الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الشِّرْكَ حَادِثٌ فِي النَّاسِ، كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ، وعُبدت الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ وَالْأَوْثَانُ، فَبَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ بِآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ وحُجَجه الْبَالِغَةِ وَبَرَاهِينِهِ الدَّامِغَةِ، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الْأَنْفَالِ: 42] .
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَيْ: لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ؛ وَأَنَّهُ قَدْ أَجَّلَ الْخَلْقَ إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ لَقَضَى بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ اخْتَلَفُوا، فَأَسْعَدَ الْمُؤْمِنِينَ، وأعنَتَ الْكَافِرِينَ.
{وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ
(20) }
أَيْ: وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ [الْمُلْحِدُونَ](1) الْمُكَذِّبُونَ الْمُعَانِدُونَ: "لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ"، يَعْنُونَ كَمَا أَعْطَى اللَّهُ ثَمُودَ النَّاقَةَ، أَوْ أَنْ (2) يُحَوِّلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبَا، أَوْ يُزِيحَ عَنْهُمْ جِبَالَ مَكَّةَ وَيَجْعَلَ مَكَانَهَا بَسَاتِينَ وَأَنْهَارًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا اللَّهُ عَلَيْهِ قَادِرٌ (3) وَلَكِنَّهُ حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الْفُرْقَانِ: 10، 11] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الْإِسْرَاءِ: 59]، يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ سُنَّتِي فِي خَلْقِي أَنِّي إِذَا آتَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، فَإِنْ آمَنُوا وَإِلَّا عَاجَلْتُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ. وَلِهَذَا لَمَّا خيَّر رَسُولُ اللَّهِ، عليه الصلاة والسلام، بَيْنَ أَنْ يُعطى مَا سَأَلُوا، فَإِنْ أَجَابُوا وَإِلَّا عُوجلوا، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُمْ ويُنْظرهم، اخْتَارَ إِنْظَارَهُمْ، كَمَا حَلَمَ عَنْهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى إِرْشَادًا لِنَبِيِّهِ إِلَى الْجَوَابِ عَمَّا سَأَلُوا:{فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} أَيْ: الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ الْعَوَاقِبَ فِي الْأُمُورِ، {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تُؤَمِّنُونَ حَتَّى تُشَاهِدُوا مَا سَأَلْتُمْ فَانْتَظَرُوا حُكْمَ اللَّهِ فيَّ وَفِيكُمْ. هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، عليه السلام (4) أَعْظَمَ مِمَّا سَأَلُوا حِينَ أَشَارَ بِحَضْرَتِهِمْ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ إِبْدَارِهِ، فَانْشَقَّ بِاثْنَتَيْنِ (5) فِرْقَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ، وَفِرْقَةٍ مِنْ دُونِهِ. وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ سَائِرِ الْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ مِمَّا سَأَلُوا وَمَا لَمْ يَسْأَلُوا، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ سَأَلُوا ذَلِكَ اسْتِرْشَادًا وَتَثَبُّتًا لَأَجَابَهُمْ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، فَتَرَكَهُمْ فِيمَا رَابَهُمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُ (6) مِنْهُمْ أَحَدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ: 96، 97]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111] ،
(1) زيادة من ت، أ.
(2)
في ت، أ:"وأن".
(3)
في ت: "مما الله قادر عليه".
(4)
في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(5)
في ت، أ:"باثنين".
(6)
في ت، أ:"ولكن ممن لم يؤمن".