الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُبَيِّنُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ جَهْلَهُمْ وَكُفْرَهُمْ فِيمَا زَعَمُوهُ لِلَّهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ، وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهَا عَبِيدٌ له كما كانوا يقولون في تلبيتهم فِي حَجِّهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، فَقَالَ تعالى منكرا عليهم: أنتم لَا تَرْضَوْنَ أَنْ تُسَاوُوا عَبِيدَكُمْ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ، فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيد لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّعْظِيمِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [الروم: 28] الآية، قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَقُولُ لَمْ يَكُونُوا لِيُشْرِكُوا عَبِيدَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ عَبِيدِي مَعِي فِي سُلْطَانِي، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ: فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي مَا لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي هذه الآية: هذا مثل الآلهة الْبَاطِلَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، فهل منكم من أحد يشاركه مَمْلُوكَهُ فِي زَوْجَتِهِ وَفِي فِرَاشِهِ، فَتَعْدِلُونَ بِاللَّهِ خَلْقَهُ وَعِبَادَهُ؟ فَإِنْ لَمْ تَرْضَ لِنَفْسِكَ هَذَا، فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُنَزَّهَ مِنْكَ.
وَقَوْلُهُ: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أَيْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا، فَجَحَدُوا نَعَمْتَهُ، وَأَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه هَذِهِ الرِّسَالَةَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: وَاقْنَعْ بِرِزْقِكَ مِنَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الرَّحْمَنَ فَضَّلَ بَعْضَ عباده على بعض في الرزق بلاء يَبْتَلِي بِهِ كُلًّا، فَيَبْتَلِي مَنْ بَسَطَ لَهُ كَيْفَ شُكْرُهُ لِلَّهِ وَأَدَاؤُهُ الْحَقَّ الَّذِي افْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيمَا رَزَقَهُ وَخَوَّلَهُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم.
[سورة النحل (16) : آية 72]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى عَبِيدِهِ بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَزْوَاجًا من جنسهم وشكلهم، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَتِهِ خَلَقَ مِنْ بَنِي آدَمَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَجَعَلَ الْإِنَاثَ أَزْوَاجًا لِلذُّكُورِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ مِنَ الْأَزْوَاجِ الْبَنِينَ وَالْحَفَدَةَ وَهُمْ أَوْلَادُ الْبَنِينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ، قَالَ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير عن ابن عباس: بنين وحفدة، وهم الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ «1» . وَقَالَ سُنَيْدٌ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عباس قال: بنوك حيث يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك، قال جميل:[الكامل]
حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَوْلَهُنَّ وَأَسْلَمَتْ
…
بأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةَ الْأَجْمَالِ «2»
(1) انظر تفسير الطبري 7/ 619.
(2)
البيت للفرزدق في زيادات الطبعة الأولى من جمهرة اللغة ص 504، الهامش، وليس في ديوانه، ولجميل بثينة في ملحق ديوانه ص 246، وبلا نسبة في لسان العرب (حفد) ، وجمهرة اللغة ص 504، وكتاب العين 3/ 185، ونسبة الطبري في تفسيره 7/ 619 لحميد، والبيت ليس في ديوانه حميد بن ثور.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَنِينَ وَحَفَدَةً ابْنَهُ وَخَادِمَهُ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: الْحَفَدَةُ الْأَنْصَارُ وَالْأَعْوَانُ وَالْخُدَّامُ، وَقَالَ طاوس وغير واحد: الْحَفَدَةُ الْخَدَمُ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو مَالِكٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْحَفَدَةُ مَنْ خَدَمَكَ مِنْ وَلَدِكَ وَوَلَدِ ولدك «1» ، قال الضحاك: إنما كانت العرب تخدمها بَنُوهَا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً يَقُولُ: بَنُو امْرَأَةِ الرَّجُلِ لَيْسُوا مِنْهُ، وَيُقَالُ: الْحَفَدَةُ الرَّجُلُ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّجُلِ. يُقَالُ: فُلَانٌ يحفد لنا أي يعمل لنا، قال:
وزعم رجال أن الحفدة أختان الرجل، وهذا الْأَخِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ وَأَبُو الضُّحَى وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْقُرَظِيُّ، وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمُ الْأَصْهَارُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي مَعْنَى الحفدة، وَهُوَ الْخِدْمَةُ الَّذِي مِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْقُنُوتِ: وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْخِدْمَةُ قَدْ تكون من الأولاد والخدم والأصهار، فَالنِّعْمَةُ حَاصِلَةٌ بِهَذَا كُلِّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً.
قُلْتُ: فَمَنْ جَعَلَ وَحَفَدَةً مُتَعَلِّقًا بِأَزْوَاجِكُمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَوْلَادَ وَأَوْلَادَ الْأَوْلَادِ وَالْأَصْهَارَ، لِأَنَّهُمْ أزواج البنات أو أولاد الزوجة، وكذا قال الشعبي والضحاك، فإنهم يكونون غالبا تَحْتَ كَنَفِ الرَّجُلِ وَفِي حِجْرِهِ وَفِي خِدْمَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام في حديث نضرة بْنِ أَكْثَمَ «وَالْوَلَدُ عَبْدٌ لَكَ» «2» رَوَاهُ أَبُو داود. وأما من جعل الحفدة الْخَدَمُ، فَعِنْدَهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أي جعل لكم الأزواج والأولاد خدما.
وقوله: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ أَشْرَكَ فِي عِبَادَةِ الْمُنْعِمِ غَيْرَهُ: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وهم الأنداد والأصنام وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ أَيْ يَسْتُرُونَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَيُضِيفُونَهَا إِلَى غَيْرِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إن الله يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُمْتَنًّا عَلَيْهِ: أَلَمْ أُزَوِّجْكَ؟ أَلَمْ أُكْرِمْكَ؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟» «3» .
(1) انظر تفسير الطبري 7/ 619. [.....]
(2)
أخرجه أبو داود في النكاح باب 37.
(3)
أخرجه مسلم في الزهد حديث 16، والترمذي في القيامة باب 6، وأحمد في المسند 2/ 492، 4/ 378، 379.