الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع
في أن حياة القلب وإشراقه مادةُ كل خير فيه وموتَه وظلمتَه مادةُ كل شر فيه
أصلُ كلِّ خيرٍ وسعادة للعبد بل لكل حي ناطق: كمال حياته ونوره، فالحياة والنور مادة الخير كله، قال الله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، فجمع بين الأصلين: الحياة، والنور، فبالحياة تكون قوَّته، وسمعه، وبصره، وحياؤه، وعِفّته، وشجاعته، وصبره، وسائر أخلاقه الفاضلة، ومحبته للحسن، وبغضه للقبيح، فكلما قويت حياته قويت فيه هذه الصفات، وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه الصفات. وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته في نفسه، فالقلب الصحيح الحي إذا عُرضت عليه القبائح؛ نَفَر منها بطبعه وأبغضها، ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت، فإنه لا يفرّق بين الحسن والقبيح كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر
(1)
.
وكذلك القلبُ المريضُ بالشهوة، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرِض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه.
(1)
رواه بنحوه ابن أبي شيبة (7/ 504)، وابن جرير في تفسيره (23/ 188)، والطبراني في الكبير (9/ 107)، وعنه أبو نعيم في الحلية (1/ 135)، ورواه البيهقي في الشعب (6/ 95)، وابن عبد البر في التمهيد (23/ 283)، قال الهيثمي في المجمع (7/ 541):«رجاله رجال الصحيح» .
وكذلك إذا قوي نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه، فاستبان حُسْنَ الحَسَن بنوره، وَآثَرَهُ بحياته، وكذلك قُبْحُ القبيح.
وقد ذكر سبحانه هذين الأصلين في مواضع من كتابه، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، فجمع بين الروح الذي يحصل به الحياة، والنور الذي يحصل به الإضاءة والإشراق، وأخبر أن كتابه الذي أنزله على رسوله متضمن للأمرين، فهو روح تحيا به القلوب، ونور تستضيء وتشرق به.
كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122]؛ أي أوَمَنْ كان كافرًا ميت القلب، مغمورًا في ظلمة الجهل، فهديناه لرشده، ووفقناه للإيمان، وجعلنا قلبه حيًّا بعد موته، مشرقًا مستنيرًا بعد ظلمته؟! فجعل الكافر ــ لانصرافه عن طاعته، وجهله بمعرفته وتوحيده وشرائع دينه، وتركِه الأخذَ بنصيبه من رضاه، والعملَ بما يؤديه إلى نجاته وسعادته ــ بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها من مكروه، فهديناه للإسلام ونَعَشْناه به؛ فصار يعرف مضارَّ نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها [6 ب] من سخط الله وعقابه، فأبصر الحق بعد عماه عنه، وعرفه بعد جهله به، واتبعه بعد إعراضه عنه، وحصل له نور وضياء يستضيء به، فيمشى بنوره بين الناس، وهم في سَدَف الظلام، كما قيل:
لَيْلِي بِوجْهِك
(1)
مُشْرِقٌ
…
وَظَلامُهُ في النَّاسِ سَارِي
(1)
الأصل، م:«بوحيك» .