الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمقصود: أن
زكاة القلب موقوفة على طهارته
، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]، وذكر ذلك سبحانه عَقِيبَ تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية، فدل على أن التزكِّي هو باجتناب ذلك، وكذلك قوله تعالى في الاستئذان على أهل البيوت:{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28]؛ فإنهم إذا أُمروا بالرجوع لئلَّا يَطّلعوا على عورة لم يحبَّ صاحب المنزل أن يُطّلَع عليها، كان ذلك أزكى لهم، كما أن ردّ البصر وغضّه أزكى لصاحبه. وقال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]، وقال تعالى عن موسى في خطابه لفرعون:{هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18]، وقال تعالى:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7].
قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم
(1)
: هي التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان الذي به يزكو القلب؛ فإنه يتضمن نفى إلهية ما سوى الحق من القلب، وذلك طهارة، وإثبات إلهيته سبحانه، وهو أصل كل زكاة ونماء؛ فإن التزكي وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة، فإنما يحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي ينتظم الأمرين جميعًا، فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح هو التوحيد.
(1)
انظر: تفسير ابن كثير (7/ 3094).
والتزكية جَعْلُ الشيء زكيًّا: إما في ذاته، وإما في الاعتقاد والخبر عنه، كما يقال عدَّلتُه وفسَّقتُه إذا جعلتَه كذلك في الخارج أو في الاعتقاد والخبر.
وعلى هذا فقوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] هو على غير معنى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]؛ أي لا تخبروا بزكاتها وتقولوا: نحن زاكون صالحون متقون، ولهذا قال عقيب ذلك:{هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].
وكان اسم زينب بَرّة، فقال:«تُزكِّي نفسها» ؛ فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب
(1)
، وقال:«الله أعلم [15 ب] بأهل البر منكم»
(2)
.
وكذلك قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} ؛ أي يعتقدون زكاءها ويخبرون به، كما يزكِّي المزكِّي الشاهدَ، فيقول عن نفسه ما يقول المزكّي فيه، ثم قال تعالى:{بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء: 49]؛ أي هو الذي يجعله زاكيًا ويخبر بزكاته. وهذا بخلاف قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} ؛ فإنه من باب قوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18]؛ أي تعمل بطاعة الله، فتصير زاكيًا، ومثله قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14].
وقد اختُلِف في الضمير المرفوع في قوله: {زَكَّاهَا}
(3)
:
فقيل: هو لله، أي أفلحت نفسٌ زكَّاها الله، وخابت نفسٌ دسّاها.
(1)
أخرجه البخاري (6192)، ومسلم (2141) عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه مسلم (2142) عن زينب بنت أبي سلمة.
(3)
انظر: تفسير ابن كثير (8/ 3788) والقرطبي (20/ 76، 77).
وقيل: إن الضمير يعود على فاعل {أَفْلَحَ} ، وهو {مَنْ} سواءً كانت موصولة أو موصوفة؛ فإن الضمير لو عاد على الله سبحانه لقال: قد أفلح من زكاه، وقد خاب من دسّاه.
والأولون يقولون: {مَنْ} وإن كان لفظها مذكرًا، فإذا وقعت على مؤنث جاز إعادة الضمير عليها بلفظ المؤنث مراعاةً للمعنى، وبلفظ المذكر مراعاةً للفظ، وكلاهما من الكلام الفصيح، وقد وقع في القرآن اعتبار لفظها ومعناها، فالأول كقوله:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25]، فأفرد الضمير، والثاني كقوله:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42].
قال المرجِّحون للقول الأول: يدل على صحة قولنا ما رواه أهل «السنن»
(1)
من حديث ابن أبي مُليْكة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أتيت ليلة، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«ربِّ! أعطِ نفسي تقواها، وزَكِّها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها» ؛ فهذا الدعاء كالتفسير لهذه الآية، وأن الله هو الذي يزكي النفوس، فتصير زاكية، فالله هو المزكِّي، والعبد هو
(1)
هو في مسند أحمد (6/ 209) من طريق صالح بن سعيد عن عائشة أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم من مضجعه، فلمسته بيدها، فوقعت عليه وهو ساجد وهو يقول
…
الدعاء. حسنه العراقي في تخريج الإحياء (1/ 329)، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 144):«رجاله رجال الصحيح، غير صالح بن سعيد الراوي عن عائشة، وهو ثقة» ، وقال ابن حجر في نتائج الأفكار (2/ 98):«رجاله رجال الصحيح إلا صالح بن سعيد، فلم أجد له ذكرًا إلا في ثقات ابن حبان» . وضعفه الألباني في تمام المنة (ص 208)، وفي الباب عن زيد بن أرقم وابن عباس وأبي هريرة وعبد الرحمن بن أبي عمرة مرسلًا.
المتزكِّي، والفرق بينهما فرقُ ما بين الفاعل والمطاوع.
قالوا: والذي جاء في القرآن من إضافة الزكاة إلى العبد إنما هو بالمعنى الثاني دون الأول؛ كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، وقوله:{هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18]؛ أي تقبل تزكية الله لك، فتزكّى.
قالوا: وهذا هو الحق؛ فإنه لا مفلح إلا من زكّاه الله.
قالوا: وهذا اختيار ترجمان القرآن ابن عباس؛ فإنه قال في رواية علي ابن أبى طلحة، وعطاء، والكلبيّ:«قد أفلح من زكى اللهُ نفسَه»
(1)
.
وقال ابن زيد: «قد أفلح من زكى الله نفسه»
(2)
، واختاره ابن جرير.
قالوا: ويشهد لهذا القول ـ أيضًا ـ قوله في أول السورة: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8].
قالوا: وأيضًا فإنه سبحانه أخبر أنه خالق النفس وصفاتها؛ وذلك هو معنى التسوية.
قال أصحاب القول الآخر: ظاهر الكلام ونظمه الصحيح يقتضي أن يعود الضمير على {مَنْ} ؛ أي أفلح من زكَّى نفسَه، هذا هو المفهوم المتبادر إلى الفهم، بل لا يكاد يُفهم غيره، كما إذا قلت: هذه جارية قد ربح من اشتراها،
(1)
رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 456)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (955)، والبيهقي في القضاء والقدر (355) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وعزاه في الدر المنثور (8/ 531) لابن المنذر وابن أبي حاتم. وروى عبد بن حميد ـ كما في الدر المنثور (8/ 530) ـ عن الكلبي قال:«أفلح من زكاه الله، وخاب من دساه الله» .
(2)
رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 456).
وصلاة قد سَعِدَ من صلاها، وضالّة قد خاب من آواها، ونظائر ذلك.
قالوا: والنفس مؤنثة، فلو عاد الضمير على الله سبحانه لكان وجه الكلام: قد أفلحت نفسٌ زكاها، أو
(1)
أفلحت من زكاها، لوقوع {مَنْ} على النفس.
قالوا: وإن جاز تفريغ الفعل من التاء
(2)
لأجل لفظ {مَنْ} ، كما تقول: قد أفلح من قامت منكن، فذاك حيث لا يقع اشتباه والتباس، فإذا وقع الاشتباه لم يكن بُدٌّ من ذكر ما يزيله.
قالوا: و {مَنْ} موصولة بمعنى (الذي)، ولو قيل: قد أفلح الذي زكاها الله لم يكن جائزًا؛ لعود الضمير المؤنث على الذي، وهو مذكر، قالوا: وهو سبحانه قصد نسبة الفلاح إلى صاحب النفس إذا زكَّى نفسَه، ولهذا فرّغ الفعل من التاء
(3)
، وأتى بـ {مَنْ} التي هي بمعنى الذي.
وهذا الذي عليه جمهور المفسرين، حتى أصحاب ابن عباس [16 أ].
وقال قتادة: «{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}، مَنْ عمل خيرًا زكاها بطاعة الله»
(4)
.
وقال أيضًا: «قد أفلح من زكَّى نفسه بعمل صالح»
(5)
.
(1)
«قد
…
أو» ساقطة من الأصل.
(2)
م: «الهاء» .
(3)
م: «الهاء» .
(4)
رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 456)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 529 - 530) لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 456).
وقال الحسن: «قد أفلح من زكى نفسه، فأصلحها وحملها على طاعة الله، وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله»
(1)
.
قال ابن قتيبة
(2)
: «يريد: أفلح من زكَّى نفسه، أي أنماها وأعلاها بالطاعة، والبِرّ، والصدقة، واصطناع المعروف، {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]؛ أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر، وركوب المعاصي. والفاجر أبدًا خفيُّ المكان، زَمِرُ المروءة، غامض الشخص، ناكس الرأس، فمرتكب الفواحش قد دَسَّى نفسه وقمعها، ومصطنع المعروف شهَّر نفسَه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الرُّبى ويَفَاع الأرض؛ لتُشهِّر أماكنها للمُعْتفين
(3)
، وتوقد النيران في الليل للطارقين، وكانت اللئام تنزل الأوْلاج والأطراف والأهضام؛ لتُخفِي أماكنهَا على الطالبين، فأولئك أعلوا أنفسهم وزكَّوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسَّوها». وأنشد
(4)
:
وَبَوَّأتَ بَيْتَكَ في مَعْلَمٍ
…
رَحيبِ المَباءَةِ وَالمَسْرَحِ
كَفَيْتَ العُفَاةَ طِلابَ القِرَى
…
وَنَبْحَ الكِلَابِ لمُسْتَنْبِح
فهذان قولان مشهوران في الآية.
(1)
رواه عبد بن حميد بنحوه كما في الدر المنثور (8/ 530)، وانظر: تفسير البغوي (8/ 439).
(2)
انظر: تأويل مشكل القرآن (ص 344، 345).
(3)
الأصل، ظ، ت:«للمعتقبين» تصحيف.
(4)
أي ابن قتيبة في المصدر السابق. والبيتان بلا نسبة في الحيوان (1/ 381، 382، 5/ 134، 135)، وتاج العروس (بوأ).
وفيها قول ثالث: إن المعنى خاب من دسَّ نفسه مع الصالحين وليس منهم، حكاه الواحدي
(1)
، قال: ومعنى هذا أنه أخفى نفسه في الصالحين، يُرِي الناس أنه منهم، وهو منطوٍ على غير ما ينطوي عليه الصالحون.
وهذا وإن كان حقًّا في نفسه؛ لكن في كونه هو المراد بالآية نظرٌ. وإنما يدخل في الآية بطريق العموم؛ فإن الذي يدسُّ نفسه بالفجور إذا خالط أهل الخير دسَّ نفسه فيهم، والله أعلم.
(1)
في البسيط (24/ 64). وانظر تهذيب اللغة (12/ 281). والقائل هو ابن الأعرابي.