الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس
في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدركًا للحقِّ مريدًا له، مُؤْثِرًا له على غيره
لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب كان كماله وصلاحه باستعماله
(1)
هاتين القوتين فيما ينفعه، ويعود بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته، والتمييز بينه وبين الباطل، واستعمالِ قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل، فمن لم يعرف الحق فهو ضالٌّ، ومن عرفه وآثر غيرَه عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو مُنعَم عليه.
وقد أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ولهذا كان النصارى أخصَّ بالضلال؛ لأنهم أُمة جهل، واليهود أخصَّ بالغضب؛ لأنهم أمة عناد، وهذه الأمة هم المنعم عليهم. ولهذا قال سفيان بن عيينة
(2)
: من فسد من عُبّادنا فَفِيه شبه من النصارى، ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود. لأن النصارى عبدوا بغير علم، واليهود عرفوا الحق، وعدلوا عنه.
وفى «المسند» والترمذي
(3)
من حديث عَدِيِّ بن حاتم، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
ش: «باستكمال» .
(2)
ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في «تفسير ست سور» (ص 450).
(3)
مسند أحمد (4/ 378)، سنن الترمذي (2953، 2954)، ورواه أيضًا الطبراني في الكبير (17/ 98، 99)، قال الترمذي:«هذا حديث حسن غريب» ، وصححه ابن حبان (6246، 7206)، وابن تيمية كما في المجموع (1/ 64) وفي غيره، وابن القيم في بدائع الفوائد (2/ 408)، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 306):«رجاله رجال الصحيح، غير عباد بن حبيش، وهو ثقة» ، وهو في السلسلة الصحيحة (3263).
قال: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالُّون» .
وقد جمع سبحانه بين هذين الأصلين في غير موضع من كتابه، فمنها قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، فجمع سبحانه بين الاستجابة له والإيمان به ومنها قوله عن رسوله صلى الله عليه وسلم:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، وقال تعالى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [7 ب] إلى قوله: {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 ـ 5]، وقال الله تعالى في وسط السورة: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
…
} إلى آخر الآية [البقرة: 177]، وقال تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 ـ 3].
فأقسم سبحانه بالدهر ــ الذي هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة ــ على أن كل أحد في خُسر؛ إلا من كمّل قُوَّته العلمية بالإيمان بالله، وقوَّته العملية بالعمل بطاعته، فهذا كماله في نفسه، ثم كمّل غيره بوصيته له بذلك، وأمْرِهِ إياه به، وبملاك ذلك وهو الصبر، فكمُل في نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وكمّل غيره بتعليمه إياه ذلك، ووصيته له بالصبر عليه، ولهذا قال الشافعي:«لو فكر الناس في سورة {وَالْعَصْرِ} لكفتهم»
(1)
.
وهذا المعنى في القرآن في مواضع كثيرة، يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا الحق واتبعوه، وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه، أو خالفوه واتبعوا غيره.
وينبغي أن يُعرف أن هاتين القوَّتين لا تتعطلان من القلب، بل إن استعمل قوّته العلمية في معرفة الحق وإدراكه؛ وإلا استعملها بمعرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل، وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به؛ وإلا استعملها في ضده، فالإنسان حارث هَمّام بالطبع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أصدق الأسماء حارث وهمّام»
(2)
، فالحارث: الكاسب العامل، والهمّام:
(1)
انظر: تفسير ابن كثير (8/ 3852).
(2)
رواه أحمد (4/ 345)، والبخاري في الأدب المفرد (814)، وأبو داود (4950) من حديث أبي وهب الجُشَمي رضي الله عنه، وحسَّنه ابن عبد البر في الاستغناء (1/ 353)، وصححه ابن تيمية كما في المجموع (7/ 43)، وابن القيم في الزاد (2/ 305)، وهو في السلسلة الصحيحة (1040). وفي الباب عن ابن مسعود وأبي سبرة وأبي هريرة وابن عمر ومعاوية وعبد الله بن جراد والحسن بن جابر وعبد الله بن عامر مرسلًا رضي الله عنهم.
المريد؛ فإن النفس متحركة بالإرادة، وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها، والإرادة تستلزم مرادًا يكون مُتصوَّرًا لها، متميزًا عندها؛ فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتُرِدْهُ
(1)
تصوَّرتِ الباطلَ وطلبته وأرادته ولا بدَّ.
وهذا يتبين بالباب الذي بعده، فنقول:
(1)
الأصل: «تريده» .