الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَعَالَى: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ أَيْ مِنْ تِلْكَ الْوَرْطَةِ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي كان لم يكن من ذلك شَيْءٌ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَيْ إِنَّمَا يَذُوقُ وَبَالَ هَذَا الْبَغْيِ أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ وَلَا تَضُرُّونَ بِهِ أَحَدًا غَيْرَكُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» «1» وَقَوْلُهُ: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ إِنَّمَا لَكُمْ مَتَاعٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الدَّنِيئَةِ الْحَقِيرَةِ ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ أَيْ مَصِيرُكُمْ وَمَآلُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ أَيْ فَنُخْبِرُكُمْ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ وَنُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
ضرب تبارك وتعالى مَثَلًا لِزَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَسُرْعَةِ انْقِضَائِهَا وَزَوَالِهَا، بِالنَّبَاتِ الَّذِي أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَرْضِ، بماء أنزل من السماء، مما يأكل الناس من زروع وَثِمَارٍ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا، وَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ مِنْ أَبٍّ وَقَضْبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها أَيْ زِينَتَهَا الْفَانِيَةَ وَازَّيَّنَتْ أَيْ حَسُنَتْ بِمَا خَرَجَ مِنْ رُبَاهَا مِنْ زُهُورٍ نَضِرَةٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ وَظَنَّ أَهْلُها الَّذِينَ زَرَعُوهَا وَغَرَسُوهَا أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أي على جذاذها وحصادها، فبينما هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهَا صَاعِقَةٌ أَوْ رِيحٌ شديدة بَارِدَةٌ، فَأَيْبَسَتْ أَوْرَاقَهَا وَأَتْلَفَتْ ثِمَارَهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً أي يابسا بعد الْخُضْرَةِ وَالنَّضَارَةِ كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أَيْ كَأَنَّهَا مَا كَانَتْ حَسْنَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ كَأَنَّ لَمْ تَنْعَمْ، وَهَكَذَا الْأُمُورُ بَعْدَ زَوَالِهَا كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ.
وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال لَهُ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا فَيُغْمَسُ فِي النَّعِيمِ غَمْسَةً ثُمَّ يُقَالُ لَهُ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ لَا» «2» وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُهْلَكِينَ:
فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها [هُودٍ: 94- 95] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أَيْ نُبَيِّنُ الْحُجَجَ وَالْأَدِلَّةَ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فَيَعْتَبِرُونَ بِهَذَا الْمَثَلِ فِي زَوَالِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِهَا سَرِيعًا مَعَ اغْتِرَارِهِمْ بِهَا، وَتَمَكُّنِهِمْ وثقتهم بمواعيدها وتفلتها عنهم، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِهَا الْهَرَبَ مِمَّنْ طَلَبَهَا، وَالطَّلَبَ لمن هرب منها.
(1) أخرجه أبو داود في الأدب باب 43، وابن ماجة في الزهد باب 23.
(2)
أخرجه ابن ماجة في الزهد باب 38.
وقد ضرب الله تعالى مثل الدُّنْيَا بِنَبَاتِ الْأَرْضِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الْكَهْفِ: 45] وَكَذَا فِي سُورَةِ الزُّمَرِ «1» والحديد «2» ، يضرب الله بذلك مثل الحياة الدنيا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَرْوَانَ يَعْنِي ابْنَ الْحَكَمِ، يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عليها، وما كان الله ليهلكهم إِلَّا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا. قَالَ قَدْ قَرَأْتُهَا وَلَيْسَتْ فِي الْمُصْحَفِ، فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ هَكَذَا يَقْرَؤُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ هَكَذَا أَقْرَأَنِي أُبَيُّ بن كعب، وهذه قراءة غريبة وكأنها زيدت للتفسير.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ الْآيَةَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الدنيا وسرعة زَوَالِهَا، رَغَّبَ فِي الْجَنَّةِ وَدَعَا إِلَيْهَا وَسَمَّاهَا دَارَ السَّلَامِ أَيْ مِنَ الْآفَاتِ، وَالنَّقَائِصِ وَالنَّكَبَاتِ فقال:
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قَالَ أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قِيلَ لِي لِتَنَمْ عَيْنُكَ وَلْيَعْقِلْ قَلْبُكَ وَلْتَسْمَعْ أُذُنُكَ، فَنَامَتْ عَيْنِي وَعَقَلَ قَلْبِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي ثم قيل لي: مثلي ومثل ما جئت كمثل سَيِّدٌ بَنَى دَارًا ثُمَّ صَنَعَ مَأْدُبَةً وَأَرْسَلَ دَاعِيًا فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ من المأدبة ولو يرض عنه السيد، والله السيد والدار والإسلام وَالْمَأْدُبَةُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم «4» » وهذا الحديث مُرْسَلٌ.
وَقَدْ جَاءَ مُتَّصِلًا مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ «إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلِي يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اضْرِبْ لَهُ مَثَلًا، فَقَالَ اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُكَ، وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ، إِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ فَاللَّهُ الْمَلِكُ وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ الرَّسُولُ فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ الْإِسْلَامَ وَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ منها» رواه ابن جرير «5» .
(1) الآية: 21.
(2)
الآية: 20.
(3)
تفسير الطبري 6/ 547.
(4)
انظر تفسير الطبري 6/ 548.
(5)
تفسير الطبري 6/ 549.