الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لما قبله من إثابتهم عند توبتهم. و (ما) استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده. أي: أيّ شيء يفعل الله سبحانه بتعذيبكم؟ أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثار؟ أم يستجلب به نفعا؟ أم يستدفع به ضررا؟ كما هو شأن الملوك. وهو الغنيّ المتعالي عن أمثال ذلك. وإنما هو أمر يقتضيه كفركم. فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر، انتفى التعذيب لا محالة. وتقديم (الشكر) على (الإيمان) لما أنه طريق موصل إليه. فإن الناظر يدرك أوّلا ما عليه من النعم الأنفسية والآفاقية فيشكر شكرا مبهما. ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً الشكر منه تعالى المجازاة والثناء الجميل. كما في (القاموس) . ويرحم الله ابن القيم حيث يقول في (الكافية الشافية) :
وهو الشكور فلن يضيّع سعيهم
…
لكن يضاعفه بلا حسبان
ما للعباد عليه حق واجب
…
هو أوجب الأجر العظيم الشان
كلا ولا عمل لديه ضائع
…
إن كان بالإخلاص والإحسان
إن عذّبوا فبعدله، أو نعّموا
…
فبفضله، والحمد للرحمن
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (4) : آية 148]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَاّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أي: لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالقبيح من القول إِلَّا مَنْ ظُلِمَ إلا جهر المظلوم بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء. فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه، حتى إنه يجيب دعاءه. ومعلوم أن أنواع الظلم كثيرة. فما نقل عن السلف هنا من ذكر نوع منه، فليس المراد حصر معنى الآية فيه. بل القصد تنبيه المستمع على النوع. فمن ذلك ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس «1» في الآية، يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما. فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه. وذلك قوله إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وإن صبر فهو خير له. ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق وابن إسحاق وهنّاد بن السريّ عن مجاهد قال: هي في رجل أضاف رجلا فأساء قراه، فتحول عنه.
فجعل يثني عليه بما أولاه. فرخص له أن يثني عليه بما أولاه. وفي رواية عنه: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن. وفي
(1) تفسير الطبريّ، الأثر رقم 10749.
رواية: هو الضيف المحول رحله. فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول.
قال ابن كثير: وقد روى الجماعة (سوى النسائيّ والترمذيّ) عن عقبة بن عامر «1» قال: قلنا: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا. فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم.
وروى الإمام أحمد «2» عن المقدام أبي كريمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقا على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله.
وروى هو وأبو داود «3» عنه أيضا. سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليلة الضيف واجبة على كل مسلم.
فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا عليه. فإن شاء اقتضاه وإن شاء تركه
. ومن هذا القبيل
الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارا يؤذيني. فقال له: أخرج متاعك فضعه على الطريق. فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق. فكل من مرّ به قال: ما لك؟ قال جاري يؤذيني.
فيقول: اللهم! العنه. اللهم! أخزه. قال فقال الرجل: ارجع إلى منزلك. والله! لا أوذيك أبدا. ورواه أبو داود «4» في كتاب الأدب.
وقال عبد الكريم بن مالك الجزريّ، في هذه الآية. هو الرجل يشتمك فتشتمه. ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه. لقوله تعالى وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41] . وقال قطرب: معنى الآية: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول، من كفر أو نحوه. فهو مباح له. وسئل المرتضى عنها فقال: لا يحب الله ذلك ولا يجيزه لفاعله. إلا من ظلم. وذلك مثل ما كان من مردة قريش وفعلهم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من العقاب والضرب، ليشتموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبرءوا منه. ففعل ذلك عمار. فخلّوه وصلبوا صاحبه. فأطلق لمن فعل به هكذا أن يتكلم بما ليس في قلبه. وفي عمار وصاحبه نزل قول الله في سورة النحل: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [النحل: 106] . فكانت هذه الآية مبينة لما في قلب عمار من شحنه بالإيمان. انتهى.
(1) أخرجه البخاريّ في: الأدب، 85- باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه، حديث 1213. [.....]
(2)
أخرجه في المسند 1/ 454.
(3)
أخرجه في المسند 4/ 130.
(4)
أخرجه أبو داود في: الأدب، 123- باب في حق الجوار، حديث 5153.