الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سَأَلَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ الَّتِي سَأَلَهَا مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ فِيمَا قال له: أو كُنْتُمْ (1) تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: هِرَقْلُ فَمَا كَانَ ليَدع الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عز وجل.
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(106)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) }
أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّنْ كَفَرَ بِهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالتَّبَصُّرِ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ بِالْكُفْرِ وَاطْمَأَنَّ بِهِ: أَنَّهُ قَدْ غَضب عَلَيْهِ، لِعِلْمِهِمْ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ عُدُولِهِمْ عَنْهُ، وَأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا عَظِيمًا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَأَقْدَمُوا (2) عَلَى مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الرِّدَّةِ لِأَجْلِ (3) الدُّنْيَا، وَلَمْ يَهْدِ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَيُثَبِّتْهُمْ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ، فَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا (4) يَعْقِلُونَ بِهَا شَيْئًا يَنْفَعُهُمْ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا، وَلَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ شَيْئًا، فَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ.
{لَا جَرَمَ} أَيْ: لَا بُدَّ وَلَا عَجَبَ أَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، {أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أَيِ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهَالِيهِمْ (5) يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِمَّنْ (6) كَفَرَ بِلِسَانِهِ وَوَافَقَ الْمُشْرِكِينَ بِلَفْظِهِ مُكْرَهًا لِمَا نَالَهُ مِنْ ضَرْبٍ وَأَذًى، وَقَلْبُهُ يَأْبَى مَا يَقُولُ، وَهُوَ مُطَمْئِنٌ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَقَدْ رَوَى العَوفِيّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عمَّار بْنِ يَاسِرٍ، حِينَ عَذَّبَهُ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى يَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُكرَها (7) وَجَاءَ مُعْتَذِرًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَأَبُو مَالِكٍ وَقَتَادَةُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَور، عَنْ مَعْمَر، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الجَزَريّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ [بْنِ] (8) مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ (9) بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَعَذَّبُوهُ حَتَّى قَارَبَهُمْ فِي بَعْضِ مَا أَرَادُوا، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ " قَالَ: مُطَمْئِنًا بِالْإِيمَانِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ عَادُوا فَعُدْ"(10) .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِأَبْسَطَ مِنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، وَأَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ
(1) في ف: "أفكنتم".
(2)
في ت: "فما قدموا".
(3)
في ت: "الردة إلا لأجل".
(4)
في أ: "فهم لا".
(5)
في ت: "وأهليتهم".
(6)
في ت: "فمن".
(7)
في ف، أ:"مستكرهًا".
(8)
زيادة من ت، ف، أ، والطبري.
(9)
في ت: "على".
(10)
تفسير الطبري (14/ 122) .
اللَّهِ، مَا تُركتُ حَتَّى سَببتك وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ! قَالَ:"كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ " قَالَ: مُطَمْئِنًا بِالْإِيمَانِ. فَقَالَ: "إِنْ عَادُوا فَعُدْ". وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} (1) .
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوَالى المكرَه عَلَى الْكُفْرِ، إِبْقَاءً لِمُهْجَتِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَقْتِلَ، كَمَا كَانَ بِلَالٌ رضي الله عنه يَأْبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَهُمْ يَفْعَلُونَ بِهِ الْأَفَاعِيلَ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَيَضَعُونَ الصَّخْرَةَ الْعَظِيمَةَ عَلَى صَدْرِهِ فِي شدَّة الْحَرِّ، وَيَأْمُرُونَهُ أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ فَيَأْبَى عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: أحَد، أحَد. وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ (2) أَغْيَظُ لَكُمْ مِنْهَا لَقُلْتُهَا، رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ. وَكَذَلِكَ حَبِيبُ بْنُ زَيْدٍ (3) الْأَنْصَارِيُّ لَمَّا قَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَسْمَعُ. فَلَمْ يَزَلْ يُقَطِّعُهُ إرْبًا إرْبًا وَهُوَ ثَابِتٌ عَلَى ذَلِكَ (4) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمة، أَنَّ عَلِيًّا، رضي الله عنه، حَرَّق نَاسًا ارْتَدَوْا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأُحَرِّقَهُمْ بِالنَّارِ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ". وَكُنْتُ قَاتِلَهُمْ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: وَيْحَ أُمِّ ابْنِ (5) عَبَّاسٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (6) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَر، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْد بْنِ هِلَالٍ العَدَويّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: قَدِمَ عَلَى أَبِي مُوسَى معاذُ بْنُ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ، فَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ (7) رَجُلٌ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ تَهَوَّدَ، وَنَحْنُ نُرِيدُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ مُنْذُ -قَالَ: أَحْسَبُ-شَهْرَيْنِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْعُدُ (8) حَتَّى تَضْرِبُوا عُنُقَهُ. فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. فَقَالَ: قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّ مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ-أَوْ قَالَ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ (9) .
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظٍ آخَرَ (10) .
وَالْأَفْضَلُ وَالْأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ الْمُسْلِمُ عَلَى دِينِهِ، وَلَوْ أَفْضَى إِلَى قَتْلِهِ، كَمَا قَالَ (11) الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافة السَّهْمِيِّ أَحَدِ الصَّحَابَةِ: أَنَّهُ أَسَرَتْهُ الرُّومُ، فَجَاءُوا بِهِ إِلَى (12) مَلِكِهِمْ، فَقَالَ لَهُ: تَنَصَّرْ وَأَنَا أُشْرِكُكَ فِي مُلْكِي وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي. فَقَالَ لَهُ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي جَمِيعَ مَا تَمْلِكُ وَجَمِيعَ مَا تَمْلِكُهُ الْعَرَبُ، عَلَى أَنْ أَرْجِعَ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ طَرْفَةَ عَيْنٍ، مَا فَعَلْتُ! فَقَالَ: إِذًا أَقْتُلُكَ. قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ! فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ، وَأَمَرَ الرُّمَاةَ فَرَمَوْهُ قَرِيبًا مِنْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَهُوَ يَعْرِضُ عليه دين
(1) سنن البيهقي الكبرى (8/ 209) .
(2)
زيادة من ت، ف، أ.
(3)
في ف: "يزيد".
(4)
انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (1/ 327) وأسد الغابة لابن الأثير (1/ 443) .
(5)
في ت، ف:"ابن أم".
(6)
المسند (1/ 217) وصحيح البخاري برقم (6922) .
(7)
في ت: "فقال".
(8)
في ف: "قعدتك".
(9)
المسند (5/ 231)
(10)
صحيح البخاري برقم (6923) وصحيح مسلم برقم (1733) .
(11)
في ف، أ:"كما ذكر".
(12)
في ف: "عند".