الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والزور: يُقال على الكلام الباطل، وعلى العمل الباطل، وعلى العين نفسها، كما في حديث معاوية لما أخذ قُصَّةً من شَعَرٍ يُوصل به، فقال:«هذا الزور»
(1)
. فالزور: القول والفعل والمحل.
وأصل اللفظة من الميل، ومنه الزَّوْر بالفتح.
ومنه: زُرتُ فلانًا، إذا مِلتَ إليه، وعَدلتَ إليه.
فالزُّور: مَيلٌ عن الحق الثابت إلى الباطل الذي لا حقيقة له، قولًا وفعلًا.
فصل
الاسم الرابع: الباطل
.
والباطلُ: ضد الحق، يُراد به المعدوم الذي لا وجود له، والموجود الذي مَضَرّة وجوده أكثر
(2)
من منفعته.
فمن الأول قول الموحِّد: كلُّ إله سوى الله باطلٌ، ومن الثاني قوله: السحر باطلٌ، والكفر باطل، قال تعالى:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
فالباطل إما معدوم لا وجود له، وإما موجود لا نفع لَه. فالكفرُ، و [69 ب] الفسوق، والعصيان والسِّحْر، والغناء، واستماع الملاهي؛ كله من النوع الثاني.
(1)
أخرجه البخاري (3488)، ومسلم (2127).
(2)
الأصل: «أكبر» .
قال ابن وهب
(1)
: أخبرني سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، أنه سمع عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: كيف ترى في الغناء؟ فقال له القاسم: هو باطل، فقال: قد عرفتُ أنه باطل، فكيف ترى فيه؟ فقال القاسم: أرأيت الباطل، أين هو؟ قال: في النار، قال: فهو ذاك.
وقال رجل لابن عباس: ما تقول في الغناء أحلال هو أم حرام؟ فقال: لا أقول حرامًا إلا ما في كتاب الله، فقال: أفحلالٌ هو؟ فقال: ولا أقول ذلك، ثم قال له: أرأيت الحقّ والباطل، إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: اذهبْ فقد أفتيتَ نفسَك
(2)
.
فهذا جوابُ ابن عباس عن غناء الأعراب، الذي ليس فيه مدح الخمر والزنى واللواط، والتشبيب بالأجنبيَّات، وأصوات المعازف والآلات المطربات؛ فإن غناء القوم لم يكن فيه شيءٌ من ذلك، ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا فيه أعظم قول، فإن مضرّته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير، وأعظم من فتنته؛ فمن أبطل الباطل أن تأتي شريعةٌ بإباحته.
فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس قياس الربا على البيع،
(1)
ذكره بهذا الإسناد ابن عبد البر في التمهيد (22/ 199). ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (46) من طريق يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر قال: سأل إنسان القاسم ابن محمد عن الغناء، قال: أنهاك عنه وأكرهه لك، قال: أحرام هو؟ قال: انظر يا ابن أخي، إذا ميز الله الحق من الباطل في أيهما يجعل الغناء؟! ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الكبرى (10/ 224) وابن عساكر في تاريخ دمشق (49/ 185). وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص 280) من طريق جعفر بن محمد عن القاسم بن محمد به.
(2)
لم أقف عليه.
والميتة على المُذَكَّاة، والتحليل الملعون فاعلُهُ على النكاح الذي هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل من التخلي لنوافِل العبادة، فلو كان نكاحُ التحليل جائزًا في الشرع؛ لكان أفضل من قيام الليل وصيام التطوع، فضلًا أن يلعن فاعله.
فصل
وأما اسم المكاء والتصدية:
فقال تعالى عن الكفار: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35].
قال ابن عباس
(1)
، وابن عمر
(2)
، وعطية
(3)
، ومجاهد
(4)
، والضحاك
(5)
، والحسن
(6)
، وقتادة
(7)
: المُكاء: الصّفير، والتّصديةُ: التصفيق.
(1)
نقل المؤلف أقوال المفسرين وأهل اللغة من البسيط للواحدي (10/ 135، 139، 140، 141). وقول ابن عباس رواه الطبري في تفسيره (16023، 16024، 16029) وابن أبي حاتم في تفسيره (9045) والضياء في المختارة (10/ 117) من طرق عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (4/ 62) للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
رواه الطبري في تفسيره (16026، 16027، 16028، 16029، 16032، 16033) وابن أبي حاتم في تفسيره (9040) من طريق عطية عن ابن عمر، وعزاه في الدر المنثور (4/ 62) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه.
(3)
رواه الطبري في تفسيره (16025).
(4)
رواه الطبري في تفسيره (16036، 16037، 16038، 16039) بمعناه.
(5)
رواه الطبري في تفسيره (16043، 16044).
(6)
انظر: تفسير ابن أبي زمنين (2/ 176)، والنكت والعيون (2/ 315)، وتفسير السمعاني (2/ 263)، ومعالم التنزيل (3/ 354).
(7)
رواه عبد الرزاق في تفسيره (4/ 62) والطبري في تفسيره (16046) عن معمر عنه.
وكذلك قال أهل اللغة: المكاء: الصفير، يقال: مكا يمكو مُكاءً: إذا جمع يديه ثم صفَّر فيهما، ومنه: مَكَتِ اسْتُ الدابة، إذا خرجت منها الريح بصوت، ولهذا جاء على بناء الأصوات، كالرُّغاء والعُواء والثُّغاء.
قال ابن السكيت
(1)
: الأصوات كلها مضمومة إلا حرفين: النِّداء، والغِناء.
وأما التصدية ففي اللغة: التصفيق، يقال: صَدَّى، يُصَدِّي، تَصْدِيةً: إذا صفّق بيديه. قال حسان بن ثابت، يعيب المشركين بصفيرهم وتصفيقهم:
إذَا قامَ المَلائِكَةُ انْبَعَثْتُمْ
…
صَلاتُكُمُ التَّصَدِّي وَالمُكاءُ
(2)
وهكذا الأشباه؛ يكون المسلمون في الصلوات الفرض والتطوع، وهم في التصفير والتصفيق.
قال ابن عباس
(3)
: كانت قريش يطوفون بالبيت عُراةً، ويُصَفِّرون ويُصفِّقون.
وقال مجاهد
(4)
: كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف، ويصفِّرون ويُصفِّقون، يَخْلطون عليه طوافه وصلاته
(5)
.
(1)
انظر: تهذيب اللغة (مكا) والبسيط (10/ 135).
(2)
البيت بهذه الرواية في البسيط (10/ 140). وأخرجه الطستي ــ كما في الدر المنثور (4/ 61) ــ عن ابن عباس عن حسان برواية أخرى.
(3)
رواه الطبري في تفسيره (16034)، وابن أبي حاتم في تفسيره (9045)، والضياء في المختارة (10/ 117) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (4/ 61) لأبي الشيخ وابن مردويه.
(4)
رواه الطبري في تفسيره (16037، 16038، 16039) بنحوه، وانظر: الكشف والبيان (4/ 353)، ومعالم التنزيل (3/ 355).
(5)
«وصلاته» ساقطة من م.
ونحوه عن مقاتل
(1)
.
ولا ريب أنهم كانوا يفعلون هذا وهذا.
فالمتقرِّبون إلى الله بالصفير والتصفيق: أشباهُ النوع الأول، وإخوانهم المخلِّطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة: أشباه النوع الثاني.
قال ابن عرفة، وابن الأنباري: المُكاء والتصدية ليسا بصلاة، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أُمروا بها: المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار، وهذا كقولك: زُرْته، فجعل جفائي صِلَتي، أي: أقام الجفاء مقام الصلة.
والمقصود أن المصفِّقين والصفَّارين [70 ب] في يَراع أو مِزْمار ونحوه فيهم شَبَهٌ من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشَّبه الظاهر، فلهم قِسْط من الذم، بحسب تشبُّههم بهم، وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مُكائهم وتصديتهم.
والله سبحانه لم يَشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمرٌ؛ بل أُمروا بالعدول عنه إلى التسبيح؛ لئلا يتشبّهوا بالنساء، فكيف إذا فعلوه لا لحاجة، وقرنوا به أنواعًا من المعاصي قولًا وفعلًا؟
فصل
أما تسميته
(2)
رُقية الزنى:
فهو اسمٌ موافقٌ لمسمَّاه، ولفظٌ مطابق لمعناه، فليس في رُقى الزنى أنجعُ منه، وهذه التسمية معروفة عن الفُضيل بن عِياض.
(1)
تفسير مقاتل (2/ 16).
(2)
«تسميته» ساقطة من م.
قال ابن أبى الدنيا
(1)
: أخبرنا الحسين بن عبد الرحمن، قال: قال فُضيل بن عياض: الغناء رُقْية الزنى.
قال
(2)
: وأخبرنا إبراهيم بن محمد المروزي، عن أبى عثمان الليثي، قال: قال يزيد بن الوليد: يا بني أُمية! إياكم والغِناء، فإنه ينقُص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم ــ لابُدَّ فاعلين؛ فجنِّبوه النساء؛ فإن الغناء داعيةُ الزنى.
قال
(3)
: وأخبرني محمد بن الفضل الأزدي، قال: نزل الحُطَيْئَةُ برجل من العرب، ومعه ابنته مُلَيْكة، فلما جَنَّه الليلُ سمع غناءً، فقال لصاحب المنزل: كُفَّ هذا عني، فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء رائدٌ من رَادَةِ الفجور، ولا أُحب أن تُسمِعَه هذه ــ يعني ابنته ــ، فإن كففته وإلا خرجتُ عنك.
ثم ذكر
(4)
عن خالد بن عبد الرحمن، قال: كُنّا في عسكر سليمان بن
(1)
ذم الملاهي (57)، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الشعب (4/ 280). وفي ح، ظ، ش: «أخبر الحسن
…
».
(2)
ذم الملاهي (52)، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الشعب (4/ 280)، ورواه أبو الفرج في الأغاني (7/ 82) من طريق عمر بن شبة عن إبراهيم بن الوليد الحمصي عن هارون بن الحسن العنبري عن الوليد به.
(3)
ذم الملاهي (53)، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الشعب (4/ 280).
(4)
ذم الملاهي (54) من طريق أبي إسحاق الطالقاني عن الفضل بن موسى عن داود بن عبد الرحمن عن خالد به، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الشعب (4/ 280)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (16/ 166)، وابن العديم في بغية الطلب (7/ 3088)، ورواه الحكيم الترمذي في المنهيات (ص 107) عن الجارود عن الفضل به، ورواه الخطابي في غريب الحديث (1/ 410 - 411) من طريق أحمد بن مصعب المروزي عن الفضل عن داود بن عبد الرحمن عن سليمان بن عبد الملك به.
عبد الملك، فسمع غناءً من الليل، فأرسل إليهم بُكرةً، فجيء بهم، فقال: إن الفرس ليصهل؛ فَتَسْتَوْدِقُ له الرَّمَكَة، وإن الفحل ليهدِرُ فتَضْبَع له الناقة، وإن التيس ليَنِبُّ فتستحرم له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة! ثم قال: اخصوهم، فقال عمر بن عبد العزيز: هذه مُثلة، فلا تحِلُّ؛ فخلِّ قال
(1)
: فخلَّى سبيلَهم.
قال
(2)
: وأخبرنا الحسين بن عبد الرحمن، قال: قال أبو عُبيدة معمر بن المثنى: جاور الحُطيئة قومًا من بني كُلَيْب
(3)
، فمشى ذَوُو النُّهى
(4)
منهم بعضهم إلى بعض، وقالوا: يا قوم! إنكم قد رُميتُم بداهيةٍ، هذا الرجل شاعر، والشاعر يَظنُّ فيُحقِّق، ولا يستأني فيتَثبَّت، ولا يأخذ الفضل فيعفو، فأتوه وهو في فناء خبائه، فقالوا: يا أبا مُليكة! إنه قد عَظُم حقك علينا؛ بتخطِّيك القبائل إلينا، وقد أتيناك لنسألك عما تُحِب فنأتيه، وعما تكره فنزدجر عنه، فقال: جنِّبُوني نَدِيّ مجلسكم، ولا تُسمِعُوني أغاني شبيبتكم؛ فإن الغناء رُقية الزنى.
(1)
«فخلّى سبيلهم قال» ساقطة من م، ش، ظ.
(2)
ذم الملاهي (61)، ورواه أبو الفرج في الأغاني (2/ 171) من طريق ابن الأعرابي عن المفضل أن الحطيئة أقحمته السّنة فنزل ببني مقلد بن يربوع .. وذكر القصة بمعناها.
(3)
ح، ظ:«كلاب» .
(4)
م: «الدين» .
فإذا كان هذا الشاعر المفتوقُ اللسان، الذي هابت العرب هجاءه خاف عاقبة الغناء، وأن تصل رُقيته إلى حُرمته، فما الظن بغيره؟
ولا ريب أن كل غَيور يُجنِّب أهله سماع الغناء، كما يُجنِّبهن أسباب الريب. ومن طَرَّق أهله إلى سماع رُقية الزنى فهو أعلمُ بالاسم الذي يستحقه.
ومن الأمر المعلوم عند القوم: أن المرأة إذا استعصت على الرجل اجتهد على أن يُسمعها صوت الغناء، فحينئذ تُعطِي اللَّيان.
وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدًّا، فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة معناه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشةَ حاديهِ:«يا أنجشة! رويدًا رفقًا بالقوارير»
(1)
. يعني النساء.
فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية: الدف، والشبابة، والرقص بالتخنث والتكسر؛ فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من [70 ب] هذا الغناء.
فلعمرُ الله كم من حُرة صارت بالغناء من البغايا! وكم من حُرٍّ أصبح به عبدًا للصبيان أو الصبايا! وكم من غيور تبدّل به اسمًا قبيحًا بين البرايا! وكم من ذي غِنىً وثروةٍ أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا! وكم من مُعافًى تعرّض له، فأمسى وقد حلّت به أنواعُ البلايا! وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان، فلم يجد بُدًّا
(2)
من قبول تلك الهدايا!
(1)
رواه البخاري (6149، 6161) ومسلم (2323) عن أنس بن مالك.
(2)
م: «تجديدًا» .
وكم جَرّع من غُصّةٍ، وأزال من نعمة، وجلب من نقمةٍ! وذلك منه من إحدى العطايا! وكم خَبَّأ لأهله من آلام مُنتظرة، وغموم مُتوقّعة، وهمومٍ مستقبلة!
فَسَلْ ذا خِبْرَةٍ يُنْبِيكَ عَنْهُ
…
لِتَعْلَم كَمْ خَبَايا في الزَّوَايَا
(1)
وَحاذِرْ إنْ شُغِفْت بِه سِهَامًا
…
مُرَيَّشَةً بأَهْدَابِ المَنَايَا
إِذا مَا خَالَطَتْ قَلْبًا كَئِيبًا
…
تَمَزَّقَ بَينَ أطباقِ الرَّزَايَا
وَيُصْبِحُ بَعْدَ أن قَدْ كانَ حُرًّا
…
عَفِيفَ الفَرْجِ: عَبْدًا لِلصّبايَا
وَيُعْطِي مَنْ بهِ يُعْنى غِنَاءً
…
وذلِكَ مِنْهُ مِنْ شَرِّ العَطَايَا
فصل
وأما تسميته مُنبت النفاق:
فقال علي بن الجعد
(2)
: حدثنا محمد بن طلحة، عن سعيد بن كَعب المروزي، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال:«الغناء يُنْبِت النفاق في القلب كما يُنْبِت الماءُ الزرع، والذكر يُنبت الإيمانَ في القلب كما يُنبت الماءُ الزرعَ» .
(1)
لعل الأبيات للمؤلف، [عارض بها قصيدة الصفي الحلي بهذه القافية]. قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس بالمطبوع، وهو ثابت في الأصل الوارد من «عطاءات العلم» جزاهم الله خيرا
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (30) عن ابن الجعد به، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الكبرى (10/ 223)، قال ابن الملقن في البدر المنير (9/ 633):«سعيد هذا مجهول، وما أعرف روى عنه غير محمد بن طلحة، ويغلب على ظني أنه منقطع أيضًا» ، وحكم بانقطاعه الذهبي في المهذب (8/ 4236)، والألباني في تحريم آلات الطرب (ص 147). وورد ــ كما في كتاب السماع (ص 88) ــ عن جرير بن عبد الحميد عن ليث بن أبي سليم عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن مسعود. ورواه ابن أبي الدنيا (40) من طريق محمد بن فضيل عن ليث عن طلحة بن مصرف عن ابن مسعود.
وقال شُعبة
(1)
: حدثنا الحكَم، عن حمادٍ، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله بن مسعود: «الغناء يُنبت النفاق في القلب» .
وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله.
وقد روي عن ابن مسعود مرفوعًا، رواه ابن أبى الدنيا في كتاب «ذم الملاهي»
(2)
: أخبرنا عصمة بن الفضل، حدثنا حَرَميّ بن عُمارة، حدثنا سلّام بن مِسكين، حدثنا شيخ، عن أبى وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الغناء يُنبت النفاق في القلب كما يُنبت الماء البَقلَ» .
وقد تابع حرميَّ بن عمارة عليه بهذا الإسناد والمتن مُسلمُ بن إبراهيم:
قال أبو الحسين بن المنادي في كتاب «أحكام الملاهي»
(3)
: حدثنا
(1)
رواه ابن أبي الدنيا (31، 34، 36) ــ وعنه البيهقي في الكبرى (10/ 223) والشعب (4/ 278) ــ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (680). ورواه ابن أبي الدنيا (35) ــ وعنه البيهقي في الشعب (4/ 279) ــ من طريق منصور عن حماد به. ورواه ابن أبي الدنيا (39) من طريق العوام عن حماد عن ابن مسعود به. وصححه الألباني في تحريم آلات الطرب (ص 145). قال ابن طاهر في كتاب السماع (ص 88):«أصح الأسانيد فيه أنه من قول إبراهيم» .
(2)
ذم الملاهي (41)، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الكبرى (10/ 223).
(3)
رواه أبو داود (4929) عن مسلم بن إبراهيم به، وضعّفه ابن حزم في المحلى (9/ 57)، وابن الملقن في البدر المنير (9/ 633)، والعراقي في المغني (2206)، وهو في السلسلة الضعيفة (2430)، ورجّح ابن قدامة في المغني (12/ 42) وابن رجب في نزهة الأسماع (ص 37) وقفَه. وفي الباب عن جابر بن عبد الله وأبي هريرة وأنس رضي الله عنهم ولا تصحّ.
محمد بن على بن عبد الله بن حمدان المعروف بحمدان الوَرَّاق، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا سلّام بن مسكين، فذكر الحديث.
فمداره على هذا الشيخ المجهول، وفي رفعه نظر، والموقوف أصح.
فإن قيل: فما وجه إنباتِه للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي؟
قيل: هذا من أدلِّ شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داوَوا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السّقم بالسُّم القاتل، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركَّبوها، أو بأكثرها، فاتفق قِلّةُ الأطباء، وكثرة المرضى، وحدوث أمراض مُزمنةٍ لم تكن في السلف، والعدولُ عن الدواء النافع الذي ركّبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوِّي مادة المرض، فاشتد البلاء، وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يَطُبُّ الناس.
فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء.
فمن خواصِّه: أنه يُلهي القلب ويصدُّه عن فهم القرآن وتدبُّره، والعمل بما فيه؛ فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا؛ لما بينهما من التضادّ؛ فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعِفَّة، ومُجانبة شهوات النفوس وأسباب الغيّ، وينهى عن اتباع خُطُوات الشيطان. والغناء يأمر بضد ذلك كلِّه، ويُحسِّنه، ويُهيِّج النفوس إلى شهوات الغيِّ، فيُثِير كامِنَها، ويُزعجُ قاطنها، ويُحرِّكها إلى كل [71 أ] قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمرُ رضيعا لبانٍ، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان، فإنه صِنوُ
الخمر ورضيعه
(1)
، ونائبه وحليفه، وخَدينُه وصديقه، عَقَدَ الشيطانُ بينهما عقد الإخاء الذي لا يُفْسَخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تُنسخ، وهو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسُوس العقل، يتغلغل في مكامن القلوب، ويطّلع على سرائر الأفئدة، ويَدِبُّ إلى محل التخييل، فيُثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرّقاعة والرعونة والحماقة.
فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل، وبَهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقلُه، وقَلّ حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بَهاؤه، وتخلّى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانُه، وثَقُل عليه قرآنه، وقال: يا رب! لا تجمع بيني وبين قرآن عدوِّك في صدرٍ واحدٍ. فاستحسنَ ما كان قبل السَّماع يستقبحه، وأبدى من سِرِّه ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهزُّ منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدقّ على أُمِّ رأسه بيديه، ويَثِبُ وثباتِ الدِّبابِ، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفِّق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوَجْد كخُوار الثيران، وتارةً يتأوّه تأوّه الحزين، وتارةً يزعق زعقات المجانين، ولقد صدق الخبيرُ به من أهله حيث يقول:
أتذْكُرُ لَيْلَةً وَقَدِ اجْتَمعْنَا
…
عَلَى طِيبِ السَّماعِ إلى الصَّبَاحِ
(2)
وَدَارَتْ بَيْننَا كأْسُ الأغَاني
…
فأَسْكَرَتِ النُّفُوسَ بِغَيْرِ رَاحِ
فَلمْ تَرَ فيهِمُ إِلا نَشَاوَى
…
سُرُورًا وَالسُّرُورُ هُنَاك صَاحِي
(1)
ح: «وصيفه» .
(2)
الأبيات بلا نسبة في «نهاية الأرب» (4/ 136).
إذَا نَادَى أَخُو الّلذّاتِ فِيهِ
…
أَجابَ الّلهْوُ حَيَّ عَلَى السَّماحِ
وَلَمْ نَملِكْ سِوَى المُهَجَاتِ شَيْئًا
…
أَرَقْنَاهَا لأَلْحَاظِ مِلَاح
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قومٍ، والعناد في قومٍ، والتكذيب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم.
وأكثر ما يورث: عشق الصور، واستحسان الفواحش، وإدمانُه يثقِّل القرآن على القلب، ويُكَرِّهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقًا فما للنفاق حقيقة!
وسرُّ المسألة: أنه قرآن الشيطان كما سيأتي، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدًا.
وأيضًا فإن أساس النفاق أن يخالف الظاهرُ الباطنَ، وصاحبُ الغناء بين أمرين: إما أن يتهتّك فيكون فاجرًا، أو يُظهر النُّسُك فيكون منافقًا، فإنه يُظهر الرغبة في الله والدار الآخرة؛ وقلبه يَغْلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف، وآلات اللَّهو، وما يدعو إليه الغناء ويُهَيِّجُه فقلبُه بذلك معْمور، وهو من محبة ما يحبُّه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قَفر، وهذا محض النفاق.
وأيضًا فإن الإيمان قول وعمل: قولٌ بالحق، وعمل بالطَّاعة، وهذا ينبُتُ على الذكر، وتلاوة القرآن. والنفاقُ قول الباطل، وعملُ الغيِّ، وهذا ينبُت على الغناء.
وأيضًا فمن علامات النفاق: قِلّة ذِكر الله، والكسلُ عند القيام إلى الصلاة، ونقرُ الصلاة، وقَلَّ أن تجد مفتونًا بالغناء إلا وهذا وصفه.
وأيضًا فإن النفاق مُؤَسَّس على الكذب، والغِنَاء من أكذب الشِّعر؛ فإنه
يُحسِّن القبيح ويزينه، ويأمر به، ويُقبِّح الحسن ويُزَهِّد فيه، وذلك عين النفاق.
[71 ب] وأيضًا فإن النفاق غِشٌّ ومكر وخداع، والغناء مؤسَّسٌ على ذلك.
وأيضًا فإن المنافق يُفسد من حيث يظنُّ أنه يُصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين، وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يُصلِحه، والمغنِّي يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات.
قال الضحاك: «الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب»
(1)
.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدِّب ولده: «ليكن أوّل ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بَدْؤُها من الشيطان، وعاقبتُها سخطُ الرحمن؛ فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللَّهج بها، يُنبِتُ النفاقَ في القلب كما يَنْبُتُ العُشبُ على الماء»
(2)
.
فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
وبالجملة فإذا تأمَّل البصير حالَ أهل الغناء، وحال أهل الذكر والقرآن، تبيَّن له حذق
(3)
الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها، وبالله التوفيق.
(1)
رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (60). وانظر: معاني القرآن للنحاس (5/ 279)، وتفسير الثعلبي (7/ 310)، وتلبيس إبليس (ص 210).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (51)، ومن طريقه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 209).
(3)
م: «صدق» .
فصل
وأما تسميته قرآن الشيطان:
فمأثورٌ عن التابعين، وقد رُوِي فيه حديث مرفوع.
قال قتادة: لما أُهبط إبليس قال: يا رب! لعنتني، فما عملي؟ قال: السحر، قال فما قرآني؟ قال: الشعرُ، قال: فما كتابي؟ قال: الوَشْم، قال: فما طعامي؟ قال: كل ميتة، وما لم يُذكر اسم الله عليه، قال: فما شرابي؟ قال: كل مُسْكر، قال: فأين مسكني؟ قال: الأسواق، قال: فما صوتي؟ قال: المزامير، قال: فما مصايدي؟ قال: النساء
(1)
.
هذا هو المعروف في هذا، وَقْفُه.
وقد رواه الطبراني في «معجمه»
(2)
من حديث أبى أمامة مرفوعًا إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن أبى الدنيا في كتاب «مكايد الشيطان وحِيَله»
(3)
: حدثنا أبو بكر التميمي، حدثنا ابن أبى مريم، حدثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثنا ابن زَحر، عن عليٍّ بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
رواه عبد الرزاق (11/ 268) عن معمر عن قتادة به، ومن طريقه البيهقي في الشعب (4/ 277) والخطيب في الموضح (1/ 553).
(2)
المعجم الكبير (8/ 207)، وسيأتي تخريجه.
(3)
مكايد الشيطان (43)، وبهذا الإسناد رواه الطبري في تهذيب الآثار (953)، والطبراني في الكبير (8/ 207)، وضعفه العراقي في المغني (2639)، وقال الهيثمي في المجمع (8/ 221):«فيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف» ، وهو في السلسلة الضعيفة (6054). وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا يصح.
وشواهد هذا الأثر كثيرة، فكل جملة منه لها شاهد من السنة أو من القرآن:
فكون السِّحر من عمل الشيطان؛ شاهده قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102].
وأما كون الشعر قرآنه فشاهده: ما رواه أبو داود في «سننه»
(1)
من
(1)
سنن أبي داود (764) من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن عاصم العنزي عن ابن جبير عن أبيه به، وبهذا الإسناد رواه ابن الجعد (105)، وأحمد (4/ 85)، وابن ماجه (807)، وأبو يعلى (7398)، وابن الجارود (180)، وابن حبان (1780، 2601)، والطبراني في الكبير (2/ 134)، إلا أن التفسير عندهم جميعًا وعند غيرهم أيضًا من قول عمرو بن مرة، وفي إسناد الحديث اختلاف، وقد ضعفه ابن خزيمة في صحيحه (1/ 239)، وابن المنذر في الأوسط، وهو مخرج في الإرواء (2/ 54). وورد هذا التفسير أيضًا عن رجل من جهينة مرفوعًا، وعن أبي سلمة والحسن مرسلا، ومن كلام ابن مسعود وجعفر بن سليمان وعطاء بن السائب وغيرهم، وقد تقدم بيان ذلك.
حديث جُبير بن مُطعم: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي، فقال:«الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلًا ــ ثلاثًا ــ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه» . قال: نفثه: الشعر، ونفخه: الكِبْر، وهمزه: المُوتة.
ولما عَلّم الله رسوله القرآن وهو كلامه؛ صانه عن تعليم قرآن الشيطان، وأخبر أنه لا ينبغي له، فقال:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69].
وأما كون الوشم كتابَهُ؛ فإنه من عمله وتزيينه، ولهذا لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة؛ [72 أ] فلعن الكاتبة والمكتوب عليها.
وأما كون الميتةِ ومتروك التسمية طعامه؛ فإن الشيطان يستحلُّ الطعامَ إذا لم يُذكر اسم الله عليه، ويشارك آكله، والميتة لا يُذكر اسم الله عليها، فهي وكلّ طعام لم يُذكر عليه اسم الله: من طعامه، ولهذا لما سأل الجن الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الزاد، قال:«لكم كلُّ عَظْمٍ ذُكر اسم الله عليه»
(1)
. فلم يُبح لهم طعام الشياطين، وهو متروك التسمية.
وأما كون المُسكِرَ شرابه؛ فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]، فهو شَرِبَ من الشراب الذي عمله أولياؤه بأمره، وشاركهم في عمله، فيشاركهم في عمله وشربه، وإثمه وعقوبته.
وأما كون الأسواق مجلسه؛ ففي الحديث الآخر: «أنه يَرْكُز رايته
(1)
أخرجه مسلم (450) عن ابن مسعود.
بالسُّوق»
(1)
.
ولهذا يَحْضره اللغو واللغط والصخب والخيانة والغش، وكثيرٌ من عمله، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدِّمة:«أنه ليس صخّابًا بالأسواق»
(2)
.
أما كون الحمّام بيته؛ فشاهده كونه غير محلٍّ للصلاة، وفي حديث أبي سعيد:«الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمّام»
(3)
؛ ولأنه محل كشف العورات، وهو بيت مؤَسَّس على النار، وهى مادة الشيطان التي خُلق منها.
وأما كون المزمار مؤذِّنَه ففي غاية المناسبة؛ فإن الغناء قرآنُه، والرقص والتصفيق ــ اللذين هما المُكاء والتصدية ــ صلاته، فلابدَّ لهذه الصلاة من مؤذن وإمامٍ ومأموم: فالمؤذن المزمار، والإمامُ المغنِّي، والمأمومُ الحاضرون.
وأما كون الكذب حديثه؛ فهو الكاذبُ الآمر بالكذب، المزيِّن له، فكل كذب يقع في العالم؛ فهو تعليمه وحديثه.
وأما كون الكهنة رسُلَه؛ فلأن المشركين يُهْرَعون إليهم، ويفزعون إليهم في أمورهم العظام، ويُصدِّقونهم، ويتحاكمون إليهم، ويرضون بحكمهم، كما يفعل أتباع الرسل بالرسل؛ فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب، ويخبرون عن المغيَّبات التي لا يعرفها غيرهم، فهم عند المشركين بهم
(1)
روى مسلم (2451) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: «لا تكوننّ إن استطعتَ أوّل من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها؛ فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته» ، وروِي عن سلمان مرفوعًا.
(2)
أخرجه البخاري (4838) عن عبد الله بن عمرو.
(3)
تقدم تخريجه.
بمنزلة الرسل، فالكهنةُ رسل الشيطان حقيقة، أرسلهم إلى حِزْبه من المشركين، وشبّههم بالرُّسل الصادقين، حتى استجاب لهم حزبُه، ومثّل رُسُل الله بهم ليُنفِّرَ عنهم، ويجعل رسُله هم الصادقين العالمين بالغيب.
ولمّا كان بين النوعين أعظمُ التضاد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنًا فصدَّقهُ بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ»
(1)
.
فإن الناس قسمان: أتباعُ الكهنة، وأتباع رسل الله، فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء، بل يَبْعُد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر قُرْبِه من الكاهن، ويُكَذِّبُ الرَّسُولَ بقدر تصديقه للكاهن.
وقوله: «اجعل لي مصايد، قال: مصايدك النساء» ، فالنساء أعظم شبكةٍ له، يصطاد بهنّ الرجال، كما سيأتي إن شاء الله في الفصل الذي بعد هذا.
والمقصود أن الغناء المحرم قرآن الشيطان.
ولما أراد عدو الله أن يجمع عليه نفوس المُبْطلين قرنه بما يُزَيِّنه من الألحان المُطربة، وآلات الملاهي والمعازف، وأن يكون من امرأةٍ جميلةٍ، أو صبي جميل؛ ليكون ذلك أدَعى إلى قبول النفوس لقرآنه، وتَعَوُّضها به عن القرآن المجيد.
(1)
رواه البزّار (9045 ــ كشف الأستار ــ) من حديث جابر رضي الله عنه، وحسنه المنذري في الترغيب (4/ 17)، وابن حجر في الفتح (10/ 217)، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 202):«رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف» ، وتُعُقّب، وهو في السلسلة الصحيحة (3387). وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وابن مسعود وابن عمر وعمران بن حصين وواثلة بن الأسقع ووالد أبي العشراء، وعن حبان بن أبي جبلة مرسلًا.
فصل
وأما تسميته بالصوت الأحمق، [72 ب] والصوت الفاجر:
فهي تسميةُ الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى.
فروى الترمذي
(1)
من حديث ابن أبي ليلى، عن عطاءٍ، عن جابر رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن عوف إلى النّخْل، فإذا ابنه إبراهيم يجودُ بنفسه، فوضعه في حِجره، ففاضت عيناه، فقال عبد الرحمن: أتبكي، وأنت تَنْهَى الناسَ؟ قال: «إني لم أنْهَ عن البكاء؛ وإنما نهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة لهوٍ ولعب ومزامير شيطان، وصوتٍ عند مصيبة: خَمْش وُجوه، وشَقّ جيوب، ورنّةٍ، وهذا هو رحمة،
(1)
سنن الترمذي (1005) بنحوه، وبهذا الإسناد رواه الطيالسي (1683) مختصرًا، وابن أبي شيبة (3/ 62)، وعبد بن حميد (1006)، والبيهقي في الكبرى (4/ 69)، ورواه ابن سعد في الطبقات (1/ 138) وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (64) ــ مختصرًا ــ والبزار (1001) والطحاوي في شرح المعاني (6468) والحاكم (6825) وغيرهم عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر عن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عوف، وقيل: عنه عن عطاء عن ابن عمر، وروي عن مكحول مرسلًا وليس فيه النهي عن صوت النعمة، قال الدارقطني في العلل (12/ 448):«اضطرب فيه ابن أبي ليلى» ، وقال محمد بن إسحاق السعدي كما في المجروحين لابن حبان (2/ 246):«لو لم يرو ابن أبى ليلى غير هذا الحديث لكان يستحقّ أن يُترك حديثُه» ، وضعفه ابن طاهر في كتاب السماع (ص 85)، وحسنه البغوي في شرح السنة (1530)، وقال النوويّ في الخلاصة (2/ 1057):«حسّنه الترمذي، وهو من رِواية ابن أبي لَيلى وهو ضعيف، فلعلّه اعتضد» ، وهو في السلسلة الصحيحة (2157). وفي الباب عن أنس رضي الله عنه.
ومن لا يرحم لا يُرحم، لولا أنه أمرٌ حق، ووعدٌ صِدق، وأن آخرنا سيلحق أوّلنا؛ لحزنَّا عليك حُزنًا هو أشدّ من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العينُ ويحزنُ القلبُ، ولا نقول ما يُسخط الرب». قال الترمذي:«هذا حديث حسن» .
فانظر إلى هذا النهي المؤكّد، بتسميته صوت الغناء صوتًا أحمق، ولم يقتصر على ذلك، حتى وصفه بالفجور، ولم يقتصر على ذلك، حتى سمَّاه من مزامير الشيطان، وقد أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق على تسمية الغناء مَزمور الشيطان في الحديث الصحيح كما سيأتي، فإن لم يستفد التحريم من هذا لم نستفده من نهْيٍ أبدا.
وقد اختُلف في قوله: «لا تفعلْ» ، وقوله:«نهيتُ عن كذا» ؛ أيهما أبلغُ في التحريم؟
والصواب بلا ريب: أن صيغة «نهيتُ» أبلغ في التحريم؛ لأن «لا تفعلْ» يحتمل النهي وغيره، بخلاف الفعل الصريح.
فكيف يستجيز العارف
(1)
إباحةَ ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمَّاه صوتًا أحمق فاجرًا، ومزمور الشيطان، وجعلَه والنياحة التي لعن فاعلها أخوين؟ وأخرج النهي عنهما مخرجًا واحدًا، ووصفهما بالحُمق والفجور وصفًا واحدًا؟
وقال الحسن
(2)
(1)
م: «المعازف» .
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (65) من طريق صالح المري عن الحسن به، ورواه عبد الرزاق (11/ 6) عن معمر عن رجل عن الحسن.
وقال أبو بكر الهُذَلي
(1)
: قلت للحسن: أكان نساءُ المهاجرات يصنعنَ ما يصنعُ النساء اليوم؟ قال: لا، ولكن هاهنا خمش وجوه، وشقُّ جيوب، ونتفُ أشعار، ولطمُ خدود، ومزامير شيطان، صوتان قبيحان فاحشان: عند نعْمة إن حدثَتْ
(2)
، وعند مصيبة إن نزلت، ذكر الله المؤمنين فقال:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]، وجعلتم أنتم في أموالكم حقًا معلومًا للمغنية عند النعْمة، والنائحة عند المصيبة.
فصل
وأما تسميته صوت الشيطان:
فقد قال تعالى للشيطان وحِزْبه: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 63، 64].
قال ابن أبى حاتم في «تفسيره»
(3)
: حدثنا أبي، أخبرنا أبو صالح، كاتب
(1)
رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (66) من طريق صفوان بن هبيرة، وابن أبي أسامة (265 ـ بغية الباحث ـ) من طريق حجاج الأعور، كلاهما عن أبي بكر الهذلي به، قال البوصيري في إتحاف الخيرة (2/ 502):«سند ضعيف؛ لضعف أبي بكر الهذلي» .
(2)
م، ت، ظ:«خدمت» . ش: «حرمت» .
(3)
ورواه الطبري في تفسيره (17/ 491) عن علي عن عبد الله عن معاوية به، وعزاه في الدر المنثور (5/ 312) لابن المنذر.
الليث، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبى طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} كل داعٍ إلى معصية.
ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية، ولهذا فُسِّر صوت الشيطان به.
قال ابن أبى حاتم
(1)
: حدثنا أبي، أخبرنا يحيى بن المغيرة، أخبرنا جرير، عن ليث، عن مجاهد:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} ، قال: «استزِلَّ
(2)
منهم من استطعت» قال: «وصوتُه الغناء والباطل» .
وبهذا الإسناد إلى جرير، عن منصور، عن مجاهد، قال
(3)
: «صوته المزامير» .
ثم روى بإسناده عن الحسن البصري، [73 أ] قال
(4)
: «صوته: هو الدف» .
وهذه الإضافة إضافة تخصيص، كما أن إضافة الخيل والرَّجِل إليه كذلك، فكل متكلم بغير طاعة الله، وبصوت يَراع أو مزمار، أو دُفّ حرام، أو طبل؛ فذلك صوت الشيطان، وكل ساعٍ في معصية الله على قدميه فهو من رَجِله، وكل راكب في معصية الله فهو من خَيّالته، كذلك قال السلف.
(1)
ورواه الطبري في تفسيره (17/ 490، 491) من طريق ابن إدريس عن ليث به، وعزاه في الدر المنثور (5/ 312) لسعيد بن منصور وابن المنذر.
(2)
الأصل: «استنزل» .
(3)
ورواه أبو نعيم في الحلية (3/ 298) من طريق الثوري عن منصور به، ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (73) من طريق ابن أبى نجيح عن مجاهد به.
(4)
انظر: تفسير ابن أبي زمنين (3/ 30)، وتفسير السمعاني (3/ 258).
كما ذكر ابن أبى حاتم عن ابن عباس
(1)
، قال:«رَجِلُه: كل رِجْلٍ مشت في معصية الله» .
وقال مجاهد
(2)
: «كل رِجْلٍ تُقاتل في غير طاعة الله فهو من رَجِله» .
وقال قتادة
(3)
: «إن له خيلًا ورَجِلًا من الجن والإنس» .
فصل
وأما تسميته مزمورَ الشيطان:
ففي «الصحيحين»
(4)
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تُغنِّيان بغناء بُعَاث، فاضطجع على الفِراش، وحَوَّل وجهه، ودخل أبو بكر رضي الله عنه، فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأقبلَ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«دعهما» ، فلما غفل غمزتُهما، فخرجتا.
فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى بكر تَسميته الغناء مزمار الشيطان، وأقرَّهما؛ لأنهما جاريتان غيرُ مكلَّفتين، تُغنيان بغناء الأعراب، الذي قيل في يوم حرب بُعاثٍ من الشجاعة والحرب، وكان اليوم يوم عيد.
(1)
ورواه الطبري في تفسيره (17/ 492) من طريق معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (5/ 312) للفريابي وابن المنذر وابن مردويه.
(2)
رواه الطبري في تفسيره (17/ 492) من طريق جرير عن منصور عن مجاهد.
(3)
رواه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 381)، والطبري في تفسيره (17/ 491) عن معمر عن قتادة.
(4)
البخاري (949، 2906)، ومسلم (892/ 19).
فتوسّع حزب الشيطان في ذلك إلى صوت امرأةٍ جميلة أجنبية، أو صبيٍّ أمْرَد، صوتُه فتنة، وصورته فتنة، يُغنِّي بما يدعو إلى الزنى والفجور، وشرب الخمر، مع آلات اللهو التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عِدّة أحاديث كما سيأتي، مع التصفيق والرقص، وتلك الهيئةِ المنكرة التي لا يستحلها أحد من أهل الأديان
(1)
، فضلًا عن أهل العلم والإيمان، ويحتجون بغناء جُوَيْريتين غير مكلفتين بنشيد الأعراب، في الشجاعة ونحوها، في يوم عيدٍ، بغير شَبّابةٍ ولا دُفًّ، ولا رقص ولا تصفيق، ويدعون المحكم الصريح لهذا المتشابه، وهذا شأن كل مبطل.
نعم؛ نحن لا نحرِّم ولا نكره مثل ما كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الوجه، وإنما نحرِّم نحن وسائر أهل العلم والإيمان السماعَ المخالف لذلك، وبالله التوفيق.
فصل
وأما تسميته بالسُّمود:
فقد قال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59 ـ 61].
قال عكرمة، عن ابن عباس
(2)
: «السّمود: الغناء في لغة حِمْيَر» ، يقال:
(1)
في بقية النسخ: «الأوثان» .
(2)
أقوال المفسرين منقولة من البسيط للواحدي (21/ 84 ــ 86). وقول ابن عباس رواه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 255) وأبو عبيد في فضائل القرآن (ص 342) وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (33) ــ ومن طريقه البيهقي في الكبرى (10/ 223) ــ والحربي في غريب الحديث (2/ 521) والبزار (4724) والطبري في تفسيره (22/ 559، 560، 561) من طرق عن عكرمة به، وعزاه في الدر المنثور (7/ 667) للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، قال الهيثمي في المجمع (7/ 252):«رواه البزار ورجاله رجال الصحيح» .
اسمُدي لنا، أي: غنِّي لنا؛ قال أبو زبيد:
وكَأَنَّ العَزِيفَ فِيهَا غِنَاءٌ
…
لِلنَّدَامَى مِنْ شَارِبٍ مَسْمُودِ
(1)
قال أبو عبيدة
(2)
: المسمود: الذي غُنِّي له.
وقال عكرمة
(3)
: كانوا إذا سمعوا القرآن تغنَّوا، فنزلت هذه الآية.
وهذا لا يناقض ما قيل في هذه الآية من أن السّمود: الغفلة والسهو عن الشيء.
قال المبرِّد: هو الاشتغال عن الشيء لهَمٍّ أو فرح، يتشاغل به، وأنشد:
رَمَى الْحَدَثَانُ نِسْوَةَ آلِ حرْبٍ
…
بمِقْدارٍ سَمَدْنَ لهُ سُمُودًا
(4)
(1)
أمالي اليزيدي (ص 12) وفيه: «مشهود» ، وجمهرة أشعار العرب (ص 264) وفيه:«غِرِّيد» ، والأضداد للسجستاني (ص 144) كما هنا. وكذا في أضداد ابن الأنباري (ص 44).
(2)
لم أجده في كتابه «مجاز القرآن» . وليس من كلامه كما يظهر بمراجعة البسيط (21/ 85).
(3)
روى ابن أبي شيبة (6/ 121) عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عكرمة قال: «هو الغناء بالحميرية» ، ورواه الفريابي ــ كما في فتح الباري (8/ 605) ــ والطبري في تفسيره (22/ 560) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عكرِمة، وعزاه في الدر المنثور (7/ 667) لسعيد بن منصور وعبد بن حميد.
(4)
البيت لعبد الله بن الزبير الأسدي في حماسة أبي تمام (1/ 464)، ولأيمن بن خريم الأسدي في مقطعات مراثٍ عن ابن الأعربي (ص 111)، والوصايا لأبي حاتم (ص 156)، ولفضالة بن شريك في عيون الأخبار (3/ 76)، ومعجم الشعراء (ص 309)، وللكميت بن معروف في ذيل أمالي القالي (ص 115)، وانظر: ذيل اللآلي للميمني (ص 54).
وقال ابن الأنباري
(1)
: السامد: اللاهي، والسَّامد: الغافل، والسامد: الساهي، والسامد: المتكبِّر، والسامد: القائم.
وقال ابن عباس
(2)
في الآية: «وأنتم مستكبرون» .
وقال الضحاك
(3)
: «أَشِرونَ بَطِرُون» .
وقال مجاهد
(4)
: «غِضَابٌ مُبَرْطِمُون» .
وقال غيره: لاهون غافلون معرضون».
فالغناء يجمع هذا كلَّه ويوجبه.
فهذه أربعة عشر اسمًا، سوى اسم الغناء.
(1)
ذكر هذه المعاني ثعلب عن ابن الأعرابي، انظر: تهذيب اللغة (12/ 378)، والبسيط (21/ 84)، ولعل المؤلف وهِم في ذكر ابن الأنباري.
(2)
روى أبو يعلي (2685) والطبري في تفسيره (22/ 559) والدولابي في الكنى (830) من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: «كانوا يمرّون على النبي صلى الله عليه وسلم شامخين» ، وهو بمعنى الاستكبار، وعزاه في الدر المنثور (7/ 667) للفريابي وابن أبي حاتم وابن مردويه، قال الهيثمي في المجمع (7/ 252):«الضحاك بن مزاحم وثِّق، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات، لكنه لم يسمع من ابن عباس» .
(3)
انظر: الكشف والبيان (9/ 158)، وتفسير البغوي (7/ 421)، وزاد المسير (8/ 86)، وروى الطبري (22/ 560) عنه أنه قال:«السّمود: اللهو واللعب» .
(4)
رواه الحربي في غريب الحديث (2/ 521) والطبري في تفسيره (22/ 559، 560، 561) من طرق عن مجاهد، وعزاه في الدر المنثور (7/ 667) لعبد بن حميد وابن المنذر.
فصل
في بيان تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصريح لآلات اللهو والمعازف، وسياق الأحاديث في ذلك:
عن عبد الرحمن بن غَنْم، قال: حدثني أبو عامر [73 ب] أو أبو مالك الأشعري، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«ليكوننّ من أمتي قوم يستحلّون الحِرَ والحَريرَ والخمر والمعازف» .
هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري في «صحيحه»
(1)
ولم يصنع من قَدَح في صحة هذا الحديث شيئًا، كابن حزم؛ نُصْرةً لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع؛ لأن البخاري لم يصل سنده به
(2)
.
(1)
برقم (5590).
(2)
انظر «المحلى» (9/ 59) و «نقد حديثين وردا في الصحيحين» (المنشور في مجلة عالم الكتب.
وجواب هذا الوهم من وجوه
(1)
:
أحدها: أن البخاري قد لقي هشام بن عمار، وسمع منه، فإذا قال: قال هشام، فهو بمنزلة قوله: عن هشام.
الثاني: أنه لو لم يسْمَعْه منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا وقد صحَّ عنه أنه حدَّث به، وهذا كثيرًا ما يكون: لكثرة مَنْ رواه عن ذلك الشيخ وشهرته؛ فالبخاري أبعدُ خلق الله من التدليس.
الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بـ «الصحيح» محتجًّا به، فلولا صِحَّتُهُ عنده لما فعل
(2)
ذلك.
الرابع: أنه علّقه بصيغة الجزم، دون صيغة التمريض؛ فإذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه يقول: ويُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُذكر عنه، نحو ذلك، فإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد جزم وقطع بإضافته إليه.
الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحًا؛ فالحديث صحيح متصل عند غيره:
قال أبو داود في كتاب اللباس
(3)
: حدثنا عبد الوهاب بن نَجْدَة، حدثنا بشر بن بكر
(4)
، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قَيْس،
(1)
انظر نحوها في تهذيب السنن (4/ 1801 ــ 1803).
(2)
م: «نقل» .
(3)
سنن أبي داود (4041)، ولفظه:«ليكوننّ من أمّتي أقوام يستحلّون الخزّ والحرير» ، قال: وذكر كلامًا قال: «يمسخ منهم آخرون قردة وخنازير إلى يوم القيامة» .
(4)
الأصل: «بكير» . وهو تصحيف.
قال: سمعت عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري، قال: حدثنا أبو عامر أو أبو مالك، فذكره مختصرًا.
ورواه أبو بكر الإسماعيلي
(1)
في كتابه «الصحيح» مسندًا، فقال: أبو عامر، ولم يشكّ.
ووجه الدلالة منه: أن المعازف هي آلات اللهو كلُّها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك، ولو كانت حلالًا لما ذَمّهم على استحلالها، ولما قَرَن استحلالها باستحلال الخمر والحِرِ، فإن كان بالحاء والراء المهملتين فهو استحلال الفروج الحرام، وإن كان بالخاء والزاي المعجمتين فهو نوع من الحرير غير الذي صحَّ عن الصحابة لبسه، إذ الخَزّ نوعان
(2)
؛ أحدهما: من حرير، والثاني: من صوف؛ وقد رُوي هذا الحديث بالوجهين.
وقال ابن ماجه في «سننه»
(3)
: حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا معن بن
(1)
رواه البيهقي في الكبرى (3/ 272، 10/ 221) من طريق الإسماعيلي أخبرني الحسن بن سفيان ثنا هشام بن عمار به، ورواه أيضًا من طريقه عن الحسن ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ثنا بشر بن بكر به، وهو عنده من كلا الطريقين بالشكّ.
(2)
يراجع في هذا: مسائل الكوسج (9/ 4297).
(3)
سنن ابن ماجه (4020)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (5/ 68)، وأحمد (5/ 342)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 305، 7/ 222)، وأبو داود (3690)، والطبراني في الكبير (3/ 283)، والبيهقي في الكبرى (8/ 295، 10/ 221)، وغيرهم من طرق عن معاوية بن صالح به، وليس عند أحمد وأبي داود ذكر العزف والخسف والمسخ، وصحّحه ابن حبان (6758)، وحسن إسناده ابن تيمية كما في الفتاوى الكبرى (6/ 37)، وأعلّه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 245) بجهالة مالك ابن أبي مريم وبالرّاوي عنه، لكن له شواهد كثيرة؛ ولذا صحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 138)، ففي الباب عن عبادة بن الصامت وأبي أمامة وابن عباس وكيسان أو نافع بن كيسان وعائشة، وسيأتي تخريج بعضها.
عيسى عن معاوية بن صالح، عن حاتم بن حُرَيْثٍ، عن ابن أبى مريم، عن عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري، عن أبى مالكٍ الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليشربَنّ ناسٌ من أمتي الخمر، يُسمُّونها بغير اسمها، يُعزَفُ على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردةَ والخنازير» .
وهذا إسناد صحيح.
وقد توعَّد مستحلَّ المعازف فيه بأن يخسف الله به الأرض، ويمسخهم قردةً وخنازير، وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال فلِكلِّ واحد قِسطٌ من الذم والوعيد.
وفي الباب: عن سَهل بن سعدٍ السَّاعدي، وعِمران بن حُصين، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباسٍ، وأبى هريرة، وأبي أُمامة الباهلي، وعائشة أم المؤمنين، وعلي بن أبى طالب، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سابط، والغاز بن ربيعة.
ونحن نسوقها [74 أ] لتقرَّ بها عيونُ أهل القرآن، وتَشجَى بها حُلوقُ أهل سماع الشيطان:
فأما حديث سهل بن سعد: فقال ابن أبى الدنيا
(1)
: أخبرنا الهيثم بن
(1)
ذم الملاهي (1)، ورواه أيضًا عبد بن حميد (452)، وابن ماجه مختصرًا (4060)، والروياني (1043)، والطبراني في الكبير (6/ 150)، والخطيب في تاريخه (10/ 272)، كلّهم من طريق عبد الرحمن بن زيد به، وعبد الرحمن ضعيف.
خارجة، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبى حازم، عن سهل بن سعد الساعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في أمتي خسفٌ وقذفٌ ومسخ» ، قيل: يا رسول الله! متى؟ قال: «إذا ظهرت المعازف والقينات، واستُحلّت الخمر» .
وأما حديث عمران بن حصين: فرواه الترمذي
(1)
من حديث الأعمش، عن هلال بن يساف، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في أمتي قذف وخسفٌ ومسخ» ، فقال رجل من المسلمين: متى ذاك يا رسول الله؟ قال: «إذا ظهرت القيان والمعازف، وشُربت الخمور» . قال الترمذي: «هذا حديث غريب» .
وأما حديث عبد الله بن عمرو: فروى أحمد في «مسنده» ، وأبو داود
(2)
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حَرّم الخمر، والميسر، والكُوبة، والغُبَيْراء،
(1)
سنن الترمذي (2212) من طريق عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش به، وبهذا الإسناد رواه ابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي (2)، والروياني (142)، والداني في السنن الواردة في الفتن (340)، وابن عبد القدوس متكلَّم فيه، وقال البخاري كما في العلل الكبير (602):«يروى هذا عن الأعمش من حديث عبد الرحمن بن سابط عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا» .
(2)
مسند أحمد (2/ 158، 171) من طريق ابن لهيعة وعبد الحميد بن جعفر ــ فرّقهما ــ عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو به. سنن أبي داود (3687) من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبدة عن ابن عمرو به. ورواه الفسوي في المعرفة (2/ 301)، والبيهقي في الكبرى (10/ 221) من طريق عبد الحميد به، والبيهقي (10/ 222) من طريق ابن لهيعة به. ورواه الفسوي (2/ 297)، والبزار (2454)، والطحاوي في شرح المعاني (5973) وغيرهم من طريق ابن إسحاق به. وأعلّ الطريقين ابن الملقن في البدر المنير (9/ 649).
وكلُّ مسكر حرام».
وفي لفظ آخر لأحمد
(1)
: «إن الله حرَّم على أمتي الخمر، والميسر، والمِزْر، والكُوبة، والقِنين» .
وأما حديث ابن عباس: ففي «المسند»
(2)
أيضًا عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرّم الخمر والميسر والكوبة، وكل مسكر حرام» .
والكوبة: الطبل، قاله سفيان
(3)
.
(1)
المسند (2/ 165، 167) من طريق فرج بن فضالة عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع عن أبيه عن عبد الله بن عمرو به. ورواه أيضًا (2/ 172) من طريق ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن أبي هبيرة عن ابن عمرو بلفظ: «إن ربي حرّم عليّ الخمر .. » وذكره. وهو في السلسلة الصحيحة (1708).
(2)
المسند (1/ 274، 289، 350) من طريق عبد الكريم الجزري وعلي بن بَذيمة ــ فرقهما ــ عن قيس بن حبتر عن ابن عباس به، ورواه أبو داود (3698)، وأبو يعلى (2729)، والطحاوي في شرح المعاني (5967)، والطبراني في الكبير (12/ 101، 102)، والبيهقي في الكبرى (8/ 303، 10/ 213، 221)، وصححه ابن حبان (5365)، وابن الملقن في البدر المنير (9/ 649)، قال الذهبي في المهذب (8/ 4234):«إسناده مقارب» ، وحسنه ابن باز كما في مجموع فتاويه (3/ 530)، وهو في السلسلة الصحيحة (1806، 2425). ورواه الطبراني في الأوسط (7388) من طريق شيبة بن مساور عن ابن عباس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حرم ستة: الخمر والميسر والمعازف والمزامير والدف والكوبة. وهذا منقطع، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 76):«فيه حفص بن عمر الإمام وهو ضعيف جدًّا» . وروِي من طريق أبي هاشم عن ابن عباس موقوفًا عليه بنحوه. وفي الباب عن قيس بن سعد بن عبادة.
(3)
جاء في المسند وسنن أبي داود وغيرهما: قال سفيان: قلت لعلي بن بَذِيمة: ما الكوبة؟ قال: الطبل.