلمة قال: نبئت أن عبادة بن الصامت فذكره، وهو منقطع قال ابن حجر:"رجاله ثقات إلا أنه معلول، فإن أبا سلمة لم يسمع من عبادة".
الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: نُبّئنا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو حُمَيْدٍ الحِمْصيّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدٍ الأحْمُوسي، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقَالَ: آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَسْأَلُكَ عَنْهَا، قول الله تعالى:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ؟ فَقَالَ عُبَادَةُ: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ قَبْلَكَ، سَأَلْتُ عَنْهَا نَبِيَّ اللَّهِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ:"مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ قَبْلَكَ، الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ فِي الْمَنَامِ أَوْ تُرَى لَهُ". (1)
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ بْنِ صَفْوان، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} فَقَدْ عَرَفْنَا بُشْرَى الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ، فَمَا بُشْرَى الدُّنْيَا؟ قَالَ:"الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْعَبْدُ أَوْ تُرَى لَهُ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا أَوْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ". (2)
وَقَالَ [الْإِمَامُ](3) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا بَهْز، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ؛ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيَحْمَدُهُ (4) النَّاسُ عَلَيْهِ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (5)
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَسَنٌ -يَعْنِي الْأَشْيَبَ -حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا دَرَّاج، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْر، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} قَالَ: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يُبَشَّرُهَا الْمُؤْمِنُ، هِيَ جُزْءٌ مِنْ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، فَمَنْ رَأَى [ذَلِكَ] (6) فَلْيُخْبِرْ بِهَا، وَمَنْ رَأَى سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ ليَحْزُنه، فَلْيَنْفُثْ (7) عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلِيُكَبِّرْ (8) وَلَا يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا"(9) لَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْب، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ دَرَّاجا أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْر، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يبشَّرها الْمُؤْمِنُ، جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ". (10)
وَقَالَ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ المؤدَّب، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} قال: "هي
(1) تفسير الطبري (15/129) .
(2)
تفسير الطبري (15/132) .
(3)
زيادة من أ.
(4)
في ت، أ:"ويحمده".
(5)
المسند (5/156) وصحيح مسلم برقم (2642) .
(6)
زيادة من أ، والمسند، وفي ت:"تلك".
(7)
في ت: "فليتفت".
(8)
في ت، أ:"وليسكت".
(9)
المسند (2/219) وابن لهيعة ودراج ضعيفان.
(10)
تفسير الطبري (15/139) .
فِي الدُّنْيَا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْعَبْدُ أَوْ تُرَى لَهُ، وَهِيَ فِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ". (1)
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنُ عَيَّاش، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَهِيَ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ. (2)
هَكَذَا رَوَاهُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ مَوْقُوفًا.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ هِيَ الْبُشْرَى، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ". (3)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَمَّادٍ الدُّولابي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنِ أَبِيهِ، عَنْ سِبَاع بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أُمِّ كُرْز الْكَعْبِيَّةِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ، وَبَقِيَتِ الْمُبَشِّرَاتُ". (4)
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وعُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعي، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّهُمْ فَسَّرُوا ذَلِكَ بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ (5) بُشْرَى الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ احْتِضَارِهِ بِالْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فُصِّلَتْ: 30 -32] .
وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: "أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، جَاءَهُ مَلَائِكَةٌ بِيضُ الْوُجُوهِ، بِيضُ الثِّيَابِ، فَقَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ. فَتَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ، كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ".
وَأَمَّا بُشْرَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَكَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 103] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الْحَدِيدِ: 12] . (6)
وَقَوْلُهُ: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أَيْ: هَذَا الْوَعْدُ لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُخْلَفُ وَلَا يُغَيَّرُ، بَلْ هُوَ مُقَرَّرٌ مُثَبَّتٌ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ:{ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (7)
(1) تفسير الطبري (15/131) .
(2)
تفسير الطبري (15/130) .
(3)
تفسير الطبري (15/130) .
(4)
تفسير الطبري (15/133) ورواه ابن ماجه في السنن برقم (3896) من طريق هارون الحمال عن سفيان به، وقال البوصيري في الزوائد (3/212) :"هذا إسناد صحيح رجاله ثقات" وأبو زيد لم يوثقه سوى ابن حبان، ولم يرو عنه سوى ابنه.
(5)
في ت، أ:"المراد من ذلك".
(6)
في ت: "وذلك الفوز العظيم".
(7)
في ت: "وذلك" وهو خطأ.
{وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(65)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) }
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {وَلا يَحْزُنْكَ} قولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، أَيْ: جَمِيعُهَا لَهُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ: السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ الْعَلِيمُ بِأَحْوَالِهِمْ. (1)
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ لَهُ مُلْكَ السموات وَالْأَرْضِ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَهِيَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، لَا (2) ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا، بَلْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ ظُنُونَهُمْ وَتَخَرُّصَهُمْ وَكَذِبَهُمْ وَإِفْكَهُمْ.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ الَّذِي جَعَلَ لِعِبَادِهِ اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ، أَيْ: يَسْتَرِيحُونَ فِيهِ مِنْ نَصَبهم وَكَلَالِهِمْ وحَرَكاتهم، {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أَيْ: مُضِيئًا لِمَعَاشِهِمْ وَسَعْيِهِمْ، وَأَسْفَارِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أَيْ: يَسْمَعُونَ هَذِهِ الْحُجَجَ وَالْأَدِلَّةَ، فَيَعْتَبِرُونَ (3) بِهَا، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا، وَمُقَدِّرِهَا وَمُسَيِّرِهَا.
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ لَهُ وَلَدًا: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} أَيْ: تَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ، هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أَيْ: فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مِمَّا خَلَقَ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَمْلُوكٌ لَهُ، عَبْدٌ لَهُ؟! {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} أَيْ: لَيْسَ عِنْدَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى مَا تَقُولُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ! {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} إِنْكَارٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، وَتَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88 -95] .
(1) في ت، أ:"عليم بهم".
(2)
في ت، أ:"ولا".
(3)
في ت: "ويعتبرون".
(4)
في ت: "أيقولون".
ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعَالَى الْكَاذِبِينَ عَلَيْهِ الْمُفْتَرِينَ، مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَهُ وَلَدًا، بِأَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ إِذَا اسْتَدْرَجَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ مَتَّعَهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ يَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ، كَمَا قال ها هنا:{مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} أَيْ: مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ، {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ} أَيْ: الْمُوجِعَ الْمُؤْلِمَ {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} أَيْ: بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ وَكَذِبِهِمْ عَلَى اللَّهِ، فِيمَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْإِفْكِ وَالزُّورِ.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ
(71)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) }
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} أَيْ: أَخْبِرْهُمْ وَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ، أَيْ: عَلَى كُفَّارِ مَكَّةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ وَيُخَالِفُونَكَ {نَبَأَ نُوحٍ} أَيْ: خَبَرَهُ مَعَ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ، كَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ ودَمّرهم بِالْغَرَقِ أَجْمَعِينَ عَنْ آخِرِهِمْ، لِيَحْذَرَ هَؤُلَاءِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ. {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ} أَيْ: عَظُم عَلَيْكُمْ، {مَقَامِي} أَيْ فِيكُمْ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، {وَتَذْكِيرِي} إِيَّاكُمْ {بِآيَاتِ اللَّهِ} أَيْ: بِحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} أَيْ: فَإِنِّي لَا أُبَالِي وَلَا أَكُفُّ عَنْكُمْ (1) سَوَاءٌ عَظُمَ عَلَيْكُمْ أَوْ لَا! {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} أَيْ: فَاجْتَمِعُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، مِنْ صَنَم وَوَثَنٍ، {ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أَيْ: وَلَا تَجْعَلُوا أَمْرَكُمْ عَلَيْكُمْ مُلْتَبِسًا، بَلِ افْصِلُوا حَالَكُمْ مَعِي، فَإِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ مُحِقُّونَ، فَاقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تَنْظُرُونَ، أَيْ: وَلَا تُؤَخِّرُونِي سَاعَةً وَاحِدَةً، أَيْ: مَهْمَا قَدَرْتُمْ فَافْعَلُوا، فَإِنِّي لَا أُبَالِيكُمْ (2) وَلَا أَخَافُ مِنْكُمْ، لِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، كَمَا قَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ:{إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هُودٍ: 54 -56] .
{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أَيْ: كَذَّبْتُمْ وَأَدْبَرْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ، {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أَيْ: لَمْ أَطْلُبْ مِنْكُمْ عَلَى نُصْحِي إِيَّاكُمْ شَيْئًا، {إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أَيْ: وأنا ممتثل ما أمرت به
(1) في ت، أ:"ولا أفكر عنكم".
(2)
في ت، أ:"أبالكم".
مِنَ الْإِسْلَامِ لِلَّهِ عز وجل، وَالْإِسْلَامُ هُوَ دِينُ [جَمِيعِ](1) الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ وَتَعَدَّدَتْ مَنَاهِلُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [الْمَائِدَةِ: 48] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبِيلًا وَسُنَّةً. فَهَذَا نُوحٌ يَقُولُ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النَّمْلِ: 91]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 131، 132]، وَقَالَ يُوسُفُ:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يُوسُفَ: 101] . وَقَالَ مُوسَى {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يُونُسَ: 84] . وَقَالَتِ (2) السَّحَرَةُ: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الْأَعْرَافِ: 126] . وَقَالَتْ بلْقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النَّمْلِ: 44] . وَقَالَ [اللَّهُ](3) تَعَالَى: {إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [الْمَائِدَةِ: 44]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [الْمَائِدَةِ: 111] وَقَالَ خَاتَمُ الرُّسُلِ وَسَيِّدُ الْبَشَرِ: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الْأَنْعَامِ: 162، 163] أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْهُ: "نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلات، دِينُنَا وَاحِدٌ"(4) أَيْ: وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُنَا، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ:"أَوْلَادُ عَلَّاتٍ"، وَهُمُ: الْإِخْوَةُ مِنْ أُمَّهَاتٍ شَتَّى وَالْأَبُّ وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ} (5) أَيْ: عَلَى دِينِهِ {فِي الْفُلْكِ} وَهِيَ: السَّفِينَةُ، {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ} أَيْ: فِي الْأَرْضِ، {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} أَيْ: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ أَنْجَيْنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَأَهْلَكْنَا الْمُكَذِّبِينَ.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ
(74) }
يَقُولُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيْ: بِالْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ، {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: فَمَا كَانَتِ الْأُمَمُ لِتُؤْمِنَ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ، بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ أَوَّلَ مَا أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الْأَنْعَامِ: 110] .
وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} أَيْ: كَمَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ هَؤُلَاءِ، فَمَا آمَنُوا
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
في ت، أ:"وقال".
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
رواه البخاري في صحيحه برقم (3443) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
في ت، أ:"والذين"
بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ، هَكَذَا يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ مَنْ أَشْبَهَهُمْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَيَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
وَالْمُرَادُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ لِلرُّسُلِ، وَأَنْجَى (1) مَنْ آمَنَ بِهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ، عليه السلام، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ (2) زَمَانِ آدَمَ عليه السلام عَلَى الْإِسْلَامِ، إِلَى أَنْ أَحْدَثَ النَّاسُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا، عليه السلام؛ وَلِهَذَا يَقُولُ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَنْتَ أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 17] ، وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ عَظِيمٌ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِسَيِّدِ الرُّسُلِ وَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ أَصَابَ مَنْ كَذَّبَ بِتِلْكَ الرُّسُلِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعِقَابِ والنَّكَال، فَمَاذَا (3) ظَنَّ هَؤُلَاءِ وَقَدِ ارْتَكَبُوا أَكْبَرَ مِنْ أُولَئِكَ؟
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ
(75)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) }
يَقُولُ تَعَالَى: {ثُمَّ بَعَثْنَا} مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الرُّسُلِ {مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أَيْ: قَوْمِهِ. (4){بِآيَاتِنَا} أَيْ: حجَجنا وَبَرَاهِينِنَا، {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} أَيْ: اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} كَأَنَّهُمْ -قبَّحهم اللَّهُ -أَقْسَمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا قَالُوهُ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النَّمْلِ: 14] .
{قَاَلَ} لَهُمْ {مُوسَى} مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} أَيْ: تَثْنِينَا {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أَيْ: الدِّينُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، {وَتَكُونَ لَكُمَا} أَيْ: لَكَ وَلِهَارُونَ {الْكِبْرِيَاء} أَيْ: الْعَظَمَةُ وَالرِّيَاسَةُ {فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} .
وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ مُوسَى، عليه السلام، مَعَ فِرْعَوْنَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَعْجَبِ الْقِصَصِ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ حَذر مِنْ مُوسَى كُلَّ (5) الْحَذَرِ، فَسَخَّرَهُ الْقَدَرُ أَنْ رَبَّى هَذَا الَّذِي يُحذَّر
(1) في ت، أ:"ونجى".
(2)
في ت، أ:"إلى".
(3)
في ت، أ:"فما".
(4)
في ت، أ:"أي إلى قومه".
(5)
في أ: "من".
مِنْهُ عَلَى فِرَاشِهِ وَمَائِدَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، ثُمَّ تَرَعْرَعَ وَعَقَدَ اللَّهُ لَهُ سَبَبًا أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَرَزَقَهُ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ وَالتَّكْلِيمَ، وَبَعَثَهُ إِلَيْهِ لِيَدْعُوَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيَعْبُدَهُ (1) وَيَرْجِعَ إليه، هذا مَا كَانَ عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ مِنْ عَظَمَةِ الْمَمْلَكَةِ وَالسُّلْطَانِ، فَجَاءَهُ بِرِسَالَةِ اللَّهِ، وَلَيْسَ لَهُ وَزِيرٌ سِوَى أَخِيهِ هَارُونَ عَلَيْهِ (2) السَّلَامُ، فَتَمَرَّدَ فِرْعَوْنُ وَاسْتَكْبَرَ وَأَخَذَتْهُ الْحَمِيَّةُ، وَالنَّفْسُ الْخَبِيثَةُ الْأَبِيَّةُ، وَقَوَّى رَأَسَهُ وَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ، وَادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَتَجَهْرَمَ عَلَى اللَّهِ، وَعَتَا وَبَغَى وَأَهَانَ حِزْبَ الْإِيمَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَحْفَظُ رَسُولَهُ مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ، وَيَحُوطُهُمَا، بِعِنَايَتِهِ، وَيَحْرُسُهُمَا بِعَيْنِهِ الَّتِي لَا تَنَامُ، وَلَمْ تَزَلِ (3) الْمُحَاجَّةُ وَالْمُجَادَلَةُ وَالْآيَاتُ تَقُومُ عَلَى يَدَيْ مُوسَى شَيْئًا (4) بَعْدَ شَيْءٍ، وَمَرَّةً (5) بَعْدَ مَرَّةٍ، مِمَّا يُبْهِرُ الْعُقُولَ وَيُدْهِشُ الْأَلْبَابَ، مِمَّا لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَلَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا مَنْ هُوَ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللَّهِ، وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا، وَصَمَّمَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤه -قَبَّحَهُمُ اللَّهُ -عَلَى التَّكْذِيبِ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْجَحَدِ وَالْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ، حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَد، وَأَغْرَقَهُمْ فِي صَبِيحَةٍ (6) وَاحِدَةٍ أَجْمَعِينَ، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45] .
(1) في ت، أ:"فيعبده".
(2)
في ت، أ:"عليهما".
(3)
في ت: "ولم يزل".
(4)
في ت: "شيء".
(5)
في ت: "وكره".
(6)
في ت: "صيحة".
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
(79)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) }
ذَكَرَ تَعَالَى (1) قِصَّةَ السَّحَرَةِ مَعَ مُوسَى، عليه السلام، فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَقَدْ تَقَدَمَّ الْكَلَامُ عَلَيْهَا هُنَاكَ. وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي سُورَةِ طه، وَفِي الشُّعَرَاءِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ -لَعَنَهُ اللَّهُ -أَرَادَ أَنْ يَتَهَرَّج عَلَى النَّاسِ، وَيُعَارِضَ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، عليه السلام، مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ، بِزَخَارِفِ (2) السَّحَرَةِ وَالْمُشَعْبِذِينَ، فانعكَس عَلَيْهِ النِّظَامُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ الْمَرَامُ، وَظَهَرَتِ (3) الْبَرَاهِينُ الْإِلَهِيَّةُ فِي ذَلِكَ الْمَحْفِلِ الْعَامِّ، وَ {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 46 -48] فَظَنَّ فِرْعَوْنُ أَنْ (4) يَسْتَنْصِرَ بالسحَّار، عَلَى رَسُولِ عَالِمِ الْأَسْرَارِ، فَخَابَ وَخَسِرَ الْجَنَّةَ، وَاسْتَوْجَبَ النَّارَ.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} (5) ؛ وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اصْطُفُوا -وَقَدْ وُعِدُوا مِنْ فِرْعَوْنَ بِالتَّقْرِيبِ وَالْعَطَاءِ الْجَزِيلِ - {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا} [طه: 65، 66] ، فَأَرَادَ مُوسَى أَنْ تَكُونَ البَدَاءة مِنْهُمْ، لِيَرَى النَّاسُ مَا صَنَعُوا، ثُمَّ يَأْتِي بِالْحَقِّ بَعْدَهُ فَيَدْمَغُ بَاطِلَهُمْ؛ وَلِهَذَا لَمَّا {أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] ،
(1) في ت: "ذكر الله سبحانه"
(2)
في أ: "من خوارق".
(3)
في ت: "وأظهرت".
(4)
في ت: "أنه".
(5)
في ت: "سحار".
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 67، 69]، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَمَّا أَلْقَوْا:{مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارِ بْنِ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -يَعْنِي الدَّشْتَكِيّ -أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ لَيْث -وَهُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمٍ -قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ شِفَاءٌ مِنَ السِّحْرِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، تُقْرَأُ فِي إِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِ الْمَسْحُورِ: الْآيَةُ الَّتِي مِنْ سُورَةِ يُونُسَ: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} وَالْآيَةُ الْأُخْرَى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَافِ: 118 -122]، وَقَوْلُهُ {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] .
{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ
(83) }
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُوسَى، عليه السلام، مَعَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ (1) الْبَيِّنَاتِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَاتِ، إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، مِنَ الذُّرِّيَّةِ -وَهُمُ الشَّبَابُ (2) -عَلَى وَجِلٍ وَخَوْفٍ مِنْهُ وَمِنْ مَلَئه، أَنْ يَرُدُّوهُمْ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا مُسْرِفًا فِي التَّمَرُّدِ وَالْعُتُوِّ، وَكَانَتْ (3) لَهُ سَطْوة ومَهابة، تَخَافُ رَعِيَّتُهُ مِنْهُ خَوْفًا شَدِيدًا.
قَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} قَالَ: فَإِنَّ الذُّرِّيَّةَ الَّتِي آمَنَتْ لِمُوسَى، مِنْ أُنَاسٍ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ يَسِيرٌ، مِنْهُمْ: امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَخَازِنُ فِرْعَوْنَ، وَامْرَأَةُ خَازِنِهِ.
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} يَقُولُ: بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ (الذُّرِّيَّةُ) : الْقَلِيلُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} يَقُولُ: بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ: هُمْ أَوْلَادُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى، مِنْ طُولِ الزَّمَانِ، وَمَاتَ آبَاؤُهُمْ.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ مُجَاهِدٍ فِي الذُّرِّيَّةِ: أَنَّهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، لِعُودِ الضَّمِيرُ عَلَى أقرب المذكورين.
(1) في ت: "الإيمان".
(2)
في ت: "الشاب".
(3)
في ت: "فكانت".
وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالذُّرِّيَّةِ الْأَحْدَاثَ وَالشَّبَابَ (1) وَأَنَّهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَالْمَعْرُوفُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى، عليه السلام، وَاسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَعْرِفُونَ نَعْتَهُ وَصِفَتَهُ وَالْبِشَارَةَ بِهِ مِنْ كُتُبِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُنْقِذُهُمْ بِهِ مِنْ أَسْرِ فِرْعَوْنَ وَيُظْهِرُهُمْ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بَلَغَ هَذَا فِرْعَوْنَ حَذَر كُلَّ الْحَذَرِ فَلَمْ يُجْد عَنْهُ شَيْئًا. وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى آذَاهُمْ فِرْعَوْنُ (2) أَشَدَّ الْأَذَى، وَ {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَافِ: 129] . وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُرَادُ إِلَّا ذُرِّيَّةً مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ؟.
{عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} أَيْ: وَأَشْرَافِ قَوْمِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَفتِنَ عَنِ الْإِيمَانِ سِوَى قَارُونَ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، فَبَغَى عَلَيْهِمْ؛ لَكِنَّهُ كَانَ طَاوِيًا (3) إِلَى فِرْعَوْنَ، مُتَّصِلًا بِهِ، مُتَعَلِّقًا بِحِبَالِهِ (4) وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَلَئِهِمْ} عَائِدٌ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَعِظَمِ الْمُلْكِ (5) مِنْ أَجْلِ اتِّبَاعِهِ أَوْ بِحَذْفِ "آلِ" فِرْعَوْنَ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ -فَقَدْ أَبْعَدَ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ جَرِيرٍ قَدْ حَكَاهُمَا عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مُؤْمِنٌ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ
(84)
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} أَيْ: فَإِنَّ اللَّهَ كَافٍ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزُّمَرِ: 36] ، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطَّلَاقِ: 3] .
وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هُودٍ: 123]، {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الْمُلْكِ: 29] ، {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} [الْمُزَّمِّلِ: 9] ، وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا فِي كُلِّ صَلَوَاتِهِمْ (6) مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَةِ: 5] .
وَقَدِ امْتَثَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ، فَقَالُوا:{عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ: لَا تُظْفِرْهُمْ بِنَا، وَتُسَلِّطْهُمْ (7) عَلَيْنَا، فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا سُلِّطُوا لِأَنَّهُمْ على الحق ونحن على الباطل،
(1) في ت، "والشاب".
(2)
في ت: "لفرعون".
(3)
في ت: "طاويا".
(4)
في ت: "بحاله".
(5)
في ت: "للملك".
(6)
في ت: "صلاتهم".
(7)
في ت: "أي يظفركم ويسلطهم".
فَيُفْتَنُوا (1) بِذَلِكَ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مِجْلَز، وأبي الضُّحى.
وقال ابن أبي نَجِيح وغيره وَاحِدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ: لَوْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ مَا عُذِّبُوا، وَلَا سُلِّطنا عَلَيْهِمْ، فَيُفْتَنُوا (2) بِنَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ ابْنِ نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ:{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [أَيْ](3) لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا، فَيَفْتِنُونَا.
{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ} أَيْ: خَلِّصْنَا بِرَحْمَةٍ مِنْكَ وَإِحْسَانٍ، {مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أَيْ: الَّذِينَ كَفَرُوا الْحَقَّ وَسَتَرُوهُ، ونحن قد آمنا بك وتوكلنا علي.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
(87) }
يَذْكُرُ تَعَالَى سَبَبَ إِنْجَائِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَكَيْفِيَّةِ خَلَاصِهِمْ مِنْهُمْ (4) وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ، عليهما السلام {أَنْ تَبَوَّءَا} أَيْ: يَتَّخِذَا لِقَوْمِهِمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} (5) فَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ خُصَيْف، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قَالَ: أمرُوا أَنْ يَتَّخِذُوهَا مَسَاجِدَ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ:{وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قَالَ: كَانُوا خَائِفِينَ، فَأُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ.
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَأَبُوهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: وَكَأَنَّ هَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -لَمَّا اشْتَدَّ بِهِمُ الْبَلَاءُ مِنْ قبَل فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ، أُمِرُوا بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [الْبَقَرَةِ: 156] . وَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. (6) وَلِهَذَا (7) قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: بِالثَّوَابِ وَالنَّصْرِ الْقَرِيبِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى، عليه السلام: لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُظْهِرَ صَلَاتَنَا مَعَ الْفَرَاعِنَةِ، فَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَأُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا بُيُوتَهُمْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قَالَ: لَمَّا خَافَ بَنُو إسرائيل من
(1) في ت، أ:"فيفتتنوا".
(2)
في ت، أ:"فيفتتنوا".
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
في أ: "منه".
(5)
في ت: "وجعلوا".
(6)
سنن أبي داود برقم (1319) من حديث حذيفة، رضي الله عنه.
(7)
في ت، أ:"وكذا".
فِرْعَوْنَ أَنْ يُقْتَلُوا (1) فِي الْكَنَائِسِ الْجَامِعَةِ، أُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا بُيُوتَهُمْ مَسَاجِدَ مُسْتَقْبِلَةً الْكَعْبَةَ، يُصَلُّونَ فِيهَا سِرًّا. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أَيْ: يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ
(88) }
(1) في ت: "أن يصلوا".
{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
(89) }
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا دَعَا بِهِ مُوسَى، عليه السلام، عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئه، لَمَّا أَبَوْا قَبُولَ الْحَقِّ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ مُعَانِدِينَ جَاحِدِينَ، ظُلْمًا وَعُلُوًّا وَتَكَبُّرًا وَعُتُوًّا، قَالَ:{رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً} أَيْ: مِنْ أَثَاثِ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا، {وَأَمْوَالًا} أَيْ: جَزِيلَةً كَثِيرَةً، {فِي} هَذِهِ {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} -بِفَتْحِ الْيَاءِ -أَيْ: أَعْطَيْتَهُمْ ذَلِكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَرْسَلْتَنِي بِهِ إِلَيْهِمُ اسْتِدْرَاجًا مِنْكَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}
وَقَرَأَ آخَرُونَ: {لِيُضِلُّوا} بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ: لِيَفْتَتِنَ بِمَا أَعْطَيْتَهُمْ مَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِكَ، لِيَظُنَّ مَنْ أَغْوَيْتَهُ أَنَّكَ إِنَّمَا أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ هَذَا لِحُبِّكَ إِيَّاهُمْ (1) وَاعْتِنَائِكَ بِهِمْ.
{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: أَيْ: أَهْلِكْهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: جَعَلَهَا اللَّهُ حِجَارَةً مَنْقُوشَةً كَهَيْئَةِ مَا كَانَتْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ زُرُوعَهُمْ تَحَوَّلَتْ حِجَارَةً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظي: اجْعَلْ (2) سُكَّرهم حِجَارَةً.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْر، عَنْ أَبِي مَعْشَر، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ قَرَأَ سُورَةَ يُونُسَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} إِلَى آخِرِهَا [فَقَالَ لَهُ: عُمَرُ يَا أَبَا حَمْزَةَ (3) أَيُّ شَيْءٍ الطَّمْسُ؟ قَالَ: عَادَتْ أَمْوَالُهُمْ كُلُّهَا حِجَارَةً](4) فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِغُلَامٍ لَهُ: ائْتِنِي بِكِيسٍ. [فَجَاءَهُ بِكِيسٍ](5) فَإِذَا فِيهِ حِمَّصٌ وَبَيْضٌ، قَدْ قُطِعَ حَوْلَ حِجَارَةٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ اطْبَعْ عَلَيْهَا، {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ}
وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ كَانَتْ مِنْ مُوسَى، عليه السلام، غَضَبًا لِلَّهِ وَلِدِينِهِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، الَّذِينَ تبين له
(1) في ت، أ:"لهم".
(2)
في ت: "جعل".
(3)
في ت: "يا أبا جمرة".
(4)
زيادة من ت، أ.
(5)
زيادة من ت، أ.
أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، وَلَا يَجِيءُ مِنْهُمْ شَيْءٌ كَمَا دَعَا نُوحٌ، عليه السلام، فَقَالَ:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نُوحٍ: 26، 27] ؛ وَلِهَذَا اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى، عليه السلام، فِيهِمْ (1) هَذِهِ الدَّعْوَةَ، الَّتِي أمَّنَ عَلَيْهَا أَخُوهُ هَارُونُ، فَقَالَ تَعَالَى:{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: دَعَا مُوسَى وأمَّنَ هَارُونُ، أَيْ: قَدْ أَجَبْنَاكُمَا فِيمَا سَأَلْتُمَا مِنْ تَدْمِيرِ آلِ فِرْعَوْنَ.
وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَقُولُ: "إِنَّ تَأْمِينَ الْمَأْمُومِ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ يُنزل مَنْزِلَةِ (2) قِرَاءَتِهَا؛ لِأَنَّ مُوسَى دَعَا وَهَارُونَ أَمَّنَ".
وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ] } (3) أَيْ: كَمَا أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا عَلَى أَمْرِي.
قَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{فَاسْتَقِيمَا} فَامْضِيَا لِأَمْرِي، وَهِيَ الِاسْتِقَامَةُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَقُولُونَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ مَكَثَ بَعْدَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
(90)
آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) }
يَذْكُرُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ إِغْرَاقِهِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ؛ فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ صُحْبَةَ مُوسَى، عليه السلام، وَهُمْ -فِيمَا قِيلَ -سِتُّمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ سِوَى الذُّرِّيَّةِ، وَقَدْ كَانُوا اسْتَعَارُوا مِنَ الْقِبْطِ حُلِيّا كَثِيرًا، فَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ، فَاشْتَدَّ حَنَق فِرْعَوْنَ عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَجْمَعُونَ لَهُ جُنُودَهُ مِنْ أَقَالِيمِهِ، فَرَكَبَ وَرَاءَهُمْ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَجُيُوشٍ هَائِلَةٍ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ لَهُ دَوْلَةٌ وَسُلْطَانٌ فِي سَائِرِ مَمْلَكَتِهِ، فَلَحِقُوهُمْ وَقْتَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 61] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا انْتَهَوْا إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَأَدْرَكَهُمْ فِرْعَوْنُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَتَقَاتَلَ (4) الْجَمْعَانِ، وَأَلَحَّ أَصْحَابُ مُوسَى، عليه السلام، عَلَيْهِ فِي السُّؤَالِ كَيْفَ الْمَخْلَصُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَسْلُكَ هَاهُنَا، {كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشُّعَرَاءِ: 62]
(1) في ت: "فيما".
(2)
في ت: "يتنزل منزلة".
(3)
زيادة من أ، وفي هـ:"الآية".
(4)
في أ: "أن يتقابل".
فَعِنْدَمَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ الْبَحْرُ، {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] أي: كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، وَصَارَ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا، لِكُلِّ سِبْطٍ وَاحِدٌ. وَأَمَرَ اللَّهُ الرِّيحَ فنَشَّفت أَرْضَهُ، {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه: 77] وَتَخَرَّقَ الْمَاءُ بَيْنَ الطُّرُقِ كَهَيْئَةِ الشَّبَابِيكِ، لِيَرَى كُلُّ قَوْمِ الْآخَرِينَ لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّهُمْ هَلَكُوا. وَجَازَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، فَلَمَّا خَرَجَ آخِرُهُمْ مِنْهُ انْتَهَى فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ إِلَى حَافَّتِهِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ فِي مِائَةِ أَلْفِ أَدْهَمَ سِوَى بَقِيَّةِ الْأَلْوَانِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ هَالَهُ وَأَحْجَمَ وَهَابَ وَهَمَّ بِالرُّجُوعِ، وَهَيْهَاتَ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ، نَفَذَ الْقَدَرُ، وَاسْتُجِيبَتِ الدَّعْوَةُ. وَجَاءَ جِبْرِيلُ، عليه السلام، عَلَى فَرَسٍ -وَدِيقٍ حَائِلٍ -فَمَرَّ إِلَى جَانِبِ حِصَانِ فِرْعَوْنَ فَحَمْحَمَ إِلَيْهَا وَتَقَدَّمَ جِبْرِيلُ فَاقْتَحَمَ الْبَحْرَ وَدَخَلَهُ، فاقْتحم الْحِصَانُ وَرَاءَهُ، وَلَمْ يَبْقَ فِرْعَوْنُ يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، فَتَجَلَّدَ لِأُمَرَائِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: لَيْسَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِأَحَقَّ بِالْبَحْرِ مِنَّا، فَاقْتَحَمُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَمِيكَائِيلُ فِي سَاقَتِهِمْ، لَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ، إِلَّا أَلْحَقَهُ بِهِمْ. فَلَمَّا اسْتَوْسَقُوا فِيهِ وَتَكَامَلُوا، وَهَمَّ أَوَّلُهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ، أَمَرَ اللهُ الْقَدِيرُ البحرَ أَنْ يَرْتَطِمَ عَلَيْهِمْ، فَارْتَطَمَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَجَعَلَتِ الْأَمْوَاجُ تَرْفَعُهُمْ وَتَخْفِضُهُمْ، وَتَرَاكَمَتِ الْأَمْوَاجُ فَوْقَ فِرْعَوْنَ، وَغَشِيَتْهُ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فَآمَنَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ الْإِيمَانُ، {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غَافِرٍ: 84، 85] .
وَهَكَذَا (1) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَوَابِ فِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ مَا قَالَ: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} أَيْ: أَهَذَا (2) الْوَقْتُ تَقُولُ، وَقَدْ عَصَيْتَ اللَّهَ قَبْلَ هَذَا فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ {وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أَيْ: فِي الْأَرْضِ الَّذِينَ أَضَلُّوا النَّاسَ، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} [الْقَصَصِ: 41]
وَهَذَا الَّذِي حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا فِي حَالِهِ (3) ذَاكَ مِنْ أَسْرَارِ الْغَيْبِ الَّتِي (4) أَعْلَمَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، رحمه الله:
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مهْران، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} قَالَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ: [يَا مُحَمَّدُ] (5) لَوْ رَأَيْتَنِي وَقَدْ أَخَذْتُ [حَالًا] (6) مِنْ حَالِ الْبَحْرِ، فَدَسَسْتُهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أن تناله الرحمة"
(1) في ت: "ولهذا".
(2)
في ت: "هذا".
(3)
في ت: "حالة".
(4)
في ت، أ:"الذي".
(5)
زيادة من ت، أ، والمسند.
(6)
زيادة من ت، أ، والمسند.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ (1) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ لِي جِبْرِيلُ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخِذٌ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ، فَأَدُسُّهُ فِي فَمِ فِرْعَوْنَ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ". وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، وَابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ شُعْبَةَ، بِهِ (2) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ غُنْدَر، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَطَاءٍ وعَدِيّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَفَعَهُ أَحَدُهُمَا -وَكَأَنَّ (3) الْآخَرَ لَمْ يَرْفَعْهُ، فَاللَّهُ (4) أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأشَجّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى الثَّقَفِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَغْرَقَ (5) اللَّهُ فِرْعَوْنَ، أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ وَرَفَعَ صَوْتَهُ:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} (6) قَالَ: فَخَافَ جِبْرِيلُ أَنْ تَسْبِقَ رَحْمَةُ اللَّهِ فِيهِ غَضَبَهُ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ الْحَالَ بِجَنَاحَيْهِ فَيَضْرِبُ بِهِ وَجْهَهُ فَيَرْمُسُهُ.
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيع، عَنْ أَبِي خَالِدٍ، بِهِ مَوْقُوفًا (7)
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَكَّام، عَنْ عَنْبَسة -هُوَ ابْنُ (8) سَعِيدٍ -عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ لِي جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَغُطُّهُ وَأَدُسُّ مِنَ الْحَالِ (9) فِي فِيهِ، مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ فَيَغْفِرَ لَهُ" يَعْنِي: فِرْعَوْنَ (10)
كَثِيرُ بْنُ زَاذَانَ هَذَا قَالَ ابْنُ مَعِين: لَا أَعْرِفُهُ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَة وَأَبُو حَاتِمٍ: مَجْهُولٌ، وَبَاقِي رِجَالِهِ ثِقَاتٌ.
(1) المسند (1/309) وسنن الترمذي برقم (3107) .
(2)
سنن الترمذي برقم (3108) وتفسير الطبري (15/190 - 192) ورواه الحاكم في المستدرك (2/340) من طريق النضر بن شميل عن شعبة به، وقال الحاكم:"هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يخرجاه؛ لأن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عباس" ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (9392) فذكرت روايات الرفع والوقف.
(3)
في ت، أ:"فكأن".
(4)
في ت، أ:"والله".
(5)
في ت، أ:"لما غرق".
(6)
في ت: "أن لا إله".
(7)
تفسير الطبري (15/193) ورواه السرقسطي في غريب الحديث، كما في تخريج الكشاف (2/138) عن موسى بن هارون، عن يحيى الحماني عن أبي خالد الأحمر به نحوه.
(8)
في ت، أ:"أبو".
(9)
في ت: "الجبال".
(10)
تفسير الطبري (15/191) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (9390) من طريق حكام الرازي به.
وَقَدْ أَرْسَلَ هَذَا الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: قَتَادَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْران. وَنُقِلَ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ: أَنَّهُ خَطَبَ بِهَذَا لِلنَّاسِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ شكُّوا فِي مَوْتِ فِرْعَوْنَ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَحْرَ أَنْ يُلْقِيَهُ بِجَسَدِهِ (1) بِلَا رُوحٍ، وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ الْمَعْرُوفَةُ [بِهِ](2) عَلَى نَجْوَةٍ (3) مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، لِيَتَحَقَّقُوا مَوْتَهُ وَهَلَاكَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ} أَيْ: نَرْفَعُكَ عَلَى نَشز (4) مِنَ الْأَرْضِ، {بِبَدَنِك} قَالَ مُجَاهِدٌ: بِجَسَدِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بِجِسْمٍ لَا رُوحَ فِيهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: سَوِيًّا صَحِيحًا، أَيْ: لَمْ يَتَمَزَّقْ لِيَتَحَقَّقُوهُ وَيَعْرِفُوهُ. وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ: بِدِرْعِكَ (5)
وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} أَيْ: لِتَكُونَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ دَلِيلًا عَلَى مَوْتِكَ وَهَلَاكِكَ، وَأَنَّ اللَّهَ (6) هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ بِيَدِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقُومُ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ؛ وَلِهَذَا قَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ:" لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَقَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ"(7) أَيْ: لَا يَتَّعِظُونَ (8) بِهَا، وَلَا يَعْتَبِرُونَ. وَقَدْ كَانَ [إِهْلَاكُ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ](9) يَوْمَ عَاشُورَاءَ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَر، حَدَّثَنَا شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المدينَة، وَالْيَهُودُ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: "أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ، فَصُومُوهُ"(10)
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
(93) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمُ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَ {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} (11) قِيلَ: هُوَ بِلَادُ مِصْرَ وَالشَّامِ، مِمَّا يَلِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَنَوَاحِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ اسْتَقَرَّتْ يَدُ الدَّوْلَةِ الْمُوسَوِيَّةِ عَلَى بِلَادِ مِصْرَ بِكَمَالِهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الْأَعْرَافِ: 137] وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 57-59](12) ولكن
(1) في ت، أ:"بجسده سويا".
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
في ت: "نحوه".
(4)
في ت: "يرفعك على بشر".
(5)
في ت: "تذرعك".
(6)
في ت: "وأنه تعالى".
(7)
في ت: "الغافلون".
(8)
في ت: "يتعضون".
(9)
زيادة من ت، أ.
(10)
صحيح البخاري برقم (4680) .
(11)
في ت: "فالمبوأ".
(12)
في ت، أ:"كم تركوا من جنات وعيون وزروع".
اسْتَمَرُّوا مَعَ مُوسَى، عليه السلام، طَالِبِينَ إِلَى بِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ [وَهِيَ بِلَادُ الْخَلِيلِ عليه السلام فَاسْتَمَرَّ مُوسَى بِمَنْ مَعَهُ طَالِبًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ](1) وَكَانَ فِيهِ قَوْمٌ مِنَ الْعَمَالِقَةِ، [فَنَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنْ قِتَالِ الْعَمَالِقَةِ](2) فَشَرَّدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمَاتَ فِيهِ (3) هَارُونُ، ثُمَّ، مُوسَى، عليهما السلام، وَخَرَجُوا بَعْدَهُمَا مَعَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَاسْتَقَرَّتْ أَيْدِيهِمْ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ أَخْذَهَا مِنْهُمْ بُخْتُنَصَّرُ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَخَذَهَا مُلُوكُ الْيُونَانِ، وَكَانَتْ تَحْتَ أَحْكَامِهِمْ (4) مُدَّةً طَوِيلَةً، وَبَعَثَ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، عليه السلام، فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَاسْتَعَانَتِ الْيَهُودُ -قَبَّحَهُمُ (5) اللَّهُ -عَلَى مُعَادَاةِ عِيسَى، عليه السلام، بِمُلُوكِ الْيُونَانِ، وَكَانَتْ تَحْتَ أَحْكَامِهِمْ، وَوَشَوْا عِنْدَهُمْ، وَأَوْحَوْا إِلَيْهِمْ أَنَّ هَذَا يُفْسِدُ عَلَيْكُمُ الرَّعَايَا فَبَعَثُوا (6) مَنْ يَقْبِضُ عَلَيْهِ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وشُبّه لَهُمْ بَعْضُ الْحَوَارِيِّينَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ (7) فَأَخَذُوهُ فَصَلَبُوهُ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ هُوَ، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النِّسَاءِ: 157، 158] ثُمَّ بَعْدَ المسيح، عليه السلام بنحو [من](8) ثلثمائة سَنَةٍ، دَخَلَ قُسْطَنْطِينُ أَحَدُ مُلُوكِ الْيُونَانِ -فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَكَانَ فَيْلَسُوفًا قَبْلَ ذَلِكَ. فَدَخَلَ فِي دِينِ النَّصَارَى قِيلَ: تَقِيَّةً، وَقِيلَ: حِيلَةً لِيُفْسِدَهُ، فَوَضَعَتْ لَهُ الْأَسَاقِفَةُ مِنْهُمْ قَوَانِينَ وَشَرِيعَةً وَبِدَعًا أَحْدَثُوهَا، فَبَنَى لَهُمُ الْكَنَائِسَ والبيَع الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ، وَالصَّوَامِعَ وَالْهَيَاكِلَ، وَالْمَعَابِدَ، وَالْقَلَايَاتِ. وَانْتَشَرَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ (9) فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَاشْتَهَرَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَبْدِيلٍ وَتَغْيِيرٍ وَتَحْرِيفٍ، وَوَضْعٍ وَكَذِبٍ، وَمُخَالَفَةٍ لِدِينِ الْمَسِيحِ. وَلَمْ يَبْقَ عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ الرُّهْبَانِ، فَاتَّخَذُوا لَهُمُ الصَّوَامِعَ فِي الْبَرَارِي وَالْمَهَامَّةَ وَالْقِفَارِ، وَاسْتَحْوَذَتْ يدُ النَّصَارَى عَلَى مَمْلَكَةِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَبِلَادِ الرُّومِ، وَبَنَى هَذَا الْمَلِكُ الْمَذْكُورُ مَدِينَةَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، والقُمَامة، وَبَيْتَ لَحْمٍ، وَكَنَائِسَ [بِلَادِ](10) بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمُدُنَ حَوْران كبُصرى وَغَيْرِهَا مِنَ الْبُلْدَانِ بِنَاءَاتٍ هَائِلَةً مَحْكَمَةً، وَعَبَدُوا الصَّلِيبَ مِنْ حِينَئِذٍ، وَصَلَّوْا إِلَى الشَّرْقِ، وَصَوَّرُوا الْكَنَائِسَ، وَأَحَلُّوا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَحْدَثُوهُ مِنَ (11) الْفُرُوعِ فِي دِينِهِمْ وَالْأُصُولِ، وَوَضَعُوا لَهُ الْأَمَانَةَ الْحَقِيرَةَ، الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْكَبِيرَةَ، وَصَنَّفُوا لَهُ الْقَوَانِينَ،
وَبَسْطُ هَذَا يَطُولُ.
وَالْغَرَضُ أَنَّ يَدَهُمْ لَمْ تَزَلْ عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ إِلَى أَنِ انْتَزَعَهَا (12) مِنْهُمُ الصَّحَابَةُ، رضي الله عنهم، وَكَانَ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَوْلُهُ: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أَيْ: الْحَلَالِ، مِنَ الرِّزْقِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ الْمُسْتَطَابِ طَبْعًا وَشَرْعًا.
وَقَوْلُهُ: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} أَيْ: مَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَسَائِلِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَخْتَلِفُوا، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ وَأَزَالَ عَنْهُمُ اللَّبْسَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
في ت، أ:"في أثنائها".
(4)
في أ: "حكامهم".
(5)
في أ: "لعنهم".
(6)
في ت: "فعثوا".
(7)
في أ: "وقدرته".
(8)
زيادة من ت، أ.
(9)
في أ: "النصارى".
(10)
زيادة من ت، أ.
(11)
في أ: "في".
(12)
في ت: "انتزعتها".
الْحَدِيثِ: أَنَّ الْيَهُودَ اخْتَلَفُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَأَنَّ النَّصَارَى اخْتَلَفُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، مِنْهَا وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ. قِيلَ: مَنْ هُمْ (1) يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي".
رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ فِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ (2) وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} أَيْ: يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ {يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
(94)
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ (97) }
قَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامة: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ"(3)
وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَهَذَا فِيهِ تَثْبِيتٌ (4) لِلْأُمَّةِ، وَإِعْلَامٌ لَهُمْ أَنَّ صِفَةَ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم مَوْجُودَةٌ (5) فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ} الْآيَةَ [الْأَعْرَافِ: 157] . ثُمَّ مَعَ هَذَا الْعِلْمِ يَعْرِفُونَهُ مِنْ كُتُبِهِمْ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، يَلْبَسُونَ ذَلِكَ وَيُحَرِّفُونَهُ وَيُبَدِّلُونَهُ، وَلَا يُؤَمِّنُونَ بِهِ مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} أَيْ: لَا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا يَنْفَعُهُمْ، بَلْ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا دَعَا مُوسَى، عليه السلام، عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ قَالَ:{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ: 88]، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111] ثم قال تعالى:
(1) في ت: "من هو".
(2)
المستدرك (1/129) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص، وجاء من حديث معاوية وأنس وعوف بن مالك قال العراقي:"أسانيدها جياد".
(3)
رواه عبد الرزاق في تفسيره (15/202) عن معمر عن قتادة به مرسلا.
(4)
في ت: "تتبيت".
(5)
في ت، أ:"صلوات الله وسلامه عليه موجود".
{فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ
(98) }
يَقُولُ تَعَالَى: فَهَلَّا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ بِكَمَالِهَا مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الَّذِينَ بَعَثْنَا إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، بَلْ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَذَّبَهُ قَوْمُهُ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ كما قال تَعَالَى:{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30]، {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذَّارِيَاتِ:52] ، {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزُّخْرُفِ:23] (1)(2) وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "عُرِضَ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الْفِئَامُ مِنَ النَّاسِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ"(3) ثُمَّ ذَكَرَ كَثْرَةَ أَتْبَاعِ مُوسَى، عليه السلام، ثُمَّ ذَكَرَ كَثْرَةَ أُمَّتِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، كَثْرَةً سَدَّتِ الْخَافِقَيْنِ الشَّرْقِيَّ (4) وَالْغَرْبِيَّ.
وَالْغَرَضُ أَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ (5) قَرْيَةٌ آمَنَتْ بِكَمَالِهَا بِنَبِيِّهِمْ مِمَّنْ سَلَفَ مِنَ الْقُرَى، إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، وَهُمْ أَهْلُ نِينَوى، وَمَا كَانَ إِيمَانُهُمْ إِلَّا خَوْفًا مِنْ وُصُولِ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ رَسُولُهُمْ، بَعْدَ مَا عَايَنُوا أَسْبَابَهُ، وَخَرَجَ رَسُولُهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَعِنْدَهَا جَأَرُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغَاثُوا بِهِ، وَتَضَرَّعُوا (6) لَدَيْهِ. وَاسْتَكَانُوا وَأَحْضَرُوا أَطْفَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ، وَسَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ. فَعِنْدَهَا رحمهم الله، وَكَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَأُخِّرُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} .
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: هَلْ كُشف عَنْهُمُ الْعَذَابُ الْأُخْرَوِيُّ مَعَ الدُّنْيَوِيِّ؟ أَوْ إِنَّمَا كُشِفَ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا هُوَ مُقَيَّدٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِيهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصَّافَّاتِ: 147، 148] فَأَطْلَقَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ، وَالْإِيمَانُ مُنْقِذٌ مِنَ الْعَذَابِ الْأُخْرَوِيِّ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: لَمْ يَنْفَعْ قَرْيَةً كَفَرَتْ ثُمَّ آمَنَتْ حِينَ حَضَرَهَا الْعَذَابُ، فَتُرِكَتْ، إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، لَمَّا فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ وَظَنُّوا أَنَّ الْعَذَابَ قَدْ دَنَا مِنْهُمْ، قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ، وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وفَرّقوا بَيْنَ كُلِّ بَهِيمَةٍ وَوَلَدِهَا ثُمَّ عَجّوا إِلَى اللَّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. فَلَمَّا عَرَفَ اللَّهُ مِنْهُمُ الصِّدْقَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَالتَّوْبَةَ وَالنَّدَامَةَ عَلَى مَا مَضَى مِنْهُمْ كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بَعْدَ أَنْ تَدَلَّى عَلَيْهِمْ -قَالَ قَتَادَةُ: وَذَكَرَ أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ كَانُوا بِنِينَوَى أَرْضِ الْمَوْصِلِ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَؤُهَا:"فَهَلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ".
(1) في ت: "وما أرسلنا في قرية من نبي".
(2)
في ت: "مهتدون" وهو خطأ.
(3)
رواه البخاري في صحيحه برقم (5752) ومسلم في صحيحه برقم (220) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه.
(4)
في ت، أ:"والشرقي".
(5)
في ت: "يوجد".
(6)
في ت، أ:"وضرعوا".
وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي الجَلْد قَالَ: لَمَّا نَزَلَ بِهِمُ (1) الْعَذَابُ، جَعَلَ يَدُورُ عَلَى رُءُوسِهِمْ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، فَمَشَوْا إِلَى رَجُلٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالُوا: عَلِّمْنَا دُعَاءً نَدْعُوا بِهِ، لَعَلَّ اللَّهَ يَكْشِفُ (2) عَنَّا الْعَذَابَ، فَقَالَ: قُولُوا: يَا حَيُّ حِينَ لَا حَيَّ، يَا مُحْيِي الْمَوْتَى (3) لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: فَكَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ.
وَتَمَامُ الْقِصَّةِ سَيَأْتِي مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
(99)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} -يَا مُحَمَّدُ -لَأَذِنَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ، فَآمَنُوا كُلُّهُمْ، وَلَكِنْ لَهُ حِكْمَةٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هُودٍ: 118، 119]، وَقَالَ تَعَالَى:{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرَّعْدِ: 31] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} أَيْ: تُلْزِمُهُمْ وَتُلْجِئُهُمْ {حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْكَ وَلَا إِلَيْكَ، بَلْ [إِلَى] (4) اللَّهِ {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فَاطِرٍ: 8] ، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 272] ، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 3] ، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [الْقَصَصِ:56] ، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرَّعْدِ: 40] ، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصيْطِرٍ} [الْغَاشِيَةِ: 21، 22] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، الْهَادِي مَنْ يَشَاءُ، الْمُضِلُّ لِمَنْ يَشَاءُ، لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} (5) وَهُوَ الْخَبَالُ (6) وَالضَّلَالُ، {عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} أَيْ: حججَ اللَّهِ وَأَدِلَّتَهُ، وَهُوَ الْعَادِلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، فِي هِدَايَةِ مَنْ هَدَى، وَإِضْلَالِ مَنْ ضَلَّ.
(1) في ت: "لما نزل بقوم يونس".
(2)
في ت: "أن يكشف".
(3)
في ت: "يا محيي الموتى يا حي".
(4)
زيادة من ت.
(5)
في ت: "يؤمن".
(6)
في ت: "الجبال".
يرشدُ تَعَالَى عِبَادَهُ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي آلَائِهِ (1) وما خلق في السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ لِذَوِي الْأَلْبَابِ، مِمَّا في السموات (2) مِنْ كَوَاكِبٍ نَيِّرَاتٍ، ثَوَابِتٍ وَسَيَّارَاتٍ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَاخْتِلَافِهِمَا، وَإِيلَاجِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، حَتَّى يَطُولَ هَذَا وَيَقْصُرَ هَذَا، ثُمَّ يَقْصُرَ هَذَا وَيَطُولَ هَذَا، وَارْتِفَاعِ السَّمَاءِ وَاتِّسَاعِهَا، وَحُسْنِهَا وَزِينَتِهَا، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْهَا مِنْ مَطَرٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَأَخْرَجَ فِيهَا مِنْ أَفَانِينِ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالْأَزَاهِيرِ، وَصُنُوفِ النَّبَاتِ، وَمَا ذَرَأَ فِيهَا مِنْ دَوَابٍّ مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ وَالْمَنَافِعِ، وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَسُهُولٍ (3) وَقِفَارٍ وَعِمْرَانٍ وَخَرَابٍ. وَمَا فِي الْبَحْرِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْأَمْوَاجِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا [مُسَخَّرٌ](4) مُذَلَّلٌ لِلسَّالِكِينَ، يَحْمِلُ سُفُنَهُمْ، وَيَجْرِي بِهَا بِرِفْقٍ بِتَسْخِيرِ الْقَدِيرِ لَهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ تُجدي الْآيَاتُ السَّمَاوِيَّةُ وَالْأَرْضِيَّةُ، وَالرُّسُلُ بِآيَاتِهَا وَحُجَجِهَا وَبَرَاهِينِهَا الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهَا، عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا قَالَ:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ: 96، 69] .
وَقَوْلُهُ: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: فَهَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ النِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِرُسُلِهِمْ، {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} (5) أَيْ: وَنُهْلِكُ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ، {كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [أَيْ] (6) حَقًّا: أَوْجَبَهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ: كَقَوْلِهِ {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الْأَنْعَامِ: 12] كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ (7) غَضَبِي"(8)
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(104)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) }
(1) في أ: "إلى التفكر في الآية لآياته".
(2)
في ت، أ:"السماء".
(3)
في أ: "وهول".
(4)
زيادة من ت، أ.
(5)
في ت: "فإنى".
(6)
زيادة من ت، أ.
(7)
في ت، أ:"تغلب".
(8)
صحيح البخاري برقم (7554) وصحيح مسلم برقم (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
(107) }
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ
صِحَّةِ مَا جِئْتُكُمْ مِنَ الدِّينِ الْحَنِيفِ، الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَهَا أَنَا لَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ كَمَا أَحْيَاكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ؛ فَإِنْ كَانَتْ آلِهَتُكُمُ الَّتِي تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (1) حَقًّا، فَأَنَا لَا أَعْبُدُهَا (2) فَادْعُوهَا فَلْتَضُرَّنِي، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَإِنَّمَا الَّذِي بِيَدِهِ الضر والنفع هو الله وحده لا شريك لَهُ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أَيْ: أَخْلِصِ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ حَنِيفًا، أَيْ: مُنْحَرِفًا عَنِ الشِّرْكِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} إِلَى آخِرِهَا، بَيَانٌ لِأَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالنَّفْعَ وَالضُّرَّ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا يُشَارِكُهُ (3) فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ.
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، فِي تَرْجَمَةِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عِيسَى بْنِ مُوسَى، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحِمَتِهِ، يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَاسْأَلُوهُ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ"(4)
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ عِيسَى بْنِ مُوسَى، عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَشْجَعَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا؛ بِمِثْلِهِ سَوَاءٌ (5)
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أَيْ: لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَلَوْ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ، حَتَّى مِنَ الشِّرْكِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَتُوبُ عَلَيْهِ.
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
(108)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) }
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عند
(1) في أ: "من دون الله من شيء حقا".
(2)
في ت: "أعبد".
(3)
في ت، "لا يشركه".
(4)
تاريخ دمشق (8/328)"المخطوط") ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (1121) من طريق عبد الله بن وهب به، ورواه ابن عبد البر في التمهيد (5/339) والبيهقي في شعب الإيمان برقم (1122) من طريق عمرو بن الربيع بن طاق عن يحيى بن أيوب به نحوه ورمز له السيوطي بالضعف في الجامع.
(5)
تاريخ دمشق (8/328 "المخطوط") ورواه ابن أبي الدنيا في الفرج بعد الشدة برقم (27) من طريق رويم بن يزيد عن الليث به مرفوعا، ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (1123) من طريق يحيى بن بكير عن الليث به مرفوعا. وقال البيهقي:"هذا هو المحفوظ دون الأول" والأول حديث أنس.
اللَّهُ هُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ، فَمَنِ اهْتَدَى بِهِ وَاتَّبَعَهُ فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ الِاتِّبَاعِ عَلَى نَفْسِهِ، [وَمَنْ ضَلَّ عَنْهُ (1) فَإِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ (2) ](3)
{وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أَيْ: وَمَا أَنَا مُوَكَّلٌ بِكُمْ حَتَّى تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ، وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ، وَالْهِدَايَةُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ} أَيْ: تَمَسَّكَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَأَوْحَاهُ (4) وَاصْبِرْ عَلَى مُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَكَ مِنَ النَّاسِ، {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} أَيْ: يَفْتَحَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أَيْ: خَيْرُ الْفَاتِحِينَ بِعَدْلِهِ (5) وَحِكْمَتِهِ.
(1) في ت: "عن ذلك".
(2)
في ت: "على نفسه".
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
في ت، أ:"وأوحاه إليك".
(5)
في ت، أ:"لعدله".
تَفْسِيرُ سُورَةِ هُودٍ
[وَهِيَ مَكِّيَّةٌ](1) .
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ عِكْرِمة قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا شَيّبك؟ قَالَ: " شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ "(2) .
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ شِبْتَ؟ قَالَ:" شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلَاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ "(3) وَفِي رِوَايَةٍ: " هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا ".
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ (4) بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا: الْوَاقِعَةُ، وَالْحَاقَّةُ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ " وَفِي رِوَايَةٍ: " هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا "(5) .
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَارِقٍ الرَّائِشِيُّ (6) ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رضي الله عنه؛ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَيَّبَكَ؟ قَالَ:" هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ "(7) .
عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ مَتْرُوكٌ، وَأَبُو إِسْحَاقَ لَمْ يُدْرِكْ ابْنَ مَسْعُودٍ. وَاللَّهُ أعلم.
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
مسند أبي يعلى (1/102) وهو منقطع وقد تكلم عليه والذي بعده، الحافظ الدارقطني في العلل (3/193 - 211) بما يكفي.
(3)
سنن الترمذي برقم (3297) وقال التِّرْمِذِيُّ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه".
(4)
جميع النسخ: "حجاج" والتصويب من المعجم الكبير.
(5)
المعجم الكبير (6/183) ورواه الدارقطني في العلل (1/210) من طريق أحمد بن طارق به، وقال الهيثمي في المجمع (3/192) :"عمر بن صهبان متروك" وسعيد بن سلام كذاب.
(6)
في ت، أ، والمعجم الكبير:"الوابشي" ولم أجد ترجمته.
(7)
المعجم الكبير (10/125، 126) وهو عنده من طريق عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ ابن مسعود فلعله سقط من نسخة ابن كثير والله أعلم. وللاستزادة في أحاديث الباب: فقد توسع الفاضل محمد طرهوني في تتبعها انظر كتابه: موسوعة فضائل القرآن _1/295 - 308) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
(1)
أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) }
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} أَيْ: هِيَ مُحْكَمَةٌ فِي لَفْظِهَا، مُفَصَّلَةٌ فِي مَعْنَاهَا، فَهُوَ كَامِلٌ صُورَةً وَمَعْنًى. هَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} أَيْ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْحَكِيمِ فِي أَقْوَالِهِ، وَأَحْكَامِهِ، الْخَبِيرِ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ.
{أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} أَيْ: نَزَّلَ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُحْكَمَ الْمُفَصِّلَ لِعِبَادَةِ (1) اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الْأَنْبِيَاءِ:25]، قَالَ:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النَّحْلِ:36] .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (2) أَيْ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مِنَ الْعَذَابِ إِنْ خَالَفْتُمُوهُ، وَبَشِيرٌ بِالثَّوَابِ إِنْ أَطَعْتُمُوهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَعِدَ الصَّفَا، فَدَعَا بُطُونَ قُرَيْشٍ الْأَقْرَبَ ثُمَّ الْأَقْرَبَ، فَاجْتَمَعُوا، فَقَالَ (3) يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تُصَبِّحُكُمْ (4)، أَلَسْتُمْ مُصَدِّقِيَ؟ " فَقَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ (5) يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ"(6) .
وَقَوْلُهُ: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أَيْ: وَآمُرُكُمْ (7) بِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ عز وجل فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَهُ، وَأَنْ تَسْتَمِرُّوا (8) عَلَى ذَلِكَ، {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، كَقَوْلِهِ:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] ، (9)(10)
(1) في ت، أ:"بعباده".
(2)
في ت، أ:"إني".
(3)
في ت: "فقالوا".
(4)
في ت: "تصحبكم".
(5)
في أ: "من".
(6)
رواه البخاري في صحيحه برقم (4971) من حديث ابن عباس، رضي الله عنه.
(7)
في ت، أ:"يأمركم".
(8)
في ت، أ:"يستقبلونه وأن يستمروا".
(9)
في ت، "فليحيينه".
(10)
في ت: "بأحسن الذي كانوا".
وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِسَعْدٍ: "وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، إِلَّا أجِرْت بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي (1) امْرَأَتِكَ"(2) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبير، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ:{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} قَالَ: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ، وَمَنْ عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ. فَإِنْ عُوقِبَ بِالسَّيِّئَةِ الَّتِي كَانَ عَمِلَهَا فِي الدُّنْيَا بَقِيَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ بِهَا فِي الدُّنْيَا أُخِذَ مِنَ الْحَسَنَاتِ الْعَشْرِ وَاحِدَةٌ وَبَقِيَتْ لَهُ تِسْعُ حَسَنَاتٍ. ثُمَّ يَقُولُ: هَلَكَ مَنْ غَلَبَ آحَادُهُ أَعْشَارَهُ (3) .
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ تَوَلَّى عَنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ، فَإِنَّ الْعَذَابَ يَنَالُهُ يَوْمَ مَعَادِهِ (4) لَا مَحَالَةَ، {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} أَيْ: مَعَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَيْ: وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ، وَانْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَإِعَادَةِ
(5)
الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا مَقَامُ التَّرْهِيبِ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مَقَامُ تَرْغِيبٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا السَّمَاءَ بِفُرُوجِهِمْ، وَحَالَ وَقَّاعِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ؛ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسِ قَرَأَ:"أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني (6) صُدُورهُم"، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ، مَا تَثْنُونِي (7) صُدُورَهُمْ؟ قَالَ: الرَّجُلُ كَانَ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ فَيَسْتَحْيِي -أَوْ: يَتَخَلَّى فَيَسْتَحْيِي فَنَزَلَتْ: "أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني (8) صُدُورهُم".
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لَهُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُنَاسٌ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا، فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: قَرَأَ (9) ابْنُ عَبَّاسٍ "أَلا إِنِّهُمْ يَثْنوني صُدُورهُم لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتغْشُونَ ثِيَابَهُم".
(1) في ت، أ:"في فم".
(2)
صحيح البخاري برقم (6373) وصحيح مسلم برقم (1628) .
(3)
تفسير الطبري (15/231) .
(4)
في ت: "معاذه".
(5)
في ت، أ:"وإعادته".
(6)
في ت، أ:"تثنون".
(7)
في ت، أ:"تثنون".
(8)
في ت، أ:"يثنون".
(9)
في ت: "قال".
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ غَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{يَسْتَغْشُونَ} يُغَطُّونَ رُءُوسَهُمْ (1) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: يَعْنِي بِهِ الشَّكَّ فِي اللَّهِ، وَعَمَلَ السَّيِّئَاتِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَغَيْرِهِمْ: أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ إِذَا قَالُوا شَيْئًا أَوْ عَمِلُوهُ، يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ، فَأَعْلَمُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ (2) حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ عِنْدَ مَنَامِهِمْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} (3) مِنَ الْقَوْلِ:{وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ: يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ مِنَ النِّيَّاتِ وَالضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى فِي مُعَلَّقَتِهِ الْمَشْهُورَةِ:
فَلا تَكْتُمُنَّ اللَّهَ مَا فِي نُفُوسِكُمْ
…
لِيُخْفَى، فَمَهْمَا يُكتم (4) اللَّهُ يَعْلم
…
يُؤخَر فيوضَع فِي كِتَابٍ فَيُدخَر
…
لِيَوْمِ حِسَابٍ، أَوْ يُعَجل فَيُنْقمِ (5)(6)
فَقَدِ اعْتَرَفَ هَذَا الشَّاعِرُ الْجَاهِلِيُّ بِوُجُودِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَبِالْمَعَادِ وَبِالْجَزَاءِ، وَبِكِتَابَةِ الْأَعْمَالِ فِي الصُّحُفِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَنَى (7) صَدْرَهُ، وَغَطَّى رَأْسَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ.
وَعَوْدُ الضَّمِيرِ (8) عَلَى اللَّهِ أُولَى؛ لِقَوْلِهِ: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} .
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني (9) صُدُورُهُم"، بِرَفْعِ الصدور على الفاعلية، وهو قريب المعنى.
(1) صحيح البخاري برقم (4681 - 4683) .
(2)
في ت، أ:"أنه".
(3)
في ت، أ:"يسرونه".
(4)
في ت: "تكتم".
(5)
في ت: "فينتقم".
(6)
البيت في تفسير الطبري (15/233) .
(7)
في ت، أ:"ثنى عنه".
(8)
في ت، أ:"الضمير أولا".
(9)
في ت، أ:"يثنوني".
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
(6) }
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مُتَكَفِّلٌ بِأَرْزَاقِ الْمَخْلُوقَاتِ، مِنْ سَائِرِ دَوَابِّ الْأَرْضِ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، بَحْرِيِّهَا، وَبَرِّيِّهَا، وَأَنَّهُ {يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} أَيْ: يَعْلَمُ أَيْنَ مُنتهى سَيْرِهَا فِي الْأَرْضِ، وَأَيْنَ تَأْوِي إِلَيْهِ مِنْ وَكْرِهَا، وَهُوَ مُسْتَوْدَعُهَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أَيْ: حَيْثُ تَأْوِي، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حَيْثُ تَمُوتُ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: {مُسْتَقَرَّهَا} فِي الرَّحِمِ، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} فِي الصُّلْبِ، كَالَّتِي فِي الْأَنْعَامِ: وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ، وَجَمَاعَةٍ. وَذَكَرَ (1) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا، كَمَا ذكره
(1) في أ: "وقال".
عِنْدَ تِلْكَ الْآيَةِ: (1) فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابٍ عِنْدَ اللَّهِ مُبِينٍ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الْأَنْعَامِ:38]، وَقَوْلُهُ (2) :{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الْأَنْعَامِ:59] .
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ
(7)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَأَنَّ عَرْشَهُ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّاد، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزْ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ". قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا. قَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ". قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا، فَأَخْبِرْنَا عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ:"كَانَ اللَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ذِكْرَ كُلِّ شَيْءٍ". قَالَ: فَأَتَانِي آتٍ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ، انْحَلَّتْ نَاقَتُكَ مِنْ عِقَالِهَا. قَالَ: فَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهَا، فَلَا أَدْرِي مَا كَانَ بَعْدِي (3) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ (4) ؛ فَمِنْهَا: قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ -وَفِي رِوَايَةٍ: غَيْرُهُ -وَفِي رِوَايَةٍ: مَعَهُ -وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ".
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ"(5) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عز وجل: أنفِق أُنفقْ
(1) عند تفسير الآية: 98 من سورة الأنعام.
(2)
في ت، أ:"وقال تعالى".
(3)
المسند (4/431) .
(4)
صحيح البخاري برقم (3190، 3191، 4365، 4386، 7418) ولم أعثر عليه في صحيح مسلم.
(5)
صحيح مسلم برقم (2653) .
عَلَيْكَ". وَقَالَ: "يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغيضها نَفَقَةٌ، سحَّاءَ الليلَ وَالنَّهَارَ" وَقَالَ "أَفَرَأَيْتُمْ (1) مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغض مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ" (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاء، عَنْ وَكِيع بْنِ عُدُس، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِين -وَاسْمُهُ لَقِيط بْنُ عَامِرِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ (3) العُقَيْلي -قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ:"كَانَ فِي عَمَاء، مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَرْشَ بَعْدَ ذَلِكَ".
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ (4) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا. وَكَذَا قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنبِّه، وَضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ، وَقَالَهُ قَتَادَةُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} يُنْبِئُكُمْ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ خَلْقِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} فَلَمَّا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، قَسَمَ ذَلِكَ الْمَاءَ قَسَمَيْنِ، فَجَعَلَ نِصْفًا تَحْتَ الْعَرْشِ، وَهُوَ الْبَحْرُ الْمَسْجُورُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْعَرْشُ عَرْشًا لِارْتِفَاعِهِ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، سَمِعْتُ سَعْدًا الطَّائِيَّ يَقُولُ: الْعَرْشُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} فَكَانَ كَمَا (5) وَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى، إِذْ لَيْسَ إِلَّا الْمَاءُ وَعَلَيْهِ الْعَرْشُ، وَعَلَى الْعَرْشِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْعِزَّةِ وَالسُّلْطَانِ، وَالْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ، وَالْحِلْمِ وَالْعِلْمِ، وَالرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ، الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشِ، عَنِ المِنْهَال بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ؟ قَالَ: عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} أَيْ: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لِنَفْعِ عِبَادِهِ الَّذِينَ خَلَقَهُمْ لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَمْ يَخْلُقْ ذَلِكَ عَبَثًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، (6) وَقَالَ تَعَالَى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [الْمُؤْمِنُونَ:115، 116] ،
(1) في ت، أ:"أرأيت".
(2)
صحيح البخاري برقم (4684) .
(3)
في ت، أ:"المتفق".
(4)
المسند (4/11) وسنن الترمذي برقم (3109) وسنن ابن ماجه برقم (182) .
(5)
في ت: "مما".
(6)
في أ: "السموات".
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَاتِ:56] .
وَقَوْلُهُ: {لِيَبْلُوكُمْ} أَيْ: لِيَخْتَبِرَكُمْ {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} وَلَمْ يَقِلْ: أَكْثَرُ عَمَلًا بَلْ {أَحْسَنُ عَمَلا} وَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ حَسَنًا حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ عز وجل، عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَمَتَى فَقَدَ الْعَمَلُ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنَ الشَّرْطَيْنِ بَطَلَ وَحَبِطَ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} يَقُولُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَخْبَرَتْ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ كَمَا بَدَأَهُمْ، مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، [كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزُّخْرُفِ: 87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ] وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الْعَنْكَبُوتِ:61] ، (1) وَهُمْ مَعَ هَذَا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْمَعَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُدْرَةِ أَهْوَنُ مِنَ الْبَدَاءَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ:27]، وَقَالَ تَعَالَى:{مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لُقْمَانَ:28] وَقَوْلُهُمْ (2) : {إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أَيْ: يَقُولُونَ كُفْرًا وَعِنَادًا مَا نُصَدِّقُكَ (3) عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ، وَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ (4) إِلَّا مَنْ سَحَرْتَهُ، فَهُوَ يَتَّبِعُكَ عَلَى مَا تَقُولُ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} يَقُولُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا الْعَذَابَ وَالْمُؤَاخَذَةَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ وَأَمَدٍ مَحْصُورٍ، وَأَوْعَدْنَاهُمْ بِهِ إِلَى مُدَّةٍ مَضْرُوبَةٍ، لِيَقُولُنَّ تَكْذِيبًا وَاسْتِعْجَالًا {مَا يَحْبِسُهُ} أَيْ: يُؤَخِّرُ هَذَا الْعَذَابَ عَنَّا، فَإِنَّ سَجَايَاهُمْ قَدْ أَلِفَتِ التَّكْذِيبَ وَالشَّكَّ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَحِيصٌ عَنْهُ وَلَا مَحِيدٌ.
وَ"الْأُمَّةُ" تُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَيُرَادُ بِهَا: الْأَمَدُ، كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} وَقَوْلِهِ فِي [سُورَةِ](5) يُوسُفَ: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يُوسُفَ:45] ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْإِمَامِ الْمُقْتَدَى بِهِ، كَقَوْلِهِ:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النَّحْلِ:120] ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْمِلَّةِ وَالدِّينِ، كَقَوْلِهِ إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزُّخْرُفِ:23] ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْجَمَاعَةِ، كَقَوْلِهِ:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [الْقَصَصِ:23]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النَّحْلِ:36]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [يُونُسَ:47] .
وَالْمُرَادُ مِنَ الْأُمَّةِ هَاهُنَا: الَّذِينَ يَبْعَثُ فِيهِمُ الرَّسُولُ (6) مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، كَمَا [جَاءَ](7) في
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
في ت، أ:"وقوله".
(3)
في ت: "ما يصدقك".
(4)
في ت: "وما تذكره من ذلك".
(5)
زيادة من أ.
(6)
في أ: "الرسل".
(7)
زيادة من ت.
صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارَ"(1) .
وَأَمَّا أُمَّةُ الْأَتْبَاعِ، فَهُمُ الْمُصَدِّقُونَ لِلرُّسُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] وَفِي الصَّحِيحِ: " فَأَقُولُ: أُمَّتِي أمتي".
وتستعمل الأمة في الفرقة والطائقة، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الْأَعْرَافِ:15
9]
، وَقَالَ تَعَالَى:{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آلِ عِمْرَانَ:113] .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ وَمَا فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ إِذَا أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ، حَصَلَ لَهُ يَأْسٌ (2) وَقُنُوطٌ مِنَ الْخَيْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَكُفْرٌ وَجُحُودٌ لِمَاضِي الْحَالِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ خَيْرًا، وَلَمْ يَرْج (3) بَعْدَ ذَلِكَ فَرَجًا. وَهَكَذَا إِنْ (4) أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ بَعْدَ نِقْمَةٍ {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} أَيْ: يَقُولُ: مَا بَقِيَ يَنَالُنِي بَعْدَ هَذَا ضَيْمٌ وَلَا سُوءٌ، {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} أَيْ: فَرِحٌ بِمَا فِي يَدِهِ، بَطِرٌ فَخُورٌ عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} أَيْ: فِي الشَّدَائِدِ وَالْمَكَارِهِ، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ: فِي الرَّخَاءِ وَالْعَافِيَةِ، {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} أَيْ: بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الضَّرَّاءِ، {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} بِمَا أَسْلَفُوهُ فِي زَمَنِ الرَّخَاءِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ هَمٌّ وَلَا غَمٌّ، وَلَا نَصَب وَلَا وَصَب، وَلَا حَزَن حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللهُ عَنْهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ (5) (6) ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ (7) خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ" (8) وَهَكَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سُورَةُ الْعَصْرِ]، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلا الْمُصَلِّينَ} الآية [المعارج:19 -22] .
(1) صحيح مسلم برقم (153) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(2)
في ت: "إياس".
(3)
في ت، أ:"ولا يرجوا".
(4)
في ت: "إذا".
(5)
في ت، أ:"ولا حزن إلا كفر الله بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها".
(6)
روى مسلم نحوه في صحيحه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد (2573) ومن حديث أبي هريرة وحده (2574) .
(7)
في ت: "فكان".
(8)
صحيح مسلم برقم (299) بلفظ: "عجبا للمؤمن إن أمره كله خير" من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه وليس في صحيح البخاري.
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ كَنز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
(12) }
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(13)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) }
يقول تعالى مسليّا لرسوله الله صلى الله عليه وسلم، عَمَّا كَانَ يَتَعَنَّتُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فِيمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ عَنِ الرَّسُولِ -كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ -:{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا} [الْفُرْقَانِ:7، 8] . فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى أَلَّا يَضِيقَ بِذَلِكَ مِنْهُمْ صَدْرُه، وَلَا يَهِيدَنَّهُ ذَلِكَ وَلَا يُثْنينَّه عَنْ دُعَائِهِمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الْحِجْرِ:97 -99]، وَقَالَ هَاهُنَا:{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا} أَيْ: لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ، وَلَكَ أُسْوَةٌ بِإِخْوَانِكَ مِنَ الرُّسُلِ قَبْلَكَ، فَإِنَّهُمْ كُذبُوا وأوذُوا فَصَبَرُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عز وجل.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى إِعْجَازَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ، وَلَا بِعَشْرِ سُوَرٍ [مِنْ](1) مِثْلِهِ، وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الرَّبِّ لَا يُشْبِهُهُ كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ، كَمَا أَنَّ صِفَاتِهِ لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ (2) ، وَذَاتَهُ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} أَيْ: فَإِنْ لَمْ يَأْتُوا بِمُعَارَضَةِ مَا دَعَوْتُمُوهُمْ (3) إِلَيْهِ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، مُتَضَمِّنٌ (4) عِلْمَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، {وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (5) .
قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ أَهْلَ الرِّيَاءِ يُعْطَوْنَ بِحَسَنَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا، يَقُولُ: مَنْ عَمِلَ صَالَحَا الْتِمَاسَ الدُّنْيَا، صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَوْ تهجدا بالليل، لا
(1) زيادة من ت.
(2)
في ت، أ:"المخلوقين".
(3)
في ت، أ:"ما دعوتهم".
(4)
في ت: "متضمنا".
(5)
في ت: "وأنه".
يَعْمَلُهُ (1) إِلَّا الْتِمَاسَ الدُّنْيَا، يَقُولُ اللَّهُ: أُوَفِّيهِ الَّذِي الْتَمَسَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَثَابَةِ، وَحَبِطَ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ الْتِمَاسَ الدُّنْيَا، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الرِّيَاءِ (2) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ وَسَدَمه (3) وطَلِبَته وَنِيَّتَهُ، جَازَاهُ اللَّهُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُفْضِي إِلَى الْآخِرَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا جَزَاءً. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُجَازَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ نَحْوٌ مِنْ هَذَا (4) .
وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} [الْإِسْرَاءِ: 18 -21]، (5) وَقَالَ تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشُّورَى:20] .
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ
(17) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى فِطْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا عِبَادَهُ، مِنَ الِاعْتِرَافِ لَهُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الرُّومِ: 30]، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه، كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاء، هَلْ تُحِسُّون فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ "(6) . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1) في ت: "لا يعلمه".
(2)
في ت: "الربا".
(3)
في ت: "وشدته".
(4)
لعل الحافظ يقصد الحديث الذي رواه البزار والطبراني من حديث أنس ولفظه: "من كانت الدنيا همته وسدمه، ولها شخص وإياها +ينوى، جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه ضيعته، ولم يأته منها إلا ما كتب له منها، ومن كانت الآخرة همته وسدمه، ولها شخص، وإياها +ينوى، جعل الله عز وجل الغنى في قلبه وجمع عليه ضيعته وأتته الدنيا وهي صاغرة". ورواه الترمذي في السنن برقم (2465) عن أنس بأخصر من هذا، ورواه ابن ماجه في السنن عن زيد بن ثابت مرفوعا بنحوه.
(5)
في ت: "ما يشاء".
(6)
صحيح البخاري برقم (1385) وصحيح مسلم برقم (2658) .
قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاء، فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ"(1) . وَفِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ، حَتَّى يُعرِب عَنْهُ لِسَانُهُ"(2) الْحَدِيثَ، فَالْمُؤْمِنُ بَاقٍ عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ. [وَقَوْلُهُ:{وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} أَيْ] (3) : وَجَاءَهُ شَاهِدٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، مِنَ الشَّرَائِعِ المطهرَة المُكَمَّلَة المعظَّمة المُخْتَتَمَةِ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعِكْرِمة، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعي، والسُّدِّي، وَغَيْرُ وَاحِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} إِنَّهُ جِبْرِيلُ عليه السلام.
وَعَنْ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.
وَكُلَاهُمَا قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، بلَّغ رِسَالَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَجِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدٌ إِلَى الْأُمَّةِ (4) .
وَقِيلَ: هُوَ عَلِيٌّ. وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ لَهُ قَائِلٌ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي هُوَ الْحَقُّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدَهُ مِنَ الْفِطْرَةِ مَا يَشْهَدُ لِلشَّرِيعَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَالتَّفَاصِيلُ تُؤْخَذُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَالْفِطْرَةُ تَصْدُقُهَا وَتُؤْمِنُ بِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} وَهُوَ الْقُرْآنُ، بَلَّغَهُ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ [مُحَمَّدٍ](5) صلى الله عليه وسلم، وَبَلَّغَهُ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ إِلَى أُمَّتِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} أَيْ: وَمِنْ قَبْلِ [هَذَا](6) الْقُرْآنِ كِتَابُ مُوسَى، وَهُوَ التَّوْرَاةُ، {إِمَامًا وَرَحْمَةً} أَيْ: أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى تِلْكَ الْأُمَّةِ إِمَامًا لَهُمْ، وَقُدْوَةً (7) يَقْتَدُونَ بِهَا، وَرَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِهِمْ. فَمَنْ آمَنَ بِهَا حَقَّ الْإِيمَانِ قَادَهُ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمَنْ كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} أَيْ: وَمَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ مُشْرِكِيهِمْ: أَهْلِ (8) الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، مِنْ سَائِرِ طَوَائِفَ بَنِي آدَمَ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمْ وَأَشْكَالِهِمْ وَأَجْنَاسِهِمْ، مِمَّنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الْأَنْعَامِ: 19]، وَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الْأَعْرَافِ: 158] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارَ"(9) .
(1) صحيح مسلم برقم (2865) .
(2)
رواه الإمام أحمد في المسند (3/353) من طريق أبي جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنِ الْحَسَنِ عن جابر به.
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
في أ: "أمته".
(5)
زيادة من ت، أ.
(6)
زيادة من أ.
(7)
في ت: "وقد".
(8)
في ت: "وأهل".
(9)
كذا، والحديث في صحيح مسلم برقم (153) من حديث أبي هريرة، وإنما رواه بهذا السند الطبري في تفسيره (15/281) وأحمد في مسنده (4/396) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/261) .
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ لَا أَسْمَعُ بِحَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا وَجَدْتُ مِصْدَاقَهُ -أَوْ قَالَ: تَصْدِيقَهُ -فِي الْقُرْآنِ، فَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، فَلَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارَ". فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَيْنَ مِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَقَلَّمَا سَمِعْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا وَجَدْتُ لَهُ تَصْدِيقًا فِي الْقُرْآنِ، حَتَّى وَجَدْتُ هَذِهِ الْآيَةَ:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} قَالَ: "مِنَ الْمِلَلِ كُلِّهَا"(1) .
قَوْلُهُ: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أَيِ: الْقُرْآنُ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ، لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السَّجْدَةِ:1، 2]، وَقَالَ تَعَالَى:{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] } [الْبَقَرَةِ:1، 2](2) .
وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يُوسُفَ: 103]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الْأَنْعَامِ:116]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سَبَأٍ: 20] .
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
(18)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) }
(1) رواه الطبري في تفسيره (15/280) .
(2)
زيادة من ت، أ.
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ
(20)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ (22) }
يُبَيِّنُ تَعَالَى حَالَ الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ وَفَضِيحَتَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ؛ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالرُّسُلِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَسَائِرِ الْبَشَرِ وَالْجَانِّ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا بَهْز وَعَفَّانُ قَالَا أَخْبَرَنَا هَمَّام، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِز قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِيَدِ ابْنِ عُمَرَ، إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ قَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي النَّجْوَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كنَفَه، وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا (1) ؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا (2) ؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا (3) ؟ حَتَّى إِذَا قَرَّره بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ:{الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
(1) في أ: "كذا وكذا".
(2)
في أ: "كذا وكذا".
(3)
في أ: "كذا وكذا".
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بِهِ (1) .
وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أَيْ يردُّون الناسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَسُلُوكِ طَرِيقِ (2) الْهُدَى الْمُوَصِّلَةِ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَيُجَنِّبُونَهُمُ (3) الْجَنَّةَ، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أَيْ: وَيُرِيدُونَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُهُمْ (4) عِوَجًا غَيْرَ مُعْتَدِلَةٍ، {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} أَيْ: جَاحِدُونَ بِهَا مُكَذِّبُونَ بِوُقُوعِهَا وَكَوْنِهَا.
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أَيْ: بَلْ كَانُوا تَحْتَ قَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ، وَفِي قَبْضَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَلَكِنْ {يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ} [إِبْرَاهِيمَ: 42] ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ:"إِنَّ اللَّهَ ليُملي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أخذَه لَمْ يُفْلته"؛ (5) وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} أَيْ: يُضَاعَفُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ [مِنْ شَيْءٍ](6) ، بَلْ كَانُوا صُمَّا عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، عُميا عَنِ اتِّبَاعِهِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ حِينَ دُخُولِهِمُ النَّارَ:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الْمُلْكِ: 10]، وَقَالَ تَعَالَى:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النَّحْلِ: 88] ؛ وَلِهَذَا يُعَذَّبُونَ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ تَرَكُوهُ، وَعَلَى كُلِّ نَهْيٍ ارْتَكَبُوهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ أصحَّ الْأَقْوَالِ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ أَمْرِهَا وَنَهْيِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أَيْ: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا (7) نَارًا حَامِيَةً، فَهُمْ مُعَذَّبُونَ فِيهَا لَا يُفَتَّر عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 97] .
وَ {ضَلَّ عَنْهُمْ} أَيْ: ذَهَبَ عَنْهُمْ {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ، فَلَمْ تُجْد عَنْهُمْ شَيْئًا، بَلْ ضَرَّتْهُمْ كُلَّ الضَّرَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الْأَحْقَافِ: 6]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مَرْيَمَ: 81، 82]، (8) وَقَالَ الْخَلِيلُ لِقَوْمِهِ:{إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 25]، (9) وَقَالَ تَعَالَى:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ} [البقرة: 166] ؛
(1) المسند (2/74) وصحيح البخاري برقم (4685) وصحيح مسلم برقم (1768) .
(2)
في ت: "طرق".
(3)
في ت: "وبحبحة".
(4)
في ت، أ:"طريق الحق".
(5)
صحيح البخاري برقم "4086" وصحيح مسلم برقم "2583" مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه.
(6)
زيادة من أ.
(7)
في ت: "أدخلوا".
(8)
في ت: "ويكونوا".
(9)
في ت: "ويوم".
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى خُسْرِهِمْ (1) وَدَمَارِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ} يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ أَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا بِالدَّرَكَاتِ عَنِ الدَّرَجَاتِ، وَاعْتَاضُوا عَنْ نَعِيمِ الْجِنَانِ بِحَمِيمٍ آنٍ، وَعَنْ شُرْبِ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، بَسمُوم وَحَمِيمٍ، وظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، وَعَنِ الْحُورِ الْعَيْنِ بِطَعَامٍ مِنْ غِسْلين، وَعَنِ الْقُصُورِ الْعَالِيَةِ بِالْهَاوِيَةِ، وَعَنْ قُرْبِ الرَّحْمَنِ، وَرُؤْيَتِهِ بِغَضَبِ الدَّيَّانِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(23)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) }
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ ثَنَّى بِذِكْرِ السُّعَداء، وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فَآمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وعَملت جَوَارِحُهُمُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ قَوْلًا وَفِعْلًا مِنَ الْإِتْيَانِ بِالطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَبِهَذَا وَرِثُوا الْجَنَّاتِ، الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْغُرَفِ الْعَالِيَاتِ، وَالسُّرُرِ الْمَصْفُوفَاتِ، وَالْقُطُوفِ الدَّانِيَاتِ، وَالْفُرُشِ الْمُرْتَفِعَاتِ، وَالْحِسَانِ الْخَيِّرَاتِ، وَالْفَوَاكِهِ الْمُتَنَوِّعَاتِ، وَالْمَآكِلِ الْمُشْتَهَيَاتِ (2) وَالْمَشَارِبِ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَالنَّظَرِ إِلَى خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ خَالِدُونَ، لَا يَمُوتُونَ وَلَا يَهْرَمُونَ وَلَا يَمْرَضُونَ، وَيَنَامُونَ (3) وَلَا يتغطَّون، وَلَا يَبْصُقُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ، إِنْ هُوَ إِلَّا رَشْحُ مِسك يَعْرَقُونَ.
ثُمَّ ضَرَبَ [اللَّهُ](4) تَعَالَى مَثَلَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ:{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} أَيِ: الَّذِينَ وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِالشَّقَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ السُّعَداء، فَأُولَئِكَ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ، وَهَؤُلَاءِ كَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ. فَالْكَافِرُ أَعْمَى عَنْ وَجْهِ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ لَا يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ وَلَا يَعْرِفُهُ، أَصَمُّ عَنْ سَمَاعِ الحجَج، فَلَا (5) يَسْمَعُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الْأَنْفَالِ: 23] ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ ففَطِن ذَكِيٌّ لَبِيبٌ، بَصِيرٌ بِالْحَقِّ، يُمَيِّزُ (6) بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ، فيتبعُ الْخَيْرَ وَيَتْرُكُ الشَّرَّ، سَمِيعٌ لِلْحُجَّةِ، يُفَرِّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّبْهَةِ، فَلَا يَرُوج (7) عَلَيْهِ بَاطِلٌ، فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَهَذَا.
{أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أَفَلَا تَعْتَبِرُونَ وَتُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الْحَشْرِ: 20] وَقَالَ {وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:19 -24] .
(1) في ت، أ:"خسارهم".
(2)
في ت: "المشهوات".
(3)
في ت، أ:"لا ينامون".
(4)
زيادة من ت، أ.
(5)
في ت، أ:"ولا".
(6)
في ت: "مميز".
(7)
في ت: "فلا يزوح".
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ
(25)
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ، عليه السلام، وَكَانَ أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَبَدة الْأَصْنَامِ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ:{إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أَيْ: ظَاهِرُ النّذَارَة لَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ أَنْتُمْ عَبَدْتُمْ غَيْرَ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} وَقَوْلُهُ {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أَيْ إِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ عَذَّبكم اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا مُوجعًا شَاقًا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
{فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} وَالْمَلَأُ هُمَ: السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ مِنَ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ: {مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا} أَيْ: لَسْتَ بِمَلَكٍ، وَلَكِنَّكَ بَشَرٌ، فَكَيْفَ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ دُونِنَا؟ ثُمَّ مَا نَرَاكَ (1) اتَّبَعَكَ إِلَّا أَرَاذِلُنَا (2) كَالْبَاعَةِ وَالْحَاكَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ وَلَمْ يَتْبَعْكَ الْأَشْرَافُ وَلَا الرُّؤَسَاءُ [مِنَّا](3) ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَرَوّ مِنْهُمْ وَلَا فِكْرَةٍ وَلَا نَظَرٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ مَا دَعَوْتَهُمْ أَجَابُوكَ فَاتَّبَعُوكَ (4) ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} أَيْ: فِي أَوَّلِ بَادِئِ الرَّأْيِ، {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا لَكُمْ عَلَيْنَا فَضِيلَةً فِي خَلْق وَلَا خُلُق، وَلَا رِزْقٍ وَلَا حَالٍ، لَمَّا دَخَلْتُمْ فِي دِينِكُمْ هَذَا، {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} أَيْ: فِيمَا تَدَّعونه (5) لَكُمْ مِنَ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ وَالْعِبَادَةِ، وَالسَّعَادَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ إِذَا صِرْتُمْ إِلَيْهَا.
هَذَا اعْتِرَاضُ الْكَافِرِينَ عَلَى نُوحٍ، عليه السلام، وَأَتْبَاعِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَارٍ عَلَى الْحَقِّ رَذَالة مَنِ اتَّبَعَهُ، فَإِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِهِ صَحِيحٌ، وَسَوَاءٌ اتَّبَعَهُ الْأَشْرَافُ أَوِ الْأَرَاذِلُ (6) بَلِ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ أَتْبَاعَ الْحَقِّ هُمُ الْأَشْرَافُ، وَلَوْ كَانُوا فَقُرَّاءَ، وَالَّذِينَ يَأْبَوْنَهُ هُمُ الْأَرَاذِلُ، وَلَوْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ. ثُمَّ الْوَاقِعُ غَالِبًا أَنَّ مَا يَتَّبِعُ الْحَقَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ، وَالْغَالِبُ عَلَى الْأَشْرَافِ وَالْكُبَرَاءِ مُخَالَفَتُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزُّخْرُفِ: 23] ، (7) وَلَمَّا سَأَلَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ أَبَا سُفْيَانَ صَخْرَ بْنَ حَرْبٍ عَنْ صِفَاتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَوْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قَالَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
وَقَوْلُهُمْ (8){بَادِيَ الرَّأَي} لَيْسَ بِمَذَمَّةٍ وَلَا عَيْبٍ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ إِذَا وَضَحَ لَا يَبْقَى لِلتَّرَوِّي (9) وَلَا لِلْفِكْرِ مَجَالٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِكُلِّ ذِي زَكَاءٍ وَذَكَاءٍ وَلَا يُفَكِّرُ وَيَنْزَوِي هَاهُنَا إِلَّا عَيِيّ أَوْ غَبِيٌّ (10) . وَالرُّسُلُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، إِنَّمَا جَاءُوا بِأَمْرٍ جَلِيٍّ وَاضِحٍ.
وَقَدْ
(1) في ت، أ: "لا نراك.
(2)
في ت: "أرذلنا".
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
في ت، أ:"واتبعوك".
(5)
في ت: "تدعوهم"، وفي أ:"تدعونهم".
(6)
في ت، أ:"الأرذال".
(7)
في ت: "من نبي".
(8)
في ت: "وقوله".
(9)
في ت: "للروي"، وفي أ:"للردي".
(10)
في ت، أ:"غني".
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ كَبْوَة، غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَم"(1) أَيْ: مَا تَرَدَّدَ وَلَا تروَّى، لِأَنَّهُ رَأَى أَمْرًا جَلِيًّا عَظِيمًا وَاضِحًا، فَبَادَرَ إِلَيْهِ وَسَارَعَ.
وَقَوْلُهُمْ: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} هَمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ عُمْي عَنِ الْحَقِّ، لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ: بَلْ هُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ يَعْمَهُونَ، وَهُمُ الْأَفَّاكُونَ الْكَاذِبُونَ، الْأَقَلُّونَ الْأَرْذَلُونَ، وَفِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ
(28) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ مَا ردَّ عَلَى قَوْمِهِ فِي ذَلِكَ: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أَيْ: عَلَى يَقِينٍ وَأَمْرٍ جَلِيٍّ، وَنُبُوَّةٍ صَادِقَةٍ، وَهِيَ الرَّحْمَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ اللَّهِ بِهِ وَبِهِمْ، {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أَيْ: خَفِيَتْ عَلَيْكُمْ، فَلَمْ تَهْتَدُوا إِلَيْهَا، وَلَا عَرَفْتُمْ قَدْرَهَا، بَلْ بَادَرْتُمْ إِلَى تكذيبها وردها، {أَنُلْزِمْكُمُوهَا} أي: نَغْضبكم (2) بقبولها وأنتم لها كارهون.
(1) ذكره المؤلف في البداية والنهاية (3/27) عن ابن إسحاق وهو منقطع.
(2)
في ت: "نغصبكم".
{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ
(29)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) }
يَقُولُ لِقَوْمِهِ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى نُصْحِي [لَكُمْ](1) مَالًا؛ أُجْرَةً آخُذُهَا مِنْكُمْ، إِنَّمَا أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللَّهِ عز وجل، {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} كَأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَطْرُدَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ، احْتِشَامًا وَنَفَاسَةً مِنْهُمْ أَنْ يَجْلِسُوا مَعَهُمْ، كَمَا سَأَلَ أَمْثَالُهُمْ خَاتَمَ (2) الرُّسُلِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْرُدَ عَنْهُمْ (3) جَمَاعَةً مِنَ الضُّعَفَاءِ وَيَجْلِسَ مَعَهُمْ مَجْلِسًا خَاصًّا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الْأَنْعَامِ: 52]، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الْكَهْفِ: 28] ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الْآيَاتِ [الْأَنْعَامِ: 53] .
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
في ت: "لخاتم".
(3)
في ت: "عنه".
يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا، بَلْ هُوَ يَدْعُو مَنْ لَقِيَهُ مِنْ شَرِيفٍ وَوَضِيعٍ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَهُ فَقَدْ نَجَا. وَيُخْبِرُهُمْ (1) أَنَّهُ لَا يَقدِر عَلَى التَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ اللَّهِ، وَلَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ بمَلك مِنَ الْمَلَائِكَةِ، بَلْ بَشَرٌ مُرْسَلٌ، مُؤَيَّدٌ بِالْمُعْجِزَاتِ. وَلَا أقولُ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَحْتَقِرُونَهُمْ وَتَزْدَرُونَهُمْ (2) : إِنَّهُ (3) لَيْسَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابٌ على إيمانهم الله أعمل بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بَاطِنًا، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِمْ، فَلَهُمْ جَزَاءً الْحُسْنَى، وَلَوْ قَطَعَ لَهُمْ أَحَدٌ بَشَرٍّ بَعْدَ مَا آمَنُوا، لَكَانَ ظَالِمًا قَائِلًا مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ.
{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
(32)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اسْتِعْجَالِ قَوْمِ نُوحٍ نِقْمَةَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ وَسُخْطَهُ، وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ:{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أَيْ: حَاجَجْتَنَا فَأَكْثَرَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَنَحْنُ لَا نَتَبِّعُكَ {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} أَيْ: مِنَ النِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ، ادْعُ عَلَيْنَا بِمَا شِئْتَ، فَلْيَأْتِنَا مَا تَدْعُو بِهِ (4)، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أَيْ: إِنَّمَا الَّذِي يُعَاقِبُكُمْ وَيُعَجِّلُهَا لَكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا يُعجِزُه شَيْءٌ، {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُجدِي عَلَيْكُمْ إِبْلَاغِي لَكُمْ وَإِنْذَارِي إِيَّاكُمْ وَنُصْحِي، إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ إِغْوَاءَكُمْ وَدَمَارَكُمْ، {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ: هُوَ مَالِكُ أَزِمَّةِ الْأُمُورِ، وَالْمُتَصَرِّفُ (5) الْحَاكِمُ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، لَهُ الْخَلْقُ وَلَهُ الْأَمْرُ، وَهُوَ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ، مَالِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
هَذَا كَلَامٌ مُعْتَرَضٌ فِي وَسَطِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، مُؤَكِّدٌ لَهَا وَمُقَرِّرٌ بِشَأْنِهَا (6) . يَقُولُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ (7) صلى الله عليه وسلم: أَمْ يَقُولُ (8) هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ الْجَاحِدُونَ: افْتَرَى هَذَا وَافْتَعَلَهُ مِنْ عِنْدِهِ {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أَيْ: فَإِثْمُ ذَلِكَ عَلَيَّ، {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ مُفْتَعَلًا وَلَا مُفْتَرًى (9) ، لِأَنِّي أَعْلَمُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ لِمَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ.
(1) في ت: "وتخبرهم".
(2)
في ت، أ:"يحتقرونهم ويزدرونهم".
(3)
في أ: "إنهم".
(4)
في ت: "من تدعونه"، وفي أ:"بدعوته".
(5)
في ت: "المتصرف".
(6)
في ت: "لشأنها".
(7)
في ت، أ:"لنبيه".
(8)
في ت: "أم يقولون".
(9)
في ت: "مفتريا".
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
(36)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) }
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
(38)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) }
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى نُوح لَمَّا اسْتَعْجَلَ قومُه نِقْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ وَعَذَابَهُ لَهُمْ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ نوحُ دَعْوَتَهُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (1) مُخْبِرًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نُوحٍ: 26]، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [الْقَمَرِ: 10] ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا يَهُمَّنك أَمْرُهُمْ.
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} يَعْنِي: السَّفِينَةَ {بِأَعْيُنِنَا} أَيْ: بِمَرْأَى مِنَّا، {وَوَحْيِنَا} أَيْ: وَتَعْلِيمِنَا لَكَ مَاذَا تَصْنَعُهُ، {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} .
فَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يغرِز (2) الْخَشَبَ ويقطِّعه وَيُيَبِّسَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي مِائَةِ سَنَةٍ، ونَجَرها فِي مِائَةِ سَنَةٍ أُخْرَى، وَقِيلَ: فِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَاللَّهُ (3) أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ التَّوْرَاةِ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَصْنَعَهَا مِنْ خَشَبِ السَّاجِ، وَأَنْ يَجْعَلَ طُولَهَا ثَمَانِينَ ذِرَاعًا وَعَرْضَهَا خَمْسِينَ ذِرَاعًا.
وَأَنْ يَطْلِيَ بَاطِنَهَا وَظَاهِرَهَا بِالْقَارِ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهَا جُؤْجُؤًا أَزْوَرَ يَشُقُّ الْمَاءَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ طُولُهَا ثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ، فِي عَرْضِ خَمْسِينَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: طُولُهَا سِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ وَعَرْضُهَا ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ.
وَعَنْهُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ: طُولُهَا أَلْفٌ وَمِائَتَا ذِرَاعٍ، فِي عَرْضِ سِتِّمِائَةٍ.
وَقِيلَ: طُولُهَا أَلْفَا ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا كُلُّهُمْ: وَكَانَ ارْتِفَاعُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ، كُلُّ طَبَقَةٍ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَالسُّفْلَى لِلدَّوَابِّ وَالْوُحُوشِ: وَالْوُسْطَى لِلْإِنْسِ: وَالْعُلْيَا لِلطُّيُورِ. وَكَانَ بَابُهَا فِي عَرْضِهَا، وَلَهَا غِطَاءٌ مِنْ فَوْقِهَا مُطْبِقٌ عَلَيْهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ أَثَرًا غَرِيبًا، مِنْ حَدِيثِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَان، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْران، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: لَوْ بَعَثْتَ لَنَا رَجُلًا شَهِدَ السَّفِينَةَ فَحَدَّثَنَا عَنْهَا. قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِمْ حَتَّى أَتَى (4) إِلَى كَثيب مِنْ تُرَابٍ، فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ بِكَفِّهِ، قَالَ (5) أَتُدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هَذَا كَعْبُ (6) حَامِ بْنِ نُوحٍ. قَالَ: وَضَرَبَ الْكَثِيبَ بِعَصَاهُ، قَالَ: قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ ينفُض التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ، قَدْ شَابَ. قَالَ لَهُ
(1) في أ: "عز وجل".
(2)
في أ: "يغرس".
(3)
في ت: "والله".
(4)
في ت، أ:"انتهى".
(5)
في أ: "فقال".
(6)
في أ: "قبر".
عِيسَى، عليه السلام: هَكَذَا هَلَكْتَ؟ قَالَ: لَا. وَلَكِنِّي مُتُّ وَأَنَا شَابٌّ، وَلَكِنَّنِي ظَنَنْتُ أَنَّهَا السَّاعَةُ، فَمِنْ ثمَّ شِبْتُ. قَالَ: حدِّثنا عَنْ سَفِينَةِ نُوحٍ؟ قَالَ: كَانَ طُولُهَا أَلْفَ ذِرَاعٍ وَمِائَتَيْ (1) ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا سِتَّمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَكَانَتْ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ، فَطَبَقَةٌ فِيهَا الدَّوَابُّ وَالْوُحُوشُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا الْإِنْسُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا الطَّيْرُ، فَلَمَّا كَثُرَ أَرْوَاثُ الدَّوَابِّ، أَوْحَى اللَّهُ عز وجل إِلَى نُوحٍ، عليه السلام، أَنِ اغْمِزْ ذَنَب الْفِيلِ، فَغَمَزَهَ، فَوَقَعَ مِنْهُ خِنْزِيرٌ وَخِنْزِيرَةٌ، فَأَقْبَلَا عَلَى الرَّوْثِ، فَلَمَّا وَقَعَ الْفَأْرُ بخَرَزِ السَّفِينَةِ يُقْرِضُهُ وَحِبَالَهَا، أَوْحَى إِلَى نُوحٍ؛ أَنِ اضْرِبْ بَيْنَ عَيْنَيِ الْأَسَدِ، فَخَرَجَ مِنْ مَنْخَرِهِ سنَّور وَسَنَّوْرَةٌ، فَأَقْبَلَا عَلَى الْفَأْرِ. فَقَالَ لَهُ عِيسَى، عليه السلام: كَيْفَ عَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْبِلَادَ قَدْ غَرِقَتْ؟ قَالَ: بَعَثَ الْغُرَابَ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ، فَوَجَدَ جِيفَةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَدَعَا عَلَيْهِ بِالْخَوْفِ، فَلِذَلِكَ لَا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ الْحَمَامَةَ، فَجَاءَتْ بِوَرَقِ زَيْتُونٍ بِمِنْقَارِهَا، وَطِينٍ بِرِجْلَيْهَا، فَعَلِمَ أَنَّ الْبِلَادَ قَدْ غَرِقت. قَالَ: فطوّقَها الْخُضْرَةَ الَّتِي فِي عُنُقِهَا، وَدَعَا لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي أُنْسٍ وَأَمَانٍ، فَمِنْ ثَمَّ تَأْلَفُ الْبُيُوتَ. قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَّا نَنْطَلِقُ بِهِ (2) إِلَى أَهْلِينَا فَيَجْلِسُ مَعَنَا وَيُحَدِّثُنَا؟ قَالَ: كَيْفَ يَتْبَعُكُمْ مَنْ لَا رِزْقَ لَهُ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ: عُدْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَعَادَ تُرَابًا (3)
وَقَوْلُهُ: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} أَيْ: يَطْنزون بِهِ وَيُكَذِّبُونَ بِمَا يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ مِنَ الْغَرَقِ، {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَتَهْدِيدٌ أَكِيدٌ، {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أَيْ: يُهِنْهُ فِي الدُّنْيَا، {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أَيْ: دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ
(40) }
هَذِهِ مُواعدة مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنُوحٍ، عليه السلام، إِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ مِنَ الْأَمْطَارِ الْمُتَتَابِعَةِ، والهَتَّان الَّذِي لَا يُقْلع وَلَا يَفتُر، بَلْ هُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [الْقَمَرِ:11 -14] .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَفَارَ التَّنُّورُ} فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: التَّنُّورُ: وَجْهُ الْأَرْضِ، أَيْ: صَارَتِ الْأَرْضُ عُيُونًا تَفُورُ، حَتَّى فَارَ الْمَاءُ مِنَ التَّنَانِيرِ الَّتِي هِيَ مَكَانُ النَّارِ، صَارَتْ تَفُورُ مَاءً، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ الْخَلَفِ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رضي الله عنه: التَّنُّورُ: فَلَق الصُّبْحِ، وَتَنْوِيرُ الْفَجْرِ، وَهُوَ ضياؤه وإشراقه.
(1) في أ: "ومائتا".
(2)
في أ: "بنا".
(3)
تفسير الطبري (15/311) .
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ: كَانَ هَذَا التَّنُّورُ بِالْكُوفَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَيْنٌ بِالْهِنْدِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: عَيْنٌ بِالْجَزِيرَةِ، يُقَالُ لَهَا: عَيْنُ الْوَرْدَةِ.
وَهَذِهِ أَقْوَالٌ غَرِيبَةٌ.
فَحِينَئِذٍ أَمَرَ اللَّهُ نُوحًا، عليه السلام، أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ -مِنْ صُنُوفِ الْمَخْلُوقَاتِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ، قِيلَ: وَغَيْرُهَا مِنَ النَّبَاتَاتِ -اثْنَيْنِ. ذَكَرًا وَأُنْثَى، فَقِيلَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ أُدْخِلَ مِنَ الطُّيُورِ الدُّرَّةُ، وَآخِرَ مَنْ أُدْخِلَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْحِمَارُ، فَدَخَلَ إِبْلِيسُ مُتَعَلِّقًا بِذَنَبِهِ، فَدَخَلَ بِيَدِهِ (1) ، وَجَعَلَ يُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ فَيُثْقِلُهُ إِبْلِيسُ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِذَنَبِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ نُوحٌ: مَالَكَ؟ وَيْحَكَ. ادْخُلْ. فَيَنْهَضُ وَلَا يَقْدِرُ، فَقَالَ: ادْخُلْ وَإِنْ كَانَ إِبْلِيسُ مَعَكَ فَدَخَلَا فِي السَّفِينَةِ.
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَحْمِلُوا مَعَهُمُ الْأَسَدَ، حَتَّى أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْحُمَّى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَّا حَمَلَ نُوحٌ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، قَالَ أَصْحَابُهُ: وَكَيْفَ يَطْمَئِنُّ أَوْ: تَطْمَئِنُّ -اَلْمَوَاشِي وَمَعَهَا (2) الْأَسَدُ؟ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحُمَّى، فَكَانَتْ أَوَّلَ حُمَّى نَزَلَتِ الْأَرْضَ، ثُمَّ شَكَوُا الْفَأْرَةَ فَقَالُوا: الفُوَيسقة تُفْسِدُ عَلَيْنَا طَعَامَنَا وَمَتَاعَنَا. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْأَسَدِ، فَعَطَسَ، فَخَرَجَتِ الْهِرَّةُ مِنْهُ، فَتَخَبَّأَتِ الْفَأْرَةُ مِنْهَا (3) .
وَقَوْلُهُ: {وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} أَيْ: "وَاحْمِلْ فِيهَا أَهْلَكَ، وَهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَقَرَابَتِهِ" إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ، مِمَّنْ لَمَّ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ، فَكَانَ مِنْهُمُ ابْنُهُ "يَامٌ" الَّذِي انْعَزَلَ وَحْدَهُ، وَاِمْرَأَةُ نُوحٍ وَكَانَتْ كَافِرَةً بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ آمَنَ} أَيْ: مِنْ قَوْمِكَ، {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} أَيْ: نَزْرٌ (4) يَسِيرٌ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ وَالْمُقَامِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا ثَمَانِينَ نَفْسًا مِنْهُمْ (5) نِسَاؤُهُمْ. وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ: كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ نَفْسًا. وَقِيلَ: كَانُوا عَشَرَةً. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانُوا نُوحٌ وَبَنُوهُ (6) الثَّلَاثَةُ سَامٌ، وَحَامٌ، وَيَافِثُ، وكنائِنِه الْأَرْبَعُ نِسَاءٍ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ وَامْرَأَةُ يام. وقيل: بل امرأةُ نوح كانت
(1) في ت: "بيديه".
(2)
في ت: "ومعنا".
(3)
وهذا مرسل، وقد ورد في سفينة نوح غير ما ذكره الحافظ وأكثرها من رواية عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. قَالَ ابن حبان:"كان ممن يقلب الأخبار حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف، فاستحق الترك". ومما رواه في شأن سفينة نوح ما أورده ابن حجر في التهذيب (6/179) عن الساجي قال: حدثنا الربيع، حدثنا الشافعي قال: قيل لعبد الرحمن بن زيد: حدثك أبوك عن جدك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت خلف المقام ركعتين؟! " قال: نعم. وقد ذكر رجل لمالك حديثا منقطعا، فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه عن نوح!!. وانظر كتاب: الإسرائيليات في كتب التفسير لمحمد أبو شهبة (ص218) .
(4)
في ت، أ:"نفر".
(5)
في أ: "معهم".
(6)
في أ: "إنما كان وبنوه".
مَعَهُمْ فِي السَّفِينَةِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا هَلَكَتْ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَى دِينِ قَوْمِهَا، فَأَصَابَهَا مَا أَصَابَهُمْ، كَمَا أَصَابَ امْرَأَةَ لُوطٍ مَا أَصَابَ قَومها، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
(41)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) }
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ، عليه السلام، أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِينِ أُمِرَ بِحَمْلِهِمْ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ:{ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} أَيْ: بِسْمِ اللَّهِ يَكُونُ جَرْيُها عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَبِسْمِ اللَّهِ يَكُونُ مُنْتَهَى سَيْرِهَا، وَهُوَ رُسُوها.
وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ العَطاردي: "بسْمِ اللهِ مُجْرِيَها ومُرْسِيهَا".
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى (1) : {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ} [الْمُؤْمِنُونَ:28، 29] ؛ (2) ؛ وَلِهَذَا تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ فِي ابْتِدَاءِ الْأُمُورِ: عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى السَّفِينَةِ وَعَلَى الدَّابَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزُّخْرُفِ:12 -14] ، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَالنَّدْبِ إِلَيْهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ "الزُّخْرُفِ"، إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ -وَحَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الحَرشي -قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ الْحَسَنِ الْهِلَالِيُّ، عَنْ نَهْشل بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَمَانُ أُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إذا ركبوا في السفن أن يقولوا: بسم اللَّهِ الْمَلِكِ، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمَرِ: 67] ، {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} مُنَاسِبٌ عِنْدَ (4) ذِكْرِ الِانْتِقَامِ مِنَ الْكَافِرِينَ بِإِغْرَاقِهِمْ أَجْمَعِينَ ذكْرُ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، كَمَا قَالَ:{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْأَعْرَافِ: 167]، وَقَالَ: {
(1) في أ: "عز وجل".
(2)
في ت، "وإذا" وهو خطأ.
(3)
المعجم الكبير (12/124) وقال الهيثمي في المجمع (10/132) : "فيه نهشل بن سعيد وهو متروك".
(4)
في ت، أ:"عندما".
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرَّعْدِ: 6] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يَقْرِنُ فِيهَا بَيْنَ انْتِقَامِهِ وَرَحْمَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} أَيِ: السَّفِينَةُ سَائِرَةٌ بِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، الَّذِي قَدْ طَبَّق (1) جَمِيعَ الْأَرْضِ، حَتَّى طَفَتْ (2) عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَارْتَفَعَ عَلَيْهَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَقِيلَ: بِثَمَانِينَ مِيلًا وَهَذِهِ السَّفِينَةُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ سَائِرَةٌ بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَحْتَ كَنَفه وَعِنَايَتِهِ (3) وَحِرَاسَتِهِ وَامْتِنَانِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الْحَاقَّةِ: 11، 12]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [الْقَمَرِ: 13 -15] .
وَقَوْلُهُ: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} هَذَا هُوَ الِابْنُ الرَّابِعُ، وَاسْمُهُ "يَامٌ"، وَكَانَ كَافِرًا، دَعَاهُ أَبُوهُ عِنْدَ رُكُوبِ السَّفِينَةِ أَنْ يُؤْمِنَ وَيَرْكَبَ مَعَهُمْ وَلَا يَغْرَقَ مِثْلَ مَا يَغْرَقُ الْكَافِرُونَ، {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} وَقِيلَ: إِنَّهُ اتَّخَذَ لَهُ مَرْكَبًا مِنْ زُجاج، وَهَذَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّهُ قَالَ:{قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} اعْتَقَدَ بِجَهْلِهِ أَنَّ الطُّوفَانَ لَا يَبْلُغُ إِلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ فِي رَأْسِ جَبَلٍ لَنَجَّاهُ ذَلِكَ مِنَ الْغَرَقِ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ نُوحٌ، عليه السلام:{لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ} أَيْ: لَيْسَ شَيْءٌ يَعْصِمُ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَاصِمًا بِمَعْنَى مَعْصُومٍ، كَمَا يُقَالُ:"طَاعِمٌ وَكَاسٍ"، بِمَعْنَى مَطْعُومٍ ومكسُوّ، {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .
{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(44) }
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا غَرِقَ (4) أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَّا أَصْحَابَ السَّفِينَةِ، أَمَرَ (5) الْأَرْضَ أَنْ تَبْلَعَ مَاءَهَا الَّذِي نَبَعَ مِنْهَا وَاجْتَمَعَ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ السَّمَاءَ أَنْ تُقلعَ عَنِ الْمَطَرِ، {وَغِيضَ الْمَاءُ} أَيْ: شَرَعَ فِي النَّقْصِ، {وَقُضِيَ الأمْرُ} أَيْ: فُرغَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً، مِمَّنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ دَيّار، {وَاسْتَوَتْ} السَّفِينَةُ بِمَنْ فِيهَا {عَلَى الْجُودِيِّ} قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ، تَشَامَخَتِ الْجِبَالُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْغَرَقِ وَتَطَاوَلَتْ، وَتَوَاضَعَ هُوَ لِلَّهِ عز وجل، فَلَمْ يَغْرَقْ، وَأُرْسَتْ عَلَيْهِ سَفِينَةُ نُوحٍ عليه السلام.
وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَوَتْ عَلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى نَزَلَوا مِنْهَا، قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ أَبْقَى (6) اللَّهَ سَفِينَةَ نُوحٍ، عليه السلام، عَلَى الجُودي مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ عِبرة وَآيَةً حَتَّى رَآهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَمْ مِنْ سَفِينَةٍ قد
(1) في ت: "طبق به".
(2)
في أ: "طفف"
(3)
في ت: "وغايته"، وفي أ:"ورعايته".
(4)
في ت، أ:"أغرق".
(5)
في ت، أ:"أنه أمر".
(6)
في ت، أ:"أقفى".
كَانَتْ بَعْدَهَا فَهَلَكَتْ، وَصَارَتْ رَمَادًا (1) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الجُوديّ: جَبَلٌ بِالْمَوْصِلِ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الطُّورُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ تَوْبَةَ (2) بْنِ سَالِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ زِرّ بْنَ حُبَيش يُصَلِّي فِي الزَّاوِيَةِ حِينَ يُدخل مِنْ أَبْوَابِ كِندة عَلَى يَمِينِكِ فَسَأَلْتُهُ إِنَّكَ لَكَثِيرُ (3) الصَّلَاةِ هَاهُنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ:! قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ سَفِينَةَ نُوحٍ أرْسَتْ مِنْ هَاهُنَا.
وَقَالَ عِلْباء بن أحمد، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ ثَمَانُونَ رَجُلًا مَعَهُمْ أَهْلُوهُمْ، وَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَإِنَّ اللَّهَ وَجَّهَ السَّفِينَةَ إِلَى مَكَّةَ فَدَارَتْ بِالْبَيْتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ وَجَّهَهَا اللَّهُ إِلَى الجُودِيّ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ نُوحٌ الغرابَ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الْأَرْضِ، فَذَهَبَ فَوَقَعَ عَلَى الْجِيَفِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ فَبَعَثَ الْحَمَامَةَ فَأَتَتْهُ بِوَرَقِ الزَّيْتُونِ، وَلَطَّخَتْ رِجْلَيْهَا بِالطِّينِ، فَعَرَفَ نُوحٌ، عليه السلام، أَنَّ الْمَاءَ قَدْ نَضَبَ، فَهَبَطَ إِلَى أَسْفَلِ الجُودِيّ، فَابْتَنَى قَرْيَةً وَسَمَّاهَا ثَمَانِينَ، فَأَصْبَحُوا ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَبَلْبَلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى ثَمَانِينَ لُغَةً، إِحْدَاهَا اللِّسَانُ (4) الْعَرَبِيُّ. فَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَفْقَهُ كَلَامَ بَعْضٍ، وَكَانَ نُوحٌ عليه السلام يُعبّر عَنْهُمْ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّ السَّفِينَةَ طَافَتْ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَقِرَّ عَلَى الْجُودِيِّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: رَكِبُوا فِي عَاشِرِ شَهْرِ رَجَبٍ فَسَارُوا مِائَةً وَخَمْسِينَ وَاسْتَقَرَّتْ بِهِمْ عَلَى الْجُودِيِّ شَهْرًا، وَكَانَ خُرُوجُهُمْ مِنَ السَّفِينَةِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ. وَقَدْ وَرَدَ نَحْوَ هَذَا فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ (5) . وَأَنَّهُمْ صَامُوا يَوْمَهُمْ ذَاكَ (6) ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَبِيب الْأَزْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ شُبَيل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُنَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ صَامُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا الصَّوْمُ؟ قَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي نَجَّى اللَّهُ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْغَرَقِ، وَغَرِقَ فِيهِ فِرْعَوْنُ، وَهَذَا يَوْمٌ اسْتَوَتْ (7) فِيهِ السَّفِينَةُ عَلَى الجُودِيّ، فِصَامَهُ (8) نُوحٌ وَمُوسَى، عليهما السلام، شُكْرًا لِلَّهِ عز وجل. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى، وَأَحَقُّ بِصَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ". فَصَامَ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:"مَنْ كَانَ أَصْبَحَ مِنْكُمْ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصَابَ من غَذاء أَهْلِهِ، فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ"(9)
وَهَذَا حديثٌ غريبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلِبَعْضِهِ شاهدٌ فِي الصَّحِيحِ (10) .
(1) في ت: "مدادا".
(2)
في ت، أ:"تربة".
(3)
في أ" "لتكثر".
(4)
في ت: "لسان".
(5)
تفسير الطبري (15/335) وهو موضوع.
(6)
في أ: "ذلك".
(7)
في ت، أ:"استقرت".
(8)
في ت، أ:"فصام".
(9)
المسند (2/359) .
(10)
في صحيح البخاري برقم (4680) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ واليهود تصوم عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ:"أنتم أحق بموسى منهم، فصوموا".
وَقَوْلُهُ: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ: هَلَاكًا وَخَسَارًا (1) لَهُمْ وَبُعْدًا (2) مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ بَقِيَّةٌ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ وَالْحَبْرُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا (3) مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ (4) الزَّمْعِيِّ، عَنْ قَائِدٍ -مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ -أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا لَرَحِمَ أُمَّ الصَّبِيِّ"، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"كَانَ نُوحٌ، عليه السلام، مَكَثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ [إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا] (5) ، يَعْنِي وَغَرَسَ مِائَةَ سَنَةٍ الشَّجَرَ، فَعَظُمَتْ وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ قَطَعَهَا، ثُمَّ جَعَلَهَا سَفِينَةً وَيَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ: تَعْمَلُ (6) سَفِينَةً فِي البَرّ، فَكَيْفَ تَجْرِي؟ قَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ. فَلَمَّا فَرَغَ ونَبَع الْمَاءُ، وَصَارَ فِي السِّكَكِ خشِيت أُمُّ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَخَرَجَتْ إِلَى الْجَبَلِ، حَتَّى بَلَغَتْ ثُلُثَهُ (7) فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ [ارْتَفَعَتْ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلُثَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ] (8) خَرَجَتْ بِهِ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَ رَقَبَتَهَا رَفَعَتْهُ بِيَدَيْهَا فَغَرِقَا فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لَرَحِمَ أُمَّ الصَّبِيِّ"(9) .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ قصةُ هَذَا الصَّبِيِّ وَأُمِّهِ بِنَحْوٍ مَنْ هَذَا.
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ
(45) }
(1) في ت، أ:"هلاك وخسارا".
(2)
في ت، أ:"وبعد".
(3)
في ت، أ:"تفسيرهما".
(4)
في ت، أ:"يعقوب بن موسى".
(5)
زيادة من الدر المنثور. مستفاد من ط. الشعب.
(6)
في ت: "يعمل".
(7)
في ت، أ:"قتله".
(8)
زيادة من الدر المنثور. مستفاد من ط. الشعب.
(9)
تفسير الطبري (15/310) ورواه الحاكم في المستدرك (2/342) من طريق سعيد بن أبي مريم عن موسى بن يعقوب به نَحْوِهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ:"صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ" وتعقبه الذهبي قلت: "إسناده مظلم وموسى بن يعقوب ليس بذاك".
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ
(46)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) }
هَذَا سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ وَكَشْفٍ مِنْ نُوحٍ، عليه السلام، عَنْ حَالِ وَلَدِهِ الَّذِي غَرِقَ، {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} أَيْ: وَقَدْ وَعَدَتْنِي بِنَجَاةِ أَهْلِي، ووعدُك الْحَقُّ الَّذِي لَا يُخْلَفُ، فَكَيْفَ غَرِقَ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ؟ {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أَيِ: الَّذِينَ وَعَدْتُ إِنْجَاءَهَمْ (1) ؛ لِأَنِّي (2) إِنَّمَا وَعَدْتُكَ (3) بِنَجَاةِ مَنْ آمَنَ مَنْ أَهْلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هُودٍ: 40] ، فكان هذا الولد
(1) في أ: "نجاتهم".
(2)
في ت: "الذين أي: ليس من أهلك وعدت بنجاتهم لأنما".
(3)
في ت، أ:"وعدناك".
مِمَّنْ سَبَق عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِالْغَرَقِ لِكُفْرِهِ وَمُخَالَفَتِهِ أَبَاهُ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا، عليه السلام.
وَقَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى تَخْطِئَةِ مِنْ ذَهَبَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِابْنِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ ابْنَ زِنْية (1) ، وَيُحْكَى الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِابْنِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وعُبَيد بْنِ عُمَير، وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وَابْنِ جُرَيج، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ:{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} وَبِقَوْلِهِ: {فَخَانَتَاهمُا} [التَّحْرِيمِ: 10] ، فَمِمَّنْ قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، احْتَجَّ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ. وَهَذَا يُحْتَمَلُ (2) أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَا أَرَادَ الْحَسَنُ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ نُسِبَ إِلَيْهِ مَجَازًا، لِكَوْنِهِ كَانَ رَبِيبًا عِنْدَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: مَا زَنَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، قَالَ: وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أَيِ: الَّذِينَ وَعَدْتُكَ نَجَاتَهُمْ (3) .
وقولُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ (4) أَغْيَرُ مِنْ أَنْ يُمَكِّنَ (5) امْرَأَةَ نَبِيٍّ مِنَ الْفَاحِشَةِ (6) وَلِهَذَا غَضِبَ اللَّهُ عَلَى الَّذِينَ رمَوا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ بنتَ الصِّدِّيقِ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (7)، وَأَنْكَرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِهَذَا وَأَشَاعُوهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إِلَى قَوْلِهِ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النُّورِ: 11-15] .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ ابْنُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَالَفَهُ فِي الْعَمَلِ وَالنِّيَّةِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ: "إِنَّهُ عَمِل عَمَلًا غَيْرَ صَالِحٍ"، وَالْخِيَانَةُ تَكُونُ عَلَى غَيْرِ بَابٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَرَأَ بِذَلِكَ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَب، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ:"إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِح"، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ (8) :{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} وَلَا يُبَالِي {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزُّمَرِ: 53](9) .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا هَارُونُ النَّحْوِيُّ، عَنْ ثَابِتٍ البُنَاني، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَب، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَرَأَهَا:"إِنَّهُ عَمِل غَيْرَ صَالِح"(10) .
أعاده أحمد أيضا في مسنده (11) .
(1) في ت، أ:"ليس منك إنما هو ولد زنية".
(2)
في ت: "محتمل".
(3)
في ت: "بنجاتهم".
(4)
في ت: "تعالى".
(5)
في ت: "يمكن من".
(6)
في ت: "هذه الفاحشة".
(7)
في أ: "زوج النبي صلى الله عليه وسلم بالفاحشة".
(8)
في ت: "يقرأ".
(9)
المسند (6/454) .
(10)
المسند (6/294) .
(11)
المسند (6/322) .
أُمُّ سَلَمَةَ هِيَ (1) أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَالظَّاهِرُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -أَنَّهَا أَسْمَاءُ (2) بِنْتُ يَزِيدَ، فَإِنَّهَا تُكَنَّى بِذَلِكَ أَيْضًا (3) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَّة قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -سُئِل -وَهُوَ إِلَى جَنْب الْكَعْبَةِ -عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {فَخَانَتَاهُمَا} [التَّحْرِيمِ:10]، قَالَ: أَمَا وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالزِّنَا، وَلَكِنْ كَانَتْ هَذِهِ تُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَكَانَتْ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى الْأَضْيَافِ. ثُمَّ قَرَأَ:{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} قال ابن عيينة: وأخبرني عمار الدُهْبِي (4) أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ ابْنُ نُوحٍ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَكْذِبُ! قَالَ تَعَالَى:{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَا فَجَرَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ (5) .
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْران وَثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ [الَّذِي](6) لَا شَكَّ فِيهِ.
[وَقَوْلُهُ](7) :
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
(48) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا قِيلَ لِنُوحٍ، عليه السلام، حِينَ أُرْسَتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ، مِنَ السَّلَامِ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: دَخَلَ فِي هَذَا السَّلَامِ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَذَابِ وَالْمَتَاعِ كُلُّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكُفَّ (8) الطُّوفَانُ أَرْسَلَ رِيحًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَسَكَنَ الْمَاءُ، وَانْسَدَّتْ يَنَابِيعُ الْأَرْضِ الْغَمْرُ الْأَكْبَرُ (9) وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى (10) :{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ [وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] } (11)
(1) في ت، أ:"هند".
(2)
في ت: "إنما هي أسماء".
(3)
قال الطبري في تفسيره (15/348) : "ولا نعلم هذه القراءة قرأ بها أحد من قرأة الأمصار إلا بعض المتأخرين، واعتل في ذلك بخبر روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ذلك كذلك، غير صحيح السند، وذلك حديث روي عن شهر بن حوشب، فمرة يقول: عن أم سلمة، ومرة يقول عن أسماء بنت يزيد.، ولا نعلم أبنت يزيد يريد؟ ولا نعلم لشهر سماعا يصح عن أم سلمة". وانظر: حاشية الأستاذ محمود شاكر عليه فقد أفاد وأجاد.
(4)
في ت: "الذهبي".
(5)
رواه الطبري في تفسيره (15/343) .
(6)
زيادة من ت، أ.
(7)
زيادة من ت.
(8)
في ت: "يكف ذلك".
(9)
قال الأستاذ محمود شاكر في حاشيته على الطبري (15/239) : "هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "الغمر الأكبر". وأنا أرجح أنه خطأ محض، وأن الصواب: "الغوط الأكبر" وبهذا اللفظ رواه صاحب اللسان في مادة (غوط) ".
(10)
في ت، أ:"يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم".
(11)
زيادة من ت، أ، وفي هـ:"الآية".
فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْقُصُ ويَغيض ويُدْبِرُ، وَكَانَ اسْتِوَاءُ الْفُلْكِ عَلَى الْجُودِيِّ، فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ، وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ الْعَاشِرِ، رُئي رُءُوسُ الْجِبَالِ. فَلَمَّا مَضَى بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، فَتَحَ نُوحٌ كُوّة الفُلْك الَّتِي رَكِبَ (1) فِيهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ الغرابَ لِيَنْظُرَ لَهُ مَا صَنَعَ الْمَاءُ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ. فَأَرْسَلَ الْحَمَامَةَ فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ، لَمْ تَجِدْ لِرِجْلَيْهَا مَوْضِعًا، فَبَسَطَ يَدَهُ لِلْحَمَامَةِ فَأَخَذَهَا فَأَدْخَلَهَا. ثُمَّ مَضَى (2) سَبْعَةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا لِتَنْظُرَ لَهُ. فَرَجَعَتْ حِينَ أَمْسَتْ، وَفِي فِيهَا وَرَق زَيْتُونٍ (3) فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ قَلّ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ. ثُمَّ مَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ تَرْجِعْ، فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْأَرْضَ قَدْ بَرَزَت، فَلَمَّا كَمَلَتِ السَّنَةُ فِيمَا بَيْنَ أَنْ أَرْسَلَ اللَّهُ الطُّوفَانَ إِلَى أَنْ أَرْسَلَ نُوحٌ الْحَمَامَةَ، وَدَخَلَ يَوْمُ وَاحِدٍ مِنَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ، بَرَزَ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَظَهَرَ اليَبَس (4) وَكَشَفَ نُوحٌ غِطَاءَ الْفُلْكِ وَرَأَى وَجْهَ الْأَرْضِ، وَفِي الشَّهْرِ الثَّانِي مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ، فِي سَبْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْهُ {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ] } (5)[إِلَى آخِرِ](6) الْآيَةِ (7) .
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ
(49) }
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ [وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ](8) صلى الله عليه وسلم (9) . هَذِهِ الْقِصَّةُ وأشباههَا (10){مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} يَعْنِي: مِنْ أَخْبَارِ الْغُيُوبِ السَّالِفَةِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ عَلَى وَجْهِهَا [وَجَلَّيْتُهَا](11) ، كَأَنَّكَ شَاهِدُهَا (12)، {نُوحِيهَا إِلَيْكَ} أَيْ: نُعْلِمُكَ بِهَا وَحْيًا (13) مِنَّا إِلَيْكَ، {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} أَيْ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ قَوْمِكَ عَلِمٌ بِهَا، حَتَّى يَقُولَ مَنْ يُكَذِّبُكَ: إِنَّكَ تَعَلَّمْتَهَا (14) مِنْهُ، بَلْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ بِهَا مُطَابِقَةً لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ الصَّحِيحُ، كَمَا تَشْهَدُ بِهِ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ، فَاصْبِرْ عَلَى تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَكَ مِنْ قَوْمِكَ، وَأَذَاهُمْ لَكَ، فَإِنَّا سَنَنْصُرُكَ (15) وَنَحُوطُكَ بِعِنَايَتِنَا، وَنَجْعَلُ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِأَتْبَاعِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا فَعَلْنَا [بِإِخْوَانِكَ](16) بِالْمُرْسَلِينَ (17) حَيْثُ نَصَرْنَاهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا [فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] } [غافر:51، 52] ،
(1) في ت، أ:"صنع".
(2)
في ت، أ:"مضت".
(3)
في ت: "زيتونة".
(4)
في ت: "النسر"، وفي أ:"البشر".
(5)
زيادة من ت، أ.
(6)
زيادة من ت، أ.
(7)
تفسير الطبري (15/338) .
(8)
زيادة من ت، أ.
(9)
في أ: "صلوات الله وسلامه عليه".
(10)
في ت: "وما أشبهها".
(11)
زيادة من ت، أ.
(12)
في ت: "مشاهد لها".
(13)
في ت: "بوحي".
(14)
في أ: "تعلمها".
(15)
في ت: "سنؤيدك: ونبصرك"، وفي أ:"فإنا سنؤيدك".
(16)
زيادة من ت، أ.
(17)
في ت، أ:"من المرسلين".
(1)
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ] } [الصَّافَّاتِ:171 -173]، (2) وَقَالَ تَعَالَى:{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} .
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ
(50)
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) }
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا، {إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} آمِرًا لَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، نَاهِيًا لَهُمْ (3) عَنْ [عِبَادَةِ](4) الْأَوْثَانِ الَّتِي افْتَرَوْهَا وَاخْتَلَقُوا لَهَا أَسْمَاءَ الْآلِهَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مِنْهُمْ أُجْرَةً عَلَى هَذَا النُّصْحِ وَالْبَلَاغِ مِنَ اللَّهِ، إِنَّمَا يَبْغِي ثَوَابَهُ [عَلَى ذَلِكَ وَأَجْرَهُ](5) مِنَ اللَّهِ الَّذِي فَطَرَهُ {أَفَلا تَعْقِلُونَ} مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى مَا يُصْلِحُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ (6) .
ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ الَّذِي فِيهِ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ، وَبِالتَّوْبَةِ عَمَّا يَسْتَقْبِلُونَ [مِنَ الْأَعْمَالِ السَّابِقَةِ](7) وَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَحَفِظَ [عَلَيْهِ] (8) شَأْنَهُ [وَقُوَّتَهُ] (9) ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نُوحٍ:11]، و [كَمَا جَاءَ] (10) وَفِي الْحَدِيثِ:"مَنْ لَزِمَ (11) الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَنْ كُلِّ هَم فَرَجًا، وَمَنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ".
(1) زيادة من ت، أ، وفي هـ:"الآية".
(2)
زيادة من ت، أ، وفي هـ:"الآية".
(3)
في ت، أ:"ونهاهم".
(4)
زيادة من ت، أ.
(5)
زيادة من ت، أ.
(6)
في ت، أ:"من غير جعل ولا أجر".
(7)
زيادة من ت، أ.
(8)
زيادة من ت، أ.
(9)
زيادة من ت، أ.
(10)
زيادة من ت، أ.
(11)
في ت، أ:"أكثر من".
{إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
(54)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) }
يُخْبِرُ (1) تَعَالَى [إِخْبَارًا عَنْ قَوْمِ هُودٍ](2) أَنَّهُمْ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أَيْ: بِحُجَّةٍ [وَلَا دَلَالَةَ](3)[وَلَا](4) وَبُرْهَانَ عَلَى مَا تَدَّعِيهِ، {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} أَيْ: بِمُجَرَّدِ قَوْلِكَ: "اتْرُكُوهُمْ" نَتْرُكُهُمْ، {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [أَيْ](5) بِمُصَدِّقِينَ، {إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} يَقُولُونَ: مَا نَظُنُّ إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الْآلِهَةِ أَصَابَكَ بِجُنُونٍ وخبَل فِي عَقْلِكَ بسبب نهيك عن
(1) في ت، أ:"يقول".
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
زيادة من ت، أ.
(5)
زيادة من ت، أ.
عِبَادَتِهَا وَعَيْبِكَ لَهَا {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا} [أَيْ أَنْتُمْ أَيْضًا](1){أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ} (2) . يَقُولُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ، {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} أَيْ: أَنْتُمْ وَآلِهَتُكُمْ إِنْ كَانَتْ حَقًّا، [ف ذَرُوهَا تُكِيدُنِي](3)، {ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} أَيْ: طَرْفَةَ عَيْنٍ [وَاحِدَةً](4) .
وَقَوْلُهُ: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أَيْ: [هِيَ](5) تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ فِي حُكْمِهِ، فَإِنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو (6) عَنْ أَيْفَعَ بْنِ عَبْدٍ الْكَلَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قَالَ: فَيَأْخُذُ بِنَوَاصِي عِبَادِهِ فَيَلْقَى الْمُؤْمِنَ (7) حَتَّى يَكُونَ لَهُ (8) أَشْفَقَ مِنَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ (9) وَيُقَالُ لِلْكَافِرِ: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الِانْفِطَارِ: 6] .
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْمَقَامُ حُجَّةً بَالِغَةً وَدَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، بَلْ هِيَ جَمَاد لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تُوالي وَلَا تُعادي، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا تَحْتَ مُلْكِهِ وَقَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
(57)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) }
يَقُولُ لَهُمْ [رَسُولُهُمْ](10) هُودٌ: فَإِنْ تَوَلَّوْا عَمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ رَبِّكُمْ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِإِبْلَاغِي إِيَّاكُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ الَّتِي بَعَثَنِي بِهَا، {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (11) يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ [شَيْئًا] (12) وَلَا يُبَالِي بِكُمْ: فَإِنَّكُمْ لَا تَضُرُّونَهُ بِكُفْرِكُمْ بَلْ (13) يَعُودُ وَبَال ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أَيْ: شَاهِدٌ وَحَافِظٌ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ وَأَفْعَالِهِمْ وَيَجْزِيهِمْ (14) عَلَيْهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
في ت: "تدعون" وهو خطأ.
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
زيادة من ت، أ.
(5)
زيادة من ت، أ.
(6)
في أ: "محرز".
(7)
في ت: "للمؤمن".
(8)
في ت: "لهم".
(9)
في ت: "بولده".
(10)
زيادة من ت، أ.
(11)
في ت، أ:"الله" وهو خطأ.
(12)
زيادة من ت، أ.
(13)
في ت، أ:"وكفركم وإنما".
(14)
في ت: "وتجزيهم".
{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} وَهُوَ [مَا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ](1) الرِّيحِ الْعَقِيمِ [الَّتِي لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ](2) فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَنْ آخِرِهِمْ، وَنَجَّى [مِنْ بَيْنِهِمْ رَسُولَهُمْ](3) هُودًا وَأَتْبَاعَهُ [الْمُؤْمِنِينَ](4) مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ بِرَحْمَتِهِ تَعَالَى وَلُطْفِهِ.
{وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [أَيْ](5) كَفَرُوا بِهَا، وعَصَوا رُسُلَ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِنَبِيٍّ فَقَدْ كَفَرَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ، فَعَادٌ كَفَرُوا بِهُودٍ، فَنَزَلَ كُفْرُهُمْ [بِهِ](6) مَنْزِلَةَ مَنْ كَفَرَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} تَرَكُوا اتِّبَاعَ رَسُولِهِمُ الرَّشِيدِ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. فَلِهَذَا أُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّمَا ذُكِرُوا وَيُنَادَى عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ (7) ، {أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ [أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ] } (8) .
قَالَ السُّدِّي: مَا بُعث نَبِيٌّ بَعْدَ عَادٍ إِلَّا لُعِنُوا عَلَى لِسَانِهِ.
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ
(61) }
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا {إِلَى ثَمُودَ} وَهْمُ الَّذِينَ كَانُوا يَسْكُنُونَ (9) مَدَائِنَ الْحِجْرِ بَيْنَ تَبُوكَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانُوا بَعْدَ عَادٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ مِنْهُمْ (10) {أَخَاهُمْ صَالِحًا} فَأَمَرَهُمْ (11) بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ [لَا شَرِيكَ لَهُ الْخَالِقِ الرَّازِقِ] (12) ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ} أَيِ: ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ مِنْهَا، [مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي](13) خَلَقَ مِنْهَا أَبَاكُمْ آدَمَ، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أَيْ: جَعَلَكُمْ [فِيهَا](14) عُمَّارا تُعَمِّرُونَهَا وَتَسْتَغِلُّونَهَا، لِسَالِفِ ذُنُوبِكُمْ، {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَهُ؛ {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [البقرة: 186] .
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
زيادة من ت، أ.
(5)
زيادة من ت، أ.
(6)
زيادة من أ.
(7)
في ت: "عليهم على رءوس الخلائق يوم القيامة".
(8)
زيادة من ت، أ، وفي هـ:"الآية".
(9)
في ت: "يستكبرون".
(10)
في ت، أ:"فيهم".
(11)
في أ: "فأمره".
(12)
زيادة من أ.
(13)
زيادة من ت، أ.
(14)
زيادة من ت، أ.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ
(63) }
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنَ الْكَلَامِ بَيْنَ صَالِحٍ، عليه السلام، وَبَيْنَ قَوْمِهِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ فِي قَوْلِهِمْ:{قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} أَيْ: كُنَّا نَرْجُوكَ فِي عَقْلِكَ قَبْلَ أَنْ تَقُولَ مَا
قُلْتَ! {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَسْلَافُنَا، {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أَيْ:[فِي](1) شَكٍّ كثير (2) .
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} فِيمَا أَرْسَلَنِي بِهِ إِلَيْكُمْ عَلَى يَقِينٍ وَبُرْهَانٍ [مِنَ اللَّهِ](3) ، {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} وَتَرَكْتُ دَعْوَتَكُمْ إِلَى الْحَقِّ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، فَلَوْ تَرَكْتُهُ (4) لَمَا نَفَعْتُمُونِي وَلَمَا زِدْتُمُونِي {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أَيْ: خَسَارَةٍ.
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ
(64)
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) }
وَتَقَدُّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ "اَلْأَعْرَافِ"(5) بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ها هنا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
في ت، أ:"كبير".
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
في ت، أ:"فلو تركت ذلك".
(5)
عند تفسير الآيات 73 - 78.
{قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ
(72)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا} وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى، قِيلَ: تُبَشِّرُهُ (1) بِإِسْحَاقَ، وَقِيلَ: بِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ. وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هُودٍ: 74]، {قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} أَيْ: عَلَيْكُمْ.
قَالَ عُلَمَاءُ (2) الْبَيَانِ: هَذَا أَحْسُنُ مِمَّا حَيّوه بِهِ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ وَالدَّوَامِ (3) .
{فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أَيْ: ذَهَبَ (4) سَرِيعًا، فَأَتَاهُمْ بِالضِّيَافَةِ، وَهُوَ عجل: فتى البقر،
(1) في ت: "تبشيره".
(2)
في ت: "علمنا".
(3)
في ت، أ:"والاستقرار".
(4)
في ت: "فذهب".
حَنِيذ: [وَهُوَ](1) مَشْوي [شَيًّا نَاضِجًا](2) عَلَى الرّضْف، وَهِيَ الْحِجَارَةُ المُحْماة.
هَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [وَمُجَاهِدٍ](3) وَقَتَادَةَ [وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ](4) وَغَيْرِ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذَّارِيَاتِ:26، 27] .
وَقَدْ تضمَّنت هَذِهِ الْآيَةُ آدَابَ الضِّيَافَةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.
وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} تَنَكرهم، {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَلَا يَشْتَهُونَهُ وَلَا يَأْكُلُونَهُ؛ فَلِهَذَا رَأَى حَالَهُمْ مُعْرِضِينَ (5) عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ، فَارِغِينَ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ نَكرهم، {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} .
قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ لِقَوْمِ لُوطٍ (6) أَقْبَلَتْ تَمْشِي فِي صُور رِجَالٍ شُبَّانٍ (7) حَتَّى نَزَلُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَتَضَيَّفُوهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ [إِبْرَاهِيمُ](8) أجَلَّهم، {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} فَذَبَحَهُ ثُمَّ شَوَاهُ فِي الرَّضْفِ (9) . [فَهُوَ الْحَنِيدُ حِينَ شَوَاهُ](10) وَأَتَاهُمْ بِهِ فَقَعَدَ مَعَهُمْ، وَقَامَتْ سَارَّةُ تَخْدِمُهُمْ (11) فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ:"وَاِمْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ وَهُوَ جَالِسٌ" فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "فَلَمَّا قَربه إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ قَالُوا: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا لَا نَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا بِثَمَنٍ. قَالَ فَإِنَّ لِهَذَا ثَمَنًا. قَالُوا (12) وَمَا ثَمَنُهُ؟ قَالَ: تَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى أَوَّلِهِ، وَتَحْمَدُونَهُ عَلَى آخِرِهِ فَنَظَرَ جِبْرِيلُ إِلَى مِيكَائِيلَ فَقَالَ: حُق لِهَذَا أَنْ يَتَّخِذَهُ رَبُّهُ خَلِيلًا"، {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} يَقُولُ: فَلَمَّا رَآهُمْ لَا يَأْكُلُونَ فَزِعَ مِنْهُمْ، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ (13) سَارَّةُ أَنَّهُ قَدْ أَكْرَمَهُمْ وَقَامَتْ هِيَ تَخْدِمُهُمْ، ضَحِكَتْ وَقَالَتْ: عَجَبًا لِأَضْيَافِنَا هَؤُلَاءِ، [إِنَّا](14) نَخْدِمُهُمْ بِأَنْفُسِنَا كَرَامَةً (15) لَهُمْ، وَهُمْ لَا يَأْكُلُونَ طَعَامَنَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، [حَدَّثَنَا](16) نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مِحْصن فِي ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَةً: جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَرَفَائِيلُ. قَالَ نُوحُ بْنُ قَيْسٍ: فَزَعَمَ نُوحُ بْنُ أَبِي شَدَّادٍ أَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَرَّبَ إِلَيْهِمُ الْعِجْلَ، مَسَحَهُ جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ، فَقَامَ يَدْرُجُ حَتَّى لَحِقَ بِأُمِّهِ، وَأُمُّ الْعِجْلِ فِي الدَّارِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ: {قَالُوا لَا تَخَفْ [إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ] } (17) أَيْ قَالُوا: لَا تَخَفْ مِنَّا، إِنَّا مَلَائِكَةٌ أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ لِنُهْلِكَهُمْ (18) . فَضَحِكَتْ (19) سَارَّةُ اسْتِبْشَارًا [مِنْهَا](20) بِهَلَاكِهِمْ، لِكَثْرَةِ فَسَادِهِمْ، وغِلَظ كفرهم وعنادهم، فلهذا جوزيت بالبشارة
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
زيادة من ت، أ.
(5)
في ت، أ:"معرضا".
(6)
في ت، أ:"الملائكة لمهلك قوم لوط".
(7)
في ت، أ:"شباب".
(8)
زيادة من ت، أ.
(9)
في ت: "الرصف".
(10)
زيادة من ت، أ.
(11)
في ت، أ:"عليهم".
(12)
في ت: "قال".
(13)
في ت: "إليهم".
(14)
زيادة من ت، أ.
(15)
في ت: "تكرمة".
(16)
زيادة من ت، أ.
(17)
زيادة من ت، أ.
(18)
في ت: "إلى قوم لوط لندمر عليهم ونهلكهم كما ذكر في الآية الأخرى".
(19)
في ت: "وضحكت".
(20)
زيادة من ت، أ.
بِالْوَلَدِ بَعْدَ الْإِيَاسِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ضَحِكَتْ [امْرَأَتُهُ](1) وَعَجِبَتْ [مِنْ](2) أَنَّ قَوْمًا يَأْتِيهِمُ (3) الْعَذَابُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [فَضَحِكَتْ مِنْ ذَلِكَ وَعَجِبَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ] .
وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{فَضَحِكَتْ} أَيْ: حَاضَتْ.
وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ: إِنَّهَا إِنَّمَا ضَحِكَتْ مِنْ أَنَّهَا ظَنَّتْ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا كَمَا يَعْمَلُ قَوْمُ لُوطٍ، وَقَوْلُ الْكَلْبِيِّ إِنَّهَا إِنَّمَا ضَحِكَتْ لِمَا رَأَتْ مِنَ الرَّوْعِ بِإِبْرَاهِيمَ -ضَعِيفَانِ جِدًّا، وَإِنْ كَانَ ابْنُ جَرِيرٍ قَدْ رَوَاهُمَا بِسَنَدِهِ إِلَيْهِمَا، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّه: إِنَّمَا ضَحِكَتْ لَمَّا بُشِّرَتْ بِإِسْحَاقَ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِهَذَا السِّيَاقِ، فَإِنَّ الْبِشَارَةَ صَرِيحَةٌ مُرتبة عَلَى.
{فَبَشَّرْنَاهَا (4) بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} أَيْ: بِوَلَدٍ لَهَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَعَقِبٌ وَنَسْلٌ؛ فَإِنَّ يَعْقُوبَ وَلَدُ إِسْحَاقَ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 133] .
وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَدَلَّ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِنَّمَا هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَنَّهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ إِسْحَاقُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ، وَأَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ يَعْقُوبُ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِهِ وَهُوَ طِفْلٌ (5) صَغِيرٌ، وَلَمْ يُولَدْ لَهُ بَعْدُ يَعْقُوبُ الْمَوْعُودُ بِوُجُودِهِ. وَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ لَا خُلْفَ فِيهِ، فَيُمْتَنَعُ أَنَّ يُؤْمَرَ بِذَبْحِ هَذَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِدْلَالِ وَأَصَحِّهِ وَأَبْيَنِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ] } (6) حَكَى قَوْلَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا حَكَى فِعْلَهَا فِي الْآيَةِ الأخرى، فإنها:{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} وَفِي الذَّارِيَاتِ: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذَّارِيَاتِ: 29]، كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النِّسَاءُ فِي أَقْوَالِهِنَّ وَأَفْعَالِهِنَّ عِنْدَ التَّعَجُّبِ. {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أَيْ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهَا، لَا تَعْجَبِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ (7) يَقُولَ لَهُ:"كُنْ" فَيَكُونُ، فَلَا تَعْجَبِي مِنْ هَذَا، وَإِنْ كُنْتِ عَجُوزًا [كَبِيرَةً](8) عَقِيمًا، وَبَعْلُكِ [وَهُوَ زَوْجُهَا الْخَلِيلُ عليه السلام، وَإِنْ كَانَ](9) شَيْخًا كَبِيرًا، فَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ما يشاء قدير.
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
في ت: "أتاهم".
(4)
في ت: "فبشرت".
(5)
في ت: "غلام".
(6)
زيادة من ت، أ، وفي هـ "الآية".
(7)
في ت: "إنما".
(8)
زيادة من ت، أ.
(9)
زيادة من ت، أ.
{رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} أَيْ: هُوَ الْحَمِيدُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ مَحْمُودٌ، مُمَجَّدٌ فِي صِفَاتِهِ وَذَاتِهِ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا السَّلَامَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قُولُوا: "اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى [إِبْرَاهِيمَ وَ] (1) آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"(2) .
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ
(74)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ [خَلِيلِهِ](3) إِبْرَاهِيمَ، عليه السلام، أَنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، وَهُوَ مَا أوْجَس مِنَ الْمَلَائِكَةِ خِيفَةً، حِينَ لَمْ يَأْكُلُوا، وَبَشَّرُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْوَلَدِ [وَطَابَتْ نَفْسُهُ](4) وَأَخْبَرُوهُ بِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، أَخْذَ يَقُولُ كَمَا قَالَ (5) [عَنْهُ] (6) سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ (7) قَالَ: لَمَّا جَاءَهُ جِبْرِيلُ وَمِنْ مَعَهُ، قَالُوا لَهُ (8) {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ [إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ] } [الْعَنْكَبُوتِ: 31] ، (9) قَالَ لَهُمْ [إِبْرَاهِيمُ] (10) أَتُهْلِكُونَ قَرْيَةً فِيهَا ثَلَاثُمِائَةِ مُؤْمِنٍ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَتُهْلِكُونَ قَرْيَةً فِيهَا مِائَتَا مُؤْمِنٍ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَتُهْلِكُونَ قَرْيَةً فِيهَا أَرْبَعُونَ مُؤْمِنًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: ثَلَاثُونَ؟ قَالُوا لَا حَتَّى بَلَغَ خَمْسَةً قَالُوا: لَا. قَالَ: أَرَأَيْتُكُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مُسْلِمٌ أَتُهْلِكُونَهَا؟ قَالُوا: لَا. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام عِنْدَ ذَلِكَ: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ} الْآيَةَ [الْعَنْكَبُوتِ:32] ، فَسَكَتَ عَنْهُمْ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ قَرِيبًا مِنْ هَذَا -زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا مُؤْمِنٌ وَاحِدٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنْ كَانَ فِيهَا لُوطٌ يُدْفَعُ بِهِ عَنْهُمُ الْعَذَابُ، قَالُوا:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا [لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ] } [الْعَنْكَبُوتِ:32] . (11)
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} مَدَحَ (12) إِبْرَاهِيمَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا [فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ](13) .
وَقَوْلُهُ: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ [وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ] } (14)
(1) زيادة من ت، والبخاري.
(2)
صحيح البخاري برقم (4797) وصحيح مسلم برقم (406) من حديث كعب بن عجرة، رضي الله عنه.
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
زيادة من ت، أ.
(5)
في ت: "قاله".
(6)
زيادة من ت.
(7)
في ت، أ:"في قوله: يجادلنا في قوم لوط".
(8)
في أ: "فقالوا لإبراهيم".
(9)
زيادة من ت، أ.
(10)
زيادة من ت.
(11)
زيادة من ت، أ. وفي هـ:"الآية".
(12)
في ت، أ:"مدح له".
(13)
زيادة من ت، أ.
(14)
زيادة من ت، أ، وفي هـ:"الآية".
أَيْ: إِنَّهُ قَدْ نَفَذَ فِيهِمُ الْقَضَاءُ، وحَقَّت عَلَيْهِمُ الْكَلِمَةُ بِالْهَلَاكِ، وَحُلُولِ الْبَأْسِ الَّذِي لَا يُرد عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ
(77)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قُدوم رُسُلِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ (1) بَعْدَ مَا أَعْلَمُوا (2) إِبْرَاهِيمَ بِهَلَاكِهِمْ، وَفَارَقُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِإِهْلَاكِ اللَّهِ قَوْمَ لُوطٍ هَذِهِ اللَّيْلَةَ. فَانْطَلَقُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَأَتَوْا لُوطًا (3) عليه السلام، وَهُوَ -عَلَى مَا (4) قِيلَ -فِي أَرْضٍ لَهُ [يَعْمُرُهَا] (5) وَقِيلَ:[بَلْ كَانَ](6) فِي مَنْزِلِهِ، وَوَرَدُوا عَلَيْهِ وَهُمْ فِي أَجْمَلِ صُورَةٍ تَكُونُ، عَلَى هَيْئَةِ شُبَّانٍ (7) حِسَانِ الْوُجُوهٍ، ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ [وَاخْتِبَارًا](8) وَلَهُ الْحِكْمَةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، [فَنَزَلُوا عَلَيْهِ](9) فَسَاءَهُ شَأْنُهُمْ وَضَاقَتْ نَفْسُهُ بِسَبَبِهِمْ، وَخَشِيَ إِنْ لَمْ يُضِفْهم (10) أَنْ يُضِيفَهُمْ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَيَنَالُهُمْ بِسُوءٍ، {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ [وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ](11) وَغَيْرُ وَاحِدٍ [مِنَ الْأَئِمَّةِ](12) شَدِيدٌ بَلَاؤُهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَيُدَافِعُ [قَوْمَهُ](13) عَنْهُمْ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ قَتَادَةُ أَنَّهُمْ أَتَوْهُ وَهُوَ فِي أَرْضٍ لَهُ [يَعْمَلُ فِيهَا](14) فَتَضَيَّفُوهُ (15) فَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ أَمَامَهُمْ وَقَالَ (16) لَهُمْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، كَالْمُعَرِّضِ لَهُمْ بِأَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ مَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلَ بَلَدٍ أَخْبَثَ مِنْ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ مَشَى قَلِيلًا ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى كَرَّرَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ قَالَ قَتَادَةُ: وَقَدْ كَانُوا أُمِرُوا أَلَّا يُهْلِكُوهُمْ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ بِذَلِكَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: خَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ إبراهيم نحو قرية (17) لوط (18) فبلغوا (19) نهر سدون نِصْفَ النَّهَارِ، وَلَقُوا بِنْتَ (20) لُوطٍ تَسْتَقِي [مِنَ الْمَاءِ لِأَهْلِهَا وَكَانَتْ لَهُ ابْنَتَانِ اسْمُ الْكُبْرَى رَثَيَا وَالصُّغْرَى زغرتا](21) فَقَالُوا [لَهَا](22) يَا جَارِيَةُ، هَلْ مِنْ مَنْزِلٍ؟ فَقَالَتْ [لَهُمْ](23) مَكَانَكُمْ حَتَّى آتِيَكُمْ، وفَرقت عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهَا، فَأَتَتْ أَبَاهَا فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ، أَدْرَكْ فِتْيَانًا عَلَى بَابِ المدينة، ما رأيت
(1) في ت، أ:"من الملائكة الذين فارقوا إبراهيم الخليل عليه السلام بعد".
(2)
في ت، أ:"أعلموه".
(3)
في ت: "فأتوا على لوط"، وفي أ:"فأتوا لوط".
(4)
في ت، أ:"وهو فيما".
(5)
زيادة من ت، أ.
(6)
زيادة من ت، أ.
(7)
في ت، أ:"شباب".
(8)
زيادة من ت، أ.
(9)
زيادة من ت، أ.
(10)
في ت، أ:"يضيفهم".
(11)
زيادة من ت، أ.
(12)
زيادة من ت، أ.
(13)
زيادة من ت، أ.
(14)
زيادة من ت، أ.
(15)
في ت، أ:"فيضيفوه".
(16)
في ت، أ:"فقال".
(17)
في ت: "قوم".
(18)
في ت، أ:"لوط فأتوها نصف النهار، فبلغوا".
(19)
في ت، أ:"فلما بلغوا".
(20)
في ت، أ:"ابنة".
(21)
زيادة من ت، أ.
(22)
زيادة من ت، أ.
(23)
زيادة من ت، أ.
وُجُوهَ قَوْمٍ [هِيَ](1) أَحْسَنُ مِنْهُمْ، لَا يَأْخُذُهُمْ قَوْمُكَ فَيَفْضَحُوهُمْ، و [قَدْ] (2) كَانَ قَوْمُهُ نَهَوْهُ أَنْ يُضِيفَ رَجُلًا فَقَالُوا: خَلِّ عَنَّا فلْنُضِف (3) الرِّجَالَ. فَجَاءَ بِهِمْ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ أَحَدٌ إِلَّا أَهْلُ بَيْتِهِ (4) فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْ قَوْمَهَا [فَقَالَتْ: إِنْ فِي بَيْتِ لُوطٍ رِجَالًا مَا رَأَيْتُ مِثْلَ وُجُوهِهِمْ قَطُّ] (5) ، فَجَاءُوا (6) يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أَيْ: يُسْرِعُونَ وَيُهَرْوِلُونَ [فِي مِشْيَتِهِمْ وَيُجْمِرُونَ](7) مِنْ فَرَحِهِمْ بِذَلِكَ [وَرُوِيَ فِي هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ وَشِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ](8) .
وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أَيْ: لَمْ يَزَلْ هَذَا مِنْ سَجِيَّتِهِمْ [إِلَى وَقْتٍ آخَرَ](9) حَتَّى أُخِذُوا وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ.
وقوله: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} يُرْشِدُهُمْ إِلَى نِسَائِهِمْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ لِلْأُمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ [لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ](10) ، فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ (11) لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 165، 166]، وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الْحِجْرِ:70] أَيْ: أَلَمْ (12) نَنْهَكَ عَنْ ضِيَافَةِ الرِّجَالِ {قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْحِجْرِ:71، 72]، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:{هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} قَالَ (13) مُجَاهِدٌ: لَمْ يَكُنَّ بَنَاتِهِ، وَلَكِنْ كُنَّ مِنْ أمَّتِهِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ أَبُو أمَّتِه.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا النِّسَاءَ، وَلَمْ يَعْرِضْ عَلَيْهِمْ سِفَاحًا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي نِسَاءَهُمْ، هُنَّ بَنَاته، وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ (14) وَيُقَالُ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ (15) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} أَيْ: اقْبَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى نِسَائِكُمْ (16)، {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} أَيْ:[لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ](17) فِيهِ خَيْرٌ، يَقْبَلُ مَا آمره به، ويترك ما أنهاه
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
في ت، أ:"فلنضيف".
(4)
في ت، أ:"بيت لوط".
(5)
زيادة من ت، أ.
(6)
في ت، أ:"فجاءه قومه".
(7)
زيادة من ت، أ.
(8)
زيادة من ت، أ.
(9)
زيادة من ت، أ.
(10)
زيادة من ت، أ.
(11)
في ت: "الأنفع".
(12)
في ت، أ:"أو لم".
(13)
في ت، أ:"وقال".
(14)
في ت، أ:"هن بناته هو نبيهم".
(15)
في ت، أ:"القراءة".
(16)
في ت، أ:"أي اقبلوا ما آمركم به من إتيانكم نساءكم واقتصاركم عليهن وترككم الفواحش من إتيان الذكران من العالمين".
(17)
زيادة من ت، أ.
عَنْهُ؟
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أَيْ: إِنَّكَ تَعْلَمُ (1) أَنَّ نِسَاءَنَا لَا أَرَبَ لَنَا فِيهِنَّ وَلَا نَشْتَهِيهِنَّ، {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} أَيْ: لَيْسَ لَنَا غَرَضٌ إِلَّا فِي الذُّكُورِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ ذَلِكَ، فَأَيُّ حَاجَةٍ فِي تَكْرَارِ الْقَوْلِ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ؟
قَالَ السُّدِّيُّ: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} إِنَّمَا نُرِيدُ الرِّجَالَ.
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ
(80)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ لُوطٍ، عليه السلام: إِنَّ لُوطًا تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ (2) : {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ] } (3) أَيْ: لَكُنْتُ نَكَّلْتُ بِكُمْ وَفَعَلْتُ بِكُمُ الْأَفَاعِيلَ [مِنَ الْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ وَإِحْلَالِ الْبَأْسِ بِكُمْ](4) بِنَفْسِي وَعَشِيرَتِي، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى لُوطٍ، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ -يَعْنِي: اللَّهَ عز وجل -فَمَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ"(5) .
[وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي يُونُسَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِهِ وَأَرْسَلَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ](6) .
فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخْبَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُمْ (7) رُسل اللَّهِ إِلَيْهِ، و [وَبَشَّرُوهُ](8) أَنَّهُمْ لَا وُصُولَ لهم إليه [ولا خلوص](9){قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} وَأَمَرُوهُ أَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، وَأَنْ يتَّبع أَدْبَارَهُمْ، أَيْ: يَكُونُ سَاقَةً لِأَهْلِهِ، {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} أَيْ: إِذَا سَمِعْتَ (10) مَا نَزلَ بِهِمْ، وَلَا تهولنَّكم (11) تِلْكَ الْأَصْوَاتُ الْمُزْعِجَةُ، وَلَكِنِ اسْتَمِرُّوا ذَاهِبِينَ [كَمَا أَنْتُمْ](12) .
{إِلا امْرَأَتَكَ} قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُثْبَتِ (13) وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} تَقْدِيرُهُ {إِلا امْرَأَتَكَ} وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَنَصَبَ هؤلاء امرأتك؛ لأنه من مثبت (14) ،
(1) في ت، أ:"لتعلم".
(2)
في ت، أ:"عليه السلام إنه توعدهم بهذا الكلام وهو قوله".
(3)
زيادة من ت، أ، وفي هـ:"الآية".
(4)
زيادة من ت، أ.
(5)
رواه الترمذي في السنن برقم (3116) من طريق الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو به، ورواه عن طريق عَبْدَةَ وَعَبْدِ الرَّحِيمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو ونحو حديث الفضل بن موسى، وقال الترمذي:"وهذا - أي الطريق الثاني - أصح من رواية الفضل بن موسى وهذا حديث حسن".
(6)
زيادة من ت، أ.
(7)
في ت: "بأنهم".
(8)
زيادة من ت، أ.
(9)
زيادة من ت، أ.
(10)
في ت، أ:"إذا سمعتم".
(11)
في ت: "+ولاتهيلنكم".
(12)
زيادة من ت، أ.
(13)
في ت: "من المبيت".
(14)
في ت: "من مبيت".
فَوَجَبَ نَصْبُهُ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالنُّحَاةِ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ} فجَّوزوا الرَّفْعَ وَالنَّصْبَ، وَذَكَرَ هَؤُلَاءِ [وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ](1) أَنَّهَا خَرَجَتْ مَعَهُمْ، وَأَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتِ الوَجْبَة الْتَفَتَتْ وَقَالَتْ (2) وَاقَوْمَاهْ. فَجَاءَهَا حَجَرٌ مِنَ السَّمَاءِ فَقَتَلَهَا (3) .
ثُمَّ قَرَّبُوا لَهُ هَلَاكَ قَوْمِهِ تَبْشِيرًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: "أَهْلِكُوهُمُ السَّاعَةَ"، فَقَالُوا:{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} هَذَا وقومُ لُوطِ وقُوف عَلَى الْبَابِ وعُكوف قَدْ جَاءُوا يُهرعون إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَلُوطٌ وَاقِفٌ عَلَى (4) الْبَابِ يُدَافِعُهُمْ وَيَرْدَعُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ، بَلْ يَتَوَعَّدُونَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَيْهِمْ جِبْرِيلُ، عليه السلام، فَضَرَبَ وُجُوهَهُمْ بِجَنَاحِهِ، فَطَمَسَ أَعْيُنَهُمْ، فَرَجَعُوا وَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ الطَّرِيقَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ] } [الْقَمَرِ:37 -39](5) .
وَقَالَ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ، عليه السلام، يَأْتِي (6) قَوْمَ لُوطٍ، فَيَقُولُ: أنَهاكم (7) اللَّهُ أَنْ تَعَرّضوا لِعُقُوبَتِهِ؟ فَلَمْ يُطِيعُوهُ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجْلَهُ [لِمَحَلِ عَذَابِهِمْ وَسَطَوَاتِ الرَّبِّ بِهِمْ قَالَ](8) انْتَهَتِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى لُوطٍ وَهُوَ يَعْمَلُ فِي أَرْضٍ لَهُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الضِّيَافَةِ فَقَالُوا: إِنَّا ضُيُوفُكَ (9) اللَّيْلَةَ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَهِدَ إِلَى جِبْرِيلَ أَلَّا يُعذبهم حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ لُوطٌ ثَلَاثَ شَهادات فَلَمَّا تَوَجَّهَ بِهِمْ لُوطٌ إِلَى الضِّيَافَةِ، ذَكَرَ مَا يَعْمَلُ قَوْمُهُ مِنَ الشَّرِّ [وَالدَّوَاهِي الْعِظَامِ](10) ، فَمَشَى مَعَهُمْ سَاعَةً، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمُونَ مَا يَعْمَلُ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ مَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ شَرًّا مِنْهُمْ. أَيْنَ أَذْهَبُ بِكُمْ؟ إِلَى قَوْمِي وَهُمْ [مِنْ](11) أَشَرِّ خَلْقِ اللَّهِ، فَالْتَفَتَ جِبْرِيلُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: احْفَظُوهَا (12) هَذِهِ وَاحِدَةٌ. ثُمَّ مَشَى مَعَهُمْ سَاعَةً، فَلَمَّا تَوَسَّطَ الْقَرْيَةَ وَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ قَالَ: أَمَا تَعْلَمُونَ مَا يَعْمَلُ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ مَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَشَرَّ مِنْهُمْ، إِنَّ قَوْمِي أَشَرُّ خَلْقِ اللَّهِ. فَالْتَفَتَ جِبْرِيلُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: احْفَظُوا، هَاتَانِ اثْنَتَانِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ الدَّارِ بَكَى حَيَاءً مِنْهُمْ وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ فَقَالَ (13) إِنَّ قَوْمِي أَشْرُّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ؟ أَمَا تَعْلَمُونَ مَا يَعْمَلُ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ مَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلَ قَرْيَةٍ شَرًّا (14) مِنْهُمْ. فَقَالَ جِبْرِيلُ لِلْمَلَائِكَةِ: احْفَظُوا، هَذِهِ ثَلَاثٌ، قَدْ حَقَّ الْعَذَابُ. فَلَمَّا دَخَلُوا ذَهَبَتْ عَجُوزُ السُّوءِ فَصَعِدَتْ فَلَوَّحَتْ بِثَوْبِهَا، فَأَتَاهَا الْفُسَّاقُ يُهرَعون سِرَاعًا، قَالُوا: مَا عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: ضَيَّف لوطًا قوم (15) مَا رَأَيْتُ قَطُّ أَحْسَنَ وُجُوهًا مِنْهُمْ، وَلَا أَطْيَبَ رِيحًا مِنْهُمْ. فهُرعوا يُسَارِعُونَ إِلَى الْبَابِ، فَعَالَجَهُمْ لُوطٌ عَلَى الْبَابِ، فَدَافِعُوهُ طَوِيلًا هُوَ دَاخِلُ وَهُمْ خَارِجَ، يُنَاشِدُهُمُ اللَّهَ وَيَقُولُ:{هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} فقام
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
في ت: "فقالت".
(3)
في ت: "فقتلتها".
(4)
في ت، أ:"في".
(5)
زيادة من ت، أ، وفي هـ:"الآية".
(6)
في ت، أ:"يأتيهم يعني".
(7)
في ت، أ:"أنهاكم الله عنه".
(8)
زيادة من ت، أ، والطبري.
(9)
في ت: "مضيفوك".
(10)
زيادة، ت، أ.
(11)
زيادة من ت، أ.
(12)
في ت، أ:"احفظوا".
(13)
في ت: "وقال".
(14)
في ت، أ:"أشر".
(15)
في ت، أ:"الليلة\".
الْمَلَكُ فَلَزّ (1) بِالْبَابِ -يَقُولُ فَسَدَّهُ (2) -وَاسْتَأْذَنَ جِبْرِيلُ فِي عُقُوبَتِهِمْ، فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُ، فَقَامَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا فِي السَّمَاءِ، فَنَشَرَ جَنَاحَهُ. وَلِجِبْرِيلَ جَنَاحَانِ، وَعَلَيْهِ وِشَاحٌ مِنْ دُرٍّ مَنْظُومٍ، وَهُوَ بَرَّاقُ الثَّنَايَا، أَجْلَى الْجَبِينِ، وَرَأْسُهُ حُبُكٌ حُبُك مِثْلَ الْمَرْجَانِ وَهُوَ اللُّؤْلُؤُ، كَأَنَّهُ الثَّلْجُ، وَرِجْلَاهُ إِلَى الْخُضْرَةِ. فَقَالَ يَا لُوطُ:{إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} امْضِ يَا لُوطُ عَنِ الْبَابِ وَدَعْنِي وَإِيَّاهُمْ، فَتَنَحَّى لُوطٌ عَنِ الْبَابِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَنَشَرَ جَنَاحَهُ، فَضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ ضَرْبَةً شَدَخَ أَعْيُنَهُمْ، فَصَارُوا عُمْيًا لَا يَعْرِفُونَ الطَّرِيقَ [وَلَا يَهْتَدُونَ بُيُوتَهُمْ] (3) ثُمَّ أُمِرَ لُوطٌ فَاحْتَمَلَ بِأَهْلِهِ فِي لَيْلَتِهِ قَالَ:{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} (4) .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ [الْقُرَظِيِّ](5) وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ نحو هذا.
(1) في أ: "فكن".
(2)
في ت: "فشده"، وفي أ:"نسده".
(3)
زيادة من ت، أ، والطبري.
(4)
رواه الطبري في تفسيره (15/429) .
(5)
زيادة من ت، أ.
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ
(82)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) }
يَقُولُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، {جَعَلْنَا عَالِيَهَا} وَهِيَ [قَرْيَتُهُمُ الْعَظِيمَةُ وَهِيَ] (1) سَدُوم [وَمُعَامِلَتُهَا] (2) {سَافِلَهَا} كَقَوْلِهِ (3) { [وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى] فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النَّجْمِ:53، 54] (4) أَيْ: أَمْطَرَنَا (5) عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ "سِجِّيلٍ" وَهِيَ بِالْفَارِسِيَّةِ: حِجَارَةٌ مِنْ طِينٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ مِنْ "سَنْكٍ" وَهُوَ الْحَجَرُ، وَ"كِلْ"(6) وَهُوَ الطِّينُ، وَقَدْ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذَّارِيَاتِ:33] أَيْ: مُسْتَحْجَرَةً قَوِيَّةً شَدِيدَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَشْوِيَّةٌ، [وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَطْبُوخَةٌ قَوِيَّةٌ صُلْبَةٌ] (7) وَقَالَ الْبُخَارِيُّ. "سِجيل": الشَّدِيدُ الْكَبِيرُ. سِجِّيلٌ وَسِجِّينٌ وَاحِدٌ، اللَّامُ وَالنُّونُ أُخْتَانِ، وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ مُقبِل:
وَرَجْلَةٍ يَضْربُون البَيْضَ ضَاحِيةٌ
…
ضَرْبًا تواصَت بِهِ الْأَبْطَالُ (8) سِجّينا (9)
وَقَوْلُهُ: {مَنْضُودٍ} قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْضُودَةٌ فِي السَّمَاءِ، أَيْ: مُعَدَّةٌ لِذَلِكَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: {مَنْضُودٍ} أَيْ: يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي نُزُولِهَا عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {مُسَوَّمَةً} أَيْ مُعْلمَة مَخْتُومَةً، عَلَيْهَا أَسْمَاءُ أَصْحَابِهَا، كُلُّ حَجَرٍ مكتوب عليه اسم الذي ينزل عليه.
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
في ت: "كما قال تعالى".
(4)
زيادة من ت، أ.
(5)
في ت، أ:"أمطر".
(6)
في ت: "وحل"، وفي أ:"وجيل".
(7)
زيادة من ت، أ.
(8)
في أ: "الأباطيل".
(9)
صحيح البخاري (8/352)"فتح".
وَقَالَ قَتَادَةُ وعِكْرِمة: {مُسَوَّمَةً} [أَيْ](1) مُطَوّقة، بِهَا نَضْحٌ مِنْ حُمّرٍة.
وَذَكَرُوا أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَعَلَى الْمُتَفَرِّقِينَ فِي الْقُرَى مِمَّا حَوْلُهَا، فَبَيْنَا أَحَدُهُمْ يَكُونُ عِنْدَ (2) النَّاسِ يَتَحَدَّثُ، إِذْ جَاءَهُ حَجَرٌ مِنَ السَّمَاءِ فَسَقَطَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، فَدَمَّرَهُ، فَتَتْبَعُهُمُ (3) الْحِجَارَةُ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ، حَتَّى أَهْلَكَتْهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَخَذَ جبريلُ قَوْمَ لُوطٍ مِنْ سَرْحهم وَدُورِهِمْ، حَمَلَهُمْ بِمَوَاشِيهِمْ وَأَمْتِعَتِهِمْ، وَرَفَعَهُمْ حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ نُباح كِلَابِهِمْ ثُمَّ أَكْفَأَهُمْ (4) [وَقَالَ] (5) وَكَانَ حَمَلَهُمْ عَلَى خَوَافِي (6) جَنَاحِهِ الْأَيْمَنِ. قَالَ: وَلَمَّا قَلَبَهَا كَانَ أَوَّلَ مَا سَقَطَ مِنْهَا شُذانها (7) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ بِعُرْوَةِ (8) الْقَرْيَةِ الْوُسْطَى، ثُمَّ ألوَى بِهَا إِلَى جَوِّ السَّمَاءِ، حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ (9) ضَوَاغِي كِلَابِهِمْ، ثُمَّ دَمَّرَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ أَتْبَعَ شُذّاذ الْقَوْمِ سُخْرًا (10) -قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَ قُرَى، فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مِائَةُ أَلْفٍ -وَفِي رِوَايَةٍ:[كَانُوا](11) ثَلَاثَ قُرَى، الْكُبْرَى مِنْهَا سَدُوم. قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عليه السلام، كَانَ يُشْرِفُ عَلَى سَدُومَ، وَيَقُولُ: سَدُومُ، يومٌ، مَا لَك؟.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ: بَلَغَنَا أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام، لَمَّا أَصْبَحَ نَشَرَ جَنَاحَهُ، فَانْتَسَفَ بِهِ أَرْضَهُمْ بِمَا فِيهَا مِنْ قُصُورها وَدَوَابِّهَا وَحِجَارَتِهَا وَشَجَرِهَا، وَجَمِيعِ مَا فِيهَا، فَضَمَّهَا فِي جَنَاحِهِ، فَحَوَاهَا وَطَوَاهَا فِي جَوْفِ جَنَاحِهِ، ثُمَّ صَعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حَتَّى سَمِعَ سُكَّانُ السَّمَاءِ أَصْوَاتَ النَّاسِ وَالْكِلَابِ، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفٍ، ثُمَّ قَلَبَهَا، فَأَرْسَلَهَا إِلَى الْأَرْضِ مَنْكُوسَةً، وَدَمْدَم بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، ثُمَّ أَتْبَعَهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظي: كَانَتْ قُرَى قَوْمِ لُوطِ خَمْسَ قَرْيَاتٍ: "سَدُومُ"، وَهِيَ الْعُظْمَى، وَ"صَعْبَةُ"(12) وَ"صعوَةُ" وَ"عِثَرَةُ"(13) وَ"دُومَا"، احْتَمَلَهَا جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ، ثُمَّ صَعِدَ بِهَا، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَيَسْمَعُونَ نَابِحَةَ كِلَابِهَا، وَأَصْوَاتَ دَجَاجِهَا، ثُمَّ كَفَأَهَا عَلَى وَجْهِهَا، ثُمَّ أَتْبَعَهَا اللَّهُ بِالْحِجَارَةِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:{جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} (14) فَأَهْلَكَهَا اللَّهُ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْمُؤْتَفِكَاتِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أَصْبَحَ قَوْمُ لُوطٍ، نَزلَ جِبْرِيلُ فَاقْتَلَعَ الْأَرْضَ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ، فَحَمَلَهَا حَتَّى بَلَّغَ بِهَا السَّمَاءَ، حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا نُبَاحَ كِلَابِهِمْ، وَأَصْوَاتَ دُيُوكِهِمْ، ثم قلبها فقتلهم، فذلك
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
في ت، أ:"بين".
(3)
في ت: "فيتبعهم".
(4)
في ت، أ:"أكفأها".
(5)
زيادة من ت.
(6)
في ت، أ:"حوافي".
(7)
في ت: "شرفاتها".
(8)
في ت: "بعزوة".
(9)
في ت، أ:"سمع الملائكة".
(10)
في ت، أ:"صخرا".
(11)
زيادة من ت، أ.
(12)
في ت، أ:"صبعة".
(13)
في ت، أ:"وعمرة".
(14)
في ت، أ:"فجعلنا".
قَوْلُهُ (1){وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النَّجْمِ: 53] ، وَمَنْ لَمْ يَمُتْ حِينَ سَقَطَ لِلْأَرْضِ، أَمْطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْتَ الْأَرْضِ الْحِجَارَةَ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَاذًّا فِي الْأَرْضِ يَتْبَعُهُمْ فِي الْقُرَى، فَكَانَ الرَّجُلُ يَتَحَدَّثُ فَيَأْتِيهِ الْحَجَرُ فَيَقْتُلُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ (2) عز وجل:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ} أَيْ: فِي الْقُرَى حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. هَكَذَا قَالَ السَّدِّيُّ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} أَيْ: وَمَا هَذِهِ النِّقْمَةُ مِمَّنْ تَشَبَّه بِهِمْ فِي ظُلْمِهِمْ، بِبَعِيدٍ (3) عَنْهُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي السُّنَنِ (4) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا (5)" مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعَمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ"(6) .
وَذَهَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ عَنْهُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ اللَّائِطَ يُقْتَلُ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْصَنًا أَوْ غَيْرَ (7) مُحْصَنٍ، عَمَلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ [رحمه الله إِلَى](8) أَنَّهُ يُلْقَى مِنْ شَاهِقٍ، ويُتبَع بِالْحِجَارَةِ، كَمَا فُعِلَ اللَّهُ بِقَوْمِ لُوطٍ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ
(84) }
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ -وَهُمْ قَبِيلَةٌ مِنَ الْعَرَبِ، كَانُوا يَسْكُنُونَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، قَرِيبًا مِنْ بِلَادِ مَعَانٍ، فِي بَلَدٍ يُعْرَفُ بِهِمْ، يُقَالُ لَهَا "مَدْيَنُ" فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ شُعَيْبًا، وَكَانَ مِنْ أَشْرَفِهِمْ (9) نَسَبًا. وَلِهَذَا قَالَ:{أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ (10) فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} أَيْ: فِي مَعِيشَتِكُمْ وَرِزْقِكُمْ فَأَخَافَ أَنْ تُسلَبوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ بِانْتِهَاكِكُمْ مَحَارِمَ اللَّهِ، {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} (11) أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
(1) في ت، أ:"فذلك حين يقول".
(2)
في ت، أ:"قول الله".
(3)
في ت: "ببعد".
(4)
في ت، أ:"في السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عن عكرمة".
(5)
في ت، أ:"عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال".
(6)
سنن أبي داود برقم (4462) وسنن الترمذي برقم (1456) وسنن ابن ماجة برقم (2561)، وقال الترمذي:"وإنما يعرف هذا الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من هذا الوجه، وروى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو فقال: "ملعون من عمل عمل قوم لوط" ولم يذكر فيه القتل وذكر فيه: "ملعون من أتى بهيمة".
(7)
في ت، أ:"أو لم يكن محصنا".
(8)
زيادة من ت، أ.
(9)
في ت، أ:"أشرافهم".
(10)
في أ: "الطفيف".
(11)
في ت: "عظيم".
{وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ
(85)
بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) }
يَنْهَاهُمْ (1) أَوَّلًا عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إِذَا أَعْطَوُا النَّاسَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِوَفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ بِالْقِسْطِ آخِذِينَ وَمُعْطِينَ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْعَيْثِ (2) فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَقَدْ كَانُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ.
وَقَوْلُهُ: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رِزْقُ اللَّهِ خَيْر لَكُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: رِزْقُ اللَّهِ خَيْرٌ [لَكُمْ](3) مِنْ بَخْسِكُمُ النَّاسَ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: وَصِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَاعَةُ اللَّهِ [خَيْرٌ لَكُمْ](4) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: حَظُّكُمْ مِنَ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: "الْهَلَاكُ" فِي الْعَذَابِ، وَ"الْبَقِيَّةُ" فِي الرَّحْمَةِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} أَيْ: مَا يفضُل لَكُمْ مِنَ الرِّبْحِ بَعْدَ وَفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ {خَيْرٌ لَكُمْ} أَيْ: مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قُلْتُ: وَيُشْبِهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [الْمَائِدَةِ:100] .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أَيْ: بِرَقِيبٍ وَلَا حَفِيظٍ، أَيْ: افْعَلُوا ذَلِكَ لِلَّهِ عز وجل. لَا تَفْعَلُوهُ (5) لِيَرَاكُمُ النَّاسُ، بَلْ لِلَّهِ عز وجل.
يَقُولُونَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، قَبَّحهم اللَّهُ:{أَصَلاتُكَ} (6)، قَالَ الْأَعْمَشُ: أَيْ: قُرْآنُكَ (7){تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أَيِ: الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} فَنَتْرُكُ التَّطْفِيفَ (8) عَلَى قَوْلِكَ، هِيَ أَمْوَالُنَا نَفْعَلُ فِيهَا مَا نُرِيدُ.
[قَالَ الْحَسَنُ](9) فِي قَوْلِهِ: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (10) إيْ وَاللَّهِ، إِنَّ صلاته
(1) في ت، أ:"نهاهم".
(2)
في ت: "العيب".
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
زيادة من ت، أ.
(5)
في ت، "لا تفعلوا".
(6)
في ت: "أصلواتك".
(7)
في أ: "قراءتك".
(8)
في أ: "الطفيف".
(9)
زيادة من ت، أ.
(10)
في ت: "أصلواتك".
لَتَأْمُرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} يَعْنُونَ الزَّكَاةَ.
وَقَوْلُهُمْ: {إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَان، وَابْنُ جُرَيْج، وَابْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُونَ ذَلِكَ -أَعْدَاءُ اللَّهِ -عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُمْ عَنْ رَحْمَتِهِ، وقد فَعَلْ.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
(88) }
يَقُولُ لَهُمْ أَرَأَيْتُمْ يَا قَوْمِ {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أَيْ: عَلَى بَصِيرَةٍ فِيمَا أَدْعُو إِلَيْهِ، {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} قِيلَ: أَرَادَ النُّبُوَّةَ. وَقِيلَ: أَرَادَ الرِّزْقَ الْحَلَّالَ، وَيَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أَيْ: لَا أَنْهَاكُمْ عَنْ شَيْءٍ (1) وَأُخَالِفُ أَنَا فِي السِّرِّ فَأَفْعَلُهُ خُفْيَةً (2) عَنْكُمْ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يَقُولُ: لَمْ أَكُنْ لِأَنْهَاكُمْ عَنْ أَمْرٍ وأركَبَه (3){إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أَيْ: فِيمَا آمُرُكُمْ وَأَنْهَاكُمْ، إِنَّمَا مُرَادِي إِصْلَاحَكُمْ جُهْدِي وَطَاقَتِي، {وَمَا تَوْفِيقِي} أَيْ: فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ فِيمَا أُرِيدُهُ {إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فِي جَمِيعِ أُمُورِي، {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أَيْ: أَرْجِعُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو قَزْعَةَ سُوَيد بْنُ حُجَير (4) الْبَاهِلِيُّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَخَاهُ مَالِكًا قَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ، إِنْ مُحَمَّدًا أَخَذَ جِيرَانِي، فانطَلق إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَلَّمَكَ وَعَرَفَكَ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَقَالَ: دَعْ لِي جِيرَانِي، فَقَدْ كَانُوا أَسْلَمُوا. فَأَعْرَضَ عَنْهُ. [فَقَامَ مُتَمَعطًا] (5) فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ فَعلتَ إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَأْمُرُ بِالْأَمْرِ وَتُخَالِفُ إِلَى غَيْرِهِ. وَجَعَلْتُ أَجُرُّهُ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "مَا تَقُولُ؟ " فَقَالَ: إِنَّكَ وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ. إِنَّ النَّاسَ لَيَزْعُمُونَ أَنَّكَ لَتَأْمُرُ بالأمر وتخالف إلى غيره. قال: فقال: "أوَ قد قالوها -أو قائلهم -وَلَئِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ مَا ذَاكَ إِلَّا عَلَيَّ، وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ، أَرْسِلُوا لَهُ جِيرَانَهُ (6) .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ بَهْز (7) بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جده
(1) في ت، أ:"الشيء".
(2)
في ت: "خيفة".
(3)
في أ: "وأرتكبه".
(4)
في ت: "ابن حجر".
(5)
زيادة من ت، أ، والمسند.،
(6)
المسند (4/447) .
(7)
في ت، أ:"شهر".
قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاسًا مِنْ قَوْمِي فِي تُهَمة فَحَبَسَهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عَلَامَ تَحْبِسُ جِيرَتِي؟ فصَمت رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [عَنْهُ] (1) فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا لَيَقُولُونَ: إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الشَّيْءِ وَتَسْتَخْلِي بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا يَقُولُ؟ " قَالَ: فَجَعَلْتُ أَعْرِضُ بَيْنَهُمَا الْكَلَامَ مَخَافَةَ أَنْ يَسْمَعَهَا فَيَدْعُو عَلَى قَوْمِي دَعوة لَا يُفْلِحُونَ بَعْدَهَا أَبَدًا، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِ حَتَّى فهمها، فقال:"أو قد قَالُوهَا -أَوْ: قَائِلُهَا مِنْهُمْ -وَاللَّهِ لَوْ فعلتُ لَكَانَ عَلَيَّ وَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ، خَلُّوا لَهُ عَنْ جِيرَانِهِ"(2) .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حُمَيْدٍ وَأَبَا أُسَيْدٍ يَقُولَانِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ، فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنكره قُلُوبُكُمْ، وَتَنْفُرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ"(3) .
هَذَا (4) إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ بِهَذَا السَّنَدِ حَدِيثَ:"إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المسجد فليقل: اللهم، افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل: اللهم، إني أسألك من فَضْلِكَ"(5) .
وَمَعْنَاهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: مَهْمَا بَلَغَكُمْ عَنِّي مِنْ خَيْرٍ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ مَكْرُوهٍ فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ [عَنْهُ] } (6) .
وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنْ عَزْرَة (7) عَنِ الْحَسَنِ العُرَني، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَتْ (8) أَتَنْهَى عَنِ الْوَاصِلَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَتِ [الْمَرْأَةُ](9) فَلَعَلَّهُ فِي بَعْضِ نِسَائِكَ؟ فَقَالَ: مَا حَفِظْتُ إِذًا وَصِيَّةَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} .
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعُتْبِيِّ (10) قَالَ: كَانَتْ تَجِيئُنَا كُتُبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَيَكْتُبُ فِي آخِرِهَا: وَمَا كَانَتْ (11) مِنْ ذَلِكَ إِلَّا كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
(1) زيادة من ت، أ، والمسند.
(2)
المسند (5/2) ورواه أبو داود في السنن برقم (3630) عن عبد الرزاق والترمذي في السنن برقم (1417) عن ابن المبارك كلاهما من طريق معمر به مختصرا جدا، وقال الترمذي:"حديث بهز عن أبيه عن جده حديث حسن".
(3)
المسند (3/497) .
(4)
في ت، أ:"وهذا".
(5)
صحيح مسلم برقم (713) .
(6)
زيادة من ت، أ.
(7)
في ت، أ:"عروة".
(8)
في ت: "فقالت".
(9)
زيادة من ت، أ.
(10)
في ت، أ:"الضبي".
(11)
في ت: "وما كنت"، وفي أ:"وما كتب".
{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ
(89)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) }
يَقُولُ لَهُمْ: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} أَيْ: لَا تَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَتِي وَبُغْضِي عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَسَادِ، فَيُصِيبُكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ مِنَ النِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ.
قَالَ قَتَادَةُ: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} يَقُولُ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ فِرَاقِي.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَدَاوَتِي، عَلَى أَنْ تَتَمَادَوْا فِي الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ، فَيُصِيبُكُمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا أَصَابَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي غَنيَّة، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي لَيْلَى الْكِنْدِيِّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ مَوْلَايَ أُمْسِكُ دَابَّتَهُ، وَقَدْ أَحَاطَ النَّاسُ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ؛ إِذْ أَشْرَفَ عَلَيْنَا مِنْ دَارِهِ فَقَالَ:{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} يَا قَوْمِ، لَا تَقْتُلُونِي، إِنَّكُمْ إِنْ تَقْتُلُونِي كُنْتُمْ هَكَذَا، وشَبَّك بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [قِيلَ: الْمُرَادُ فِي الزَّمَانِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} يَعْنِي](1) إِنَّمَا أُهْلِكُوا (2) بَيْنَ أَيْدِيكُمْ بِالْأَمْسِ، وَقِيلَ: فِي الْمَكَانِ، وَيُحْتَمَلُ الْأَمْرَانِ، {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أَيِ: اسْتَغْفِرُوهُ مِنْ سَالِفِ الذُّنُوبِ، وَتُوبُوا فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ، {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} أَيْ: لِمَنْ تَابَ وأناب.
يَقُولُونَ: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} أَيْ: مَا نَفْهَمُ وَلَا نَعْقِلُ كَثِيرًا مِنْ قَوْلِكَ، وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ. {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} .
قَالَ (3) سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالثَّوْرِيُّ: كَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: وَكَانَ يقال له: خطيب الأنبياء.
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
في ت: "هلكوا".
(3)
في ت: "وقال".
[وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} قَالَ: أَنْتَ وَاحِدٌ](1) .
[وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} يَعْنُوُنُ: ذَلِيلًا؛ لِأَنَّ عَشِيرَتَكَ لَيْسُوا عَلَى دِينِكَ، فَأَنْتِ ذَلِيلٌ ضَعِيفٌ](2) .
{وَلَوْلا رَهْطُكَ} أَيْ: قَوْمُكَ وَعَشِيرَتُكَ؛ لَوْلَا مَعَزَّةُ قَوْمِكَ عَلَيْنَا لَرَجَمْنَاكَ، قِيلَ (3) بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: لسبَبْنَاك، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أَيْ: لَيْسَ لَكَ عِنْدَنَا مَعَزَّةٌ.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} يَقُولُ: أَتَتْرُكُونِي لِأَجْلِ قَوْمِي، وَلَا تَتْرُكُونِي إِعْظَامًا لِجَنَابِ اللَّهِ أَنْ تَنَالُوا نَبِيَّهُ بِمَسَاءَةٍ. وَقَدِ اتَّخَذْتُمْ جَانِبَ اللَّهِ {وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أَيْ: نَبَذْتُمُوهُ خَلْفَكُمْ، لَا تُطِيعُونَهُ وَلَا تُعَظِّمُونَهُ، {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أَيْ: هُوَ يَعْلَمُ جَمِيعَ أَعْمَالِكُمْ وَسَيَجْزِيكُمْ بِهَا.
{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ
(93)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) }
لَمَّا يَئِسَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ مِنَ اسْتِجَابَةِ قَوْمِهِ لَهُ، قَالَ: يَا قَوْمِ، {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أَيْ: عَلَى طَرِيقَتِكُمْ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ، {إِنِّي عَامِلٌ} عَلَى طَرِيقَتِي وَمَنْهَجِي {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} أَيْ: مِنِّي وَمِنْكُمْ، {وَارْتَقِبُوا} أَيْ: انْتَظِرُوا {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} وَهُمْ قَوْمُهُ، {الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} وَقَوْلُهُ {جَاثمِيِنَ} أَيْ: هَامِدَيْنِ لَا حِرَاك بِهِمْ. وَذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّهُ أَتَتْهُمْ صَيْحَةٌ، وَفِي الْأَعْرَافِ رَجْفَةٌ، وَفِي الشُّعَرَاءِ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ عَذَابِهِمْ هَذِهِ النقَمُ كُلُّهَا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي كُلِّ سِيَاقٍ مَا يُنَاسِبُهُ، فَفِي الْأَعْرَافِ لَمَّا قَالُوا:{لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} [الْأَعْرَافِ:88] ، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ هُنَاكَ الرَّجْفَةَ، فَرُجِفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ الَّتِي ظَلَمُوا بِهَا، وَأَرَادُوا إِخْرَاجَ نَبِيِّهُمْ مِنْهَا، وَهَاهُنَا لَمَّا أَسَاءُوا الْأَدَبَ فِي مَقَالَتِهِمْ عَلَى نَبِيِّهِمْ نَاسَبَ ذِكْرَ الصَّيْحَةِ الَّتِي أَسْكَتَتْهُمْ (4) وَأَخْمَدَتْهُمْ، وَفِي الشُّعَرَاءِ لَمَّا قَالُوا:{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشُّعَرَاءِ:189]، قَالَ {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشُّعَرَاءِ:189] ، وَهَذَا مِنَ الْأَسْرَارِ الْغَرِيبَةِ الدَّقِيقَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ كَثِيرًا دَائِمًا.
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
في ت: "قتل".
(4)
في ت، أ:"أسكنتهم".
وَقَوْلُهُ: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أَيْ: يَعِيشُوا فِي دَارِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} وَكَانُوا جِيرَانَهُمْ قَرِيبًا مِنْهُمْ فِي الدَّارِ، وَشَبِيهًا بِهِمْ فِي الْكُفْرِ وقَطْع الطَّرِيقِ، وَكَانُوا عرَبا شَبَهَهُمْ.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ
(96)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) }
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ
(98)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِرْسَالِ مُوسَى، عليه السلام، بِآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَحُجَجِهِ وَدَلَائِلِهِ الْبَاهِرَةِ الْقَاطِعَةِ إِلَى فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مَلِكُ دِيَارِ مِصْرَ عَلَى أُمَّةِ الْقِبْطِ، {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أَيْ: مَسْلَكَهُ وَمَنْهَجَهُ وَطَرِيقَتَهُ فِي الْغَيِّ وَالضَّلَالِ، {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أَيْ: لَيْسَ فِيهِ رُشْدٌ وَلَا هُدًى، وَإِنَّمَا هُوَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ، وَكُفْرٌ وَعِنَادٌ، وَكَمَا أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَانَ مُقَدمهم وَرَئِيسَهُمْ، كَذَلِكَ هُوَ يُقدمهم يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، فَأَوْرَدَهُمْ إِيَّاهَا، وَشَرِبُوا مِنْ حِيَاضِ (1) رَدَاها، وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ، مِنَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا} [الْمُزَّمِّلِ:16]، وَقَالَ تَعَالَى:{فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النَّازِعَاتِ:21 -26]، وَقَالَ تَعَالَى:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمَتْبُوعِينَ يَكُونُونَ مُوفرين فِي الْعَذَابِ يَوْمَ الْمَعَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ [قَالَ] لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 38]، (2) وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الكَفَرة إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي النَّارِ:{رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 67، 68] .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْم، حَدَّثَنَا أَبُو الْجَهْمِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "امْرُؤُ الْقَيْسِ حَامِلُ لِوَاءِ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى النَّارِ"(3) .
وَقَوْلُهُ: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} أَيْ: أَتْبَعْنَاهُمْ زِيَادَةً عَلَى مَا جَازَيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ لَعْنَةً فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} .
قَالَ مُجَاهِدٌ: زِيدُوا لَعْنَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَتِلْكَ لَعْنَتَانِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} قَالَ: لَعْنَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وكذا
(1) في ت: "خاص".
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
المسند (2/228) .
قَالَ الضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ (1) تَعَالَى:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [الْقَصَصِ:41، 42]، وَقَالَ تَعَالَى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غَافِرٍ:46] .
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ
(100)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) }
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خَبَرَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ أُمَمِهِمْ، وَكَيْفَ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ ونَجّى الْمُؤْمِنِينَ قَالَ:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى} أَيْ: مِنْ أَخْبَارِهَا {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ} (2) أَيْ: عَامِرٌ، {وَحَصِيدٌ} أَيْ: هَالِكٌ دَائِرٌ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} أَيْ: إِذْ أَهْلَكْنَاهُمْ، {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أَيْ: بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَنَا وَكَفْرِهِمْ بِهِمْ، {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} أَيْ: أَصْنَامُهُمْ وَأَوْثَانُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيَدْعُونَهَا، {مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أَيْ: مَا نَفَعُوهُمْ وَلَا أَنْقَذُوهُمْ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ بِإِهْلَاكِهِمْ، {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} (3) .
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا: أَيْ غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ ودَمَارهم إِنَّمَا كَانَ بِاتِّبَاعِهِمْ تِلْكَ الْآلِهَةَ وَعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا (4) فَبِهَذَا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، وَخَسِرُوا بِهِمْ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَهْلَكْنَا أُولَئِكَ الْقُرُونَ الظَّالِمَةَ الْمُكَذِّبَةَ لِرُسُلِنَا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِنَظَائِرِهِمْ وَأَشْبَاهِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ، {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ ليُملي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفلته"، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (5) .
(1) في ت، أ:"وهذا كقوله".
(2)
في ت: "نقصها" وهو خطأ.
(3)
في ت: "تثبيت".
(4)
في ت: "إياهم".
(5)
صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) .
وَاعْتِبَارًا عَلَى صِدْقِ موعُودنا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ} [غَافِرٍ:51] ، وَقَالَ تَعَالَى:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إِبْرَاهِيمَ:13، 14] .
وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} (1) أَيْ: أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ، كَمَا قَالَ:{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الْكَهْفِ:47] .
{وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} أَيْ: يَوْمٌ عَظِيمٌ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ، وَيَجْتَمِعُ فِيهِ الرُّسُلُ جَمِيعُهُمْ، وَتُحْشَرُ فِيهِ الْخَلَائِقُ بِأَسْرِهِمْ، مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالطَّيْرِ وَالْوُحُوشِ وَالدَّوَابِّ، وَيَحْكُمُ فِيهِمُ (2) الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ} أَيْ: مَا نُؤَخِّرُ إِقَامَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا لِأَنَّهُ (3) قَدْ سَبَقَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ وَقَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ، فِي وُجُودِ أُنَاسٍ مَعْدُودِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَضَرَبَ مُدَّةً مُعَيَّنَةً إِذَا انْقَضَتْ وَتَكَامَلَ وُجُودُ أُولَئِكَ الْمُقَدَّرِ خُرُوجُهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، أَقَامَ اللَّهُ السَّاعَةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ} أَيْ: لِمُدَّةٍ مُؤَقَّتَةٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَلَا يُنْتَقَصُ مِنْهَا، {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ} (4) يَقُولُ: يَوْمَ يَأْتِي هَذَا الْيَوْمُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ [يَوْمَئِذٍ](5) إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النَّبَأِ:38]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} [طَهَ:108]، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ: "وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللهُم سَلّم سَلِّمْ (6)(7) .
وَقَوْلُهُ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} أَيْ: فَمِنْ أَهْلِ الْجَمْعِ شَقِيَ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ، كَمَا قَالَ:{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشُّورَى:7] .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مَسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ (8) سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ (9) رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ:(10) يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَامَ نَعْمَلُ (11) ؟ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرغ مِنْهُ، أَمْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ فَقَالَ: "عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ يا عمر وجرت به الأقلام،
(1) قبلها في ت، أ:"إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة".
(2)
في أ: "فيه".
(3)
في ت، أ:"إلا أنه".
(4)
في ت: "يأتي" وفي أ. "يأتيهم".
(5)
زيادة من ت.
(6)
في ت: "اللهم سلم اللهم سلم".
(7)
صحيح البخاري برقم (806) وصحيح مسلم برقم (182) .
(8)
في ت، أ:"أبو".
(9)
في أ: "عمر بن الخطاب".
(10)
في ت: "فقلت".
(11)
في ت: "على ما يعمل".
وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" (1) .
ثُمَّ بَيَّنَ (2) تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ وَحَالَ السُّعَدَاءِ، فَقَالَ:
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ
(106)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) }
يَقُولُ تَعَالَى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزَّفِيرُ فِي الْحَلْقِ، وَالشَّهِيقِ فِي الصَّدْرِ أَيْ: تَنَفُّسُهُمْ زَفِيرٌ، وَأَخْذُهُمُ النَّفَسَ شَهِيقٌ، لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَصِفَ الشَّيْءَ بِالدَّوَامِ أَبَدًا قَالَتْ: "هَذَا دَائِمٌ دوامَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ"، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: هُوَ بَاقٍ مَا اخْتَلَفَ الليلُ وَالنَّهَارُ، وَمَا سَمَّرَ ابْنًا سَمير، وَمَا لَأْلَأَتِ العُفْر (3) بِأَذْنَابِهَا. يَعْنُونَ بِذَلِكَ كَلِمَةَ:"أَبَدًا"، فَخَاطَبَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} .
قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ: الْجِنْسُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ مِنْ سَمَوَاتٍ وَأَرْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إِبْرَاهِيمَ:48] ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} قَالَ: تُبَدُّلُ سَمَاءٌ غَيْرَ (4) هَذِهِ السَّمَاءِ، وَأَرْضٌ غَيْرَ هَذِهِ الْأَرْضِ، فَمَا دَامَتْ تِلْكَ السَّمَاءُ وَتِلْكَ الْأَرْضُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قوله:{مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} قَالَ: لِكُلِّ جَنَّةِ سَمَاءٌ وَأَرْضٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: مَا دَامَتِ الْأَرْضُ أَرْضًا، وَالسَّمَاءُ سَمَاءً.
وَقَوْلُهُ: {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الْأَنْعَامِ: 128] .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، حَكَاهَا الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ "زَادُ الْمَسِيرِ"(5) وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، وَنَقَلَ كَثِيرًا مِنْهَا الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، رحمه الله، فِي كِتَابِهِ (6) وَاخْتَارَ هُوَ مَا نَقَلَهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَان، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي سِنَان، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَيْضًا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَائِدٌ عَلَى العُصاة مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، مِمَّنْ يُخْرِجُهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ الشافعين، من الملائكة والنبيين والمؤمنين،
(1) ورواه الترمذي في السنن برقم (3111) عن بندار، عن أبي عامر العقدي - عبد الملك بن عمرو به - وقال التِّرْمِذِيُّ:"هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لا نعرفه إلا من حديث عبد الملك بن عمرو".
(2)
في أ: "وبين".
(3)
في ت::الغفر".
(4)
في ت: "يبدل بهما غير".
(5)
زاد المسير (4/160، 161) .
(6)
تفسير الطبري (15/485) .
حِينَ يَشْفَعُونَ فِي أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، ثُمَّ تَأْتِي رَحْمَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، فَتُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَقَالَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَضْمُونِ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ (1) ، وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ فِيهَا وَلَا مَحِيدَ لَهُ عَنْهَا. وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِهَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ (2) ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، مِنَ الصَّحَابَةِ. وَعَنْ أَبِي مِجْلَز، وَالشَّعْبِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ التَّابِعَيْنَ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ -أَقْوَالٌ غَرِيبَةٌ. وَوَرَدَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ صُدَىّ بْنِ عَجْلان الْبَاهِلِيِّ، وَلَكِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِثُنْيَاهُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النِّسَاءِ:57] .
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
(108) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، {فَفِي الْجَنَّةِ} أَيْ: فَمَأْوَاهُمُ الْجَنَّةُ، {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ: مَاكِثِينَ مُقِيمِينَ فِيهَا أَبَدًا، {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ هَاهُنَا: أَنْ دَوَامَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، لَيْسَ أَمْرًا وَاجِبًا بِذَاتِهِ، بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَهُ الْمِنَّةُ عَلَيْهِمْ [دَائِمًا](3) ، وَلِهَذَا يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفس.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ فِي حَقِّ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي النَّارِ، ثُمَّ أُخْرِجُوا مِنْهَا. وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أَيْ: غَيْرَ مَقْطُوعٍ (4) -قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْمَشِيئَةَ أَنَّ ثَمَّ انْقِطَاعًا، أَوْ لَبْسًا، أَوْ شَيْئًا (5) بَلْ خَتَمَ لَهُ بِالدَّوَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ. كَمَا بَيَّنَ هُنَا (6) أَنَّ عَذَابَ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ دَائِمًا مَرْدُودٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُ (7) بعَدْله وَحِكْمَتِهِ عَذَّبَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هُودٍ:107] كَمَا قَالَ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ:23]، وَهُنَا طَيَّبَ الْقُلُوبَ وثَبَّت المقصود بقوله:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} .
(1) انظر أحاديث الشفاعة عند تفسير سورة الإسراء في أولها.
(2)
في ت: "وابن مسعود وابن عباس".
(3)
زيادة من ت، أ.
(4)
في أ: "منقطع".
(5)
في ت: "ثم انقطاع أو لبس أو شيء".
(6)
في ت، أ:"هناك".
(7)
في ت: "وأن".
يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُود فَلَا (1) مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلَا (2) مَوْتَ (3) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ (4) أَيْضًا: "فَيُقَالُ (5) يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنْ لَكُمْ أَنْ تَعِيشُوا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أن تشبوا فلا تهْرَموا أبدا، وإن لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أن تنعموا فلا تبَأسوا أبدا"(6) .
(1) في ت، أ:"بلا".
(2)
في ت، أ:"بلا".
(3)
صحيح البخاري برقم (4730) وصحيح مسلم برقم (2849) من حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه.
(4)
في أ: "وفي الصحيح".
(5)
في ت، أ:"فقال".
(6)
صحيح مسلم برقم (2837) من حديث أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما، ولم أعثر عليه في البخاري.
{فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ
(109)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) }
يَقُولُ تَعَالَى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} الْمُشْرِكُونَ، إِنَّهُ بَاطِلٌ وجَهل وَضَلَالٌ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ، أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ مُستَنَد فِيمَا هُمْ فِيهِ إِلَّا اتِّبَاعُ الْآبَاءِ فِي الْجَهَالَاتِ، وَسَيَجْزِيهِمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءَ فَيُعَذِّبُ كَافِرَهُمْ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ حَسَنَاتٌ فَقَدْ وَفَّاهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَابِرٍ الجُعْفي، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} قَالَ: مَا (1) وُعِدُوا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لَمُوَفُّوهُمْ مِنَ الْعَذَابِ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَى مُوسَى الْكِتَابَ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَمِنْ مُؤْمِنٍ بِهِ، وَمِنْ كَافِرٍ بِهِ، فَلَكَ بِمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ يَا مُحَمَّدُ أُسْوَةٌ، فَلَا يَغِيظَنَّكَ تَكْذِيبُهُمْ لَكَ، وَلَا يهيدنَّك ذَلِكَ.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَأْجِيلِهِ الْعَذَابَ (2) إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، لَقَضَى اللَّهُ بَيْنَهُمْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ، أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بِعَدَمِ (3) قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الْإِسْرَاءِ:15] ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طَهَ:129، 130] .
(1) في ت: "وبما".
(2)
في ت: "العباد" وفي أ: "الميعاد".
(3)
في ت، أ:"إلا بعد".
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ فِي شَكٍّ -مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ -قَوِيٍّ، فَقَالَ {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} .
ثُمَّ أَخْبَرَنَا (1) تَعَالَى أَنَّهُ سَيَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ مِنَ الْأُمَمِ، وَيَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، فَقَالَ:{وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أَيْ: عَلِيمٌ بِأَعْمَالِهِمْ جَمِيعِهَا، جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قِرَاءَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَيَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يَس:32] .
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(112)
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) }
يَأْمُرُ تَعَالَى رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَمُخَالَفَةِ الْأَضْدَادِ وَنَهَى عَنِ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ الْبَغْيُ، فَإِنَّهُ مَصرَعة حَتَّى وَلَوْ كَانَ عَلَى مُشْرِكٍ. وَأَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّهُ بَصِيرٌ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، لَا يَغْفُلُ عَنْ شَيْءٍ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تُدهنُوا وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الرُّكُونُ إِلَى الشِّرْكِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا تَرْضَوْا أَعْمَالَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَا تَمِيلُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَهَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ، أَيْ: لَا تَسْتَعِينُوا بِالظَّلَمَةِ فَتَكُونُوا كَأَنَّكُمْ قَدْ رَضِيتُمْ بِبَاقِي صَنِيعِهِمْ، {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ مَنْ دُونِهِ (2) مَنْ وَلِيٍّ يُنْقِذُكُمْ، وَلَا نَاصِرٍ يُخَلِّصُكُمْ مِنْ عَذَابِهِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} قَالَ: يَعْنِي الصُّبْحَ وَالْمَغْرِبَ وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ -فِي رِوَايَةٍ -وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ: هِيَ الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الصُّبْحُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ مِنْ آخِرِهِ. وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظي، والضحاك في رواية عنه.
(1) في ت، أ:"ثم أخبر".
(2)
في أ: "من دون الله".
وَقَوْلُهُ: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُهُمْ: يَعْنِي صَلَاةَ الْعِشَاءِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ -فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالة، عَنْهُ:{وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} يَعْنِي الْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هُمَا زُلْفَتَا (1) اللَّيْلِ: الْمَغْرِبُ وَالْعَشَاءُ"(2) . وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: إِنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ.
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَجِبُ مِنَ الصَّلَاةِ صَلَاتَانِ: صَلَاةٌ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَصَلَاةٌ قَبْلَ غُرُوبِهَا. وَفِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ قِيَامٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأُمَّةِ، ثُمَّ نُسِخَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، وَثَبَتَ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ نُسِخَ عَنْهُ أَيْضًا، فِي قَوْلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} يَقُولُ: إِنَّ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ السَّالِفَةَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كُنْتُ إِذَا سمعتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي عَنْهُ أَحَدٌ اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ -وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ -أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، فَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، إِلَّا غَفَرَ لَهُ"(3) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّهُ تَوَضَّأَ لَهُمْ كوضُوء رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رأيتُ رَسُولَ اللَّهِ يَتَوَضَّأُ، وَقَالَ:"مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّث فِيْهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(4) .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَقِيل زُهْرَة بْنِ مَعْبَد: أَنَّهُ سَمِعَ الْحَارِثَ مَوْلَى عُثْمَانَ يَقُولُ: جَلَسَ عُثْمَانُ يَوْمًا وَجَلَسْنَا مَعَهُ، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ فَدَعَا عُثْمَانُ بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ أَظُنُّهُ سَيَكُونُ فِيهِ قَدْرَ مُدّ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ:"مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى (5) صَلَاةَ الظُّهْرِ، غُفِر لَهُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَشَاءَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ لَعَلَّهُ يَبِيتُ يَتَمَرَّغُ لَيْلَتَهُ، ثُمَّ إِنْ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الصُّبْحَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَهُنَّ الْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ"(6) .
وَفِي الصَّحِيحِ (7) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أن
(1) في ت: "زلفيا".
(2)
رواه الطبري في تفسيره (15/508) .
(3)
المسند (1/2) وسنن أبي داود برقم (1521) وسنن الترمذي برقم (406) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10247) وسنن ابن ماجه برقم (1395) وقال الترمذي: "حديث علي حَدِيثٌ حَسَنٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الوجه".
(4)
صحيح البخاري برقم (159) وصحيح مسلم برقم (245) .
(5)
في ت: "يصلي".
(6)
المسند (1/71) وتفسير الطبري (15/511) .
(7)
في ت: "وفي الصحيحين".
نَفْسِهَا، {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أَيْ قَدْ: وَصَلَ حُبُّهُ إِلَى شَغَافِ قَلْبِهَا. وَهُوَ غِلَافُهُ.
قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّغَف: الْحُبُّ الْقَاتِلُ، والشَّغَف دُونَ ذَلِكَ، وَالشَّغَافُ: حِجَابُ الْقَلْبِ.
{إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أَيْ: فِي صَنِيعِهَا هَذَا مِنْ حُبِّهَا فَتَاهَا، وَمُرَاوَدَتِهَا إِيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} قَالَ بَعْضُهُمْ: بِقَوْلِهِنَّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: بَلْ (1) بَلَغهُنَّ حُسْنُ يُوسُفَ، فَأَحْبَبْنَ أَنْ يَرَيْنَهُ، فَقُلْنَ ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلْنَ إِلَى رُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} أَيْ: دَعَتْهُنَّ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتُضَيِّفَهُنَّ {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ: هُوَ الْمَجْلِسُ الْمُعَدُّ، فِيهِ مَفَارِشُ وَمَخَادُّ وَطَعَامٌ، فِيهِ مَا يُقْطَعُ بِالسَّكَاكِينِ مَنْ أُتْرُجٍّ (2) وَنَحْوِهِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} وَكَانَ هَذَا مَكِيدَةً مِنْهَا، وَمُقَابَلَةً لَهُنَّ فِي احْتِيَالِهِنَّ عَلَى رُؤْيَتِهِ، {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ خَبَّأَتْهُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، {فَلَمَّا} خَرَجَ وَ {رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أَيْ: أَعَظَمْنَ شَأْنَهُ، وَأَجْلَلْنَ قَدْرَهُ؛ وَجَعَلْنَ يُقَطِّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ دَهَشا بِرُؤْيَتِهِ، وَهُنَّ يَظْنُنَّ أَنَّهُنَّ يُقَطِّعْنَ الْأُتْرُجَّ (3) بِالسَّكَاكِينِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُنَّ حَزَّزْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِهَا، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ: قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ حَتَّى أَلْقَيْنَهَا، فَاللَّهُ (4) أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أنها قالت لهن بعدما أَكَلْنَ وَطَابَتْ أَنْفُسُهُنَّ، ثُمَّ وَضَعَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ أُتْرُجًّا (5) وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا: هَلْ لَكُنَّ فِي النَّظَرِ إِلَى يُوسُفَ؟ قُلْنَ: نَعَمْ. فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ تَأْمُرُهُ أَنِ اخْرُجْ إِلَيْهِنَّ (6) فَلَمَّا رَأَيْنَهُ جَعَلْنَ يَقْطَعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، ثُمَّ أَمَرَتْهُ أَنْ يَرْجِعَ فَرَجَعَ لِيَرَيْنَهُ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا، وَهُنَّ يُحَزُّزْنَ فِي أَيْدِيهِنَّ، فَلَمَّا أَحْسَسْنَ بِالْأَلَمِ جَعَلْنَ يُوَلْوِلْنَ، فَقَالَتْ: أَنْتُنَّ مِنْ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلْتُنَّ هَكَذَا، فَكَيْفَ أُلَامُ أَنَا؟ فَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ، ثُمَّ قُلْنَ لَهَا: وَمَا نَرَى عَلَيْكِ مِنْ لَوْمٍ بَعْدَ الَّذِي رَأَيْنَا، لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَرَيْنَ فِي الْبَشَرِ شَبَهَهُ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (7) كَانَ قَدْ أُعْطِي شَطْرَ الْحُسْنِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِيُوسُفَ، عليه السلام، فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، قَالَ:"فَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ"(8)
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيَ يوسف وأمه شطر
(1) في ت، أ:"قيل".
(2)
في ت، أ:"أترنج".
(3)
في: "الأترج".
(4)
في أ: "والله".
(5)
في أ: "أترنجا".
(6)
في أ: "عليهن".
(7)
في ت، أ:"وسلامه".
(8)
رواه مسلم في صحيحه برقم (162) من حديث أنس رضي الله عنه.
بِقَتْلِهِ، قَالَ لَهُمْ:{أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} لتردنَّه إِلَيْهِ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ كَيْفَ تَعَذَّرَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ لَكُمْ مِنْ إِضَاعَةِ يُوسُفَ عَنْهُ، {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ} أَيْ: لَنْ أُفَارِقَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ، {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ رَاضِيًا عَنِّي، {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} قِيلَ: بِالسَّيْفِ. وَقِيلَ: بِأَنْ يُمَكِّنَنِي مِنْ أَخْذِ أَخِي، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (1) .
ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يُخْبِرُوا أَبَاهُمْ بِصُورَةِ مَا وَقَعَ، حَتَّى يَكُونَ عُذْرًا لَهُمْ عِنْدَهُ وَيَتَنَصَّلُوا إِلَيْهِ، وَيَبْرَءُوا مِمَّا وَقَعَ بِقَوْلِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: مَا [كُنَّا](2) نَعْلَمُ أَنَّ ابْنَكَ سَرَقَ (3) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: مَا عَلِمْنَا فِي الْغَيْبِ أَنَّهُ يَسْرِقُ (4) لَهُ شَيْئًا، إِنَّمَا سَأَلَنَا (5) مَا جَزَاءُ السَّارِقِ؟
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} قِيلَ: الْمُرَادُ مِصْرُ. قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ: غَيْرُهَا، {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أَيِ: الَّتِي رَافَقْنَاهَا، عَنْ صِدْقِنَا وَأَمَانَتِنَا وَحِفْظِنَا وَحِرَاسَتِنَا، {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فِيمَا أَخْبَرْنَاكَ بِهِ، مِنْ أَنَّهُ سَرَقَ وَأَخَذُوهُ بِسَرِقَتِهِ.
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
(83)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) }
قَالَ لَهُمْ كَمَا قَالَ لَهُمْ حِينَ جَاءُوا عَلَى قَمِيصِ يُوسُفَ بِدَمٍ كَذِبٍ: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا جَاءُوا يَعْقُوبَ وَأَخْبَرُوهُ بِمَا يَجْرِي اتِّهَمَهُمْ، وَظَنَّ أَنَّهَا كَفَعْلَتِهِمْ بِيُوسُفَ {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (6) .
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَمَّا كَانَ صَنِيعُهُمْ (7) هَذَا مُرَتَّبًا عَلَى فِعْلِهِمُ الْأَوَّلِ، سُحب (8) حُكْمُ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَصَحَّ قَوْلُهُ:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}
ثُمَّ تَرَجَّى (9) مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَوْلَادَهُ الثَّلَاثَةَ: يُوسُفَ وأخاه بنيامين، وروبيل الذي أقام بديار
(1) في ت، أ:"أحكم الحاكمين" وهو خطأ.
(2)
زيادة من ت، أ.
(3)
في ت: "يسرق".
(4)
في ت، أ:"سرق".
(5)
في ت، أ:"سألناه".
(6)
في ت، أ:"فقال" وهو خطأ.
(7)
في ت: "صبرنا".
(8)
في ت: "اسحب"، وفي أ:"استحب".
(9)
في ت: "يرجى".