الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب (الرد على الجهمية) في باب (بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن) وساق مثل ما تقدم عن ابن عباس. ثم قال: فهذا تفسير ما شكّت فيه الزنادقة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر في جماعة كانوا يشربونها ثم يصلّون. أي من مقتضى إيمانكم الحياء من الله. ومن الحياء منه أن لا تقوموا إلى الصلاة وأنتم سكارى لا تعلمون ما تخاطبونه. فالحياء من الله يوجب ذلك. وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه، للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهي. وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة، مع أن المراد هو النهي عن إقامتها، للمبالغة في ذلك.
قال الحافظ ابن كثير: كان هذا النهي قبل تحريم الخمر. كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: 219] . الآية. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر. فقال: اللهم! بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه. فقال: اللهم! بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات. حتى نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:
90-
91] . فقال عمر: انتهينا. انتهينا.
ولفظ أبي داود «1» عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر فذكر الحديث.
وفيه: نزلت الآية التي في النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ. فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة، ينادي: لا يقربن الصلاة سكران.
(1) أخرجه في: الأشربة، 1- باب في تحريم الخمر، حديث 3670.
وروى ابن أبي شيبة وابن حاتم عن سعد رضي الله عنه قال: نزلت فيّ أربع آيات:
صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار. فأكلنا وشربنا حتى سكرنا. ثم افتخرنا. فرفع رجل لحى بعير فغرز بها أنف سعد فكان سعد مغروز الأنف وذلك قبل تحريم الخمر. فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى. الآية. والحديث بطوله عند مسلم «1» ورواه أهل السنن إلا ابن ماجة.
وروى أبو داود «2» والنسائيّ عن عليّ رضي الله عنه، أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر. فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ.
فخلط فيها. فنزلت: لا تَقْرَبُوا. الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن عليّ رضي الله عنه: قال صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر. فأخذت الخمر منا. وحضرت الصلاة. فقدموا فلانا. قال: فقرأ قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون. فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا. الآية. وكذا رواه الترمذي «3» وقال: حسن صحيح وَلا جُنُباً عطف على قوله وَأَنْتُمْ سُكارى إذ الجملة في موضع النصب على الحال. والجنب الذي أصابته الجنابة. يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع. لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي مارّين بلا لبث حَتَّى تَغْتَسِلُوا من الجنابة: أي لا تقربوا موضع الصلاة، وهو المسجد، وأنتم جنب، إلا مجتازين فيه. إما للخروج منه أو للدخول فيه.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في معنى الآية قال: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل. قال: تمر به مرّا، ولا تجلس. ثم رواه عن كثير من الصحابة.
منهم ابن مسعود وثلة من التابعين.
وروى ابن جرير «4» عن الليث قال حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن قول الله عز وجل: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ. أن رجالا من المسجد تصيبهم جنابة ولا ماء عنهم فيريدون الماء. ولا يجدون ممرا إلا في المسجد. فأنزل الله تعالى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ.
(1) أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث 43. [.....]
(2)
أخرجه في: الأشربة، 1- باب تحريم الخمر، حديث 3671.
(3)
أخرجه الترمذيّ في: التفسير، 4- سورة النساء، 12- حدثنا سويد.
(4)
الأثر رقم 9567 من التفسير.
قال الحافظ ابن كثير: ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حبيب رحمه الله، ما
ثبت في صحيح البخاري «1» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر
. وهذا قاله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته. علما منه أن أبا بكر. رضي الله عنه سيلبي الأمر بعده ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين. فأمر بسد الأبواب الشارعة. إلى المسجد إلا بابه رضي الله عنه ومن روى: إلا باب عليّ، كما وقع في بعض السنن، فهو خطأ والصواب ما ثبت في الصحيح.
ومن هذا التأويل احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد. ويجوز له المرور. وثمة تأويل آخر في قوله تعالى إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وهو أن المراد منه المسافرون. أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين. فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء.
وقد روى ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش عن عليّ في هذه الآية، قال: لا يقرب الصلاة لا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء، فيصلي حتى يجد الماء.
ثم
رواه من وجه آخر عن عليّ: ورواه عن جماعة من السلف أيضا: أنه في السفر.
قال ابن كثير: ويستشهد لهذا القول
بالحديث الذي رواه الإمام أحمد «2» وأهل
(1)
أخرجه البخاريّ في: فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، 3- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:«سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر» ، حديث 311 ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، وقال:«إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله» قال فبكى أبو بكر. فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّ من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر. ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر. ولكن أخوّة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد بابا إلا سدّ. إلا باب أبي بكر»
. (2)
أخرجه في المسند 5/ 146. وهاكموه بنصه لنفاسته: عن رجل من بني عامر قال: كنت كافرا فهداني الله للإسلام. وكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة. فوقع ذلك في نفسي.
وقد نعت لي أبو ذر. فحججت فدخلت مسجد منى، فعرفته بالنعت. فإذا شيخ معروق آدم عليه حلة قطري. فذهبت حتى قمت إلى جنبه وهو يصلي. فسلمت عليه فلم يرد علي. ثم صلى صلاة أتمها وأحسنها وأطالها. فلما فرغ ردّ عليّ. قلت: أنت أبو ذر؟ قال: إن أهلي ليزعمون ذلك. قال: كنت كافرا فهداني الله للإسلام وأهمني ديني، وكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة. فوقع ذلك في نفسي. قال: أتعرف أبا ذر؟ قلت: نعم. قال: فإني اجتويت المدينة، فأمر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود من إبل وغنم. فكنت أكون فيها. فكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة. فوقع
السنن عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصعيد الطيب طهور المسلم. وإن لم تجد الماء عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسّه بشرتك فإن ذلك خير لك.
وفي هذا التأويل بقاء لفظ الصلاة على معناه الحقيقيّ في الجملتين المتعاطفتين. وفي التأويل السابق تكون الصلاة، في الجملة الثانية محمولة على مواضعها.
قال في (فتح البيان) : وبالجملة، فالحال الأولى أعني قوله وَأَنْتُمْ سُكارى تقوّي بقاء الصلاة على معناه الحقيقي، من دون تقدير مضاف. وسبب نزول الآية السابق يقوّي ذلك. وقوله إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ يقوّي تقدير المضاف. أي لا تقربوا مواضع الصلاة. ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي (أعني لا تقربوا وهو قوله:
وَأَنْتُمْ سُكارى) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقيّ. وبعض قيود النهي (وهو قوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) يدل على أن المراد مواضع الصلاة. ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه. ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد. وهما: لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى. ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب. وغاية ما يقال في هذا إنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز. وهو جائز بتأويل مشهور.
وقال ابن جرير «1» (بعد حكايته للتأويلين) : وأولى القولين بالتأويل لذلك، تأويل من تأوله وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ، إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بيّن حكم المسافر إذا عدم الماء. وهو جنب، في قوله وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ إلى آخره. فكان معلوما بذلك أن قوله وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا لو كان معنيّا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ معنى مفهوم. وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد
في نفسي أني قد هلكت. فقعدت على بعير منها. فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار وهو جالس في ظل المجلس في نفر من أصحابه فنزلت عن البعير وقلت: يا رسول الله! هلكت. قال «وما أهلكك» ؟ فحدثته فضحك. فدعا إنسانا من أهله. فجاءت جارية سوداء بعسّ فيه ماء، ما هو بملآن، إنه ليتخضخض. فاستترت بالبعير. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من القوم فسترني. فاغتسلت ثم أتيته.
فقال «إن الصعيد الطيّب طهور، ما لم تجد الماء، ولو إلى عشر حجج. فإذا وجدت الماء فأمسّ بشرتك» .
(1)
تفسير ابن جرير، 8/ 384.