المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثاني عشرفي علاج مرض القلب بالشيطان - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي انقسام القلوب إلى صحيحٍ وسقيمٍ ومَيّتٍ

- ‌الباب الثانيفي ذكر حقيقة مرض القلب

- ‌ حال القلوب عند ورود الحق المنزل

- ‌الباب الثالثفي انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبعية وشرعية

- ‌الباب الرابعفي أن حياة القلب وإشراقه مادةُ كل خير فيه وموتَه وظلمتَه مادةُ كل شر فيه

- ‌ضرب الله سبحانه المثلَين المائيَّ والناريَّ لوحيه ولعباده

- ‌الباب الخامسفي أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدركًا للحقِّ مريدًا له، مُؤْثِرًا له على غيره

- ‌الباب السادسأنه لا سعادة للقلب ولا لذةَ ولا نعيمَ ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه

- ‌ المقدور يكتنفه(1)أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه

- ‌ تعلُّق العبد بما سوى الله تعالى مَضَرة عليه

- ‌مُحِبُّ الدنيا لا ينفكُّ من ثلاث: هَمٍّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي

- ‌ غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم بك، وإن أضرَّ ذلك بدينك ودنياك

- ‌الباب السابعفي أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه

- ‌الباب الثامنفي زكاة القلب

- ‌إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته

- ‌ الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته

- ‌ زكاة القلب موقوفة على طهارته

- ‌الباب التاسعفي طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

- ‌ خبث الملبس يُكسِبُ القلب هيئةً خبيثة

- ‌ العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه

- ‌ معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهِّرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد»

- ‌ عشق الصور المحرّمة نوع تَعَبُّدٍ لها

- ‌لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا

- ‌ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ

- ‌مَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين

- ‌ فوائد نظر العبد في حق الله عليه:

- ‌الباب الثاني عشرفي علاج مرض القلب بالشيطان

- ‌الباب الثالث عشرفي مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم

- ‌ تغيير الفطرة

- ‌ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها

- ‌الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه:

- ‌الفصل الأولفي النية في الطهارة والصلاة

- ‌ النية قصد فعل الشيء

- ‌إن شك في حصول نيّته فهو نوع جنون

- ‌الشرك وتحريم الحلال قرينان

- ‌ الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:

- ‌ لا تجد أحدًا عُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى

- ‌فصلالاسم الثاني والثالث: الزور، واللغو

- ‌فصلالاسم الرابع: الباطل

- ‌ حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

- ‌ حديث عائشة رضي الله عنها:

- ‌المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة

- ‌المحرَّمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها

- ‌القربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها

- ‌الأفعال الموجبة للتحريم لا يُعتبر لها العقل، فضلًا عن القصد

- ‌ الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع

- ‌ الحيل نوعان: أقوال، وأفعال

الفصل: ‌الباب الثاني عشرفي علاج مرض القلب بالشيطان

‌الباب الثاني عشر

في علاج مرض القلب بالشيطان

هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعًا، والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها؛ فإنهم توسعوا في ذلك، وقصَّروا في هذا الباب.

ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس؛ فإن النفس المذمومة ذُكرت في قوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، واللوامة في قوله:{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، وذُكرت النفس المذمومة في قوله:{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]، وأما الشيطان فذُكر في عدة مواضع، وأُفردت له سورة تامة

(1)

، فتحذير الرب تعالى لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس، وهذا هو الذي لا ينبغي غيره؛ فإن شر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته، فهي مركَبُه، وموضع سِرّه، ومحل طاعته، وقد أمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك، وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه، ولم يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد، وإنما جاءت الاستعاذة من شرها في خطبة الحاجة في قوله:«ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا»

(2)

، كما تقدم ذلك في الباب الذي قبله.

(1)

هي سورة الناس.

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 155

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الاستعاذة من الأمرين؛ في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه، عن أبي هريرة: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله! علِّمني شيئًا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيتُ؟ قال: «قل: اللهم عالِمَ الغيب والشهادة! فاطر السماوات والأرض! ربَّ كل شيء ومليكَه! أشهد أن لا إله إلا أنت؛ أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشِرْكه، وأن أقترف على نفسي سوءًا، أو أجُرّه إلى مسلم. قله إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك»

(1)

.

فقد تضمن هذا الحديث الشريف الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته: فإن الشر كله إما أن يصدر من النفس أو من الشيطان، وغايته: إما أن تعود على العامل، أو على أخيه المسلم، فتضمن الحديث مصدري الشر اللذين يصدر عنهما، وغايتيه اللتين يصل إليهما.

فصل

قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ

(1)

سنن الترمذي (3392)، وليس فيه قوله:«وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم» ، ورواه أيضًا الطيالسي (9، 2582)، وابن أبي شيبة (5/ 322، 6/ 34)، وأحمد (1/ 9، 10، 2/ 297)، والدارمي (2689)، والبخاري في الأدب المفرد (1202، 1203)، وأبو داود (5067)، والنسائي في الكبرى (7715، 9839، 10631)، وأبو يعلى (77)، وغيرهم، وصححه ابن حبان (962)، والحاكم (1892)، والنووي في الأذكار (212، 274)، وابن دقيق العيد في الاقتراح (ص 128)، وابن القيم في الزاد (2/ 332)، وابن حجر في نتائج الأفكار (2/ 363)، وهو في السلسلة الصحيحة (2753).

ص: 156

عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 ــ 100].

ومعنى اسْتَعِذْ بِالله: امتنع به، واعتصم به، والجأ إليه، ومصدره: العَوْذ، والْعِيَاذ، والمَعَاذ؛ وغالِب استعماله في المستعاذ به، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لقد عذتِ بِمَعاذ»

(1)

.

وأصل اللفظة من اللَّجأ إلى الشيء والاقتراب منه، ومن كلام العرب:«أطيبُ اللحم عُوَّذُه» ؛ أي الذي قد عاذ بالعظم واتصل به، و «ناقة عائذ»: يعوذ بها ولدها، وجمعها عُوذ كحُمْر.

ومنه في حديث الحُديبية: «معهم العُوذ المطافيل»

(2)

؛ والمطافيل: جمع مُطْفِلٍ، وهى الناقة التي معها فصيلها.

قالت طائفةٌ ــ منهم صاحب «جامع الأصول»

(3)

ــ: استعار ذلك للناس؛ أي معهم النساء وأطفالهن.

ولا حاجة إلى ذلك، بل اللفظ على حقيقته، أي قد خرجوا إليك بدوابِّهم ومراكبهم، حتى أخرجوا معهم النوق التي معها أولادها.

فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن. وفى ذلك وجوه:

منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور، مُذهِبٌ لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أَثَّره فيها الشيطان،

(1)

أخرجه البخاري (5254) من حديث عائشة.

(2)

أخرجه البخاري (2731، 2732) من حديث المسور بن مخرمة ومروان.

(3)

انظر (8/ 303) منه.

ص: 157

فأمر أن يطرُدَ مادة الداء، ويُخلِي منه القلب، ليصادف الدواء محلًّا خاليًا، فيتمكّن منه، ويؤثِّر فيه، كما قيل:

أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الهَوَى

فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكّنَا

(1)

فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مزاحمٍ ومُضادٍّ له، فينجع فيه.

ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أن الماء مادة النبات، والشيطان نارٌ يحرق النبات أولًا فأولًا، فكلما أحسَّ بنبات الخير في القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأُمر أن يستعيذ بالله منه؛ لئلا يُفسِد عليه ما يحصل له بالقرآن.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله: أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفى الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها.

وكأنَّ من قال: إن الاستعاذة بعد القراءة؛ لَحَظَ هذا المعنى، وهو لعَمْر اللهِ

(2)

مَلْحَظ جيد؛ إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة، وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف، وهي محصّلة للأمرين.

ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن، وتستمع لقراءته، كما في حديث أُسيد بن حُضَير لما كان يقرأ، ورأى مثلَ الظُّلة فيها مثل المصابيح،

(1)

البيت للمجنون في ديوانه (ص 219)، وينسب لغيره. انظر: روضة المحبين (ص 144، 212).

(2)

م: «نعم والله» .

ص: 158

فقال عليه النبي صلى الله عليه وسلم: «تلك الملائكة»

(1)

والشيطان ضد الملَك وعدوُّه، فأُمر القارئ أن يطلب من الله مباعدة عدوه عنه حتى تحضره خاصتُه وملائكته، فهذه وليمة لا تجتمع فيها الملائكة والشياطين.

ومنها: أن الشيطان يُجْلِب على القارئ بخيله ورَجله، حتى يَشْغَله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن؛ فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأُمر عند الشروع أن يستعيذ [28 ب] بالله منه.

ومنها: أن القارئ مناجٍ لله بكلامه، والله تعالى أشد أَذَنًا للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَيْنة إلى قينته

(2)

، والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء، فأُمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاته لله، واستماع الربِّ قراءتَهُ.

ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أُمنيته

(3)

، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، كما قال الشاعر في عثمان:

تَمنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ

وَآخِرَهُ لاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ

(4)

(1)

أخرجه مسلم (796) عن أبي سعيد، وذكره البخاري (5018) تعليقًا.

(2)

كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (6/ 19، 20)، وابن ماجه (1340)، والحاكم في المستدرك (1/ 571) وصححه، وردَّه الذهبي وقال: بل هو منقطع. انظر: السلسلة الضعيفة (2951).

(3)

كما في سورة الحج: 52 ـ 54.

(4)

ينسب البيت لحسان بن ثابت في البحر المحيط (6/ 382)، وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في كتاب العين (8/ 390)، ومقاييس اللغة (5/ 277)، ولسان العرب (منى).

ص: 159

فإذا كان هذا فعله مع الرسل، فكيف بغيرهم؟

ولهذا يُغلِّط القارئ تارة، ويخبط عليه القراءة، ويشوِّشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يُشوِّش عليه فهمه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يَعدمْ منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعهما له، فكان من أهم الأمور: استعاذة بالله منه عند القراءة.

ومنها: أن الشيطان أحرصُ ما يكون على الإنسان عندما يهُمُّ بالخير، أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذٍ ليقطعه عنه، وفى «الصحيح» عنه صلى الله عليه وسلم:«إن شيطانًا تَفلَّتَ عليّ البارحة، فأراد أن يقطع عليّ صلاتي» الحديث

(1)

. وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله، كان اعتراض الشيطان له أكثر.

وفى «مسند الإمام أحمد» من حديث سَبْرة بن أبى الفاكه، أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرُقِه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتُسلِم وتَذَرُ دينَك ودينَ آبائك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذَرُ أرضك وسماءك؟ وإنما مثل المهاجر كالفَرَس في الطِّوَل، فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد ــ وهو جهاد النفس والمال ــ؛ فقال: تقاتِل فتُقتلُ، فتُنكَحُ المرأة ويُقسم

(2)

المال!»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (461، 1210، ومواضع أخرى)، ومسلم (541) عن أبي هريرة.

(2)

الأصل: «ويغنم» .

(3)

مسند أحمد (3/ 483)، ورواه أيضًا النسائي (3134)، والطبراني في الكبير (7/ 117)، والبيهقي في الشعب (4/ 21)، وصححه ابن حبان (4593)، والعراقي في تخريج الإحياء (2/ 718)، وحسنه ابن حجر في الإصابة (3/ 31) وقال:«إلا أن في إسناده اختلافًا» ، وهو في السلسلة الصحيحة (2979).

ص: 160

فالشيطان بالرَّصدِ للإنسان على طريق كل خير.

وقال منصور عن مجاهد: «ما من رفقة تخرج إلى مكة إلا جهَّز معهم إبليس مثل عدتهم» . رواه ابن أبي حاتم في «تفسيره»

(1)

.

فهو بالرَّصد، ولاسيما عند قراءة القرآن، فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدُوَّه الذي يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله منه أولًا، ثم يأخذ في السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه، ثم اندفع في سيره.

ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتيَّ به بعدها القرآن، ولهذا لم تُشرَع الاستعاذة بين يدي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعدَّ لاستماع كلام الله، ثم شُرع ذلك للقارئ وإن كان وحده

(2)

؛ لما ذكرنا من الحكم وغيرها.

فهذه بعض فوائد الاستعاذة.

وقد قال أحمد في رواية حنبل: «لا يقرأ في صلاة ولا غير صلاة إلا استعاذ؛ لقوله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]» .

وقال في رواية ابن مُشَيْشٍ: «كلما قرأ يستعيذ» .

وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي إذا قرأ استعاذ، يقول:«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم» .

(1)

لم يعزه في الدر المنثور (3/ 426) إلا لابن المنذر.

(2)

م: «بعده» .

ص: 161

وفى «المسند» والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة استفتح، ثم يقول:«أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من هَمْزِهِ ونَفْخِهِ ونَفْثِهِ»

(1)

.

وقال ابن المنذر: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قبل القراءة: [29 أ]«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .

واختار الشافعي، وأبو حنيفة، والقاضي في «الجامع» أنه يقول:«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .

وهو روايةٌ عن أحمد؛ لظاهر الآية، وحديث ابن المنذر.

وعن أحمد من رواية عبد الله: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» ؛ لحديث أبي سعيد. وهو مذهب الحسن، وابن سيرين.

(1)

مسند أحمد (3/ 50)، سنن الترمذي (242)، ورواه أيضًا الدارمي (1239)، وأبو داود (775)، والنسائي (899، 900)، وابن ماجه (804)، وليس عندهما ذكر الاستعاذة، وأبو يعلى (1108)، وابن خزيمة (467)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1073، 1074)، والدارقطني (1/ 298)، والبيهقي في الكبرى (2/ 34، 35)، كلهم من طريق جعفر بن سليمان عن علي بن علي الرفاعي عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد رضي الله عنه، وأعلّ بالإرسال فقال أبو داود:«وهذا الحديث يقولون: هو عن علي بن علي عن الحسن مرسلًا، الوهم من جعفر» ، وقال الترمذي:«تُكلِّم في إسناده، كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن عليّ الرفاعي، وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث» ، وذكره ابن الجوزي في علله (1/ 417)، وضعفه النووي في المجموع (3/ 320)، وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 417)، والألباني في الإرواء (2/ 51 - 52). وفي الباب عن عمر وجبير بن مطعم وابن مسعود وأبي أمامة وعن أبي سلمة مرسلًا.

ص: 162

ويدلُّ عليه ما رواه أبو داود في قصة الإفك: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس، وكشف عن وجهه وقال:«أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم»

(1)

.

وعن أحمد رواية أخرى أنه يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم» ، وبه قال سفيان الثوري، ومسلم بن يَسار، واختاره القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل؛ لأن قوله:{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، ظاهره أنه يعقب قوله:«أعوذ بالله» بقوله: «من الشيطان الرجيم» ، وقوله في الآية الأخرى:{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] يقتضي أن يلحق بالاستعاذة وصفه بأنه هو السميع العليم في جملة مستقلة بنفسها؛ مؤكدة بحرف «إنَّ» ؛ لأنه سبحانه هكذا ذَكره.

وقال إسحاق: الذي أختاره ما ذُكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من هَمْزه ونفخه ونَفْثِه» .

وقد جاء في الحديث تفسير ذلك، قال:«وهمزه: المُوتَة، ونفخه: الكِبْر، ونفثه: الشعر»

(2)

.

(1)

سنن أبي داود (785) عن حميد عن الزهري عن عروة عن عائشة، ورواه البيهقي في الكبرى (2/ 43) من طريق أبي داود، قال أبو داود:«هذا حديث منكر، قد روى هذا الحديث جماعة عن الزهري لم يذكروا هذا الكلام على هذا الشرح، وأخاف أن يكون أمر الاستعاذة من كلام حميد» ، وهو في ضعيف السنن (167).

(2)

ورد هذا التفسير مرفوعًا من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه عند أحمد (4/ 80) والطبراني في مسند الشاميين (1343)، وعن رجل من جهينة عند ابن منده كما في أسد الغابة (6/ 414)، وعن أبي سلمة مرسلًا عند أحمد (6/ 156)، وعن الحسن مرسلًا عند عبد الرزاق (2/ 82). وجاء من كلام ابن مسعود عند عبد الرزاق (2/ 84) والطبراني في الكبير (9/ 262)، ومن كلام عمرو بن مرّة عند أحمد (4/ 85)، وابن ماجه (807)، وأبي يعلى (7398)، وابن الجارود (180)، وابن حبان (1779، 1780، 2601)، والطبراني في الكبير (2/ 134)، والبيهقي في الكبرى (2/ 35)، ومن كلام جعفر بن سليمان عند البيهقي في الكبرى (2/ 34)، ومن كلام عطاء بن السائب عند البيهقي أيضًا (2/ 36)، ومن كلام حصين بن عبد الرحمن عند أحمد (4/ 82)، ومن كلام مطر عند الدارمي (1239).

ص: 163

وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 ــ 98]، والهَمَزات: جمع هَمْزة كتَمَرات وتَمْرة، وأصل الهمز: الدفع.

قال أبو عبيد

(1)

عن الكسائي: هَمَزتُه، ولَمَزْتُهُ، ولَهزتُه، ونَهزتُه: إذا دفعته.

والتحقيق: أنه دفعٌ بنَخْز، وغَمْزٌ يشبه الطعن، فهو دفع خاص، فهمزات الشياطين: دفعهم الوساوس والإغواء إلى القلب.

قال ابن عباس والحسن: {هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} : نزغاتهم ووساوسهم

(2)

.

وفُسِّرت همزاتهم بنفخهم ونفثهم، هذا قول مجاهد

(3)

.

وفُسِّرت بخنقهم؛ وهو الموتة التي تشبه الجنون

(4)

.

(1)

في غريب الحديث (3/ 77، 78). ونقله الواحدي في البسيط (16/ 55).

(2)

قال ابن عباس: «نزغاتهم» ، وقال الحسن:«وساوسهم» . انظر: تفسير الثعلبي (7/ 55)، وتفسير البغوي (5/ 428).

(3)

انظر: تفسير الثعلبي (7/ 55)، وتفسير البغوي (5/ 428).

(4)

وهو قول ابن زيد، رواه عنه ابن جرير في تفسيره (19/ 68).

ص: 164

وظاهر الحديث: أن الهمز نوع غير النفخ والنفث.

وقد يقال ــ وهو الأظهرـ: إن همزات الشياطين إذا أُفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم، وإذا قُرنت بالنفخ والنفث كانت نوعًا خاصًّا، كنظائر ذلك.

ثم قال: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} .

قال ابن زيد: في أموري

(1)

.

وقال الكلبي: عند تلاوة القرآن

(2)

.

وقال عكرمة: عند النزع والسِّياق

(3)

.

فأمَره أن يستعيذ من نَوْعَيْ شرِّهم: إصابتهم له بالهمز، وقربهم ودنوّهم منه. فتضمنت الاستعاذة أن لا يمسوه ولا يقربوه، وذكر ذلك سبحانه عقيب قوله:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96]، فأمره أن يحترز من شر شياطين الإنس بدفع إساءتهم إليه بالتي هي أحسن، وأن يدفع شر شياطين الجن بالاستعاذة منهم.

ونظير هذا قولُه في الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فأمره بدفع شر الجاهلين بالإعراض عنهم، ثم أمره بدفع شر الشيطان

(4)

بالاستعاذة منه؛ فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ

(1)

رواه ابن جرير في تفسيره (19/ 69)، وعزاه في الدر المنثور (6/ 114) لابن أبي حاتم.

(2)

انظر: النكت والعيون للماوردي (4/ 66).

(3)

انظر: الكشاف للزمخشري (3/ 204). والأقوال الثلاثة في البسيط (16/ 58).

(4)

الأصل: «الشياطين» . والمثبت من بقية النسخ.

ص: 165

الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].

ونظير ذلك قولُه في سورة فُصِّلت: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، فهذا لدفع شر شيطان الإنس، ثم قال:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ [29 ب] مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36]، وقال هاهنا:{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ؛ فأكد بـ (إنّ) وبضمير الفصل، وأتى باللام في {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وقال في الأعراف:{إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .

وسرُّ ذلك ــ والله أعلم ــ: أنه حيث اقتصر على مجرد الاسم ولم يؤكده؛ أريد إثبات مجرد الوصف الكافي في الاستعاذة، والإخبار أنه سبحانه يسمع ويعلم، فيسمع استعاذتك فيجيبك، ويعلم ما تستعيذ منه فيدفعه عنك، فالسمع لكلام المستعيذ، والعلم لفعل المستعاذ منه، وبذلك يحصل مقصود الاستعاذة، وهذا المعنى شامل للموضعين.

وامتاز المذكور في «فصلت» بمزيد التأكيد والتعريف والتخصيص؛ لأن سياق ذلك بعد إنكاره سبحانه على الذين شكُّوا في سمعه لقولهم، وعلمه بهم

(1)

، كما ثبت في «الصحيحين»

(2)

من حديث ابن مسعود، قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي، كثيرٌ شحمُ بطونهم، قليلٌ فقه قلوبهم، فقالوا: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال أحدهم:

(1)

في أكثر النسخ: «وعلمهم به» .

(2)

البخاري (4817)، ومسلم (2775).

ص: 166

يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا، فقال الآخر: إنْ سَمِعَ بعضَهُ سمعه كُلَّه، فأنزل الله عز وجل:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} إلى قوله: {مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 22، 23].

فجاء التأكيد في قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} في سياق هذا الإنكار، أي هو وحده الذي له كمال قوة السمع وإحاطة العلم، لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون: أنه لا يسمع إن أخفوْا، وأنه لا يعلم كثيرًا مما يعملون.

وحسّن ذلك أيضًا: أن المأمور به في سورة فصلت دفع إساءتهم إليه بإحسانه إليهم، وذلك أشق على النفوس من مجرد الإعراض عنهم؛ ولهذا عقبه بقوله:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]، فحسن التأكيد لحاجة المستعيذ.

وأيضًا فإن السياق هاهنا لإثبات صفات كماله، وأدلة ثبوتها، وآيات ربوبيته، وشواهد توحيده؛ ولهذا عقَّب ذلك بقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} [فصلت: 37]، وقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت: 39]، فأتى بأداة التعريف الدالة على أن من أسمائه السَّميعَ العَلِيمَ، كما جاءت الأسماء الحسنى كلها معرّفةً.

والذي في الأعراف في سياق وعيد المشركين وإخوانِهم من الشياطين، ووعد المستعيذ بأن له ربًّا يسمع ويعلم، وآلهة المشركين التي

(1)

عبدوها من

(1)

الأصل: «الذين» . والمثبت من بقية النسخ.

ص: 167

دونه؛ ليس لهم أعين يبصرون بها، ولا آذان يسمعون بها، فالله سميع عليم، وآلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم، فكيف يُسَوُّونها به في العبادة. فعلمتَ أنه لا يليق بهذا السياق غير التنكير، كما لا يليق بذلك غير التعريف. والله أعلم بأسرار كلامه.

ولمّا كان المستعاذ منه في سورة {حم} المؤمن هو شرّ

(1)

مجادلة الكفار في آياته، وما ترتَّب عليها من أفعالهم المرئية بالبصر، قال:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56]؛ فإنه لما كان المستعاذ منه كلامهم وأفعالهم المشاهدة عيانا قال: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وهناك المستعاذ منه غير مشاهد لنا؛ فإنه يرانا هو وقَبيلُه من حيث لا نراه، بل هو معلوم بالإيمان وإخبار الله ورسوله.

فصل

فالقرآن أرشد إلى دفع [30 أ] هذين العدوّين بأسهل الطرق: بالاستعاذة، والإعراض عن الجاهلين، ودفع إساءتهم بالإحسان، وأخبر عن عِظم حظِّ من لقّاه ذلك؛ فإنه ينال بذلك كفّ شر عدوه وانقلابه صديقًا، ومحبة الناس له، وثناءهم عليه، وقهر هواه، وسلامة قلبه من الغِلّ والحقد، وطمأنينة الناس حتى عدوه إليه، هذا غير ما يناله من كرامة الله، وحسن ثوابه ورضاه عنه، وهذا غاية الحظ عاجلًا وآجلًا. ولما كان ذلك لا يُنال إلا بالصبر قال:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت: 35]؛ فإن النَّزِق الطائش لا يصبر عن المقابلة.

(1)

ت، ظ:«سر» . م: «سوء» .

ص: 168

ولما كان الغضب مَرْكَبَ الشيطان ــ فتتعاون النفس الغضبية والشيطان على النفس المطمئنة التي تأمر بدفع الإساءة بالإحسان ــ: أُمر أن يعاونها بالاستعاذة منه، فتَمُدُّ الاستعاذةُ للنفس المطمئنة، فتقوى على مقاومة جيش النفس الغضبية، ويأتي مدد الصبر الذي يكون النصر معه، وجاء مدد الإيمان والتوكل، فأبطل سلطان الشيطان، فـ {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99].

قال مجاهد

(1)

، وعكرمة

(2)

، والمفسرون: ليس له حجة.

والصواب أن يقال: ليس له طريق يتسلط به عليهم لا من جهة الحجة، ولا من جهة القدرة، فالقدرة داخلة في مُسمَّى السلطان، وإنما سُمِّيت الحجة سلطانًا؛ لأن صاحبها يتسلط بها تسلُّط صاحب القدرة بيده، وقد أخبر سبحانه أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين المتوكلين، فقال في سورة الحجر:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 39 ــ 42].

وقال في سورة النحل: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى

(1)

روى ابن جرير في تفسيره (17/ 294) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: «حجته على الذين يتولّونه» ، وعزاه في الدر المنثور (5/ 166) لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(2)

روى ابن جرير في تفسيره (8/ 30، 9/ 337، 19/ 444، 23/ 44) من طريق سفيان عن رجل عن عكرمة قال: «كل شيء في القرآن سلطان فهو حجة» .

ص: 169

رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99، 100].

فتضمن ذلك أمرين:

أحدهما: نفي سلطانه وإبطاله على أهل التوحيد والإخلاص.

والثاني: إثبات سلطانه على أهل الشرك وعلى من تولَّاه.

ولما علم عدوُّ الله أن الله لا يُسلّطه على أهل التوحيد والإخلاص قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83].

فعلم عدو الله أن من اعتصم بالله، وأخلص له، وتوكل عليه لا يقدر على إغوائه وإضلاله، وإنما يكون له السلطان على من تولاه وأشرك مع الله، فهؤلاء رعيته، وهو وليُّهم وسلطانهم ومتبوعهم.

فإن قيل: فقد أثبت له السلطان على أوليائه في هذا الموضع، فكيف ينفيه في قوله:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سبأ: 20،21].

قيل: إن كان الضمير في قوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} عائدًا على المؤمنين فالسؤال ساقط، ويكون الاستثناء منقطعًا؛ أي لكن امتحنّاهم بإبليس، لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك.

وإن كان عائدًا على ما عاد عليه في قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} ، وهو الظاهر؛ ليصحّ الاستثناء المنقطع بوقوعه بعد النفي،

ص: 170

ويكون المعنى: وما سلّطناه عليهم إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة

(1)

.

قال ابن قُتيبة

(2)

: «إن إبليس لما سأل الله النظرة: فأنظَره، قال: لأُغوِينَّهم ولأُضِلَّنهم ولآمرنَّهم بكذا، ولأتخذنّ من عبادك نصيبًا مفروضًا، وليس هو في وقت هذه المقالة مستيقنًا أن ما قدّره فيهم يتمّ، وإنما قاله ظانًّا، فلما اتّبعوه وأطاعوه صدَّق عليهم ما ظنَّه فيهم، فقال تعالى: وما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكِّين، يعني: نعلمهم موجودين ظاهرين، فيحق القول ويقع الجزاء» .

وعلى هذا فيكون السلطان هاهنا على من لم يؤمن بالآخرة وشكّ فيها، وهم الذين تولَّوه وأشركوا به؛ فيكون السلطان ثابتًا لا منفيًّا، فتتفق هذه الآية مع سائر الآيات.

فإن قيل: فما تصنع بالتي في سورة إبراهيم؟ حيث يقول لأهل النار: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]، وهذا وإن كان قوله فالله سبحانه أخبر به عنه مُقررًا له لا منكرًا، فدلّ على أنه كذلك.

قيل: هذا سؤال جيد، وجوابه: أن السلطان المنفي في هذا الموضع هو الحجة والبرهان؛ أي ما كان لي عليكم من حجة وبرهان أحتجُّ به عليكم، كما قال ابن عباس:«ما كان لي من حجة أحتجُّ بها عليكم»

(3)

؛ أي ما

(1)

م: «بالله» .

(2)

في «تأويل مشكل القرآن» (ص 311).

(3)

علّق البخاري في كتاب التفسير، باب: سورة بني إسرائيل، بصيغة الجزم عن ابن عباس قال:«كل سلطان في القرآن فهو حجة» ، وهو موصول عند عبد الرزاق في تفسيره (2/ 399)، وابن جرير في تفسيره (19/ 444)، وابن أبي حاتم في تفسيره (5778، 16232)، وغيرهم، وصحّح إسناده ابن كثير في تفسيره (2/ 441)، وابن حجر في الفتح (8/ 391).

ص: 171

أظهرتُ لكم حجةً إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، وصدقتم مقالتي، واتبعتموني بلا برهان ولا حجة.

وأما السلطان الذي أثبته في قوله: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 100]، فهو تسلُّطُه

(1)

عليهم بالإغواء والإضلال، وتمكُّنه منهم، بحيث يؤُزُّهم إلى الكفر والشرك ويُزعِجهم إليه، ولا يدعهم يتركونه، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]، قال ابن عباس:«تُغريهم إغراءً»

(2)

، وفي رواية:«تُشْلِيهم إشلاءً»

(3)

، وفي لفظ:«تُحرِّضهم تحريضًا»

(4)

، وفي آخر:«تُزعِجهم إلى المعاصي إزعاجًا»

(5)

، وفي آخر:

(1)

م: «تسليطه» .

(2)

رواه ابن جرير في تفسيره (18/ 251)، وابن أبي حاتم ـ كما في فتح الباري (8/ 427) ـ من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وانظر: معاني القرآن للنحاس (4/ 360).

(3)

لم أقف عليه من كلام ابن عباس، وورد من تفسير مجاهد، رواه عنه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (5/ 538)، ومن تفسير ابن زيد، رواه عنه ابن جرير في تفسيره (18/ 252).

(4)

روى ابن أبي حاتم ـ كما في الدر المنثور (5/ 538) ـ عن ابن عباس في قوله تعالى: {تؤزهم} قال: «تحرّض المشركين على محمد وأصحابه» . وانظر: تفسير ابن كثير (5/ 262).

(5)

انظر: تفسير الثعلبي (6/ 229)، وتفسير الرازي (21/ 215)، وتفسير القرطبي (11/ 137).

ص: 172

«تُوقِدهم»

(1)

؛ أي: تُحرِّكهم كما يحرَّك الماء بالإيقاد تحته.

وقال الأخفش: «تُوهِّجهم»

(2)

.

وحقيقة ذلك: أن الأزّ هو التحريك والتهييج، ومنه يقال لغليان القدر: الأزيز؛ لأن الماء يتحرك عند الغليان، ومنه الحديث:«لِجَوفه أزيزٌ كأزيزِ المِرْجَل من البكاء»

(3)

.

قال أبو عبيدة

(4)

: الأزيز: الالتهاب والحركة، كالتهاب النار في الحطب، يقال: اُزَّ قِدْرَك أي: أَلْهِبْ تحتها بالنار؛ وائتزَّت القِدْرُ: إذا اشتد غليانها.

فقد حصل للأزّ معنيان، أحدهما: التحريك، والثاني: الإيقاد والإلهاب، وهما متقاربان، فإنه تحريك خاص بإزعاج وإلهاب.

(1)

رواه عنه ابن الأنباري في «إيضاح الوقف والابتداء» . انظر: الدر المنثور (5/ 538).

(2)

انظر: تفسير الثعلبي (6/ 230).

(3)

رواه ابن المبارك في الزهد (109)، وأحمد (4/ 25، 26)، وعبد بن حميد (514)، وأبو داود (904)، والترمذي في الشمائل (323)، والنسائي (1214)، وأبو يعلى (1599)، وغيرهم عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (900)، وابن حبان (665، 753)، والحاكم (971)، والنووي في رياض الصالحين (450) وفي غيره، وابن دقيق العيد في الاقتراح (ص 96)، وابن رجب في فتح الباري (4/ 245)، وقال ابن حجر في الفتح (2/ 206):«إسناده قوي» ، وهو في صحيح الترغيب (544، 3329).

(4)

انظر: تهذيب اللغة (13/ 281). واختصر المؤلف أقوال العلماء في تفسير «الأزّ» من البسيط للواحدي (14/ 324، 325).

ص: 173

فهذا من السلطان الذي له على أوليائه وأهل الشرك، ولكن ليس له على ذلك سلطان حجةٍ وبرهان، وإنما استجابوا له بمجرَّد دعوته إياهم، لمَّا وافقت أهواءهم وأغراضهم، فهم الذين أعانوا على أنفسهم، ومكّنوا عدوَّهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته، فلما أعطوا بأيديهم واستأسروا له سُلّط عليهم عقوبةً لهم!

وبهذا يظهر معنى قوله سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، فالآية على عمومها وظاهرها، وإنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضادُّ الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيلٌ، بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسبَّبُوا إلى جعل السبيل عليهم، كما تسبّبوا إليه يوم أُحد بمعصية الرسول ومخالفته.

والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانًا حتى جعل له العبد سبيلًا إليه؛ بطاعته والشرك به، فجعل الله حينئذٍ له عليه تسلطًا وقهرًا، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ [31 أ] إلا نفسه

(1)

.

فالتوحيد والتوكل والإخلاص يمنع سلطانه، والشرك وفروعه يوجب سلطانه، والجميع بقضاء مَنْ أزِمَّة الأمور بيديه، ومَردُّها إليه، وله الحجة البالغة، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، لكن أبتْ حكمته وحمده وملكه إلا ذلك:{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 36، 37].

(1)

كما في الحديث القدسي المشهور الذي أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر.

ص: 174