الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتكون اللام معللة لما جعل الله للكافرين من مال ينفقونه فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ إِنَّمَا أَقْدَرْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ أَيْ مَنْ يُطِيعُهُ بِقِتَالِ أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ، أو يعصيه بالنكول عن ذلك كقوله: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ [آل عمران: 166- 167] الآية وَقَالَ تَعَالَى: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران: 179] الآية.
وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آلِ عمران: 142] ونظيرها فِي بَرَاءَةَ أَيْضًا فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا إِنَّمَا ابْتَلَيْنَاكُمْ بِالْكُفَّارِ يُقَاتِلُونَكُمْ وَأَقْدَرْنَاهُمْ عَلَى إِنْفَاقِ الأموال وبذلها في ذلك لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ أَيْ يَجْمَعَهُ كُلَّهُ وَهُوَ جَمْعُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّحَابِ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أَيْ مُتَرَاكِمًا مُتَرَاكِبًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيْ هَؤُلَاءِ هُمُ الْخَاسِرُونَ فِي الدنيا والآخرة.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 38 الى 40]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا أَيْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُشَاقَّةِ وَالْعِنَادِ وَيَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِنَابَةِ يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ أَيْ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وائل عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» «1» وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا» «2» .
وَقَوْلُهُ وَإِنْ يَعُودُوا أَيْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى مَا هُمْ فيه فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أَيْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُنَا فِي الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ إِذَا كَذَّبُوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى عِنَادِهِمْ أَنَّا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة. قال مجاهد في قوله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أَيْ فِي قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أي يوم بدر.
وقوله تَعَالَى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ قال البخاري «3» : حدثنا
(1) أخرجه البخاري في المرتدين باب 1، وابن ماجة في الزهد باب 29. [.....]
(2)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 199، 204، 205.
(3)
كتاب التفسير، تفسير سورة 8، باب 5.
الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ بكر بن عمر عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أن رجلا جاء فقال: يا أبا عبد الرحمن ألا تصنع مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الآية فما يمنعك أن لا تُقَاتِلَ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أُعَيَّرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا أُقَاتِلُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعَيَّرَ بِالْآيَةِ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ عز وجل وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً [النساء: 93] إلى آخر الآية قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ قَدْ فعلنا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا وَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إِمَّا أَنْ يَقْتُلُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُوثِقُوهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُوَافِقُهُ فِيمَا يريد قال فما قولكم في علي وعثمان؟ قال ابن عمر أما قَوْلِي فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ، أَمَّا عُثْمَانُ فَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا عَنْهُ وَكَرِهْتُمْ أَنْ يَعْفُوَ الله عَنْهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَتَنَهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ وَهَذِهِ ابْنَتُهُ أَوْ بِنْتُهُ حَيْثُ تَرَوْنَ.
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا بَيَانٌ أن ابن وَبْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا أَوْ إِلَيْنَا ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فقال كَيْفَ تَرَى فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ؟ كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً، وَلَيْسَ بِقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ «1» . هَذَا كُلُّهُ سياق البخاري رحمه الله تعالى وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلَانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَنَعُوا مَا تَرَى وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ قَالَ يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ دَمَ أَخِي الْمُسْلِمِ.
قَالُوا أَوْ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ؟ قَالَ قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ.
وكذا روى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّخْمِيِّ، قَالَ كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، قَالَ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لم تكن فتنة، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَكَذَا رَوَاهُ حَمَّادُ بن سلمة، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَاتَلْتُ أَنَا وَأَصْحَابِي حَتَّى كَانَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَذَهَبَ الشِّرْكُ وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَلَكِنَّكَ وَأَصْحَابَكَ تُقَاتِلُونَ حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ، رَوَاهُمَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ: عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ ذُو الْبُطَيْنِ، يَعْنِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ: لَا أُقَاتِلُ رَجُلًا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَبَدًا. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أُقَاتِلُ رَجُلًا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَبَدًا، فَقَالَ رَجُلٌ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ؟ فَقَالَا: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. رَوَاهُ ابْنُ مردويه، وقال
(1) راجع الحاشية السابقة.
الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، يعني لَا يَكُونَ شِرْكٌ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ومجاهد والحسن وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: بَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا، حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، حَتَّى لَا يُفْتَنَ مُسْلِمٌ عَنْ دِينِهِ.
وَقَوْلُهُ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ قَالَ الضَّحَّاكُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ يُخْلِصُ التَّوْحِيدَ لِلَّهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أَنْ يُقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَيَكُونَ التَّوْحِيدُ خَالِصًا لِلَّهِ، لَيْسَ فِيهِ شِرْكٌ، وَيَخْلَعَ مَا دُونَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، لَا يَكُونُ مَعَ دِينِكُمْ كُفْرٌ، ويشهد لهذا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عز وجل» «1» وفيهما عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل؟ فَقَالَ:«مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل» «2» .
وَقَوْلُهُ فَإِنِ انْتَهَوْا أَيْ بِقِتَالِكُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ فَكَفُّوا عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا بواطنهم فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، كقوله فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5] ، الآية، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ [التَّوْبَةِ: 11] ، وَقَالَ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: 193] وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأُسَامَةَ، لَمَّا عَلَا ذَلِكَ الرَّجُلَ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِأُسَامَةَ:«أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا الله يوم القيامة؟ فقال يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا، قَالَ «هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟» وَجَعَلَ يَقُولُ وَيُكَرِّرُ عَلَيْهِ، «مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» قَالَ أُسَامَةُ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لم أكن أسلمت إلا يومئذ «3» .
وَقَوْلُهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ، أَيْ وَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى خِلَافِكُمْ وَمُحَارَبَتِكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ، وسيدكم وناصركم على أعدائكم فنعم المولى
(1) أخرجه البخاري في الإيمان 17، ومسلم في الإيمان حديث 34، 36.
(2)
أخرجه البخاري في العلم باب 45، ومسلم في الإمارة حديث 150، 151.
(3)
أخرجه مسلم في الإيمان حديث 158، وأبو داود في الجهاد باب 95، وابن ماجة في الفتن باب 1، وأحمد في المسند 4/ 439، 5/ 207.
وَنِعْمَ النَّصِيرُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُرْوَةُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي، عَنْ مُخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ، وَسَأُخْبِرُكَ بِهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بالله، كان من شأن خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ، أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ، فَنِعْمَ النَّبِيُّ وَنِعْمَ السَّيِّدُ وَنِعْمَ الْعَشِيرَةُ، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَعَرَّفَنَا وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَحْيَانَا عَلَى ملته وأماتنا وبعثنا عليها، وَإِنَّهُ لَمَّا دَعَا قَوْمَهُ لِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ به مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَمْ يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه، وكانوا يسمعون له، حتى إذا ذَكَرَ طَوَاغِيتَهُمْ.
وَقَدِمَ نَاسٌ مِنَ الطَّائِفِ مِنْ قريش لهم أموال، أنكر ذلك عليه ناس وَاشْتَدُّوا عَلَيْهِ، وَكَرِهُوا مَا قَالَ وَأَغْرَوْا بِهِ من أطاعهم، فانعطف عَنْهُ عَامَّةُ النَّاسِ، فَتَرَكُوهُ إِلَّا مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَهُمْ قَلِيلٌ فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا قدر الله أن يمكث، ثم ائتمرت رؤوسهم بِأَنْ يَفْتِنُوا مَنِ اتَّبَعَهُ عَنْ دِينِ اللَّهِ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، فَكَانَتْ فِتْنَةٌ شَدِيدَةُ الزِّلْزَالِ، فَافْتَتَنَ مَنِ افْتَتَنَ وَعَصَمَ اللَّهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا فُعِلَ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ، أَمَرَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يَخْرُجُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ بِالْحَبَشَةِ مَلِكٌ صَالِحٌ، يُقَالُ لَهُ النَّجَاشِيُّ، لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ بِأَرْضِهِ، وَكَانَ يُثْنَى عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ أَرْضُ الْحَبَشَةِ مَتْجَرًا لِقُرَيْشٍ يَتَّجِرُونَ فِيهَا، وَكَانَتْ مساكن لِتُجَّارِهِمْ يَجِدُونَ فِيهَا رَفَاغًا مِنَ الرِّزْقِ، وَأَمْنًا وَمَتْجَرًا حَسَنًا، فَأَمَرَهُمْ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ إِلَيْهَا عَامَّتُهُمْ لَمَّا قُهِرُوا بمكة، وخافوا عَلَيْهِمُ الْفِتَنَ، وَمَكَثَ هُوَ فَلَمْ يَبْرَحْ.
فَمَكَثَ بِذَلِكَ سَنَوَاتٍ يَشْتَدُّونَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ فَشَا الْإِسْلَامُ فِيهَا، وَدَخَلَ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ اسْتَرْخَوُا اسْتِرْخَاءَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَتِ الْفِتْنَةُ الْأُولَى: هي التي أَخْرَجَتْ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَخَافَتَهَا، وَفِرَارًا مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْفِتَنِ وَالزِّلْزَالِ فَلَمَّا اسْتُرْخِيَ عَنْهُمْ وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ تُحُدِّثَ بِاسْتِرْخَائِهِمْ عَنْهُمْ، فَبَلَغَ مَنْ كَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدِ اسْتُرْخِيَ عَمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ بِمَكَّةَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، فَرَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ وَكَادُوا يَأْمَنُونَ بِهَا، وَجَعَلُوا يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ، وَأَنَّهُ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ بالمدينة ناس كثير.
وفشا الإسلام بالمدينة وَطَفِقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ ذلك، توامروا عَلَى أَنْ يَفْتِنُوهُمْ وَيَشْتَدُّوا، فَأَخَذُوهُمْ فَحَرَصُوا عَلَى أَنْ يَفْتِنُوهُمْ، فَأَصَابَهُمْ جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَكَانَتِ الْفِتْنَةُ الآخرة، فَكَانَتْ فِتْنَتَانِ: فِتْنَةٌ أَخْرَجَتْ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ حِينَ أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَفِتْنَةٌ: لَمَّا رَجَعُوا وَرَأَوْا مَنْ يأتيهم من
(1) تفسير الطبري 6/ 246، 247.