المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محب الدنيا لا ينفك من ثلاث: هم لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي انقسام القلوب إلى صحيحٍ وسقيمٍ ومَيّتٍ

- ‌الباب الثانيفي ذكر حقيقة مرض القلب

- ‌ حال القلوب عند ورود الحق المنزل

- ‌الباب الثالثفي انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبعية وشرعية

- ‌الباب الرابعفي أن حياة القلب وإشراقه مادةُ كل خير فيه وموتَه وظلمتَه مادةُ كل شر فيه

- ‌ضرب الله سبحانه المثلَين المائيَّ والناريَّ لوحيه ولعباده

- ‌الباب الخامسفي أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدركًا للحقِّ مريدًا له، مُؤْثِرًا له على غيره

- ‌الباب السادسأنه لا سعادة للقلب ولا لذةَ ولا نعيمَ ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه

- ‌ المقدور يكتنفه(1)أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه

- ‌ تعلُّق العبد بما سوى الله تعالى مَضَرة عليه

- ‌مُحِبُّ الدنيا لا ينفكُّ من ثلاث: هَمٍّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي

- ‌ غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم بك، وإن أضرَّ ذلك بدينك ودنياك

- ‌الباب السابعفي أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه

- ‌الباب الثامنفي زكاة القلب

- ‌إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته

- ‌ الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته

- ‌ زكاة القلب موقوفة على طهارته

- ‌الباب التاسعفي طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

- ‌ خبث الملبس يُكسِبُ القلب هيئةً خبيثة

- ‌ العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه

- ‌ معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهِّرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد»

- ‌ عشق الصور المحرّمة نوع تَعَبُّدٍ لها

- ‌لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا

- ‌ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ

- ‌مَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين

- ‌ فوائد نظر العبد في حق الله عليه:

- ‌الباب الثاني عشرفي علاج مرض القلب بالشيطان

- ‌الباب الثالث عشرفي مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم

- ‌ تغيير الفطرة

- ‌ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها

- ‌الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه:

- ‌الفصل الأولفي النية في الطهارة والصلاة

- ‌ النية قصد فعل الشيء

- ‌إن شك في حصول نيّته فهو نوع جنون

- ‌الشرك وتحريم الحلال قرينان

- ‌ الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:

- ‌ لا تجد أحدًا عُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى

- ‌فصلالاسم الثاني والثالث: الزور، واللغو

- ‌فصلالاسم الرابع: الباطل

- ‌ حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

- ‌ حديث عائشة رضي الله عنها:

- ‌المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة

- ‌المحرَّمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها

- ‌القربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها

- ‌الأفعال الموجبة للتحريم لا يُعتبر لها العقل، فضلًا عن القصد

- ‌ الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع

- ‌ الحيل نوعان: أقوال، وأفعال

الفصل: ‌محب الدنيا لا ينفك من ثلاث: هم لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي

فليُوطِّن نفسَه على تحمل المصائب».

و‌

‌مُحِبُّ الدنيا لا ينفكُّ من ثلاث: هَمٍّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي

، وذلك أن محبها لا ينال منها شيئًا إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى لهما ثالثًا»

(1)

، وقد مثل عيسى ابن مريم عليه السلام محب الدنيا بشارب البحر

(2)

، كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا

(3)

.

وذكر ابن أبى الدنيا

(4)

: أن الحسن كتب إلى عمر بن عبد العزيز: «أما بعد فإن الدنيا دار ظَعْنٍ، ليست بدار إقامة، إنما أُنزل إليها آدم عقوبةً، فاحذرها يا أمير المؤمنين! فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تُذِلُّ من أعزها، وتُفقِر من جمعها؛ كالسُّمِّ يأكله من لا يعرفه وهو حَتْفُه، فكن فيها كالمداوي جِراحَه، يحتمي قليلًا، مخافة ما يكره طويلًا، ويصبر على شدة الدواء

(5)

؛ مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرّارة، الخدَّاعة الختَّالة، التي قد تزينت بخِدَعها، وفتنت بغرورها، وخيَّلت

(6)

بآمالها،

(1)

أخرجه البخاري (6439)، ومسلم (1048) عن أنس بن مالك.

(2)

ت: «الخمر» وهو تحريف.

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في الزهد (342) قال: قرأت في كتاب داود بن رشيد، حدثني أبو عبد الله قال: قال عيسى ابن مريم: «طالبُ الدنيا مثل شارب ماء البحر؛ كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا حتى يقتله» ، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (47/ 431) من طريق إبراهيم الحربي عن داود بن رشيد عن أبي عبد الله الصوفي به.

(4)

في كتاب ذم الدنيا (50).

(5)

في جميع النسخ: «الداء» ، والمثبت من ت.

(6)

ح: «ختلت» .

ص: 58

وتشوَّفت لخُطَّابها، فأصبحت كالعروس المجلوَّة؛ فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهةٌ، والنفوس لها عاشقة، وهى لأزواجها كلِّهم قاتلة؛ فعاشق لها قد ظفِرَ منها بحاجته فاغترَّ وطغى، ونسي المعاد فشُغِل بها لُبُّه، حتى زالت عنها قدمُه، فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات [11 ب] الموت وألمه، وحسرات الفوت، وعاشق لم يَنل منها بُغْيته، فعاش بغُصَّته، وذهب بكَمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تَستِرحْ نفسُه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدِم على غير مهاد. فكن أسرَّ ما تكون فيها أحذرَ ما تكون لها؛ فإن صاحب الدنيا كلما اطمأنَّ منها إلى سرور أشخصَتْه إلى مكروه وُصِل الرخاء منها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوبٌ بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربُّها لم يُخبر عنها خبرًا، ولم يَضرب لها مثلًا، لكانت قد أيقظت النائم، ونبَّهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ، وعنها زاجر؟ فما لها عند الله قَدْرٌ ولا وزن، وما نظر إليها منذ خلقها. ولقد عُرِضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها، لا تنقصه عند الله جَناح بَعوضة، فأبى أن يقبلها.

كره أن يحبّ ما أبغض خالقُه، أو يرفع ما وضع مليكُه، فَزَوَاها عن الصالحين اختبارًا

(1)

، وبسطها لأعدائه اغترارًا، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أُكرم بها، ونسي ما صنع الله برسوله حين شدَّ الحجر على بطنه»

(2)

.

(1)

كذا في ش، ت. وفي الأصل، م، ظ، ح:«اختيارًا» .

(2)

شدُّ النبيّ الحجرَ على بطنه من الجوع ثابت في الصحيح، فمن ذلك ما رواه البخاري (3875) عن جابر رضي الله عنه في قصة الخندق أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قام إلى كدية وبطنه معصوب بحجر. ومنه ما رواه مسلم (2040) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جئت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فوجدته جالسًا مع أصحابه يحدّثهم وقد عصب بطنَه بعصابة على حجر، فقلت لبعض أصحابه: لم عصبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنه؟ فقالوا: من الجوع.

ص: 59

وقال الحسن أيضًا: «إن قومًا أَكرَموا الدنيا فصَلبتْهم على الخُشب، فأهينوها، فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها»

(1)

.

وهذا باب واسع.

وأهل الدنيا وعُشَّاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم في طلبها. ولما كانت هي أكبر هَمّ مَن لا يؤمن بالآخرة، ولا يرجو لقاء ربه كان عذابه بها بحسب حرصه عليها، وشدة اجتهاده في طلبها.

وإذا أردت أن تعرف عذاب أهلها بها فتأملْ حال عاشق فانٍ في حب معشوقه، فكلما رامَ قربًا من معشوقه نأى عنه، ولا يفي له، ويهجره ويَصِلُ عدوَّه، فهو مع معشوقه في أنكد عيش، يختار الموت دونه، فمعشوقه قليل الوفاء، كثير

(2)

الجفاء، كثير الشركاء، سريع الاستحالة، عظيم الخيانة، كثير التلوُّن، لا يأمن عاشقُه معه على نفسه، ولا على ماله، مع أنه لا صبر له عنه، ولا يجد عنه سبيلًا إلى سَلْوةٍ تُريحه، ولا وصالٍ يدوم له، فلو لم يكن لهذا العاشق عذابٌ إلا هذا العاجل لكفى به، فكيف إذا حِيْل بينه وبين لذّاته كلها، وصار معذَّبًا بنفس ما كان ملتذًا به، على قدر لذته به التي شغلته عن سعيه في طلب زاده، ومصالح معاده؟

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا (489) عن الحسين بن عبد الرحمن عن شيخ مولى لبني هاشم عن الحسن به، إلا أنه قال فيه:«فأهنأ ما تكونون إذا أهنتموها» .

(2)

الأصل: «كبير» .

ص: 60

وسنعود إلى تمام الكلام في هذا الباب في باب ذكر علاج مرض القلب بحب الدنيا إن شاء الله تعالى؛ إذ المقصود بيان أن من أحب شيئًا سوى الله تعالى، ولم تكن محبته له لله، ولا لكونه معينًا له على طاعة الله، عُذِّب به في الدنيا قبل اللقاء. كما قيل

(1)

:

أَنْتَ القَتِيلُ بِكُلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ

فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ في الهَوَى مَنْ تَصْطَفِي

فإذا كان يومُ المعاد ولَّى الحكَمُ العدلُ سبحانه كلَّ محب ما كان يحبه في الدنيا؛ فكان معه إما منعَّمًا أو معذبًا، ولهذا «يُمثَّل لمحبِّ المالِ مالُه شجاعًا أقرع، يأخذ بلِهْزِمَتِه، يقول: أنا مالُك، أنا كنزك، وتُصَفّح له صفائحُ من نارٍ، فيُكْوَى بها جَبينه وجَنبه وظهره»

(2)

، وكذلك عاشق الصُّوَر إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة الله، جُمِع بينهما في النار، وعُذِّب كل منهما بصاحبه، قال تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، وأخبر سبحانه أن الذين توادُّوا في الدنيا على الشرك، يَكْفُرُ بعضهم ببعض يوم القيامة، ويَلْعنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ومأواهُمْ النارُ وما لهم [12 أ] من ناصرين.

فالمحب مع محبوبه دنيا وأخرى، ولهذا يقول تعالى يوم القيامة للخلق:«أليس عدلًا مني أن أُولِّي كلَّ رجلٍ منكم ما كان يتولى في دار الدنيا؟»

(3)

،

(1)

البيت لابن الفارض في ديوانه (ص 151)، وهو بلا نسبة في روضة المحبين (ص 110، 572).

(2)

أخرجه البخاري (1403)، ومسلم (987) عن أبي هريرة في حديث طويل.

(3)

روى الطبراني في الأوسط (81) من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر الناس يوم القيامة، فينادي منادٍ: أليس عدلًا مني أن أولِّيَ كلَّ قوم ما كانوا يعبدون؟» الحديث. قال الهيثمي في المجمع (10/ 621): «رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه فرات بن السائب وهو ضعيف» .

ص: 61

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب»

(1)

. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 ـ 29]، وقال تعالى:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 22 ـ 25]، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أزواجهم أشباههم ونظراؤهم

(2)

.

وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]، فقرن كل شكل إلى شكله، وجعل معه قرينا وزوجا: البر مع البر، والفاجر مع الفاجر.

والمقصود أن من أحب شيئا سوى الله تعالى فالضرر حاصل له بمحبوبه، إن وُجد وإن فُقد؛ فإنه إنْ فَقَدَه عُذِّب بفواته، وتألم على قدر تعلُّق قلبه به، وإن وجده كان ما يحصل له من الألم قبل حصوله، ومن النكد في حال حصوله، ومن الحسرة عليه بعد فواته، أضعافُ أضعافِ ما في حصوله له من اللذة:

(1)

أخرجه البخاري (6170)، ومسلم (2641) عن أبي موسى الأشعري.

(2)

رواه ابن منيع ـ كما في المطالب العالية (4/ 147) ـ بلفظ: «أزواجهم أشباههم» ، وصححه ابن حجر. ورواه ابن جرير في تفسيره (21/ 27، 24/ 244) ولفظه: «وأزواجَهم ضُرباءَهم» . وعزاه في الدر المنثور (7/ 83) لعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث، ولفظه:«أمثالهم الذين هم مثلهم» ، وصححه الحاكم (3609).

ص: 62

فَمَا في الأرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ

وَإِنْ وجَدَ الهَوَى حُلْوَ المذَاقِ

تَرَاهُ بَاكِيًا في كُلِّ حَالٍ

مَخَافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لاشْتِياقِ

فَيَبْكِي إنْ نَأَوْا شَوْقًا إلَيْهِمْ

وَيَبْكِي إِنْ دَنَوْا حَذرَ الْفِرَاقِ

فَتَسْخُنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلاقي

وَتَسْخُنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الْفِرَاقِ

(1)

وهذا أمرٌ معلومٌ بالاستقراء والاعتبار والتجارب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره:«الدنيا ملعونة ملعون ما فيها؛ إلا ذكر الله وما والاه»

(2)

؛ فذِكْرُ الله

(3)

جميع أنواع طاعته، فكل من كان في طاعته فهو ذاكره، وإن لم يتحرك لسانه بالذكر، وكل من والاهُ الله فقد أحبَّه وقربَه، فاللعنة لا تنال ذلك بوجه، وهى نائلةٌ كلَّ ما عداه.

الوجه السابع: أن اعتماد العبد على المخلوق، وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته هو ولا بد، عكس ما أمّله منه، فلا بد أن يُخْذَلَ من الجهة التي قَدّر أن يُنْصَر منها، ويُذمّ من حيث قدَّر أن يُحْمد. وهذا

(4)

أيضًا كما أنه ثابت بالقرآن والسنة، فهو معلوم بالاستقراء والتجارب، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ

(1)

الأبيات لنصيب في ديوانه (ص 111)، وبلا نسبة في الحماسة (2/ 93).

(2)

سنن الترمذي (2322) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أيضًا ابن ماجه (4112)، وابن أبي عاصم في الزهد (126)، والبيهقي في الشعب (2/ 265)، قال الترمذي:«هذا حديث حسن غريب» ، وحسنه ابن القيم في عدة الصابرين (ص 140)، وابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 38)، وهو في السلسلة الصحيحة (2797). وفي الباب عن جابر وأبي الدرداء رضي الله عنهما.

(3)

الأصل: «فذكره» .

(4)

«هذا» ساقطة من م.

ص: 63

وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82]، وقال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74، 75]؛ أي يغضبون لهم ويحاربون، كما يغضب الجند ويحارب عن أصحابه

(1)

، وهم لا يستطيعون نصرهم، بل هم كَلٌّ عليهم. وقال تعالى:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]؛ أي غيرَ تَخسير، وقال تعالى:{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213]، وقال تعالى:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22]؛ فإن المشرك يرجو بشركه النصر تارة، والحمد والثناء تارة، فأخبر سبحانه أن مقصوده ينعكس عليه، ويحصل له الخِذلان والذم.

والمقصود أن هذين الوجهين في المخلوق ضدُّهما في الخالق، فصلاح القلب وسعادته وفلاحه في عبادة الله والاستعانة به، وهلاكه وشقاؤه وضرره العاجل والآجل في عبادة المخلوق والاستعانة به.

الوجه الثامن: أن الله سبحانه غني كريم، عزيز رحيم؛ فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة؛ بل رحمةً منه وإحسانًا. فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثّر بهم من قِلّة، ولا ليتعزَّز بهم من ذِلّة، ولا ليرزقوه، ولا لينفعوه، ولا ليدفعوا عنه، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}

(1)

ظ: «أصحابهم» .

ص: 64

[الذاريات: 56 ـ 58]، وقال تعالى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111].

وهو سبحانه لا يُوالي من يواليه من الذل، كما يُوالي المخلوقُ المخلوقَ، وإنما يُوالي أولياءه إحسانًا ورحمة ومحبة لهم، وأما العباد فإنهم كما قال تعالى:{وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38]، فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يُحْسِن بعضُهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك، وانتفاعه به عاجلًا أو آجلًا، ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقًا إلى حصول

(1)

نفع ذلك الإحسان إليه؛ فإنه إما أن يُحسِن إليه لتوقع جزائه في العاجل، فهو محتاج إلى ذلك الجزاء، ومُعاوِضٌ بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره، فهو أيضًا إنما يُحسِن إليه ليحصل له منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير، وإما أن يريد الجزاء من الله في الآخرة، فهو أيضًا محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخَّر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته، فهو غير مَلُوم في هذا القصد؛ فإنه فقير محتاج، وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته، فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه.

وقال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7]، وقال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا

(2)

مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272]، وقال تعالى، فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: «يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتضرُّوني، ولن

(1)

في بعض النسخ: «وصول» .

(2)

في جميع النسخ: «وما تفعلوا» .

ص: 65

تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوَفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه»

(1)

.

فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد انتفاعه بك،

والرب تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه بك، وذلك منفعة محضة لك، خالصة من المضرة، بخلاف إرادة المخلوق نفعك، فإنه قد تكون فيه مضرة عليك، ولو بتحمُّل مِنّته.

فتدبر هذا، فإن ملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق، أو تعامله دون الله، أو تطلب منه نفعًا أو دفعًا، أو تُعلِّق قلبك به؛ فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك. وهذا حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض، وهو حال الولد مع والده، والزوج مع زوجته، والمملوك مع سيده، والشريك مع شريكه، فالسعيد من عاملهم لله تعالى لا لهم، وأحسن إليهم لله، وخاف الله فيهم، ولم يَخَفْهُم مع الله، ورجا الله بالإحسان إليهم، ولم يَرْجُهُم مع الله، وأحبهم لحب الله، ولم يحبهم مع الله، كما قال أولياء الله:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9].

الوجه التاسع: أن العبد لا يعلم مصلحتك حتى يُعرِّفه الله تعالى إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك حتى يُقدِره الله عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة، [13 أ] فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه؛ وهو الذى بيده

(1)

أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر. ولشيخ الإسلام ابن تيمية شرح عليه مطبوع ضمن مجموع الفتاوى (18/ 136 ـ 209). وقبله في مجموعة الرسائل المنيرية (3/ 205 ــ 246).

ص: 66