الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة النحل (16) : الآيات 126 الى 128]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَاّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
يَأْمُرُ تعالى بالعدل في القصاص وَالْمُمَاثَلَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ إِنْ أَخَذَ مِنْكُمْ رجل شيئا فخذوا مِثْلَهُ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانُوا قَدْ أُمِرُوا بِالصَّفْحِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَأَسْلَمَ رِجَالٌ ذَوُو مَنَعَةٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لو أذن الله لنا لا تنصرنا مِنْ هَؤُلَاءِ الْكِلَابِ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النَّحْلِ كُلُّهَا بِمَكَّةَ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا نَزَلَتْ بالمدينة بعد أحد حين قُتِلَ حَمْزَةُ رضي الله عنه وَمُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بِثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ» فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ قَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ بِأَحَدٍ قَطُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، وَهَذَا مُرْسَلٌ وَفِيهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ لَمْ يُسَمَّ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُتَّصِلٍ، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا صَالِحُ الْمُرِّيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عَلَى حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه حِينَ اسْتُشْهِدَ، فَنَظَرَ إِلَى مَنْظَرٍ لَمْ ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه، أو قال لقلبه، فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ:
فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ السُّورَةِ وَقَرَأَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَكَفَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي عَنْ يَمِينِهِ وَأَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا إِسْنَادٌ فِيهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّ صَالِحًا هُوَ ابْنُ بَشِيرٍ الْمُرِّيُّ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فِيمَنْ مُثِّلَ بِهِمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ فَأَنْزَلَ الله فيهم ذلك.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ: حَدَّثَنَا هَدِيَّةُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قُتِلَ مِنَ الْأَنْصَارِ سِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَئِنْ كَانَ لَنَا يَوْمٌ مِثْلُ هَذَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قَالَ رَجُلٌ: لَا تُعْرَفُ قُرَيْشٌ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَنَادَى مُنَادٍ: إِنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قد آمَنَ الْأَسْوَدَ وَالْأَبْيَضَ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا- نَاسًا سَمَّاهُمْ- فأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ إِلَى آخَرِ السورة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«نَصْبِرُ وَلَا نُعَاقِبُ» «1» .
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لَهَا أَمْثَالٌ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَدْلِ وَالنَّدْبِ إِلَى الْفَضْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] الآية. وَقَالَ: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ثُمَّ قَالَ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [الْمَائِدَةِ: 45] وَقَالَ فِي هذه الآية: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ثُمَّ قَالَ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
وقوله تعالى: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بالصبر وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ، وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى مَنْ خالفك فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ ذَلِكَ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ أَيْ غَمٍّ مِمَّا يَمْكُرُونَ أَيْ مِمَّا يُجْهِدُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي عَدَاوَتِكَ وَإِيصَالِ الشَّرِّ إِلَيْكَ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ وَمُؤَيِّدُكَ وَمُظْهِرُكَ وَمُظْفِرُكَ بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أَيْ مَعَهُمْ بِتَأْيِيدِهِ وَنَصْرِهِ ومعونته وهديه وسعيه وَهَذِهِ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ كَقَوْلِهِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الْأَنْفَالِ: 12] وَقَوْلِهِ لِمُوسَى وَهَارُونَ: لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلصِّدِّيقِ وَهُمَا فِي الْغَارِ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَةِ: 40] وَأَمَّا الْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ فَبِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الْحَدِيدِ: 4] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا [الْمُجَادَلَةِ: 7] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً [يونس: 61] الآية، وَمَعْنَى الَّذِينَ اتَّقَوْا أَيْ تَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ، وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أَيْ فَعَلُوا الطَّاعَاتِ، فَهَؤُلَاءِ اللَّهُ يَحْفَظُهُمْ وَيَكْلَؤُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ وَيُؤَيِّدُهُمْ وَيُظْفِرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَمُخَالِفِيهِمْ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حدثنا مسعر عن عون عن محمد بن حاطب:
كَانَ عُثْمَانُ رضي الله عنه مِنَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ النحل، ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
(1) أخرجه أحمد في المسند 5/ 135.