الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
32-
وأما الذين كانوا مع المسيح فوقع عليهم النوم فناموا.
وهذا من أوضح الدلالات على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به. إذ لا معنى لظهور موسى وإيليا ووقوع النوم على أصحابه إلا رفعه. ألا ترى أن اليهود كانوا يسمعون منه، عليه السلام أن إيليا يأتي. فلما رفعوه على الخشبة، كما في الأناجيل، قالوا: دعوه حتى نرى أن إيليا يأتي فيخلصه. فصاروا في شك يريدون تحقيقه. فإن أتى إيليا فما رفعوه هو المسيح. وإن لم يأت فهو غيره كما في ظنهم.
فلما لم يأت ازدادوا ريبة في أمره. ومن رآه الحواريون بعد يقظتهم، يجوز أن يكون طورا من أطوار روحه. لأنه عليه السلام لا يبعد أن يكون له قوة التطور. وتشكل الروح بعد الموت أمر ممكن. لا سيما وقد صدرت على يديه معجزات أعظم من ذلك. كإحياء الموتى وكثرة الخبز والحيتان وإبراء الأكمه والأبرص.
وقال يوحنا التلميذ:
1-
كان يسوع مع تلاميذه بالبستان فجاء اليهودي في طلبه.
4-
فخرج إليهم يسوع وقال لهم: من تريدون؟
قالوا: يسوع. (وقد خفي شخصه عنهم) . فقال: أنا يسوع. وفعل ذلك مرتين وقد أنكروا صورته.
فانظر أيها العاقل كيف اعترف هنا أنه يسوع لما علم أن الله تعالى تولّى حراسته منهم، وأنهم لا يقدرون أن ينالوه بسوء. وكيف لم يعترف بأنه المسيح لما سأله رئيس الكهنة عن نفسه. فعدم اعترافه هناك واعترافه هنا دليل واضح أيضا على أن ما قاله الله سبحانه في القرآن العظيم هو الحق.
ثم من الأدلة على عدم قتله ما اشتملت عليه الأناجيل من اختلاف المباني والمعاني والمقاصد والاضطراب في حكاية هذه الواقعة والتناقص في ألفاظها.
كدعواهم الألوهية مع قوله عليه الصلاة والسلام (عند صلبه بزعمهم) : إلهي! إلهي! لم تركتني. وقوله كما في الفصل السادس والعشرين من إنجيل متى:
يا أبتاه إن كان لا يمكنك أن تفوتني هذه الكأس أي: الموت ولا بد لي أن أشربها فلتكن مشيئتك. وقام يصلي. وقوله لرئيس الكهنة: إنكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى ترونه جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء. يريد بالقوة البارئ تعالى شأنه. وفي الفصل السابع من إنجيل يوحنا: إن المريسيين ورؤساء الكهنة
أرسلوا شرطا ليقبضوا على المسيح (يعني ليقتلوه كما قال مفسروهم) قال أنا ماكث أيضا معكم زمانا. ثم أنطلق إلى من أرسلني وتطلبونني فلا تجدونني. وحيثما أكن فلا تستطيعون إليه سبيلا. قال اليهود في ذواتهم: فإلى أين؟ هذا عتيد أن ينطلق حتى لا نجده نحن، قال مفسروهم أي: يصعد إلى السماء. وغير ذلك مما لو أردنا ذكره والتنقير عنه لطال البحث.
ثم نقل خير الدين نحوا مما أسلفناه عن أناجيلهم وقال بعض ذلك: فأجل في تناقضها قداح فكرك. وفي تهافتها خيول ذهنك. لترى في هذه القصة ما يدلك على وقوع الشبه ونجاة المسيح عقلا ونقلا. كما قال تعالى: وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.
وليتبين لك عبوديته ورسالته عليه السلام. فإن ذلك ظاهر من العبارات. ولنزدك في البيان وضوحا بما ننبهك عليه بكلمات يسيرة مقدوحا ومشروحا.
منها: قولهم إنه صلب قبل غروب يوم الجمعة ودفن مساءها. ولما جاءت النسوة عشية السبت المفسر صباحه عن الأحد، وجدنه فارغا، وقد قام منه المدفون.
مع أن النصارى يزعمون، كما في أناجيلهم، أنه يبقى في قبره ثلاثة أيام. كما بقي يونان، أي: يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام بلياليها، فما هذا إلا دليل على الاختلاف والتهافت في هذا الأمر.
ومنها: سؤالة اليهود مرتين من تطلبون؟ وهم يقولون: يسوع الناصريّ. فلم يعرفوه وهو يقول لهم: أنا.
ومنها: أن يهوذا ارتشى ليدلهم عليه. وجعل العلامة على تعيينه لهم تقبيل يده. فلو كان معلوما لهم لعرفوه بلا دلالة وبلا سؤال. مع أنه كان بين أظهرهم وفي غالب الأيام في هيكلهم.
ومنها: أنه لما أقسم عليه رئيس الكهنة أنه هو المسيح لم يقل له: أنا المسيح. بل قال له: أنت قلت.
ومنها: إنكار بطرس له وهو من أعظم رسله. وإنكاره كفر.
ومنها: أنه لما سأله الوالي: أنت هو؟ لم يردّ له جوابا. فلو كان هو لاعترف وأقرّ.
ومنها: أنه لما كان أخذه ليلا، وقد شوهت صورته وتغيرت محاسنه بالضرب والنكال، فهي حالة توجب اللبس بين الشيء وخلافه. فكيف بين الشيء وشبهه؟
فمن أين يحصل القطع بأنه هو؟ لا سيما والنصارى قد حكموا أن المسيح عليه السلام قد أعطي قوة التحوّل من صورة إلى صورة. ويحتمل أن المسيح ذهب في الجماعة الذين أطلقهم الأعوان، وكان المتكلم معهم تلميذ أراد أن يبيع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح. فألقى الله تعالى عليه الشبه. وأتباع الأنبياء يفدون أنفسهم لأنبيائهم. وهذا فدى نفسه لإلهه، بزعم النصارى.
ومنها: أنه يحتمل أن الأعوان ارتشوا على إطلاقه كما ارتشى يهوذا على الدلالة عليه. وأخذوا غيره ممن يريد أن يفدي نفسه للمسيح. والدليل عليه عدم اعترافه بأنه المسيح.
ومنها: قوله عليه السلام الذي تقدم آنفا: أنا ماكث معكم زمانا. ثم أنطلق إلى من أرسلني. فتطلبوني فلا تجدوني. وحيثما أكن فلا تستطيعون إليّ سبيلا، فهذا صريح في الثاني عشر من (إنجيل يوحنا) ما لفظه: قال له الجموع: نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يمكث إلى الأبد. فكيف تقول أنت أن ابن البشر سوف يرتفع.
من هو هذا ابن البشر؟ قال لهم يسوع: إن النور معكم زمانا آخر يسيرا. امشوا ما دام لكم النور. لئلا يدرككم الظلام. ومن يمش في الظلام فلا يدري أين يذهب. آمنوا بالنور ما دام لكم النور. قال يسوع هذا وذهب متواريا عنهم. انتهى.
ففي هذا الكلام أدلة كثيرة مؤيدة لقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: 158] .
منها: أن اليهود قالوا لعيسى: إن المسيح المذكور في العهد القديم يمكث إلى الأبد.
أي: فإن كنت أنت المسيح فأنت لا تموت في هذا الزمان. بل تبقى إلى قيام الساعة. ولم يكذبهم في نقلهم ذلك. والمسلمون يقولون: إنه رفع حيّا إلى السماء وهو الآن حيّ فيها. وسينزل آخر الزمان عند قرب الساعة. ويقتل الدجال ويحكم بالشريعة المحمدية. ويتوفى ويدفن عند النبيّ صلى الله عليه وسلم. فهو حيّ إلى الأبد، يعني إلى قرب قيام الساعة ونزوله وموته من أمارات الساعة الكبرى. وفي هذا القول دلالات ظاهرات أيضا على أنه ليس بإله: أحدها- أنه قال: ابن البشر. يعني لا تظنوا أني أدعي الألوهية وإن أحييت الموتى. لأن ذلك معجزة خلقها الله تعالى على يده للإيمان بنبوّته.
ثانيها: لو كان إلها لما توارى منهم خائفا من قتلهم له. لأن الإله هو خالق لهم ولعملهم. وعالم بزمن قدرتهم عليه. فكيف يفرّ وهو يعلم وقت موته؟ وهو خالق
الموت والحياة؟ ثم إنه يحتمل أن الله تعالى ألقى شبهه على شيطان أو مارد من مردة الجن ليخلص نبيه ورسوله من أيدي أعدائه، ويرفعه إليه محفوظا مكرما. كما أجرى عليه يديه إحياء الموتى، وخلقه من غير أب، وأبرأ الأكمه والأبرص. لا سيما وهو بزعمهم إله العالم وخالق الإنس والجن وبني آدم. فأي ضرورة تدعو لإثبات أنواع الإهانة والعذاب، على ما زعموا، لرب الأرباب. مع وجود التناقض فيما نقلته أناجيلهم في هذا الفصل والباب.
عجبا للمسيح بين النصارى
…
وإلى أيّ والد نسبوه
أسلموه إلى اليهود وقالوا:
…
إنهم بعد ضربه صلبوه
فإذا كان ما يقولون حقّا
…
وصحيحا، فأين كان أبوه؟
حين خلى ابنه رهين الأعادي
…
أتراهم أرضوه أم أغضبوه؟
فلئن كان راضيا بأذاهم
…
فاحمدوهم لأنهم عذّبوه
ولئن كان ساخطا فاتركوه
…
واعبدوهم لأنهم غلبوه
وفي كتاب (الفاصل بين الحق والباطل) ما نصه: وفي الذي اتخذتموه شهيدا على صلبه من كلام عاموص النبيّ. أن الله تعالى قال على لسانه: ثلاثة ذنوب أقبل لبني إسرائيل. والرابعة لا أقبلها. بيعهم الرجل الصالح- حجة عليكم لا لكم. لأنه لم يقل بيعهم إياي. ولا قال بيعهم إلها متساويا معي.
ويجزي تأويل ذلك على وجهين: إما أن يكون عنى بالمبيع عيسى كما تزعمون فقولوا حينئذ إنه (الرجل الصالح) كما قال عاموص، وليس بالإله المعبود.
وإما أن يريد بالمبيع غيره وهو الذي شبه لليهود فابتاعوه وصلبوه. ويلزمكم وقتئذ إنكار مصلوبية عيسى عليه السلام. كيف لا ونصوص الإنجيل والكتب النصرانية متضافرة دالة على عدم الصلب لعيسى عليه السلام. ووقوع الشبه على غيره. وذلك من وجوه: أحدها- يوجد في الإنجيل أن عيسى عليه السلام صعد إلى جبل الجليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا. فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق. وإذا بموسى بن عمران وإيليا قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم. فوقع النوم على الذين معه. فأي مانع يمنع من أن يكون ذلك قد وقع في اليوم الذي طلبته فيه اليهود. وإنما قد اختلفتم في نقلها كما اختلفتم وتناقضتم في غير ذلك. وغيرتم الكلم عن مواضعه. وظهور الأنبياء عليهم السلام وتظليل السحابة ووقوع النوم على التلاميذ، يكون حينئذ دليلا ظاهرا على الرفع إلى