الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع
في أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [13 ب] وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57]، وقال:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، وقد تقدم أن جِماع أمراض القلب هي أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين:
ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يُبيِّن الحق من الباطل، فتزول أمراض الشُّبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين و الآيات على المطالب العالية ــ من التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات المعاد، والنبوّات، ورد النِّحَل الباطلة والآراء الفاسدة ــ مثل القرآن؛ فإنه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتمّ الوجوه وأحسنها، وأقربها إلى العقول، وأفصحها بيانًا، فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه.
فمن رزقه الله ذلك أبصر الحق والباطل عِيانًا بقلبه، كما يرى الليل والنهار، وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم: بين علوم لا ثقةَ بها، وإنما هي آراء وتقليد، وبين
(1)
ظنون كاذبة لا تُغني من الحق شيئًا،
(1)
م: «وهي» .
وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها، وبين علوم صحيحة قد وعّروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها، مع قلة نفعها، فهي «لحمُ جملٍ غَثٍّ، على رأس جبل وَعْر، لا سهلٌ فيُرتقَى، ولا سمينٌ فينتقل»
(1)
. وأحسنُ ما عند المتكلمين وغيرهم فهو في القرآن أصح تقريرًا وأحسن تفسيرًا، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد، كما قيل:
لَوْلَا التَّنَافُسُ في الدُّنْيَا لَمَا وُضِعَتْ
…
كُتْبُ التَّنَاظُرِ لا «المُغْني» وَلا «العُمَدُ»
يُحَلِّلُونَ بِزَعْمٍ مِنْهُمُ عُقَدًا
…
وبالَّذِي وَضَعُوهُ زَادَتِ العُقَدُ
(2)
فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه الشُّبَه والشكوك، والفاضل الذكي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك.
ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله، ويحصلَ من كلام هؤلاء المتحيرين المتشككين الشاكِّين، الذين أخبر الواقف على نهايات أقدامهم بما انتهى إليه من مَرامهم، حيث يقول
(3)
:
(1)
جزء من حديث أم زرع الذي أخرجه البخاري (5189)، ومسلم (2448) عن عائشة. وقد شرح هذا الحديث القاضي عياض في كتابه «بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد» .
(2)
البيت الأول لأبي العلاء المعري في اللزوميات (1/ 321)، ومعجم الأدباء (1/ 338)، و «المغني» و «العمد» كلاهما للقاضي عبد الجبار المعتزلي.
(3)
الأبيات للفخر الرازي في كتابه «أقسام اللذات» ، وعنه نقلها شيخ الإسلام ابن تيمية في درء التعارض (1/ 160) وغيره من مؤلفاته. وهي في وفيات الأعيان (4/ 250)، والوافي بالوافيات (4/ 257، 258)، ونفح الطيب (5/ 232)، وعيون الأنباء (3/ 42، 43)، وطبقات السبكي (8/ 96) وغيرها.
نهَايَةُ إِقدَامِ العُقُولِ عِقَالُ
…
وَأَكثَرُ سعْي العَالمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا في وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا
…
وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
وَلمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمرِنَا
…
سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيه قِيلَ وَقَالُوا
لقد تأملتُ الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تُروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وأقرأ في النفي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، ومن جرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي».
فهذا إنشاده وألفاظه في آخر كتبه، وهو أفضل أهل زمانه على الإطلاق في علم الكلام والفلسفة. وكلام أمثاله في مثل ذلك كثير جدًا، قد ذكرناه في كتاب «الصواعق»
(1)
وغيره، وذكرنا قول بعض العارفين بكلام هؤلاء:«آخر أمر المتكلمين الشك، وآخر أمر المتصوفين الشطح» . والقرآن يُوصِلك إلى نفس اليقين [14 أ] في هذه المطالب التي هي أعلى مطالب العباد، ولذلك أنزله من تكلم به، وجعله شفاءً لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين.
وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة؛ بالترغيب والترهيب، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والأمثال والقَصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار، فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عمَّا يضرُّه، فيصير القلب محبًّا للرشد، مبغضًا للغيِّ، فالقرآن مزيل للأمراض الموجِبَةِ للإرادات
(1)
انظر: الصواعق المرسلة (1/ 167) واجتماع الجيوش الإسلامية (ص 469).
الفاسدة، فيصلح القلب، فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فُطِر عليها، فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية، كما يعود البدن بصحته وصلاحه إلى الحال الطبيعي، فيصير بحيث لا يقبل إلا الحق، كما أن الطفل لا يقبل إلا اللبن:
وَعَادَ الفَتَى كَالطِّفْلِ لَيْسَ بقَابِلٍ
…
سِوَى المحض شَيْئًا وَاسْتَراحَتْ عَوَاذِلُهْ
(1)
فيتغذَّى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكِّيه ويقوِّيه، ويؤيده ويفرحه، ويسرُّه وينشِّطه، ويثبِّت ملكه، كما يتغذّى
(2)
البدن بما ينمِّيه ويقويه، وكلٌ من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربَّى
(3)
، فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح. فكما أن البدن محتاج إلى أن يُربَّى بالأغذية المصلحة له، والحِمْية عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطاء ما ينفعه، ومنع ما يضره؛ فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو ولا يتم صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن، وإن وصل إلى شيء منه من غيره فهو نَزْرٌ يسير، لا يُحصِّل تمام المقصود، وكذلك الزرع لا يتم إلا بهذين الأمرين، فحينئذٍ يقال: زَكَا الزَّرْعُ وكَمُلَ.
ولما كانت حياته ونعيمه لا يتم إلا بزكاته وطهارته: لم يكن بدٌّ من ذكر هذا وهذا، فنقول:
(1)
لم أجد البيت فيما بين يدي من المصادر. وفي الأصل: «سوى الحق» .
(2)
م: «يغتذي» .
(3)
م: «يترقى» ، ش:«يربى» .