الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ بالكفر والضلال إِلَّا قَلِيلًا أي: إلا قليلا منكم ممن تفضل الله عليه بعقل صائب فاهتدى به إلى الحق والصواب، وعصمه عن متابعة الشيطان. كمن اهتدى إلى الحق في زمن الفترة. كقس بن ساعدة وأضرابه. وهم عشرة. وقد أوضحت شأنهم في كتابي (إيضاح الفطرة في أهل الفترة) في (الفصل الرابع عشر) فانظره. ونقل الرازيّ عن أبي مسلم الأصفهانيّ، أن المراد بفضل الله ورحمته، هنا، هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم: فأفوز فوزا عظيما. أي: لولا تتابع النصرة والظفر لاتبعتم الشيطان وتوليتم إلا القليل منكم من المؤمنين من أهل البصيرة الذين يعلمون أنه ليس مدار الحقية على النصر في كل حين. واستحسن هذا الوجه الرازيّ وقال: هو الأقرب إلى التحقيق. قال الخفاجيّ: لارتباطه بما بعده. هذا، وزعم بعضهم أن قوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا مستثنى من قوله (أذاعوه) أو (لعلمه) واستدل به على أن الاستثناء لا يتعين صرفه لما قبله. قال: لأنه لو كان مستثنى من جملة (اتبعتم) فسد المعنى لأنه يصير عدم اتباع القليل للشيطان ليس بفضل الله. وهو لا يستقيم. وبيان لزومه أن (لولا) حرف امتناع لوجود. وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان. فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى، ضرورة. وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان بأنفسهم. ألا تراك إذا قلت (لمن تذكره بحقك عليه) : لولا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا، كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب.
وإنما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله، لا في كله. ومن المحال أن يعتقد مسلم أنه عصم في شيء من اتباع الشيطان، إلا بفضله تعالى عليه. هذا ملخص ما قرره صاحب الانتصاف، وهوّل فيه. ولا يخفى أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به لتبادره فيه، أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه. واللازم ممنوع.
لأن المراد بالفضل والرحمة معنى مخصوص. وهو ما بيناه. فإن عدم الاتباع، إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص، لا ينافي أن يكون بفضل آخر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (4) : آية 84]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَاّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تلوين للخطاب، وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق
الالتفات. وهو جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم. أي: إذا كان الأمر، كما حكى من عدم طاعة المنافقين وكيدهم، فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا. قاله أبو السعود. لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أي: إلا فعل نفسك. بالتقدم إلى الجهاد. فإن الله هو ناصرك، لا الجنود. فإن شاء نصرك وحدك، كما ينصرك وحولك الألوف. أي: ومن نكل، فلا عليك منه ولا تؤاخذ به.
قال الرازيّ: دلت الآية على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال.
لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو صلى الله عليه وسلم موصوف بهذه الصفات. ولقد اقتدى به أبو بكر «1» رضي الله عنه حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة. ومن علم أن الأمر كله بيد الله، وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلّا بقضاء الله، سهل ذلك عليه.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال: سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدوّ فيقاتل، فيكون ممن قال الله فيه: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ؟ قال: قد قال الله تعالى لنبيه: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ.
ورواه الإمام أحمد «2» أيضا عنه قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا. إن الله بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ. إنما ذلك في النفقة. وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي على الخروج معك وعلى القتال. ورغبهم فيه وشجعهم عليه. كما
قال لهم «3» صلى الله عليه وسلم، يوم بدر، وهو يسوي الصفوف: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض
. وقد وردت
(1)
جاء في صحيح البخاريّ في: الزكاة، 1- باب وجوب الزكاة، حديث 743 و 744 ما نصه: عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضي الله عنه. وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قالها، فقد عصم ماله ونفسه، إلا بحقه. وحسابه على الله» ؟
فقال: والله! لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة. فإن الزكاة حق المال: والله! لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فو الله! ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه، فعرفت أنه الحق
. (2) أخرجه في المسند 4/ 281.
(3)
أخرج مسلم في: الإمارة، حديث 145 ما نصه: عن أنس بن مالك قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان. فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فحدثه الحديث. قال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فقال: إن لنا طلبة. فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا: فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة. فقال «لا. إلا من كان ظهره حاضرا» .
أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك. منها: ما
رواه البخاريّ «1» عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله.
بين كل درجتين كما بين السماء والأرض»
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ أي: يمنع بَأْسَ أي: قتال الَّذِينَ كَفَرُوا وهم كفار مكة. أي: بتحريضك إياهم على القتال، تبعث هممهم على مناجزة الأعداء ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم.
قال أبو السعود: وقوله تعالى: عَسَى
…
إلخ عدة منه سبحانه وتعالى محققة الإنجاز بكف شدة الكفرة ومكروههم. فإن ما صدر ب (لعل وعسى) مقرر الوقوع من جهته عز وجل. وقد كان كذلك. حيث روي في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيان، بعد حرب أحد، موسم بدر الصغرى في ذي القعدة. فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج. وخرج في شعبان سنة أربع في سبعين راكبا. ووافوا الموعد وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب. فرجعوا من مرّ الظهران. انتهى، بزيادة.
وقال في ذلك عبد الله بن رواحة (وقيل كعب بن مالك) :
فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى سبقوا المشركين إلى بدر. وجاء المشركون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يقدّمنّ أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه» فدنا المشركون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» قال يقول عمير بن الحمام الأنصاريّ: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال «نعم» قال: بخ بخ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما يحملك على قولك بخ بخ» ؟ قال: لا. والله! يا رسول الله! إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال «فإنك من أهلها» .
فأخرج تمرات من قرنه (جعبة النشاب) فجعل يأكل منهن. ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة.
قال فرمى بما كان معه من التمر. ثم قاتلهم حتى قتل
. (1)
أخرجه البخاريّ في: الجهاد، 4- باب درجات المجاهدين في سبيل الله حديث 1335 ونصه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة وصام رمضان، كان حقّا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها» .
فقالوا: يا رسول الله! أفلا نبشر الناس؟
قال: إن في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله. ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة. أراه فوقه عرش الرحمن. ومنه تفجّر أنهار الجنة»
.