الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما كان كمال العبد في أن يكون عالمًا بالحق، متَّبعًا له، معلِّمًا لغيره، مرشدًا له، قال:«اجعلنا هُداة مهتدين» .
ولما كان الرضا النافع المحصِّل للمقصود هو الرضا بعد وقوع القضاء لا قبله ــ فإن ذلك عَزْمٌ على الرضا، فإذا وقع القضاء انفسخ ذلك العزم ــ سأل الرضا بعده؛ فإن
المقدور يكتنفه
(1)
أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه
، فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما، كما في «المسند» وغيره
(2)
عنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن من سعادة ابن آدم: استخارة الله، ورضاه بما قضى الله، وإن من شقاوة ابن آدم: ترك استخارة الله، وسخطه بما قضى الله» .
ولما كانت خشية الله رأس كل خير في المشهد والمغيب، سأله خشيته في الغيب والشهادة.
ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق في رضاه، فإذا غضب أخرجه غضبه إلى الباطل، وقد يدخله أيضًا رضاه في الباطل، سأل الله أن يوفِّقه لكلمة الحق في الغضب والرضا، ولهذا قال بعض السلف: «لا تكن ممن
(1)
م: «يكشفه» .
(2)
مسند أحمد (1/ 168) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ورواه أيضًا الترمذي (2151)، والبزار (1097، 1178)، وأبو يعلى (701)، والبيهقي في الشعب (1/ 219)، قال الترمذي:«هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث محمد ابن أبي حميد، ويقال له أيضًا: حماد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم المدني، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث» ، وضعّفه الذهبي في الميزان (3/ 531)، والهيثمي في المجمع (2/ 566)، والعيني في عمدة القاري (7/ 223)، وأحمد شاكر في التعليق على المسند (3/ 28)، وصححه الحاكم (1903)، وحسَّنه ابن حجر في الفتح (11/ 184)، وهو في السلسلة الضعيفة (1906، 6212).
إذا رضي أدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق».
ولما كان الفقر والغنى مِحْنتين وبَلِيَّتَيْنِ، يبتلي الله بهما عبده، ففي الغنى يبسط يده، وفي الفقر يقبضها، سأل الله القصد في الحالين، وهو التوسط الذي ليس معه إسراف ولا تقتير.
ولما كان النعيم نوعين: نوعًا للبدن، ونوعًا للقلب؛ وهو قرة العين، وكماله بدوامه واستمراره، جمع بينهما في قوله:«أسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع» .
ولما كانت الزينة زينتين: زينة البدن، وزينة القلب؛ وكانت زينة القلب أعظمهما قدرًا وأجلهما خطرًا، وإذا حصلت حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه في العُقْبَى، سأل ربه الزينة الباطنة فقال:«زيِّنَّا بزينة الإيمان» .
ولما كان العيش في هذه الدار لا يبرُد لأحد كائنًا من كان، بل هو محشوٌّ بالغُصَص والنكد، ومحفوف بالآلام الباطنة والظاهرة، سأل بردَ العيش بعد الموت.
والمقصود أنه جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا، وأطيب ما في الآخرة. فإن حاجة العباد إلى ربهم في عبادتهم إيّاه وتأَلُّهِهِمْ له كحاجتهم إليه في خلقه لهم، ورِزْقه إياهم، ومعافاة أبدانهم، وستر عوراتهم، وأمن روعاتهم، بل حاجتهم إلى تأَلُّهِه ومحبته وعبوديته أعظم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، ولا صلاح لهم، ولا نعيم ولا فلاح، ولا لذة ولا سعادة بدون ذلك بحال.
ولهذا كانت «لا إله إلا الله» أحسن الحسنات، وكان توحيد الإلهية رأس
الأمر. وأما توحيد الربوبية ــ الذي أقر به المسلم والكافر، وقرره أهل الكلام في كتبهم ــ فلا يكفى وحده، بل هو الحُجَّةُ عليهم، كما بيّن ذلك سبحانه في كتابه في عدة مواضع.
ولهذا كان حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، كما في الحديث الصحيح
(1)
الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدري ما حق الله على عباده؟» ، قلت: الله ورسوله أعلم! قال: «حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» ، قلت: الله ورسوله أعلم! قال: «حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار» .
ولذلك يُحِبُّ سبحانه عباده المؤمنين الموحِّدين ويفرح بتوبتهم، كما أن في ذلك أعظم لذّة العبد وسعادته ونعيمه، فليس في الكائنات
(2)
شيء غير الله سبحانه يسكن القلب إليه، ويطمئن به، ويأنس به، ويتنعَّم بالتوجه إليه! ومن عبد غيره سبحانه، وحصل له به نوع منفعة ولذة؛ فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته، وهو بمنزلة أكل الطعام [9 أ] المسموم اللذيذ، وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما إله غيره سبحانه لفسدتا، كما قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله فسد فسادًا لا يُرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود من قلبه، ويكون الله وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه، ويرجوه، ويخافه، ويتوكل عليه، وينيب إليه.
(1)
أخرجه البخاري (2856)، ومسلم (30).
(2)
«في الكائنات» ساقطة من الأصل.
الوجه الثالث: أن فقر العبد إلى أن يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا؛ ليس له نظير فيقاسُ به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس، وبينهما فروق كثيرة؛ فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبِّه، وهو كادحٌ إليه كدحًا فملاقيه، ولا بد له من لقائه، ولا صلاح له إلا بتوحيد محبته وعبادته وخوفه ورجائه، ولو حصل له من اللَّذَّات والسرور بغيره ما حصل؛ فلا يدوم له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعَّم بهذا في حال وبهذا في حال، وكثيرًا ما يكون ذلك الذي يتنعَّم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرّته، وأما إلهه الحق فلا بد له منه في كل وقت، وفى كل حال، وأينما كان. فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، ودلَّ عليه السنة والقرآن، وشهدت به الفطرة والجَنان، لا كما يقوله من قلَّ نصيبه من التحقيق والعرفان، وبُخِس حظُّه من الإحسان: إن عبادته وذكره وشكره تكليف ومشقة، لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان، كما هي مقالاتٌ لمن بُخِسَ حظه من معرفة الرحمن، وقلَّ نصيبه من ذوق حقائق الإيمان، وفرح بما عنده من زبَدَ الأفكار وزُبالة الأذهان، بل عبادته ومعرفته وتوحيده وشكره قرَّة عين الإنسان، وأفضل لذة الروح والقلب والجَنان، وأطيب نعيمٍ ناله من كان أهلًا لهذا الشان، والله المستعان، وعليه التُّكلان.
وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقةَ والكُلْفةَ بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمنًا وتبعًا في بعضها؛ لأسبابٍ اقتضته لابد منها، هي من لوازم هذه النشأة. فأوامره سبحانه، وحقه الذي أوجبه على عباده، وشرائعه التي شرعها لهم؛ هي قرة العيون ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسرورها، وبه سعادتها وفلاحها، وكمالها في معاشها ومعادها، بل لا سرور لها، ولا فرح، ولا لذة، ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57، 58].
قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: فضلُ الله القرآنُ، ورحمته أن جعلكم من أهله
(1)
.
وقال هلال بن يِسَاف: بالإسلام الذي هداكم إليه، وبالقرآن الذي علَّمكم إياه، هو خيرٌ مما تجمعون من الذهب والفضة
(2)
.
وكذلك قال ابنُ عباسٍ والحسن وقتادة: فضله الإسلام، ورحمته القرآن
(3)
.
وقالت طائفة من السلف: فضله القرآن، ورحمته الإسلام.
(1)
أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 106).
(2)
أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 106).
(3)
أخرج أقوالهم الطبري في تفسيره (15/ 107).
والتحقيق: أن كُلًّا منهما فيه الوصفان [9 ب] الفضل والرحمة، وهما الأمران اللذان امتنَّ الله بهما على رسوله، فقال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]؛ والله سبحانه إنما رفع من رفع: بالكتاب والإيمان، ووضع من وضع: بعدمهما.
فإن قيل: فقد وقع تسمية ذلك تكليفًا في القرآن كقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله:{لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152].
قيل: نعم، إنما جاء ذلك في جانب النفي، ولم يسمِّ سبحانه أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفًا قط، بل سماها روحًا، ونورًا، وشفاءً، وهدًى، ورحمة، وحياة، وعهدًا، ووصية، ونحو ذلك.
الوجه الرابع: أن أفضل نعيم الآخرة وأجَلّه وأعلاه على الإطلاق هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع خطابه، كما في «صحيح مسلم»
(1)
عن صُهَيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنجِزَكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يُبيِّض وجوهَنا؟ ويُثقِّل موازيننا؟ ويُدخِلنا الجنة؟ ويُجِرْنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه» . وفى حديث آخر: «فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه»
(2)
.
(1)
برقم (181).
(2)
رواه ابن ماجه (184)، والآجري في التصديق بالنظر (48)، والدارقطني في الرؤية (61)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 208) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال أبو نعيم:«تفرّد به الفضل الرقاشي، ولم يتابع عليه، وفيه ضعف ولين» ، وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 759):«في إسناده نظر» ، وضعفه الهيثمي في المجمع (7/ 218)، وهو في ضعيف الترغيب (2244).
فبيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم مع كمال تنعُّمهم بما أعطاهم ربهم في الجنة، لم يُعِطهم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه، وإنما كان ذلك أحبَّ إليهم؛ لأن ما يحصل لهم به ــ من اللذة والنعيم والفرح والسرور وقرة العين ــ فوق ما يحصل لهم من اللذّة والنعيم
(1)
والتمتع بالأكل والشرب والحُور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعيمين البتة.
ولهذا قال سبحانه في حق الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15، 16]، فجمع عليهم نوعي العذاب: عذاب النار، وعذاب الحجاب عنه سبحانه، كما جمع لأوليائه نوعي النعيم: نعيم التمتع بما في الجنة، ونعيم التمتع برؤيته، وذكر سبحانه هذه الأنواع الأربعة في هذه السورة، فقال في حق الأبرار:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 22، 23].
وهضمَ معنى الآية من قال: ينظرون إلى أعدائهم يُعذَّبون، أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم، أو ينظر بعضهم إلى بعض. وكل هذا عُدول عن المقصود إلى غيره، وإنما المعنى ينظرون إلى وجه ربهم، ضدَّ حال الكفار الذين هم عن ربهم محجوبون، {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 16].
(1)
«اللذة والنعيم» ساقطة من الأصل.
وتأمل كيف قابل سبحانه ما قاله الكفار في أوليائه
(1)
في الدنيا وسخروا به منهم، بضده في القيامة؛ فإن الكفار كانوا إذا مر بهم المؤمنون يتغامزون ويضحكون منهم، {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 32]، قال تعالى:{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34]، مقابلةً لتغامزهم بهم وضحكهم منهم.
ثم قال: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 35]، فأطلق النظر، ولم يقيده بمنظور دون منظور، وأعلى ما نظروا إليه وأجلُّه وأعظمه: هو الله سبحانه، والنظر إليه أجلُّ أنواع النظر وأفضلها، وهو أعلى مراتب الهداية، فقابل بذلك قولهم:{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} ، فالنظر إلى الرب سبحانه مراد من هذين الموضعين
(2)
ولا بدَّ، إما بخصوصه، وإما بالعموم والإطلاق؛ ومَنْ تأمل السياق لم يجد الآيتين تحتملان غير إرادة ذلك خصوصًا أو عمومًا.
فصل
وكما أنه لا نِسْبَةَ لنعيم ما في الجنة إلى نعيم النظر إلى وجه الأعلى سبحانه، فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته، ومعرفته، والشوق إليه، والأُنس
(3)
به، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة [10 أ] لمعرفتهم به، ومحبتهم له؛ فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة، فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب، وأشد محبة له، كان الْتذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم.
(1)
ش: «عباده» . ظ: «أعدائهم» .
(2)
ش: «النوعين» .
(3)
ش: «الأمن» .
الوجه الخامس: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرٌّ، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خِذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عزٌّ ولا ذلٌّ، بل الله وحده هو الذي يملك له ذلك كله، قال تعالى:
{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2]، وقال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]، وقال تعالى:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160]، وقال تعالى عن صاحب يس:{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 23]، وقال:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3]، وقال تعالى:{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20، 21].
فجمع سبحانه بين النصر والرزق، فإن العبد مضطرٌّ إلى من يدفع عنه عدوه بنصره
(1)
، ويجلب له منافعه برزقه
(2)
، فلا بد له من ناصر ورازق، والله وحده هو الذي ينصر ويرزق، فهو الرزاق ذو القوة المتين، ومن كمال فطنة العبد ومعرفته أن يعلم أنه إذا مسَّه الله بسوء لم يرفعه عنه غيره، وإذا ناله
(1)
في بعض النسخ: «وينصره» .
(2)
في بعض النسخ: «ويرزقه» .
بنعمة لم يرزقه إياها سواه.
ويُذكَر أن الله سبحانه أوحى إلى بعض أنبيائه: «أدرك لي لطيف الفطنة وخفيَّ اللطف، فإني أحب ذلك، قال: يا رب! وما لطيف الفطنة؟ قال: إن وقعت عليك ذبابة فاعلم أني أوقعتُها؛ فَسَلْني أرفعها، قال: وما خفيُّ اللطف؟ قال: إذا آتيتُك
(1)
حَبّة فاعلم أني ذكرتك بها».
وقد قال تعالى عن السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، فهو سبحانه وحده ـ الذي يكفى عبده وينصره ويرزقه ويكلؤه.
قال الإمام أحمد
(2)
: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا عمران، قال: سمعت وهبًا يقول: قال الله عز وجل في بعض كتبه: «بِعزّتي إنه من اعتصم بي، فإن كادته السماوات بمن فيهن، والأرضون بمن فيهن؛ فإني أجعل له من ذلك مخرجًا، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسِفُ به من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء، ثم أكِلُه إلى نفسه، كفَى بي
(1)
في بعض النسخ: «أتتك» . وهذا الأثر ذكره أبو طالب المكي في «قوت القلوب» (2/ 15، 178).
(2)
لم أقف عليه بهذا الإسناد، ورواه إلى قوله:«ثم أكله إلى نفسه» أبو داود في الزهد (3) وابن أبي حاتم في التفسير (16520) من طريق عبد الصمد بن معقل عن وهب به. ورواه بنحوه ابن المبارك في الزهد (ص 108) عن معمر عن محمد بن عمر عن وهب، ومن طريق ابن المبارك رواه أبو نعيم في الحلية (4/ 38). وروى جزأه الأخير أحمد في الزهد (ص 96 ــ 97) من طريق جعفر عن عمران، وأبو نعيم (4/ 26) من طريق عبد الصمد بن معقل، كلاهما عن وهب.
لعبدي مالًا، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، فأنا أعلم بحاجته التي ترفُق به منه».
قال أحمد
(1)
: وحدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أبو سعيد المؤدِّب، حدثنا من سمع عطاءً الخراساني، قال: لقيت وهب بن مُنَبِّه وهو يطوف بالبيت، فقلت له: حدِّثني حديثًا أحفظه عنك في مقامي هذا، وأوجِزْ، قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود عليه السلام:«يا داود! أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيَّته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهنّ، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له من بينهن مخرجًا، أما وعزّتي وعظمتي لا يعتصم مني عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعرف ذلك [10 ب] من نيته؛ إلا قطعتُ أسباب السماء من يده، وأسَخْتُ الأرضَ من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأي وادٍ هلك» .
وهذا الوجه أظهر للعامة من الذي قبله، ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول، ومنه دعت الرسل إلى الوجه الأول، وإذا تدبر اللبيب القرآن وجد الله سبحانه يدعو عباده بهذا الوجه إلى الوجه الأول، وهذا الوجه يقتضى التوكل على الله والاستعانة به، ودعاءه ومسألته دون ما سواه، ويقتضي أيضًا محبته وعبادته، لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، فإذا عبدوه وأحبوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا منه إلى الوجه الأول.
ونظير ذلك من ينزل به بلاء عظيم، أو فاقة شديدة، أو خوف مُقِلقٌ، فجعل يدعو الله سبحانه ويتضرع إليه، حتى فتح له من لذيذ مناجاته، وعظيم
(1)
لم أقف عليه بهذا الإسناد، ورواه أبو نعيم في الحلية (4/ 25 ـ 26) من طريق سعيد ابن سليمان عن فرج بن فضالة عن عطاء الخراساني به.