الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما أشبه هذه الآيات بقوله تعالى في (سورة محمد) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ. أي: تأمرنا بالجهاد، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
…
إلى قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ [محمد: 20- 29] وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ أي الجهاد في سبيلك لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي: هلا عافيتنا وتركتنا حتى نموت بآجالنا قُلْ أي: تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود من المتاع الفاني، وترغيبا فيما ينالونه بالجهاد من النعيم الباقي مَتاعُ الدُّنْيا أي ما يتمتع وينتفع به في الدنيا قَلِيلٌ سريع التقضي، وشيك الانصرام. وإن أخرتم إلى ذلك الأجل وَالْآخِرَةُ أي: ثوابها الذي من جملته الثواب المنوط بالجهاد خَيْرٌ أي: لكم من ذلك المتاع الفاني، لكثرته وعدم انقطاعه، وصفائه عن الكدورات.
وإنما قيل لِمَنِ اتَّقى حثّا لهم على اتقاء العصيان والإخلال بموجب التكليف.
وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا عطف على مقدر. ينسحب عليه الكلام. أي: تجزون فيها ولا تنقصون أدنى شيء من أجور أعمالكم، التي من جملتها مسعاكم في شأن القتال.
فلا ترغبوا عنه. (والفتيل) ما في شق النواة من الخيط. يضرب به المثل في القلة والحقارة. وقرئ (يظلمون) بالياء، إعادة للضمير إلى ظاهر (من) . أفاده أبو السعود.
روى ابن أبي حاتم قال: قرأ الحسن: قل متاع الدنيا قليل. قال: رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك. وما الدنيا كلها، أولها وآخرها، إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه. وقال ابن معين: كان أبو مصهر ينشد:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له
…
من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالا فإنها
…
متاع قليل والزوال قريب
ثم بين تعالى أنه لا ينفعهم الفرار من الموت. لأنه لا خلاص لهم منه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (4) : آية 78]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)
أَيْنَما تَكُونُوا أي: في أي مكان تكونوا عند الأجل يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ أي:
الذي لأجله تكرهون القتال، زعما منكم أنه من مظانه. وتحبون القعود عنه، على زعم أنه منجاة منه. أي: وإذا كان لا بد من الموت، فبأن يقع على وجه يكون مستعقبا للسعادة الأبدية، كان أولى من أن لا يكون كذلك. ونظير هذه الآية قوله تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: 16] . وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ أي حصون مُشَيَّدَةٍ أي: مرفوعة مستحكمة. لا يصل إليها القاتل الإنسانيّ. لكنها لا تمنع القاتل الإلهيّ. كما قال زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
…
ولو رام أسباب السماء بسلّم
وقد ذكر ابن جرير «1» وابن أبي حاتم هاهنا حكاية مطولة عن مجاهد. والشاهد منها هنا أنها كانت أخبرت بأنها تموت بالعنكبوت. فاتخذ لها زوجها قصرا منيعا شاهقا ليحرزها من ذلك. فبينما هم يوما فإذا العنكبوت في السقف. فأراها إياها فقالت: أهذه التي تحذرها عليّ؟ والله! لا يقتلها إلا أنا. فأنزلوها من السقف.
فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها. فطار من سمّها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها. واسودت رجلها. فكان في ذلك أجلها. فماتت.
ولما حكى تعالى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد. خائفين من الموت، غير راغبين في سعادة الآخرة، أتبع ذلك بخلّة لهم أشنع، بقوله سبحانه وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ كخصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحوها يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي من قبله، لما علم فينا الخير وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ كقحط وجدب، وغلاء السعر، ونقص في الزروع والثمار، وموت أولاد ونتاج، ونحو ذلك يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ يعنون: من شؤمك. كما قال تعالى عن قوم فرعون: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: 131] .
وعن قوم صالح: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ [النمل: 47] .
قال أبو السعود: فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يرد زعمهم الباطل ويرشدهم إلى الحق ويلقمهم الحجر، ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال. إذ لا يجترءون على معارضة أمر الله عز وجل حيث قيل قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى، خلقا وإيجادا، من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء
(1) الأثر رقم 9958. [.....]