الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ إلى طاعته، أو إلى مكان أمر الله وَإلى رَسُولِهِ بالمدينة ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ أي: في الطريق قبل أن يصل إلى المقصد فَقَدْ وَقَعَ أي ثبت أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي: فلا يخاف فوات أجره الكامل، لأنه نوى مع الشروع في العمل. ولا تقصير منه في عدم إتمامه وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج. ويرحمه بإكمال ثواب هجرته.
تنبيهات:
الأول- فيما روي في نزول الآية. أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا. فقال لأهله: احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فنزل الوحي: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
…
الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة الزرقيّ، الذي كان مصاب البصر، وكان بمكة. فلما نزلت: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً، فقال:
إني لغنيّ وإني لذو حيلة. فتجهز يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأدركه الموت بالتنعيم. فنزلت هذه الآية: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
…
إلى آخرها. وأخرج ابن جرير «1» نحو ذلك من طرق، عن سعيد بن جرير وعكرمة وقتادة والسدّيّ والضحاك وغيرهم. وسمي في بعضها ضمرة بن العيص، أو العيص بن ضمرة. وفي بعضها جندب بن ضمرة الجندعيّ. وفي بعضها الضمريّ. وفي بعضها رجل من بني ضمرة. وفي بعضها رجل من خزاعة. وفي بعضها رجل من بني ليث. وفي بعضها من بني كنانة. وفي بعضها من بني بكر.
وأخرج ابن سعد في الطبقات عن يزيد بن عبد الله بن قسيط أن جندع بن ضمرة الضمريّ كان بمكة. فمرض. فقال لبنيه: أخرجوني من مكة فقد قتلني غمها.
فقالوا: إلى أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة. يريد الهجرة. فخرجوا به. فلما بلغوا أضاة بني غفار، مات. فأنزل الله فيه: وَمَنْ يَخْرُجْ
…
الآية.
(1) عن سعيد بن جبير الأثر رقم 10282 ورقم 10283.
وعن عكرمة الأثر رقم 10287 و 10291 و 10292.
وعن قتادة الأثر رقم 10285 و 10286.
وعن السدّيّ الأثر رقم 10290.
وعن الضحاك الأثر رقم 10289.
وأخرج الأمويّ في (مغازيه) عن عبد الملك بن عمير قال: لما بلغ أكثم بن صيفيّ مخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، أراد أن يأتيه. فأبى قومه أن يدعوه. قال: فليأت من يبلغه عني ويبلغني عنه. فانتدب له رجلان. فأتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفيّ وهو يسألك: من أنت؟ وما أنت؟ وبم جئت؟ قال أنا محمد بن عبد الله. وأنا عبد الله ورسوله. ثم تلا عليهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ
…
[النحل: 90] الآية. فأتيا أكثم فقالا له ذلك. قال: أي قوم! إنه يأمر بمكارم الأخلاق. وينهى عن ملائمها. فكونوا في هذا الأمر رؤوسا ولا تكونوا فيه أذنابا. فركب بعيره متوجها إلى المدنة، فمات في الطريق. فنزلت فيه: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
…
الآية
. قال السيوطيّ: مرسل. إسناده ضعيف.
وأخرج أبو حاتم في كتاب (المعمرين) من طريقين من ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: نزلت في أكثم بن صيفيّ. قيل: فأين الليثيّ؟ قال: هذا قبل الليثيّ بزمان. وهي خاصة عامة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مندة والباورديّ في (الصحابة) عن هشام بن عروة، عن أبيه أن الزبير بن العوام قال: هاجر خالد بن حرام إلى أرض الحبشة. فنهشته حية في الطريق فمات. فنزلت فيه: وَمَنْ يَخْرُجْ
…
الآية.
قال الزبير: فكنت أتوقعه وأنظر قدومه وأنا بأرض الحبشة. فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغتني. لأن قلّ أحد هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله، أو ذوي رحمه. ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى ولا أرجو غيره.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا الأثر غريب جدا. فإنّ هذه القصة مكية. ونزول الآية مدنيّ. فلعله أراد أنها تعم حكمه مع غيره، وإن لم يكن ذلك سبب النزول.
والله أعلم.
الثاني- ثمرة الآية، أن من خرج للهجرة، ومات في الطريق فقد وجب أجره على الله. قال الحاكم: لكن اختلف العلماء. فقيل: أجر قصده. وقيل: أجر عمله دون أجر الهجرة. وقيل: بل له أجر المهاجرة، وهو ظاهر في سبب نزول الآية.
قال الحاكم: وقد استدل بعض العلماء أن الغازي يستحق السهم وإن مات في الطريق قال: وهو بعيد. لأن المراد بالآية أجر الثواب.
قال الزمخشريّ، حكاية عن المفسرين: إن كل هجرة لغرض دينيّ من طلب علم أو حج أو جهاد، أو فرارا إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة، أو زهدا في الدنيا،
وابتغاء رزق طيب، فهي هجرة إلى الله ورسوله. وإن أدركه الموت في طريقه فأجره واقع على الله.
ووقع في كلام الزمخشريّ على الآية السابقة هذا الدعاء. وهو: اللهم! إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني، فاجعلها سببا في خاتمة الخير، ودرك المرجوّ من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك، بجوارك في دار كرامتك، يا واسع المغفرة.
وكلامه، رحمة الله، بناه على أنه يستحب للإنسان أن يدعو الله بصالح عمله.
وقد ذكر البخاريّ «1» ومسلم حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار وانسد عليهم بصخرة. وصوبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دعا كل واحد منهم بصالح عمله. وانفرجت عنهم الصخرة.
وقد اقتضت الآية لزوم الهجرة ولو ببذل مال كالحج. وفيما سبق من حديث
(1) أخرجه البخاريّ في: البيوع، 98- باب إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فرضي، حديث 1111.
وأخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث 100.
وهذا نصه
من البخاريّ: عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر. فدخلوا في غار في جبل. فانحطت عليهم صخرة. قال فقال بعضهم لبعض:
ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه. فقال أحدهم: اللهم! إني كان لي أبوان شيخان كبيران. فكنت أخرج فأرعى ثم أجيء فأحلب. فأجيء بالحلاب فآتي به أبويّ فيشربان. ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي. فاحتبست ليلة فجئت فإذا هما نائمان. قال فكرهت أن أوقظهما. والصبية يتضاغون عند رجلي. فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما حتى طلع الفجر. اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء. قال ففرج عنهم.
وقال الآخر: اللهم! إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي. كأشد ما يحب الرجل النساء. فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار. فسعيت فيها حتى جمعتها. فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضّ الخاتم إلا بحقه. فقمت وتركتها.
فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة.
قال ففرج عنهم الثلثين.
وقال الآخر: اللهم! إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة. فأعطيته. فأبى ذاك أن يأخذ.
فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقرا وراعيها. ثم جاء فقال: يا عبد الله! أعطني حقي. فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك.
فقال: أتستهزئ بي؟
قال فقلت: ما أستهزئ بك. ولكنها لك.
اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا. فكشف عنهم
.
الذي حمل من مكة وقد قال: احملوني فإني لست من المستضعفين- إشارة إلى أنها تجب الهجرة إذا تمكن من الركوب ولو مضطجعا في المحمل. لأنه حمل على سرير. وقد ذكر المتأخرون (في الحج) أن الصحيح الذي يلزمه أن يمكنه الثبات على المحمل، قاعدا لا مضطجعا، لأن أحدا لا يعجز عن ذلك. فيحتمل أن يسوى بين المسألتين. وأنه يجب الحج ولو مضطجعا. وأنهما لا يجبان مع الاضطجاع.
وفعل ضمرة على سبيل الشذوذ. ويحتمل أن يفرق بينهما وتجعل الهجرة أغلظ. لأن فعل المحظور، وهو الإقامة، أغلظ من ترك الواجب. وهذا يحتاج إلى تحقيق. كذا في تفسير بعض الزيدية.
الثالث-
روي في معنى هذه الآية أحاديث وافرة. منها ما في الصحيحين «1» والسنن والمسانيد: عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى
. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
قال ابن كثير: وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال.
ومنه الحديث الثابت في الصحيحين «2» في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، ثم أكمل، بذلك العابد، المائة. ثم سأل عالما: هل له من توبة؟ فقال له: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد أخرى يعبد الله فيه. فلما ارتحل من بلده مهاجرا إلى البلد الأخرى أدركه الموت في أثناء الطريق.
فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقال هؤلاء: إنه جاء تائبا. وقال هؤلاء: إنه لم يصل بعد. فأمروا إن يقيسوا ما بين الأرضين. فإلى أيهما كان أقرب فهو
(1) أخرجه البخاريّ في: الوحي، 1- باب حدثنا الحميدي، حديث 1.
ومسلم في: الإمارة، حديث 155.
(2)
أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، 54- حدثنا أبو اليمان، حديث 1629.
ومسلم في: التوبة، حديث 46.
ونصه عن البخاريّ: عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا. ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله فقال له: هل من توبة؟ قال: لا.
فقتله. فجعل يسأل. فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا. فأدركه الموت. فناء بصدره نحوها.
فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فأوحى الله إلى هذه أن: تقرّبي. وأوحى الله إلى هذه أن: تباعدي وقال: قيسوا ما بينهما. فوجد إلى هذه أقرب بشبر. فغفر له
.