المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حديث عائشة رضي الله عنها: - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي انقسام القلوب إلى صحيحٍ وسقيمٍ ومَيّتٍ

- ‌الباب الثانيفي ذكر حقيقة مرض القلب

- ‌ حال القلوب عند ورود الحق المنزل

- ‌الباب الثالثفي انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبعية وشرعية

- ‌الباب الرابعفي أن حياة القلب وإشراقه مادةُ كل خير فيه وموتَه وظلمتَه مادةُ كل شر فيه

- ‌ضرب الله سبحانه المثلَين المائيَّ والناريَّ لوحيه ولعباده

- ‌الباب الخامسفي أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدركًا للحقِّ مريدًا له، مُؤْثِرًا له على غيره

- ‌الباب السادسأنه لا سعادة للقلب ولا لذةَ ولا نعيمَ ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه

- ‌ المقدور يكتنفه(1)أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه

- ‌ تعلُّق العبد بما سوى الله تعالى مَضَرة عليه

- ‌مُحِبُّ الدنيا لا ينفكُّ من ثلاث: هَمٍّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي

- ‌ غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم بك، وإن أضرَّ ذلك بدينك ودنياك

- ‌الباب السابعفي أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه

- ‌الباب الثامنفي زكاة القلب

- ‌إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته

- ‌ الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته

- ‌ زكاة القلب موقوفة على طهارته

- ‌الباب التاسعفي طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

- ‌ خبث الملبس يُكسِبُ القلب هيئةً خبيثة

- ‌ العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه

- ‌ معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهِّرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد»

- ‌ عشق الصور المحرّمة نوع تَعَبُّدٍ لها

- ‌لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا

- ‌ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ

- ‌مَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين

- ‌ فوائد نظر العبد في حق الله عليه:

- ‌الباب الثاني عشرفي علاج مرض القلب بالشيطان

- ‌الباب الثالث عشرفي مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم

- ‌ تغيير الفطرة

- ‌ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها

- ‌الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه:

- ‌الفصل الأولفي النية في الطهارة والصلاة

- ‌ النية قصد فعل الشيء

- ‌إن شك في حصول نيّته فهو نوع جنون

- ‌الشرك وتحريم الحلال قرينان

- ‌ الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:

- ‌ لا تجد أحدًا عُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى

- ‌فصلالاسم الثاني والثالث: الزور، واللغو

- ‌فصلالاسم الرابع: الباطل

- ‌ حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

- ‌ حديث عائشة رضي الله عنها:

- ‌المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة

- ‌المحرَّمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها

- ‌القربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها

- ‌الأفعال الموجبة للتحريم لا يُعتبر لها العقل، فضلًا عن القصد

- ‌ الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع

- ‌ الحيل نوعان: أقوال، وأفعال

الفصل: ‌ حديث عائشة رضي الله عنها:

والمعازف، والأوثان التي كانت تُعبد في الجاهلية».

قال البخاري: عبيد الله بن زحر: ثقة، وعلي بن يزيد: ضعيف، والقاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن: ثقة.

وفي «الترمذي» و «مسند أحمد»

(1)

بهذا الإسناد بعينه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا القَيناتِ، ولا تشتروهنّ، ولا تُعلّموهن، ولا خيرَ في تجارة فيهن، وثمنهن حرام، وفي مثل هذا نزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

} [لقمان: 6]».

وأما‌

‌ حديث عائشة رضي الله عنها:

فقال ابن أبي الدنيا

(2)

: حدثنا الحسن بن محبوب، حدثنا أبو النَّضر هاشم بن القاسم، حدثنا أبو مَعْشَر، عن محمد بن المنْكدر، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في أمَّتي خسفٌ ومسخ وقذفٌ» ، قالت عائشة: يا رسول الله! وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ فقال: «إذا ظهرت القِيَانُ، وظهر الزِّنى، وشُربت الخمر، ولُبس الحرير، كان ذا عند ذا» .

وقال ابن أبي الدنيا

(3)

أيضًا: حدثنا محمد بن ناصح، حدثنا بقية بن

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

ذم الملاهي (4)، وفي إسناده أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي ضعيف.

(3)

العقوبات لابن أبي الدنيا (17)، ورواه نعيم بن حماد في الفتن (1729) عن بقية عن يزيد الجهني عن أبي العالية عن أنس، وصحّحه الحاكم (8575)، وتعقّبه الذهبي بقوله:«بل أحسبه موضوعًا على أنس، ونعيم منكر الحديث إلى الغاية مع أن البخاري روى عنه» ، وبقية يدلّس ويسوّي وقد عنعن، وقد وهّاه الألباني في السلسلة الضعيفة تحت حديث (6043).

ص: 465

الوليد، عن يزيد بن عبد الله الجُهَني، حدثني أبو العلاء، عن أنس بن مالك: أنه دخل على عائشة رضي الله عنها ورجل معه، فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين! حدِّثينا عن الزلزلة، فقالت: إذا استباحوا الزنى، وشربوا الخمر، وضربوا بالمعازف، غار الله في سمائه، فقال: تَزلْزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمتُها عليهم. قال: قلت: يا أم المؤمنين! أعذاب لهم؟ قالت: بل موعظةٌ ورحمةٌ وبركةٌ للمؤمنين، ونكالٌ وعذاب وسخط على الكافرين، قال أنس: ما سمعت حديثًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أشدُّ به فرحًا مني بهذا الحديث.

وأما حديث علي: فقال ابن أبي الدنيا

(1)

أيضًا: حدثنا الربيع بن تغلب، حدثنا فرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن علي، عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا عملتْ أمتي خمسَ عشرةَ خصلةً حلَّ بها البلاء» قيل: يا رسول الله! وما هُنّ؟ قال: «إذا كان المغنم دُوَلًا، والأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا، وأطاع الرجل زوجته وعَقَّ أمه، وبَرَّ صديقه

(1)

ذم الملاهي (5)، ورواه أيضًا الترمذي (2210)، وابن حبان في المجروحين (2/ 207)، والطبراني في الأوسط (469)، والداني في الفتن (320)، والخطيب في تاريخه (3/ 158)، وغيرهم من طريق ابن فضالة به، إلا أنه في السنن:«عن محمد بن عمرو بن علي» ، وعند بعضهم:«عن محمد بن الحنفية» ، قال الترمذي:«هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحدًا رواه عن يحيى الأنصاري غير الفرج بن فضالة، والفرج قد تكلّم فيه بعض أهل الحديث وضعّفه من قبل حفظه» ، وبه أعلّه الدارقطني كما في تاريخ بغداد (12/ 396) وقال:«هذا باطل» ، وضعّفه ابن حزم في المحلى (9/ 56)، وابن الجوزي في العلل (2/ 850)، والعلائي في جامع التحصيل (ص 267)، والمنذري والذهبي والعراقي كما في الفيض (1/ 526)، وغيرهم، وهو في السلسلة الضعيفة (1170).

ص: 466

وجَفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكْرِم الرجل مخافةَ شرِّه، وشُربت الخمور، ولُبس الحرير، واتخذت القيان، ولعن آخر هذه الآمة أوَّلها، فليترقَّبوا عند ذلك ريحًا حمراء وخسفًا ومسخًا».

حدثنا

(1)

عبد الجبار بن عاصم أبو طالب، ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الرحمن التميمي، عن عبّاد بن أبي علي، عن عليٍّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«تُمسَخ طائفة من أمتي قردةً، وطائفة خنازير، ويُخسَف بطائفة، ويُرسَل على طائفةٍ الريحُ العقيم؛ بأنهم شربوا الخمر، ولبسوا الحرير، واتخذوا القيان، وضربوا بالدفوف» .

وأما حديث أنس رضي الله عنه، فقال ابن أبي الدنيا

(2)

: حدثنا أبو عمرو هارون بن عمر القرشي، حدثنا الخصيب بن كثير، عن أبي بكر الهُذليُّ، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «ليكوننَّ في هذه الأمة خسفٌ وقذفٌ ومسخ، ذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا [75 أ] القينات، وضربوا بالمعازف» .

(1)

ذم الملاهي (6)، وفيه إسماعيل بن عياش مختلف في توثيقه، وأشار بعضهم إلى أنه كان يدلس، وقد عنعن، ويبقى النظر في شيخه وشيخ شيخه.

(2)

ذم الملاهي (7)، وفي إسناده أبو بكر الهذلي متروك واتهمه بعضهم. ورواه البزار (6397) وأبو يعلى (3945) والداني في السنن الواردة في الفتن (338) من طريق مبارك بن سحيم عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بالشطر الأول دون التعليل، ومبارك متروك، قال البزار:«حدّث عن عبد العزيز بحديث كثير، فيها أحاديث مناكير لم يتابع عليها» . وانظر: السلسلة الصحيحة (2203).

ص: 467

قال

(1)

: وأخبرنا أبو إسحاق الأزدي، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أحدِ وَلَدِ أنس بن مالك، وعن غيره، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليبيتنَّ رجالٌ على أكلٍ وشرب وعَزف، فيصبحون على أرائكهم ممسوخين قردةً وخنازير» .

وأما حديث عبد الرحمن بن سابط، فقال ابن أبي الدنيا

(2)

: أنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا جرير، عن أبان بن تَغلِب، عن عمرو بن مُرَّة، عن عبد الرحمن بن سابط، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في أمتي خَسف وقذف ومسخ» ، قالوا: فمتى ذاك يا رسول الله؟ قال: «إذا أظهروا المعازف، واستحلُّوا الخمور» .

وأما حديث الغاز بن ربيعة، فقال ابن أبي الدنيا

(3)

: حدثنا

(1)

ذم الملاهي (15)، وفيه عبد الرحمن بن زيد ضعيف، ومن روى عنهم مبهمون.

(2)

ذم الملاهي (9)، ورواه ابن أبي شيبة (7/ 501) من طريق عبد الله بن عمرو بن مرة، والداني في السنن الواردة في الفتن (347) من طريق الأعمش، كلاهما عن عمرو بن مرة به، قال الألباني في تحريم آلات الطرب (ص 64):«وهذا إسناد مرسل صحيح» . ورواه نعيم في الفتن (1716) والداني (339) من طريق ليث بن أبي سليم عن ابن سابط بنحوه.

(3)

ذم الملاهي (10)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (43/ 312)، وهذا مرسل. ورواه الدولابي في الكنى (307) والطبراني في الكبير (3/ 279) وابن عساكر (48/ 51، 67/ 190) من طرق عن علي بن بحر عن قتادة بن الفضيل عن هشام بن الغاز عن أبيه عن جده عن أبي مالك بنحوه مرفوعًا. ورواه ابن عساكر (48/ 50) من طريق ابن خيثمة عن علي بن بحر عن قتادة عن هشام بن الغاز عن أبيه عن جده به، فجعله من مسند ربيعة.

ص: 468

عبد الجبار بن عاصم، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عبيد الله بن عبيد، عن أبي العباس الهمداني، عن عمارة

(1)

بن راشد، عن الغاز بن ربيعة رفع الحديث، قال:«ليُمسخنّ قوم وهم على أريكتهم قردةً وخنازيرَ؛ بشربهم الخمر، وضربهم بالبرابط والقيان» .

قال ابن أبي الدنيا

(2)

: وحدثنا عبد الجبار بن عاصم، قال: حدثني المغيرة بن المغيرة، عن صالح بن خالد رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«ليستحلَّنّ ناسٌ من أمتي الحرير والخمر والمعازف، وليأتينَّ الله على أهل حاضرٍ منهم عظيمٍ بجبلٍ حتى يَنْبِذَه عليهم، ويُمسَخ آخرون قِردةً وخنازير» .

قال ابن أبي الدنيا

(3)

: أنا هارون بن عبيد الله، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أشرس أبو شيبان الهذلي، قال: قلت لفَرْقَدٍ السَّبخي: أخبرني يا أبا يعقوب من تلك الغرائب التي قرأت في التوراة، فقال: يا أبا شيبان، والله ما أكذب على ربي، مرتين أو ثلاثًا؛ لقد قرأت في التوراة:«ليكونن مسخ وقذف وخسف في أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم في أهل القبلة» ، قال: قلت: يا أبا يعقوب ما أعمالهم؟ قال: باتخاذهم القينات، وضربهم بالدفوف، ولباسهم الحرير

(1)

ح: «عمار» .

(2)

ذم الملاهي (12)، والمغيرة بن المغيرة هو أبو هارون الربعي الرملي، ذكَره الأزدي فيمن وافق اسمه اسمَ أبيه (79)، وله ترجمة في تاريخ دمشق (60/ 85)، روى فيه عن أبي حاتم أنه قال:«لا بأس به» ، وهو في الجرح والتعديل (8/ 230) لكن سماه المغيرة بن أبي المغيرة، يروي عمّن دون الصحابة، وعليه فهذا الحديث مرسل أو معضل، على أنّ صالح بن خالد لا يُدرى من هو، وقد سمّى ابن عساكر في شيوخ المغيرةِ صالحَ بن مخلد، والله أعلم.

(3)

ذم الملاهي (17).

ص: 469

والذهب، ولئن بقيتَ حتى ترى أعمالًا ثلاثة، فاستيقنْ واستعدَّ واحذرْ، قال: قلت: ما هي؟ قال: إذا تكافأ الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، ورغبت العرب في آنية العجم؛ فعند ذلك. قلت له: العرب خاصة؟ قال: لا؛ بل أهل القبلة، ثم قال: والله ليُقذفنَّ رجال من السَّماء بحجارةٍ، يُشدَخون بها في طُرقهم وقبائلهم، كما فُعل بقوم لوطٍ، وليُمسخنَّ آخرون قردةً وخنازير، كما فُعل ببني إسرائيل، وليُخسفن بقوم كما خُسف بقارون.

وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ في هذه الأمة، وهو مقيَّد في أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء، وشُرَّاب الخمر، وفي بعضها مطلق

(1)

.

قال سالم بن أبي الجعد

(2)

: ليأتينَّ على الناس زمان، يجتمعون فيه على باب رجل، ينتظرون أن يخرج إليهم، فيطلبوا إليه حاجة، فيخرج إليهم؛ وقد مُسِخ قِردًا أو خنزيرًا، وليَمُرَّنَّ الرجل على الرجل في حانوته يبيع، فيرجع إليه، وقد مُسخ قردًا أو خنزيرًا.

وقال أبو الزاهرية

(3)

رضي الله عنه: لا تقوم الساعة حتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيُمسخ أحدهما قردًا أو خنزيرًا، فلا يمنع الذي نجا منهما

(1)

من ذلك ممّا لم يذكره المصنف عن أبي سعيد الخدري وابن عباس وحذيفة وابن عمر وسعيد الأنصاري، وعن قبيصة بن ذؤيب مرسلًا.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (18) من طريق جرير عن ليث عن رجل من أشجع عن سالم به.

(3)

في الأصل: «أبو هريرة» تحريف. ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (19) من طريق المغيرة بن المغيرة عن صالح بن خالد عن أبي الزاهرية به، وصالح بن خالد لا يُدرى من هو.

ص: 470

ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك حتى يقضي شهوته، وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيُخسف بأحدهما، فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمشي لشأنه ذلك، حتى يقضي شهوته منه.

وقال عبد الرحمن بن غَنْم

(1)

: سيكون حَيَّان متجاورين، فيَشُقُّ بينهما نهر، فيستقيان منه، قَبَسُهم واحد، [75 ب] يَقْبِسُ بعضهم من بعضه، فيُصبحان يومًا من الأيام قد خُسف بأحدهما والآخر حَيٌّ.

وقال عبد الرحمن بن غَنْم

(2)

أيضًا: يوشك أن يقعد اثنان على رَحًى يطحنان، فيُمسَخ أحدهما والآخر ينظر.

وقال مالك بن دينار

(3)

: بلغني أن ريحًا تكون في آخر الزمان وظُلَم، فيفزع الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مُسِخُوا.

قال بعض أهل العلم: إذا اتَّصف القلب بالمكر والخديعة والفسق، وانصبغ بذلك صبغةً تامةً، صار صاحبه على خُلُق الحيوان الموصوف بذلك من القردة والخنازير وغيرهما، ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه، حتى

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (21) عن علي بن الجعد عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن به.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي (20) عن ابن الجعد عن عبد الحميد عن شهر عن عبد الرحمن به.

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي (22) من طريق المؤمّل بن إهاب، وأبو نعيم في الحلية (2/ 382) من طريق أحمد بن حنبل، كلاهما عن سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان عن مالك به، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه الخطيب في تاريخ بغداد (13/ 181)، ومن طريق الخطيب رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (61/ 255).

ص: 471

يبدو على صفحات وجهه بُدُوًّا خفيًّا، ثم يقوَى ويتزايد، حتى يصير ظاهرًا على الوجه، ثم يقوى حتى يَقلِبَ الصورة الظاهرة كما قلب الهيئة الباطنة، ومَنْ له فراسة تامة يرى على صور الناس مسخًا من صور الحيوانات التي تخلَّقوا بأخلاقها في الباطن، فقلّ أن ترى مُختالًا مكارًا مخادعًا خَتَّارًا إلا وعلى وجهه مِسْخة قرد، وقلَّ أن ترى رافضيًّا إلا وعلى وجهه مِسخة خنزير، وقلَّ أن ترى شَرِهًا نَهِمًا نفسه نفسٌ كَلْبِيَّةٌ إلا وعلى وجهه مِسخة كلب. فالظاهر مرتبط بالباطن أتمَّ ارتباطٍ، فإذا استحكمت الصفات المذمومة في النفس قويت على قلب الصورة الظاهرة.

ولهذا خوّف النبي صلى الله عليه وسلم مَن سابقَ الإمام في الصلاة بأن يجعل الله صورته صورة حمار

(1)

؛ لمشابهته للحمار في الباطن؛ فإنه لم يستفد بمسابقة الإمام إلا فساد صلاته، وبطلان أجره، فإنه لا يُسَلِّم قبله، فهو شبيه الحمار في البلادة وعدم الفِطْنَة.

إذا عُرف هذا فأحقُّ الناس بالمسخ هؤلاء الذين ذُكروا في هذه الأحاديث، فهم أسرع الناس مسخًا قردةً وخنازير، لمشابهتهم لهم في الباطن. وعقوبات الربِّ تعالى ــ نعوذ بالله منها ــ جاريةٌ على وفق حكمته وعدله.

وقد ذكرنا شُبَه المغنِّين والمفتونين بالسَّماع الشيطاني، ونقضناها نقضًا وإبطالًا في كتابنا الكبير في «السماع»

(2)

، وذكرنا الفرق بين ما يحرِّكه سماع الأبيات، وما يحرِّكه سماع الآيات، وذكرنا الشُّبهة التي دخلت على كثير من العُبَّاد في حضوره، حتى عدُّوه من القُرَب. فمن أحبَّ الوقوف على ذلك فهو

(1)

كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (691)، ومسلم (427).

(2)

المطبوع بعنوان «الكلام على مسألة السماع» .

ص: 472

مستوفًى في ذلك الكتاب، وإنما أشرنا هاهنا إلى نُبذةٍ يسيرةٍ في كونه من مكايد الشيطان، وبالله التوفيق.

فصل

ومن مكايده التي بلغ فيها مراده: مكيدةُ التَّحليل، الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، وشبَّهه بالتَّيس المستعار، وعَظُم بسببه العار والشَّنار، وعَيَّر المسلمين به الكفارُ، وحصل بسببه من الفساد ما لا يُحصيه إلا ربُّ العباد، واستُكْرِيَتْ له التُّيوس المستعارات، وضاقت به ذرعًا النفوس الأبيَّات، ونفرت منه أشدَّ من نِفارها من السفاح، وقالت: لو كان هذا نكاحًا صحيحًا لم يَلْعَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتى بما شرعه من النكاح، فالنكاح سنته، وفاعل السنَّة مقرّب غير ملعون، والمحلِّلُ ــ مع وقوع اللعنة عليه ــ بالتيس المستعار مقرون، وسماه السلف بمسمار النار.

فلو شاهدتَ الحرائر المصونات، على حوانيت المحلِّلين متَبَذِّلات، تنظر المرأة إلى التيس نظرَ الشاةِ إلى شَفْرة الجازر، وتقول: يا ليتني قبل هذا كنت من أهل المقابر، حتى إذا تشارطا على ما يَجلِبُ اللعنة والمقْت، نهض واستتبعها خلفه للوقت، بلا زِفاف ولا إعلان، بل بالتخفي والكتمان، فلا جهازٌ يُنقل، [76 أ] ولا فِراش إلى بيت الزوج يُحَوَّل، ولا صواحبُ يُهدِينها إليه، ولا مُصلحات يُجَلِّينها عليه، ولا مهرٌ مقبوض ولا مؤخَّر، ولا نفقة ولا كسوة تُقدَّر، ولا وليمة ولا نِثار، ولا دُفٌّ ولا إعلان ولا شعار، والزوج يبذلُ المهر، وهذا التيسُ يطأ بالأجر، حتى إذا خلا بها وأرخى الحجاب، والمطَلِّق والوَليُّ واقفان على الباب؛ دنا ليُطَهِّرها بمائه النَّجس الحرام، ويُطيِّبها بلعنة الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام.

ص: 473

حتى إذا قضيا عُرس التحليل، ولم يحصل بينهما المودَّة والرحمة التي ذكرها الله تعالى في التنزيل؛ فإنها لا

(1)

تحصل باللعن الصَّريح، ولا يوجبها إلا النكاح الجائز الصحيح؛ فإن كان قد قبض أجرةَ ضِرابه سلفًا وتعجيلًا، وإلا حَبسها حتى يعطيه أجره طويلًا، فهل سمعتم بزوج لا يأخذ بالساق؛ حتى يأخذ أجرته بعد الشرط والاتفاق؟ حتى إذا طهَّرها وطيَّبها، وخلَّصها بزعمه من الحرام وجَنَّبها؛ قال لها: اعترفي بما جرى بيننا ليقع عليك الطلاق، فيحصل بعد ذلك بينكما الالتئام والاتفاق، فتأتي المضمَّخةُ

(2)

إلى حضرة الشهود، فيسألونها: هل كان ذاك؟ فلا يمكنها الجحود، فيأخذون منها أو من المطلق أجرًا، وقد أرهقوهما من أمرهما عسرًا، هذا وكثير من هؤلاء المستأجَرين للضِّراب يحلِّل الأمَّ وابنتها في عقدين، ويجمع ماءه في أكثر من أربع وفي رحم أختين.

وإذا كان هذا من شأنه وصفته، فهو حقيق بما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له،

رواه الحاكم في «الصحيح»

(3)

، والترمذي، وقال:«حديث حسن صحيح» ،

(1)

«لا» ساقطة من م.

(2)

في بعض النسخ: «المخصمة» أو «المصخمة» .

(3)

لم أقف على من عزاه لمستدرك الحاكم، وهو في سنن الترمذي (1120) من طريق أبي قيس عن هُزيل بن شرحبيل عن ابن مسعود به، وبهذا الإسناد رواه ابن أبي شيبة (3/ 553، 7/ 292)، والدارمي (2258)، وابن الجوزي في التحقيق (1658)، وصحّحه ابن حزم في المحلى (10/ 180)، وابن العربي في العارضة (3/ 46)، وابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/ 372)، وابن دقيق العيد في الاقتراح (ص 101)، والذهبي في الكبائر (ص 138)، والمصنّف فيما يأتي، وابن الملقن في البدر المنير (7/ 612)، والهيتمي في الزواجر (2/ 578)، والشوكاني في فتح القدير (1/ 363)، والألباني في الإرواء (1897). ورواه أحمد (1/ 450) وأبو يعلى (5054) والشاشي (862) والبغوي في شرح السنة (2293) من طريق عبد الكريم الجزري عن أبي الواصل عن ابن مسعود به.

ص: 474

قال: «والعمل عليه عند أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وهو قول الفقهاء من التابعين.

ورواه الإمام أحمد في «مسنده» ، والنسائي في «سننه»

(1)

بإسناد صحيح، ولفظهما: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والموتَشمة، والواصلة والموصولة، والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا ومُوكِله.

وفي «مسند الإمام أحمد» ، و «سنن النسائي»

(2)

أيضًا، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: آكل الربا، وموكله، وشاهداه، وكاتبه ــ إذا علموا به ــ،

(1)

مسند أحمد (1/ 448، 462)، سنن النسائي (3416)، كلاهما من طريق أبي قيس عن الهزيل عن ابن مسعود به، وبهذا الإسناد والمتن رواه أبو يعلى (5350)، والطبراني في الكبير (10/ 38)، والبيهقي في الكبرى (7/ 208)، والخطيب في تاريخه (2/ 225). وانظر: التخريج السابق.

(2)

مسند أحمد (1/ 409، 430، 464)، سنن النسائي (5102)، من طرقٍ عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحارث الأعور عن ابن مسعود به، لكن ليس عندهما من هذه الطريق ذكر المحلّل والمحلّل له، وهو كذلك عند أبي يعلى (5241) وابن خزيمة (2250) وابن حبان (3252)، والبيهقي في الشعب (4/ 391)، إلا أنه عند ابن خزيمة: عن ابن مرة عن مسروق عن ابن مسعود. ورواه عبد الرزاق (3/ 144، 6/ 269، 8/ 315) ــ ومن طريقه الطبراني في الدعاء (2169) ــ عن معمر عن الأعمش به، وفيه ذكر المحلّل والمحلل له.

ص: 475

والواصلة، والمستوصلة، ولاوي الصدقة، والمعتدي فيها، والمرتد على عقبيه أعرابيًا بعد هجرته، والمحلِّل، والمحلَّل له: ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لعن المحلِّل والمحلَّل له، رواه الإمام أحمد وأهل «السنن» كلهم غير النسائي

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله المحلِّل والمحلَّل له» . رواه الإمام أحمد

(2)

بإسنادٍ رجالُه كلُّهم ثقات، وثَّقهم ابن

(1)

مسند أحمد (1/ 83، 87، 88، 93، 107، 121، 150، 158)، سنن أبي داود (2078، 2079)، سنن الترمذي (1119)، سنن ابن ماجه (1935)، ورواه أيضًا عبد الرزاق (6/ 269، 8/ 316)، وسعيد بن منصور (2008)، والبزار (820، 821، 822)، وأبو يعلى (402، 516)، والطبراني في الأوسط (7063)، وابن عدي في الكامل (1/ 379)، والبيهقي في الكبرى (7/ 207)، وغيرهم من طريق الحارث الأعور عن علي به، وهو عند أبي داود في أحد إسناديه بالشكّ في رفعه، واختُلِف في إسناده كما بينه الدارقطني في العلل (3/ 153 - 156)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1811، 1812).

(2)

مسند أحمد (2/ 323) من طريق عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة به، وبهذا الإسناد رواه ابن أبي شيبة (3/ 553)، والبزار (1442)، وتمام في فوائده (815)، والبيهقي في الكبرى (7/ 208)، وغيرهم، وصحّحه ابن الجارود (684)، والزيلعي في نصب الراية (3/ 240)، قال الهيثمي في المجمع (4/ 490):«فيه عثمان بن محمد وثقه ابن معين وابن حبان، وقال ابن المديني: له عن أبي هريرة أحاديث مناكير» ، وجوَّد إسناده ابن تيمية في إبطال التحليل (6/ 194 الفتاوى الكبرى)، وابن عبد الهادي في التنقيح (2759)، والمصنف في الزاد (5/ 110)، وابن الملقن في البدر المنير (7/ 614).

ص: 476

مَعِين وغيره.

وقال الترمذي في كتاب «العلل»

(1)

: «سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن، وعبد الله بن جعفر المخزومي: صدوق ثقة، وعثمان بن محمد الأخنسي: ثقة» .

وقال أبو عبد الله ابن ماجه في «سننه»

(2)

: حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثنا أبو عامر، عن زَمْعَة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له.

وعن ابن عباس أيضًا قال: سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلِّل، فقال:«لا إلا نكاح رغبة، لا نكاح دُلْسَةٍ، ولا استهزاءٍ بكتاب الله، ثم يذوق العُسَيْلَة» .

رواه أبو إسحاق الجوزجاني في كتاب «المترجم»

(3)

، قال: أخبرنا

(1)

علل الترمذي (273)، وزاد البخاري:«وكنت أظنّ أن عثمان لم يسمع من سعيد المقبري» .

(2)

سنن ابن ماجه (1934)، ورواه ابن عدي في الكامل (3/ 339) من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي عامر بسياق أطول، وفي إسناده زمعة بن صالح، به ضعَّفه البوصيري في المصباح (695)، وابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 372)، وقواه ابن كثير في تفسيره (1/ 628) بمرسل عمرو بن دينار الآتي. وسئل أحمد عن سلمة بن وهرام ــ كما في ذخيرة الحفاظ (2/ 869) ــ فقال:«أخشى أن يكون حديثه ضعيفًا» .

(3)

لم يصلنا، وهو شرح مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي، كما في إعلام الموقعين (3/ 23). وذكره قبله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (20/ 565، 34/ 114). وقد رواه الطبراني في الكبير (11/ 226) وابن حزم في المحلى (10/ 184) من طريق إسحاق بن محمد الفروي عن إبراهيم بن إسماعيل به، وحكم عليه ابن حزم بالوضع، وأعلّه بإسحاق الفروي وشيخه، وعزاه ابن تيمية في إبطال التحليل (6/ 240 الفتاوى الكبرى) لأبي إسحاق الجوزجاني وابن شاهين في غرائب السنن، وقال:«إسناده جيّد إلا إبراهيم بن إسماعيل فإنه قد اختلف فيه» ، وبه ضعّفه ابن حجر في الكافي الشاف (ص 20)، وقوّاه ابن كثير في تفسيره (1/ 628) بمرسل عمرو بن دينار الآتي.

ص: 477

إبراهيم بن إسماعيل [76 ب] بن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة عنه. وهؤلاء كلهم ثقات إلا إبراهيم، فإن كثيرًا من الحفاظ يضعفه، والشافعي حَسَنُ الرأي فيه، ويحتج بحديثه.

وعن عُقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بالتَّيس المستعار؟» ، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «هو المحلِّل؛ لعن الله المحلِّل والمحلَّل له» رواه ابن ماجه

(1)

بإسنادٍ رجالُه كلهم موثَّقون، لم يُجَرَّح واحد منهم.

(1)

سنن ابن ماجه (1936)، ورواه أيضًا الروياني (226)، والطبراني في الكبير (17/ 299)، والدارقطني (3/ 251)، والبيهقي في الكبرى (7/ 208)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1072)، من طريقين عن الليث بن سعد عن مشرح بن هاعان عن عقبة به، وصحّحه الحاكم (2804، 2805)، والذهبي في الكبائر (ص 138)، والزيلعي في نصب الراية (3/ 239)، وابن الهمام في شرح فتح القدير (4/ 182)، والهيتمي في الزواجر (2/ 578)، وحسنه عبد الحق في أحكامه، وابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 504)، وابن تيمية في إبطال التحليل (6/ 195 الفتاوى الكبرى)، وابن الملقن في البدر المنير (7/ 614)، وقد أجاب المصنّف في إعلام الموقعين (3/ 45 - 46) وغيرُه على إعلال من أعلّه بمِشرح وبالانقطاع والإرسال والنكارة.

ص: 478

وعن عمرو بن دينار وهو من أعيان التابعين: أنه سئل عن رجل طلق امرأته، فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه ولا علمها، فأخرج شيئًا من ماله، فتزوَّجها ليُحِلَّها له. فقال: لا، ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن مثل ذلك، فقال:«لا، حتى ينكح مُرتَغِبًا لنفسه، فإذا فعل ذلك لم يحلَّ له حتى يذوق العُسَيْلَة» ، رواه أبو بكر بن أبي شيبة في «المصنَّف»

(1)

بإسناد جيد. وهذا المرسل قد احتج به من أرسله، فدلَّ على ثبوته عنده، وقد عمل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، وهو موافق لبقيَّة الأحاديث الموصولة. ومثل هذا حجة باتفاق الأئمة، وهو والذي قبله نصٌ في التحليل المنويِّ.

وكذلك حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رجلًا قال له: امرأةٌ تزوجتها، أُحِلُّها لزوجها، لم يأمرني ولم يعلم. قال: لا، إلا نكاح رَغْبَة، إن أعجبتْك أمسكتَها، وإن كرهتهَا فارقتَها، وإن كنا نعدُّ هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سِفاحًا»

(2)

. ذكره شيخ الإسلام في «إبطال التحليل»

(3)

.

(1)

مصنف ابن أبي شيبة (3/ 553)، قال ابن تيمية في إبطال التحليل (6/ 241 الفتاوى الكبرى):«هذا المرسل حجّة؛ لأن الذي أرسله احتجَّ به» ، وهو صحيح الإسناد إلى عمرو كما قال الألباني في الإرواء (6/ 312). وفي الباب عن غير من ذكرهم المصنف عن جابر بن عبد الله وعمير بن قتادة وعن عطاء وإبراهيم والشعبي مرسلًا.

(2)

رواه الطبراني في الأوسط (6246)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 96)، والبيهقي في الكبرى (7/ 208)، وصحّحه الحاكم (2806)، وابن دقيق العيد في الإلمام (1246)، وحسن إسناده ابن تيمية في إبطال التحليل (ص 398)، وقال الهيثمي في المجمع (4/ 491):«رجاله رجال الصحيح» ، وصحّحه الألباني في الإرواء (1898).

(3)

المطبوع بعنوان «بيان الدليل على بطلان التحليل» (ص 397) ط. دار ابن الجوزي.

ص: 479

فصل

وأما الآثار عن الصحابة:

ففي كتاب «المصنف» لابن أبي شيبة و «سنن الأثرم» و «الأوسط» لابن المنذر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا أُوتَى بمحلِّل ولا محلَّل له إلا رجمتهما.

ولفظ عبد الرزاق وابن المنذر: لا أُوتَى بمحلِّل ولا محلَّلة إلا رجمتهما

(1)

.

وهو صحيحٌ عن عمر.

وقال عبد الرزاق: عن مَعْمر، عن الزُّهري

(2)

، عن عبد الملك بن المغيرة، قال: سُئل ابن عمر رضي الله عنهما عن تحليل المرأة لزوجها، فقال: ذاك السِّفاح.

ورواه ابن أبي شيبة

(3)

.

(1)

مصنف عبد الرزاق (6/ 265)، مصنف ابن أبي شيبة (3/ 552، 7/ 292)، ورواه سعيد بن منصور (1992، 1993) ــ وعنه حرب في مسائله (ص 87) ـ، وابن حزم في المحلى (11/ 249)، والبيهقي في الكبرى (7/ 208)، وصححه ابن تيمية كما في المجموع (33/ 30).

(2)

في الأصل: «والزهري» .

(3)

مصنف عبد الرزاق (6/ 256)، مصنف ابن أبي شيبة (3/ 552) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن معمر به، ورواه البيهقي في الكبرى (7/ 208) من طريق ابن أبي عروبة به، وصحح إسناده الألباني في الإرواء (6/ 311). ورواه حرب في مسائله (ص 86) وابن عبد البر في التمهيد (13/ 235) من طريق الأوزاعي، والفسوي في المعرفة (1/ 176) من طريق يونس، كلاهما عن الزهري به.

ص: 480

وقال عبد الرزاق

(1)

: أخبرنا الثوري، عن عبد الله بن شريك العامري، قال: سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سئل عن رجل طلق ابنة عَمّ له، ثم رغب فيها ونَدِم، فأراد أن يتزوَّجها رجل يُحلِّلُها له. فقال ابن عمر رضي الله عنهما: كلاهما زانٍ، وإن مكث عشرين سنةً أو نحو ذلك، إذ كان الله يعلم أنه يريد أن يُحِلَّها له.

قال

(2)

: وأخبرنا معمر، والثوري

(3)

، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس رضي الله عنهما وسأله رجل، فقال: إن عمِّي طلَّق امرأته ثلاثًا، فقال: إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا، قال: كيف ترى في رجل يُحلِّلها؟ قال: من يُخادع الله يخدعه.

وعن سليمان بن يسار

(4)

، قال: رُفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل

(1)

مصنف عبد الرزاق (6/ 266)، ورواه مسدد ــ كما في إتحاف الخيرة (3252) ــ عن يحيى عن سفيان به نحوه. ورواه الجوزجاني ــ كما في الفتاوى الكبرى (6/ 243) ــ عن ابن نمير عن الثوري عن رجل سماه عن ابن عمر نحوه.

(2)

مصنف عبد الرزاق (6/ 266)، ومن طريقه ابن حزم في المحلى (10/ 181)، ورواه الطحاوي في شرح المعاني (4136) من طريق سفيان، وابن أبي شيبة (4/ 61) والبيهقي في الكبرى (7/ 337) عن ابن نمير، كلاهما عن الأعمش به، وليس عند ابن أبي شيبة قوله:«من يخادع الله يخدعه» ، ورواه سعيد بن منصور (1065) ــ ومن طريقه ابن بطة في إبطال الحيل (ص 48) ــ عن هشيم عن الأعمش عن عمران بن الحارث السلمي عن ابن عباس، وصحّحه المصنف في إعلام الموقعين (3/ 161). ورواه أشهب ــ كما في المدونة (2/ 5) ــ عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سليمان بن مالك بن الحارث السلمي عن ابن عباس.

(3)

في الأصل: «عن الثوري» .

(4)

رواه البيهقي في الكبرى (7/ 208) من طريق ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار به.

ص: 481

تزوج امرأةً ليُحِلَّها لزوجها، ففرَّق بينهما، وقال: لا ترجع إلا بنكاح رَغْبةٍ غير دُلْسة. رواه أبو إسحاق الجوزجاني في كتاب «المترجم» ، وذكره ابن المنذر عنه في كتاب «الأوسط» .

وفي «المهذَّب»

(1)

لأبي إسحاق الشيرازي: عن أبي مرزوق التُّجيبي أن رجلًا أتى عثمان رضي الله عنه، فقال: إن جاري طلق امرأته في غضبه، ولقي شدَّة، فأردت أن أحتسِبَ نفسي ومالي، فأتزوَّجها، ثم أبنيَ بها، ثم أطلقها، فترجع إلى زوجها الأول. فقال له عثمان رضي الله عنه: لا تنكحها إلا نكاح رَغبة.

وذكر أبو بكر الطُّرطوشي في «خلافه»

(2)

عن يزيد بن أبي حبيب، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المحلل: لا ترجع [77 أ] إليه إلا بنكاح رغبة؛ غير دُلسة ولا استهزاء بكتاب الله.

وعلي رضي الله عنه هو ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلِّل

(3)

، فقد جعل هذا من التحليل.

وروى ابن أبي شيبة في «مصنَّفه»

(4)

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

(1)

المهذب (2/ 47)، ورواه البخاري مختصرًا في التاريخ الكبير (1/ 152) والبيهقي في الكبرى (7/ 208) من طريق الليث بن سعد عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي مرزوق به، ورواه ابن وهب ــ كما في المدونة (2/ 211) ــ عن رجال من أهل العلم منهم ابن لهيعة والليث عن محمد بن عبد الرحمن المرادي به.

(2)

ذكره ابن تيمية في إبطال التحليل (ص 402) وقال: «ذكره بعض المالكية» .

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

لم أقف عليه، وذكره ابن تيمية في إبطال التحليل (ص 403) فقال: عن أشعث عن ابن عباس وذكره، ولم يعزه لأحد. والذي في مصنف ابن أبي شيبة (7/ 291): عن أشعث عن ابن سيرين.

ص: 482

لَعن الله

(1)

المحلِّل والمحلَّل له.

وهو ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لَعْنَ المحلل

(2)

، وقد فسَّره بما قُصد به التحليل، وإن لم تعلم به المرأة، فكيف بما اتفقا عليه، وتراضيا وتعاقدا على أنه نكاح لعنةٍ لا نكاح رغبة؟

وذكر ابن أبي شيبة

(3)

عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لعن الله المحلِّل والمحلَّل له.

وروى الجوزجاني

(4)

بإسناد جيد، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سئل عن رجل تزوج امرأةً ليُحِلَّها لزوجها، فقال: لعن الله الحالَّ والمحلَّل له.

قال شيخ الإسلام

(5)

:وهذه الآثار عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، مع أنها نصوص فيما إذا قصد التحليل ولم يظهره، ولم يتواطآ عليه، فهي مُبَيِّنة أن هذا هو التحليل، وهو المحلل الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمراده

(1)

لفظ الجلالة ساقط من الأصل.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

مصنف ابن أبي شيبة (3/ 552، 7/ 292)، ورواه أيضًا سعيد بن منصور (1997)، والراوي عن ابن عمر مبهم.

(4)

رواه في كتابه المسمّى بالمترجم، وهو في حكم المفقود. قال ابن تيمية في إبطال التحليل (ص 404):«رواه الشالنجي بإسناده عن عبد الله بن شريك العامري عن ابن عمر به» .

(5)

انظر نحوه في بيان الدليل (ص 405).

ص: 483

ومقصوده، لاسيما إذا رَوَوْا حديثًا وفسَّروه بما يوافق الظاهر، هذا مع أنه لم يُعلم أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرّق بين تحليل وتحليل، ولا رَخّص في شيء من أنواعه، مع أن المطلقة ثلاثًا مثل امرأة رفاعة القُرَظِيِّ قد كانت تختلف إليه المدة الطويلة وإلى خلفائه؛ لتعودَ إلى زوجها، فيمنعونها من ذلك، ولو كان التحليلُ جائزًا لدلَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ فإنها لم تكن تَعدَم من يُحلِّلها، لو كان التحليل جائزًا.

قال: والأدلة الدالة على أن هذه الأحاديث النبوية قُصد بها التحليل وإن لم يشترط في العقد: كثيرة جدًا، ليس هذا موضع ذكرها انتهى.

ذكر الآثار عن التابعين

قال عبد الرزاق

(1)

: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: إذا نوى الناكحُ أو المُنْكِحُ أو المرأة أو أحدٌ منهم التحليلَ فلا يصلح.

أخبرنا

(2)

ابن جريج، قال: قلت لعطاء: المحلِّل عامدًا، هل عليه عقوبة؟ قال: ما علمتُ، وإني لأرى أن يعاقَب، قال: وكلُّهم إن تمالأوا على ذلك مُسيؤون، وإن أعطوا

(3)

الصداق.

أخبرنا

(4)

معمر، عن قتادة، قال: إن طلقها المحلِّل فلا يحلُّ لزوجها الأول أن يقربها؛ إذا كان نكاحه على وجه التحليل.

(1)

مصنف عبد الرزاق (10781)، وصحّحه ابن حزم في المحلى (10/ 181).

(2)

مصنف عبد الرزاق (10780).

(3)

في الأصل: «أعظموا» .

(4)

مصنف عبد الرزاق (10783)، وصحّحه ابن حزم في المحلى (10/ 181).

ص: 484

أخبرنا

(1)

ابن جريج، قال: قلت لعطاء: يُطلِّق المحلِّل؛ يراجعها زوجها؟ قال: يُفَرَّق بينهما.

أخبرنا

(2)

معمر، عمَّن سمع الحسن يقول في رجل تزوَّج امرأة يحلِّلها ولا يُعلِمها، فقال الحسن: اتَّقِ الله، ولا تكن مسمارَ نارٍ في حدود الله.

قال ابن المنذر: قال إبراهيم النخعي

(3)

: إذا كان نِيَّة أحد الثلاثة ــ الزوج الأول، أو الزوج الآخر، أو المرأة ــ أنه محلل، فنكاح الآخر باطل، ولا تحل للأول.

قال: وقال الحسن البصري

(4)

: إذا هَمَّ أحد الثلاثة بالتحليل فقد أفسد.

قال: وقال بكر بن عبد الله المزني

(5)

في الحالِّ والمحلَّل له: أولئك كانوا يُسمَّون في الجاهلية التيسَ المستعار.

قال: وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى:{إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230]، قال: إن ظنَّا أن نكاحهما على غير دُلْسة.

ورواه ابن أبي حاتم في «التفسير» عنه

(6)

.

(1)

لم أقف عليه، إلا أن يكون وقع فيه سقط، أو حصل انتقال نظر.

(2)

مصنف عبد الرزاق (10785)، ورواه ابن أبي شيبة (3/ 553) عن معاذ عن عباد بن منصور عن الحسن.

(3)

رواه سعيد بن منصور (1994) عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم، وعن سعيد بن منصور رواه حرب الكرماني في مسائله (ص 87).

(4)

رواه سعيد بن منصور (1995)، وابن أبي شيبة (3/ 552).

(5)

رواه سعيد بن منصور (1998) عن محمد بن نشيط عن بكر بن عبد الله المزني.

(6)

تفسير ابن أبي حاتم (2235)، ورواه الطبري في تفسيره (4907، 4908)، وعزاه في الدر المنثور (1/ 681) لعبد بن حميد.

ص: 485

وقال هُشيم: أخبرنا سيَّار، عن الشَّعبي: أنه سُئل عن رجل تزوج امرأة كان زوجها طلَّقها ثلاثًا قبل ذلك، أيطلِّقها لترجع إلى زوجها الأول؟ فقال: لا، حتى يحدِّث نفسه أنه يُعمّر معها وتُعمّر معه؛ أي: تُقيم معه. رواه الجوزجاني

(1)

.

[77 ب] وروي عن النُّفيلي

(2)

: حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غَنِيَّةَ، حدثنا عبد الملك، عن عطاء: في الرجل يطلِّق امرأته، فينطلق الرجل الذي يتَحَزَّن له، فيتزوجها من غير مُؤامَرة منه، فقال: إن كان تزوجها ليحلِّلها له لم تحلَّ له، وإن كان تزوجها يريد إمساكها فقد حلَّت له.

وقال سعيد بن المسيب في رجل تزوج امرأة ليحلّها لزوجها الأول، ولم يشعر بذلك زوجها الأول ولا المرأة، قال: إن كان إنما نكحها ليُحِلَّها فلا يصلح ذلك لهما؛ فلا تحلُّ. رواه حرب في «مسائله»

(3)

.

وعنه أيضًا، قال: الناس يقولون: حتى يجامعها، وأنا أقول: إذا تزوجها تزويجًا صحيحًا، لا يريد بذلك إحلالها؛ فلا بأس أن يتزوَّجها الأول. رواه سعيد بن منصور عنه

(4)

.

(1)

الظاهر أنه رواه في كتابه المترجم، وقد ذكره ابن تيمية في إبطال التحليل (6/ 10 الفتاوى الكبرى).

(2)

ح: «العقيلي» . رواه ابن الأعرابي في معجمه (1903) عن عبد الله بن أيوب عن يزيد بن هارون عن عبد الملك به نحوه.

(3)

مسائل حرب الكرماني (ص 86) من طريق ابن المبارك عن حكيم بن رزيق عن أبيه عن ابن المسيب به.

(4)

سنن سعيد بن منصور (1989) عن هشيم عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب به، وعزاه ابن حجر في الفتح (9/ 467) لابن أبي شيبة وابن المنذر وصحّح إسناده.

ص: 486

فهؤلاء الأئمة الأربعةُ أركان التابعين، وهم الحسن وسعيد بن المسيَّب وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النَّخعي.

وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد

(1)

في رجل تزوج امرأةً ليحلها لزوجها الأول وهو لا يعلم، قال: لا يصلح ذلك؛ إذا كان تزوجها ليحلّها.

ذكر الآثار عن تابعي التابعين ومن بعدهم

قال ابن المنذر: وممن قال: إن ذلك لا يصلح إلا نكاح رَغْبةٍ: مالكُ بن أنس، والليث بن سعد.

وقال مالك رحمه الله: يفرّق بينهما على كل حال، وتكون الفرقةُ فسخًا بغير طلاق.

وقال سفيان الثوري: إذا تزوَّجها وهو يريد أن يحلَّها لزوجها، ثم بدا له أن يمسكها؛ لا يُعجبني إلا أن يفارق، ويستقبل نكاحًا جديدًا.

قال أحمد بن حنبل: جيد.

وقال إسحاق: لا يحلُّ له أن يمسكها؛ لأن المحلل لم تَتِمّ له عُقْدة النكاح.

وكان أبو عُبيد يقول بقول الحسن والنخعي.

وقال الجوزجاني: حدثنا إسماعيل بن سعيد، قال: سألت أحمد بن

(1)

رواه ابن أبي شيبة (3/ 553) عن أبي داود عن حبيب عن عمرو عن جابر بن زيد به.

ص: 487

حنبل عن الرجل تزوَّج المرأة، وفي نفسه أن يُحِلَّها لزوجها الأول، ولم تعلم المرأة بذلك؟ فقال: هو محلل، وإذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون.

قال الجوزجاني: وبه قال أبو أيوب.

وقال ابن أبي شيبة: لست أرى أن ترجع بهذا النكاح إلى زوجها الأول.

قال الجوزجاني: وأقول: إن الإسلام دين الله الذي اختاره واصطفاه وطهَّره، حقيق بالتوقير والصيانة مما لعله يَشِينهُ، ويُنَزّه عما أصبح أبناء الملل من أهل الذمة يُعَيِّرون به المسلمين

(1)

، على ما تقدم فيه من النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولَعْنِه عليه. ثم ساق الأحاديث المرفوعة في ذلك والآثار.

فصل

ومن العجائب معارضة هذه الأحاديث والآثار عن الصحابة بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]،

والذي أنزلت عليه هذه الآية هو الذي لعن المحلِّل والمحلَّل له، وأصحابه أعلم الناس بكتاب الله، فلم يجعلوه زوجًا وأبطلوا نكاحه، ولعنوه.

وأعجب من هذا قول بعضهم: نحن نحتج بكونه سَمّاه محللًا، فلولا أنه أثبت الحلّ لم يكن محللًا!

فيقال: هذه من العظائم؛ فإن هذا يتضمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل السّنّة التي جاء بها، وفعلَ ما هو جائز صحيح في شريعته!

وإنما سمَّاه محللًا لأنه أحلّ ما حرّم الله، فاستحقّ اللعنة، فإن الله سبحانه

(1)

ذكر نحو هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (32/ 156).

ص: 488

حرّمها على المطلِّق حتى تنكح زوجًا غيره، والنكاح اسم في كتاب الله وسنة رسوله للنكاح الذي يتعارفه الناس بينهم نكاحًا، وهو الذي شُرع إعلانه، والضربُ عليه بالدف، والوليمة فيه، وجُعل للإيواء والسكن، وجعله الله مودةً ورحمةً، وجرت العادةُ فيه بضِدّ ما جرت به في نكاح المحلل؛ فإن المحلل لم يدخل على نفقة، ولا كسوة، ولا سُكنى، ولا إعطاء مهر، ولا تحصيل نسب ولا صِهْر، ولا قَصْدِ المُقام مع الزوجة، وإنما دخل عاريَّةً كالتيس المستعار للضِّراب، ولهذا شبَّهه به النبي صلى الله عليه وسلم، [78 أ] ثم لعنه.

فعُلِم قطعًا لا شك فيه أنه ليس هو الزوج المذكور في القرآن، ولا نكاحه هو النكاح

(1)

المذكور في القرآن، وقد فَطَرَ الله سبحانه قلوبَ الناس على أن هذا ليس بنكاح، ولا المحلِّل زوج، وأن هذا منكر قبيح، يُعَيَّر به المرأة والزوج والمحلِّل والولي، فكيف يدخل هذا في النكاح الذي شرعه الله ورسوله، وأحبّه وأخبر أنه سنته، ومن رغب عنه فليس منه؟

وتأمل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230]؛ أي: فإن طلقها هذا الثاني فلا جناح عليها وعلى الأول أن يتراجعا، أي: ترجع إليه بعقدٍ جديد، فأتى بحرف «إن» الدالة على أنه يمكنه أن يطلق وأن يُقيم. والتحليل الذي يفعله هؤلاء لا يتمكّن الزوج فيه من الأمرين، بل يشترطون عليه أنه متى وَطئها فهي طالق، ثم لما علموا أنه قد لا يُخبِر بوطئها، ولا يُقبلُ قولها في وقوع الطلاق، انتقلوا إلى أن جعلوا الشرط إخبار المرأة بأنه دخل بها، فبمجرّد إخبارها بذلك تطلَّق عليه.

(1)

«النكاح» ساقطة من الأصل.

ص: 489

والله سبحانه شرع النكاح للوصلة الدائمة والاستمتاع، وهذا النكاح جعله أصحابه سببًا لانقطاعه، ولوقوع الطلاق فيه، فإنه متى وَطئ كان وطؤُه سببًا لانقطاع النكاح، وهذا ضدُّ شرع الله.

وأيضًا فإن الله سبحانه جعل نكاح الثاني وطلاقه واسمه كنكاح الأول وطلاقه واسمه، فهذا زوج وهذا زوج، وهذا نِكاح وذلك نكاح، وكذلك الطلاق. ومعلوم أن نكاح المحلِّل وطلاقه واسمه لا يشبه نكاح الأول ولا طلاقه ولا اسمه، ذاك زوج راغب، قاصد للنكاح، باذِلٌ للمهر، ملتزم للنفقة والسُّكنَى والكسْوة، وغير ذلك من خصائص النكاح؛ والمحلل بريء من ذلك كلِّه، غير ملتزم لشيء منه.

وإذا كان الله تعالى ورسوله قد حرّم نكاح المُتعة، مع أن قصد الزوج الاستمتاع بالمرأة، وأن يقيم معها زمانًا، وهو ملتزم لحقوق النكاح فالمحلِّل الذي ليس له غرض أن يقيم مع المرأة إلا قَدْرَ ما ينزُو عليها كالتَّيْسِ المستعار لذلك، ثم يفارقها: أولى بالتحريم.

وسمعت شيخ الإسلام يقول: نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من أكثر من عشرة أوجه

(1)

:

أحدها: أن نكاح المتعة كان مشروعًا في أول الإسلام، ونكاح التحليل لم يُشرع في زمن من الأزمان.

الثاني: أن الصحابة تمتعوا على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في الصحابة محلِّلٌ قطُّ.

(1)

م: «اثني عشر وجهًا» . وانظر بعض هذه الأوجه في «مجموع الفتاوى» (32/ 93 وما بعدها).

ص: 490

الثالث: أن نكاح المتعة مختَلَف فيه بين الصحابة، فأباحه ابن عباس ــ وإن قيل: إنه رجع عنه

(1)

ـ، وأباحه عبد الله بن مسعود، ففي «الصحيحين»

(2)

عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا نساء، فقلنا: ألا نسْتخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجلٍ، ثم قرأ عبد الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87].

وفتوى ابن عباس بها مشهورة، قال عُروة

(3)

: قام عبد الله بن الزبير بمكة، فقال: إن ناسًا أعمَى الله قلوبَهم كما أعمى أبصارهم، يُفتون بالمتعة! يُعرِّض بعبد الله بن عباس، فناداه، فقال: إنك لجِلْفٌ جافٍ، فلعمري لقد كانت المتعة تُفعل على عهد إمام المتقين، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن الزبير: فجرّب نفسك، فو الله لئن فعلتها لأرجُمنّك بأحجارك!

فهذا قول ابن مسعود وابن عباس في المتعة، وذاك قولهما وروايتهما في نكاح التحليل.

الرابع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجئ عنه في لعن المستمتع والمستمتَع بها حرف واحد، وجاء عنه في لعن المحلِّل والمحلَّل له وعن الصحابة ما قد تقدم.

الخامس: أن المستمتع له غرضٌ صحيح في المرأة، ولها غَرض أن تقيم معه مدة النكاح، فغرضه المقصود بالنكاح مدَّة، والمحلل [78 ب] لا

(1)

أخرجه الترمذي (1122) عنه.

(2)

البخاري (4615)، ومسلم (1404).

(3)

أخرجه مسلم (1406/ 27).

ص: 491

غرض له سوى أنه مستعار للضِّراب كالتيس، فنكاحه غير مقصود له ولا للمرأة ولا للولي، وإنما هو كما قال الحسن: مسمار نارٍ في حدود الله

(1)

! وهذه التسمية مطابقة للمعنى.

قال شيخ الإسلام: يريد الحسن أن المسمار هو الذي يُثبِّت الشيء المسمور، فكذلك هذا يُثبت تلك المرأة لزوجها وقد حرَّمها الله عليه.

السادس: أن المستمتع لم يَحْتَل على تحليل ما حرَّم الله، فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، بل هو ناكح ظاهرًا وباطنًا، والمحلِّل ماكرٌ مخادع، متخذٌ آيات الله هُزوًا، ولذلك جاء في وعيده ولعنه ما لم يجئ في وعيد المستمتع مثلُه ولا قريبٌ منه.

السابع: أن المستمتع يريد المرأة لنفسه، وهذا هو سرُّ النكاح ومقصوده، فيريد بنكاحه حلّها له ولا يطؤها حرامًا

(2)

، والمحلِّل لا يريد حلها لنفسه، وإنما يريد حلَّها لغيره، ولهذا سُمي محللًا.

فأين من يريد أن يُحِلَّ وطْءَ امرأة يخاف أن يطأها حرامًا إلى من لا يريد ذلك؛ وإنما يريد بنكاحها أن يُحِلّ وطأها لغيره؟ فهذا ضد شرع الله ودينه، وضد ما وُضع له النكاح.

الثامن: أن الفطر السليمة والقلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد تَنفرُ من التحليل أشدَّ نِفار، وتُعِّير به أعظم تعيير، حتى إن كثيرًا من النساء تُعَيِّرُ المرأة به أكثر مما تعيِّر بالزنى، ونكاح المتعة لا تنفرُ منه الفطر والعقول، ولو نفرت منه لم يُبَح في أول الإسلام.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

«ولا يطأها حرامًا» ساقطة من الأصل.

ص: 492

التاسع: أن نكاح المتعة يشبه إجارة الدابَّة مدةً للركوب، وإجارة الدار مدة للانتفاع بالسُّكنى، وإجارة العبد للخدمة مدةً، ونحو ذلك مما للباذل فيه غرض صحيح، ولكن لما دخله التوقيت أخرجَهُ عن مقصود النكاح الذي شُرع بوصف الدَّوام والاستمرار، وهذا بخلاف نكاح المحلل؛ فإنه لا يشبه شيئًا من ذلك، ولهذا شبّهه الصحابة رضي الله عنهم بالسفاح، وشبَّهوه باستعارة التيس للضِّراب.

العاشر: أن الله سبحانه نصب هذه الأسباب ــ كالبيع والإجارة والهبة والنكاح ــ مُفْضِيةً إلى أحكام جعلها مسبَّباتٍ لها ومقتضيَاتٍ، فجعل البيع سببًا لملك الرّقبة، والإجارة سببًا لملك المنفعة أو الانتفاع، والنكاح سببًا لملك البُضع وحِل الوطء.

والمحلل مناقضٌ معاكس لشرع الله ودينه؛ فإنه جعل نكاحه سببًا لتمليك المطلِّق البُضع وإحلاله له، ولم يقصد بالنكاح ما شرعه الله له من ملكه هو للبُضع، وحِلِّه له، ولا له غرض في ذلك، ولا دخل عليه، وإنما قصد به أمرًا آخر، لم يشرع له ذلك السبب، ولم يجعل طريقًا له.

الحادي عشر: أن المحلل من جنس المنافق؛ فإن المنافق يُظهر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهرًا وباطنًا، وهو في الباطن غير ملتزم له. وكذلك المحلل يُظهر أنه زوج، وأنه يريد النكاح، ويُسَمِّي المهر، ويُشهد على رضا المرأة، وفي الباطن بخلاف ذلك، لا يريد أن يكون زوجًا، ولا أن تكون المرأة زوجة له، ولا يريد بذل الصداق، ولا القيام بحقوق النكاح، وقد أظهر خلاف ما أبطن وأنه مريد لذلك، والله يعلم والحاضرون والمرأة وهو والمطلِّق أن الأمر ليس كذلك، وأنه غير زوج على الحقيقة، ولا هي امرأته على الحقيقة.

ص: 493

الثاني عشر: أن نكاح المحلل لا يُشبه نكاح أهل الجاهلية، ولا نكاح أهل الإسلام، فكان أهل الجاهلية يتعاطَوْن في أنكحتهم أمورًا منكرة، ولم يكونوا يرضون نكاح التحليل ولا يفعلونه. ففي «صحيح البخاري»

(1)

عن عُروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: «أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:

فنكاحٌ منها: نكاحُ الناس اليوم، يخطُب الرجل إلى الرجل وَلِيَّته أو ابنته، فيُصْدِقُها، ثم ينكحُها.

والنكاح الآخر: كان الرجل يقول [79 أ] لامرأته إذا طَهُرَت من طمثها: أرسلي إلى فلان، فاستَبْضعي منه، فيعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا، حتى يتبين حَمْلها من ذلك الرجل الذي تَسْتَبْضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحبّ، وإنما يفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.

ونكاحٌ آخر: يجتمع الرّهْط ما دُون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومرَّ ليالي بعد أن تضع حَمْلَها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدتُ، فهو ابنك يا فلان! تُسمي من أحبّتْ باسمه، فيُلْحَقُ به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع.

ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، لا تمنع من جاءها، وهُنّ البغايا، كنّ ينصِبنْ على أبوابهن راياتٍ تكون عَلَمًا، فمن أرادهنّ دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن فوضعت حملها، جمعوا لها،

(1)

برقم (5127).

ص: 494

ودَعَوْا لهم القافَةَ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالْتاطَه، ودُعِيَ ابنه، لا يمتنع من ذلك.

فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق هَدَم نكاح الجاهلية كله، إلا نكاح الناس اليوم».

ومعلومٌ أن نكاح المحلل ليس من نكاح الناس الذي أشارت إليه عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقَرّه ولم يهدمه، ولا كان أهل الجاهلية يرضون به، فلم يكن من أنكحتهم؛ فإن الفِطَر والأمم تنكره وتُعيِّرُ به.

فصل

وسببُ هذا كلِّه: معصية الله تعالى ورسوله، وطاعة الشيطان في إيقاع الطلاق على غير الوجه الذي شرعه الله، والله سبحانه يُبغض الطلاق في الأصل، كما روى أبو داود

(1)

من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبغضُ الحلال إلى الله الطلاق» .

وفي «سنن ابن ماجه»

(2)

من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال

(1)

سنن أبي داود (2180)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (7/ 322)، ورواه أيضًا ابن ماجه (2018)، وابن حبان في المجروحين (2/ 64)، وابن عدي في الكامل (4/ 323، 6/ 461)، وتمام في فوائده (26)، وغيرُهم، وصحّحه الحاكم (2794)، لكن في إسناده اختلاف، ورجّح إرسالَه ابن أبي حاتم كما في العلل لابنه (1/ 431)، والدارقطني في العلل (13/ 225)، قال الخطابي وتبعه المنذري في الترغيب (3/ 60):«المشهور فيه المرسل» ، وضعّفه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1056)، والألباني في الإرواء (2040). وفي الباب عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.

(2)

سنن ابن ماجه (2017) من طريق سفيان عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى به، وبهذا الإسناد رواه البزار (3117)، والروياني (452)، والطبري في تفسيره (5245)، والطحاوي في شرح المشكل (6/ 325)، وابن بطة في إبطال الحيل (ص 40، 41)، والبيهقي في الكبرى (7/ 322)، وصححه ابن حبان (4265)، وحسّن إسناده ابن تيمية في إبطال التحليل (6/ 258 الفتاوى الكبرى)، والمصنف فيما يأتي، والبوصيري في المصباح (2/ 123)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (4431) بعنعنة أبي إسحاق. ورواه الطيالسى (527) ــ ومن طريقه البيهقي (7/ 322) ــ عن زهير عن أبي إسحاق به مرسلًا. ورُوِي من طريق يزيد الدالاني عن أبي العلاء الأودي عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي موسى بمعناه.

ص: 495

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بالُ قومٍ يلعبون بحدود الله، يقول: قد طلَّقتك، قد راجعتك، قد طلقتك، قد راجعتك؟» .

وفي «صحيح مسلم»

(1)

عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعثُ سراياه، فأدناهم منزلةً أعظمهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: قد فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، قال: ويجيء أحدهم، فيقول: ما تركتُه حتى فَرّقتُ بينه وبين أهله، قال: فيدنيه منه أو قال: فيلتزمه، ويقول: نِعْمَ أنت» .

فالشيطانُ وحزبه قد أغرَوْا بإيقاع الطلاق، والتفريق بين المرء وزوجه، وكثيرًا ما يندم المطلِّق، ولا يصبر عن امرأته، ولا تطاوعه نفسه أن يصبر عنها إلى أن تتزوج زواج رَغْبة، تبقى فيه مع الزوج إلى أن يموت عنها، أو يفارقها إذا قضى منها وَطَره، ولابُدّ له من المرأة، فيُهْرَع إلى التحليل، وهو حيلة من عشر حِيَلٍ نصبوها للناس:

(1)

برقم (2813).

ص: 496

إحداها: التحيُّل على عدم وقوع الطلاق، وهو نوعان: تَحَيُّل على عدم وقوعه مع صحة النكاح بالتّسريح، فيأمرونه أن يقول لها: إذا طلقتك، أو إذا وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثًا، فلا يمكن أن يقع عليها الطلاق بعد هذا، لا مُطْلقًا ولا مُقَيَّدًا عن المسرِّحين، فسدُّوا باب الطلاق، وجعلوا المرأة كالغُلِّ في عُنق الزوج، لا سبيل له إلى طلاقها أبدًا.

الحيلة الثانية: التحيُّل على عدم وقوع الطلاق بكونِ النكاح فاسدًا، فلا يقع فيه الطلاق، ويتحيّلون لبيان فساده من وجوه:

منها: أن عَدالة الولي شرط في صحته، فإذا كان في الولي ما يَقْدَحُ في عدالته؛ فالنكاح باطل، فلا يقع فيه الطلاق، والقوادح كثيرة، فلا تكاد تُفتِّش فيمن شئت إلا وجدت فيه قادحًا.

ومنها: [79 ب] أن عدالة الشهود شرط، والشاهد يفسُق بجلوسه على مقعد حرير، أو استناده إلى مسْنَد حرير، أو جلوسه تحت مركاة

(1)

حرير، أو تجمُّرِه بمجمرة فضة، ونحو ذلك، مما لا يكاد يخلو البيت منه وقت العقد. فيا للعجب! يكون الوطء حلالًا، والنسب لاحقًا، والنكاح صحيحًا، حتى يقع الطلاق، فحينئذ يطلب وجه إفساده!

الحيلة الثالثة: التحيُّل بالمخالعة، حتى يفعل المحلوف عليه، فإذا فعله تزوَّجها بعقد جديد.

الحيلة الرابعة: إذا وقع الفأس في الرأس، وحنث ولابد، اشترى غلامًا دون البلوغ، وزوَّجه بها، وأمرها أن تمكِّنه من إيلاج الحَشَفة هناك، فإذا فعل وهبها إياه، فانفسخ نكاحها بملكه، فتعتدُّ وتُرَدُّ إلى المطلّق، فإن عجزوا عن

(1)

في الأصل: «حركاة» . ولم أجد الكلمتين في المعاجم.

ص: 497

ذلك وأعوزَهم انتقلوا إلى:

الحيلة الخامسة: وهي استكراء التيس الملعون المستعار، ليَنْزُوَ عليها، ويُحِلّها بزعمه.

فهذه خمس حيل للخاصة. وأما جهال العامة فلما رأوا أن المقصود التحيُّلُ على رَدِّها إلى المطلِّق بأي طريق اتفق؛ قالوا: المقصود هو الرجوع، والحيلة مقصودة لغيرها، وأعيان الحيل ليست مقصودة، فاستنبطوا لهم خمس حيلٍ أخرى:

إحداها: أن يأمروا المحلِّل بأن يطأها برجله، فيطأها وهي قاعدة أو مضطجعة برجله ثم يخرج، ورأوا أن الوطء بالرجل أسهلُ عليهم وأقلّ مفسدة من الوطء بالآلة؛ فإنه إذا كان كلاهما غير مقصود، فما كان أقل فسادًا كان أقرب إلى المقصود.

الحيلة الثانية: أن تكون حاملًا، فتلدُ ذكرًا، وكأنهم قاسُوا الذكر الذي معها خارجًا على الذكر الذي يَشُقُّها داخلًا، وهذا من جنس قياس التيس الملعون على الزوج المقصود!

الحيلة الثالثة: أن يَصُبّ المحلِّل عليها دُهنًا، يتشربه جَسَدُها ولا يطأُها، وكأنهم قاسوا تَشَرُّبَ جَسِدها للدهن وسَريانه فيه على تشرُّبه للنُّطْفَة وسَرايتها

(1)

فيه!

الحيلة الرابعة: السفر عنها أو سفرها عنه، فإذا قدم ظنَّ أن ذلك كافٍ عن الزوج، ولا أدري من أين ألقَى إليهم الشيطانُ ذلك؟ وكأنهم ظنُّوا أنهم قد التقوا من الآن، وأن السفر قطع حكم ما مضى رأسًا!

(1)

م: «سريانها» .

ص: 498

الحيلة الخامسة: أن يجتمعا على عَرَفات، فإذا وقف بها على الجبل لم تَحتجْ بعد ذلك إلى زوج آخر عندهم.

وقد سُئلنا نحن وغيرنا عن ذلك، وسمعناه منهم!

فصل

واعلم أن من اتقى الله في طلاقه، فطلَّق كما أمره الله ورسوله وشرعه له، أغناه عن ذلك كله، ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر حُكم الطلاق المشروع:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]؛ فلو اتّقى اللهَ عامةُ المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال، والمكر والاحتيال؛ فإن الطلاق الذي شرعه الله سبحانه أن يُطلِّقها طاهرًا من غير جماع، ويطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عِدّتُها فإن بَدَا له أن يُمسكها في العِدّة أمسكها، وإن لم يراجعها حتى انقضت عدَّتها أمكنه أن يستقبل العَقْد عليها من غير زوج آخر، وإن لم يكن له فيها غرض لم يَضرَّه أن تتزوج بزوج غيره، فمن فعل هذا لم يندم، ولم يَحْتَجْ إلى حيلة ولا تحليل.

ولهذا سُئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مئةً؟ فقال: عَصَيْتَ ربَّك، وفارقت امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجًا

(1)

.

وقال سعيد بن جُبير

(2)

: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إني طلقت

(1)

رواه الطحاوي في شرح المعاني (4143)، والطبراني في الكبير (11/ 95)، والدارقطني (4/ 13)، والبيهقي في الكبرى (7/ 331، 337)، وصحّحه الألباني في الإرواء (2056).

(2)

رواه عبد الرزاق (6/ 397)، وابن أبي شيبة (4/ 62)، والطحاوي في شرح المعاني (4141، 4142)، والدارقطني (4/ 12 - 14)، والبيهقي في الكبرى (7/ 332)، وغيرُهم من طرق عن سعيد بن جبير به بألفاظٍ متقاربة، وفي بعضها أنه طلّق ألفًا ومائة، وفي أخرى أنه طلّق مائة، قال ابن حزم في المحلى (10/ 172):«هذا الخبر في غاية الصحة» ، وصحّحه الألباني في الإرواء (2057).

ص: 499

امرأتي ألفًا، فقال: أما ثلاث فتحرِّم عليك امرأتَك، وبقيَّتهن وِزْر، اتخذْت آيات الله هُزُوًا.

وقال مجاهد: كنتُ عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا فسكت حتى ظننتُ أنه رادُّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدُكم فيركبُ الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس؟ والله تعالى قال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وإنك لم تتقِ الله؛ فلا أجد لك مخرجًا، عَصَيْتَ ربك، وبانت منك امرأتك. ذكره أبو داود

(1)

.

وقد

(2)

روى النسائي

(3)

عن محمود بن لَبيد، قال: أُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

سنن أبي داود (2199)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (7/ 331)، ورواه أيضًا الطبري في تفسيره (23/ 432 - 433)، والطبراني في الكبير (11/ 88)، والدارقطني (4/ 59، 61)، وغيرهم من طريق عبد الله بن كثير عن مجاهد به، ورواه عبد الرزاق (6/ 397) عن ابن جريج عن مجاهد به نحوَه، وقال:«وذكره مجاهد عن أبيه عن ابن عباس» ، وصحّحه المصنّف فيما يأتي، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص 150)، وابن حجر في الفتح (9/ 362)، والشنقيطي في الأضواء (1/ 111، 117)، والألباني في الإرواء (2055). ورواه الدارقطني (4/ 59) من طريق عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس.

(2)

هنا سقط كبير في الأصل، ويستمر إلى ص 578.

(3)

سنن النسائي (3401) من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن محمود به، واختُلف في صحبة محمود، وفي سماعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأعلّه بالانقطاع ابن حزم في المحلى (10/ 168)، وابن كثير في تفسيره (1/ 621)، وقوّاه في إرشاد الفقيه (2/ 194)، وصحّحه ابن التركماني في الجوهر النقي (7/ 333 السنن الكبرى)، والمصنف في الزاد (5/ 241)، وقال ابن حجر الفتح (9/ 362):«رجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية» ، وصححه الشنقيطي في الأضواء (1/ 109)، والألباني في غاية المرام (261).

ص: 500

عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غَضْبانَ، ثم قال:«أيُلْعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظْهُرِكم؟» ، حتى قام رجل، فقال: يا رسول الله! ألا أقْتُله؟

وهذه الآثار موافقة لما دلّ عليه القرآن؛ فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مَرّة بعد مرة. ولم يشرعه جملة واحدة أصلًا. قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، والمرتان في لغة العرب بل وسائر لغات الناس: إنما تكون لما يأتي مرة بعد مرة، فهذا القرآن من أوله إلى آخره، وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام العرب قاطبةً شاهدٌ بذلك، كقوله تعالى:{سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101]، وقوله:{أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126]، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58]، ثم فسرها بالأوقات الثلاثة. وشواهد هذا أكثر من أن تُحصى.

ثم قال سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، فهذه هي المرة الثالثة.

فهذا هو الطلاق الذي شرعه الله سبحانه مرةً بعد مرةٍ بعد مرةٍ، فهذا شَرْعُهُ من حيث العدد.

ص: 501

وأما شرعه من حيث الوقت: فشرع الطلاق للعدّة، وقد فسّره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يطلقها طاهرًا من غير جماع

(1)

، فلم يشرع جَمْعَ ثلاث، ولا تطليقتين، ولم يشرع الطلاق في حَيْضِ، ولا في طهر وطئ فيه.

وكان المطلق في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلِّه، وزمَنِ أبي بكر كلِّه، وصَدْرًا من خلافة عمر رضي الله عنهما؛ إذا طلّق ثلاثًا تُحْسَب له واحدة، وفي ذلك حديثان صحيحان: أحدهما رواه مسلم في «صحيحه» ، والثاني رواه الإمام أحمد في «مسنده» .

فأما حديث مسلم

(2)

: فرواه من طريق ابن طاوُس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان الطلاق على عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وسنَتين من خلافة عمر: طلاقُ الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم.

وفي «صحيحه»

(3)

أيضًا عن طاوس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هاتِ من هَنَاتِك! ألم يكن الطلاقُ الثلاث على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدةً؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم.

وفي لفظ لأبي داود

(4)

: أن رجلًا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال

(1)

أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471) عن ابن عمر.

(2)

برقم (1472/ 15).

(3)

برقم (1472/ 17).

(4)

سنن أبي داود (2201) من طريق أبي النعمان عن حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس به، ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في الكبرى (7/ 338، 339)، وصحّح إسناده المصنف في الزاد (5/ 251، 268)، لكن أُعلّ باختلاط أبي النعمان محمد بن الفضل السدوسي، وقد خولف في إسناده ومتنه؛ ولذا ضعّفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1134).

ص: 502

لابن عباس، قال: أمَا علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً: على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر رضي الله عنهما؟ فقال ابن عباس: بَلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة: على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر رضي الله عنهما، فلمّا رأى الناس قد تتايعوا فيها قال: أجْروهنّ عليهم.

هكذا في هذه الرواية: قبل أن يدخل بها. وبها أخذ إسحاق بن راهويه، وخَلْقٌ من السلف، جعلوا الثلاث واحدة في غير المدخول بها. وسائر الروايات الصحيحة ليس فيها: قبل الدخول؛ ولهذا لم يذكر مسلم منها شيئًا.

وهذا الحديث قد رواه عن ابن عباس ثلاثةُ نَفَرٍ: طاوس وهو أجلُّ من رواه عنه، وأبو الصهباء العدوي، وأبو الجوزاء، وحديثه عند الحاكم في «المستدرك»

(1)

. ولفظه: أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس، فقال: أتعلم أن

(1)

المستدرك (2792)، ورواه أيضًا الدارقطني (4/ 52، 55 - 56)، كلاهما من طريق ابن المؤمل عن ابن أبي ملكية عن أبي الجوزاء به، قال الدارقطني:«عبد الله بن المؤمل ضعيف، ولم يروه عن ابن أبي مليكة غيره» ، وقال الذهبيّ متعقِّبًا تصحيح الحاكم:«ابن المؤمل ضعَّفوه» ، وقال المصنف فيما يأتي:«الظاهر أن هذه الرواية غير محفوظة، فهي وهمٌ في الكنية، انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء، فإنه كان سيئ الحفظ، والحفاظ قالوا: أبو الصهباء، وهذا لا يوهن الحديث» .

ص: 503

الثلاث كُنّ يُرْدَدْنَ على عهد رسول الله عليه الصلاة السلام إلى واحدة؟ قال: نعم. قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» .

ورواية طاوس نفسه، عن ابن عباس ليس في شيء منها: قبل الدخول، وإنما حكَى ذلك طاوس عن سؤال أبي الصهباء لابن عباس، فأجابه ابن عباس بما سأله عنه، ولعله إنما بلغه جعلُ الثلاث واحدة في حق مُطلِّقٍ قبل الدخول، فسأل عن ذلك ابن عباس، وقال: كانوا يجعلونها واحدة؟ فقال له ابن عباس: نعم، الأمرُ على ما قلت.

وهذا لا مفهوم له، فإنّ التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال، ومثل هذا لا يُعْتَبَرُ مفهومه.

نعم، لو لم يكن السؤال مقيدًا، فقيّد المسؤولُ الجوابَ، كان مفهومه معتبرًا، وهذا كما إذا سُئل عن فأرة وقعت في سَمْن، فقال:«إذا وقعت الفأرة في السمن فألقُوها وما حولَها وكُلُوه»

(1)

، لم يدل ذلك على تقييد الحكم بالسمن خاصة.

وبالجملة، فغير المدخول بها فَرْد من أفراد النساء، فَذُكِرَ النساء مطلقًا في أحد الحديثين، وذُكِرَ بعض أفرادهن في الحديث الآخر، فلا تعارض بينهما.

وأما الحديث الآخر، فقال أبو داود في «سننه»

(2)

: حدثنا أحمد بن

(1)

أخرجه البخاري (235) عن ابن عباس.

(2)

سنن أبي داود (2198)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (7/ 339)، وهو في مصنف عبد الرزاق (6/ 390)، قال أبو داود:«حديث نافع بن عجير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جدّه أنّ ركانة طلق امرأته البتة فردّها إليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحّ؛ لأنّ ولد الرجل وأهله أعلم به أنّ ركانة إنما طلق امرأته البتة فجعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم واحدة» ، وقال النووي في شرح صحيح مسلم (10/ 71):«هذه الرواية ضعيفة عن قوم مجهولين، وإنما الصحيح منها أنه طلّقها البتة» ، ورجّح غيرهما أنه طلّقها ثلاثًا، قال ابن تيمية كما في المجموع (33/ 15):«أثبت أحمد حديثَ الثلاث، وبيّن أنّه الصواب» . وسيأتي تخريج حديثِ ركانة الذي فيه أنه طلّق البتة.

ص: 504

صالح: حدثنا عبد الرزاق: أخبرنا ابن جُريج، قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلق عبد يزيد ــ أبو رُكانة وإخْوَتِهِ ــ أمَّ ركانة، ونكح امرأةً من مُزيَنْة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يُغني عنِّي إلا كما تُغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها، ففرِّقْ بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حَمِيّةٌ، فدعا بِركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه:«أترون فلانًا يُشبه منه كذا وكذا؟ من عبد يزيد، وفلانًا يشبه منه كذا وكذا؟» ، قالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«طَلِّقها» ، ففعل، فقال:«راجع امرأتك أمّ رُكانة وإخوته» ، فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله؟! قال: «قد علمت، رَاجِعْها» ، وتلا:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية [الطلاق: 1].

فأمره أن يراجعها وقد طلقها ثلاثًا، وتلا الآية التي هي وما بعدها صريحة في كون الطلاق الذي شرعه الله لعباده: هو الطلاق الذي يكون للعدّة، فإذا شارفت انقضاءها فإما أن يُمسكها بمعروف، أو يفارقها بمعروف، وأنه سبحانه شرعه على وجه التوسِعَة والتيّسير، فلعلّ المطلِّق أن يَندم، فيكون له سبيل إلى الرّجعة، وهو قوله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، فأمره بالمراجعة. وتلاوته الآية كافٍ في الاستدلال على ما كان عليه الحال.

ص: 505

فإن قيل: فهذا الحديث فيه مجهول، وهو بعض بني أبي رافع، والمجهول لا تقوم به حجة.

فالجواب من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن الإمام أحمد قد قال في «المسند»

(1)

: حدثنا سعد بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحُصين، عن عِكْرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: طلّق رُكانةُ بن عبد يزيد أخو المُطّلب امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزنَ عليها حُزنًا شديدًا، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كيف طلّقتها؟» قال: طلّقتُها ثلاثًا، قال:«في مجلس واحد؟» قال: نعم، قال:«فإنما تلك واحدة؛ فارْجِعْها إن شئت» ، قال: فراجعها.

قال: وكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طُهْر.

(1)

مسند أحمد (1/ 265)، ورواه أيضًا أبو يعلى (2500) والبيهقي في الكبرى (7/ 339) وغيرهما من طرق عن ابن إسحاق به، وأُعلّ بداود بن الحصين فإنّه ثقة إلا في عكرمة، واختُلِف في صفة طلاق ركانة، فقال البيهقي:«هذا الإسناد لا تقوم به الحجة، مع ثمانية رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما فتياه بخلاف ذلك، ومع رواية أولاد ركانة أنّ طلاق ركانة كان واحدة» ، وقال ابن عبد البر في الاستذكار (6/ 9):«هذا حديث منكر خطأ، وإنما طلق ركانة زوجته البتة» ، وقال القرطبي في تفسيره (3/ 131):«الذي صحّ من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثًا» ، وضعّف الحديث الإمام أحمد كما في معالم السنن (3/ 236)، وقال البخاري: مضطرب، كما في سنن الترمذي (3/ 480)، وضعَّفه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1059)، وجوّد إسناده ابن تيمية كما في المجموع (32/ 312، 33/ 67، 71، 73، 85)، وصحّحه المصنف في الزاد (5/ 263)، ونقل فيما يأتي تصحيحَ أبي الحسن اللخمي، وحسنه بمجموع طريقيه الألباني في الإرواء (7/ 145).

ص: 506

ورواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في «مُختارته»

(1)

التي هي أصحّ من «صحيح الحاكم» .

فهذا موافق للأول، وكلاهما موافق لحديث طاوس، وأبي الصّهباء، وأبي الجوزاء، عن ابن عباس به، وطاوس وعكرمة أعلم أصحاب ابن عباس به؛ فإن عكرمة كان مولاه مصاحبًا له، وكان يقيِّده على العلم، وكان طاوس خاصًا عنده، يجتمع به كثيرًا، ويدخل عليه مع الخاصَّة، وكان طاوس وعكرمة يفتيان بأن الثلاث واحدة، وكذلك ابن إسحاق، لمَّا صحَّ عنده هذا الحديث أفتى بموجبه، وكان يقول: جهل السُّنَّةَ فيُردُّ إليها.

فرواةُ هذا الحديث أفتوا به، وعملوا به.

وعن ابن عباس فيه روايتان: إحداهما: موافقة عمر رضي الله عنه تأديبًا وتعزيرًا للمطلقين، والثانية: الإفتاء بموجبه.

وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس ــ وحَسْبُك بهذا السند صِحَّةً وجلالةً ــ: إذا قال: أنت طالق ثلاثًا بفمٍ واحد فهي واحدة. ذكره أبو داود في «السنن»

(2)

.

ص: 507

الوجه الثاني: أن هذا المجهول هو من التابعين، من أبناء مولى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الكذب مشهورًا فيهم، والقصة معروفة محفوظة، وقد تابعه عليها داود بن الُحصين وهذا يدل على أنه حفظها.

الوجه الثالث: أن روايته لم يُعتمد عليها وحدها، فقد ذكرنا رواية داود بن الحصين، وحديث أبي الصهباء، فهَبْ أن وجود روايته وعدمها سواء؛ ففي حديث داود كفاية، وقد زالت تُهمة تَدْليس ابن إسحاق بقوله: حدثني.

وقد احتجَّ الأئمة بهذا السند بعينه في حديث تقدير العرايا بخمسة أوسُق أو دونها

(1)

، وأخذوا به وعملوا بموجَبه، مع مخالفة عمومات الأحاديث الصحيحة في مَنع بيع الرُّطب بالتّمر

(2)

له.

والقول بهذه الأحاديث موافقٌ لظاهر القرآن، ولأقوال الصحابة، وللقياس، ومصالح بني آدم:

أما ظاهر القرآن: فإن الله سبحانه شرع الرّجْعة في كل طلاق إلا طلاق غير المدخول بها والمطلقة طلقة ثالثة بعد الأُولَيَيْن، وليس في القرآن طلاقٌ بائن قط إلا في هذين الموضعين، وأحدهما بائن غير مُحرِّم، والثاني بائن محرِّم، وقال تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ، والمرتان ما كان مرة بعد مرة، كما تقدم.

(1)

أخرجه البخاري (2190)، ومسلم (1541) وغيرهما من طريق داود بن الحصين عن أبي سفيان عن أبي هريرة. وهو غير الإسناد المذكور سابقًا.

(2)

منها حديث ابن عمر الذي أخرجه البخاري (2171، 2205)، ومسلم (1542).

ص: 508

وأما القياس: فإن الله سبحانه قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6]، ثم قال:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8].

فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات أنِّي صادق، أو قالت: أشهدُ بالله أربع شهاداتٍ أنه كاذبٌ كانت شهادةً واحدةً، ولم تكن أربعًا؛ فكيف يكون قوله: أنت طالقٌ ثلاثًا ثلاث تطليقاتٍ؟ وأيُّ قياسٍ أصحُّ من هذا؟

وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه. ولهذا لو قال المقرّ بالزنى: إني أقرّ بالزنى أربع مرات؛ كان ذلك مرةً واحدة، وقد قال الصحابة لماعزٍ: إن أقررت أربعًا رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو قال: أُقِرُّ به أربع مرات كانت مرة واحدة، فهكذا الطلاق سواءً.

فهذا القياس، وتلك الآثار، وذاك ظاهر القرآن.

وأما أقوال الصحابة: فيكفي كون ذلك على عهد الصديق، ومعه جميع الصحابة، لم يختلف عليه منهم أحد، ولا حُكي في زمانه القولان، حتى قال بعض أهل العلم: إن ذلك إجماع قديم؛ وإنما حدثَ الخلافُ في زمن عمر رضي الله عنه، واستمر الخلاف في المسألة إلى وقتنا هذا، كما سنذكره.

قالوا: فقد صحَّ بلا شك أنهم كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر مُدّة خلافته كلها، وصَدْرًا من خلافة عمر رضي الله عنهما: يوقعون على من طلق ثلاثًا واحدة.

قالوا: فنحن أحقّ بدعوى الإجماع منكم؛ لأنه لا يُعرف في عهد الصِّدِّيق أحدٌ رد ذلك ولا خالفه، فإن كان إجماعٌ فهو من جانبنا أظهرُ ممن

ص: 509

يَدّعيه من نِصْفِ خلافة عمر رضي الله عنه وهَلُمّ جَرًّا؛ فإنه لم يزل الاختلاف فيها قائمًا، وذكره أهلُ العلم في مصنفاتهم قديمًا وحديثًا.

فمِمّن ذكر الخلاف في ذلك: داود وأصحابه، واختاروا أن الثلاث واحدة.

وممن حكى الخلاف: الطحاوي في كتابه «اختلاف العلماء»

(1)

، وفي كتاب «تهذيب الآثار»

(2)

، وأبو بكر الرازي في كتاب «أحكام القرآن»

(3)

، وحكاه ابنُ المنذر، وحكاه ابن حزم

(4)

، وحكاه المؤرِّج في «تفسيره» ، وحكى حجّة القولين، ثم قال: وهي مسألة خلاف بين العلماء، وحكاه محمد بن نَصْر المَرْوَزِي

(5)

، واختار القول الثالث

(6)

: أنها واحدة في حق البِكْر، ثلاث في حق المدخول بها.

وحكاه من المتأخرين: المازَرِيّ في كتاب «المُعْلِم»

(7)

، وحكاه عن محمد بن مُقاتل من أصحاب أبي حنيفة، وهو من أجلِّ أصحابهم من الطبقة الثالثة من أصحاب أبي حنيفة، فهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة. وحكاه التِّلِمْسَانِيُّ في «شرح التفريع» في مذهب مالك قولًا في مذهبه، بل رواية عن

(1)

انظر مختصره للجصاص (2/ 411).

(2)

أي شرح معاني الآثار (3/ 55 ـ 59).

(3)

أحكام القرآن للجصاص الرازي (1/ 388).

(4)

المحلى (10/ 167).

(5)

انظر: اختلاف العلماء (ص 133).

(6)

ح: «بالثلاث» .

(7)

المعلم (2/ 127).

ص: 510

مالك، وحكاه غيره قولًا في المذهب، فهو أحد القولين في مذهب مالك، وأبي حنيفة. وحكاه شيخ الإسلام عن بعض أصحاب أحمد، وهو اختياره، وأسوأُ أحواله أن يكون كبعض أصحاب الوجوه في مذهبه، كالقاضي وأبي الخطاب، وهو أجلّ من ذلك، فهو قول في مذهب أحمد بلا شك.

وأما التابعون، فقال ابن المنذر: كان سعيد بن جُبير، وطاوس، وأبو الشّعْثاء، وعطاء، وعَمْرو بن دينار، يقولون: من طلق البِكْر ثلاثًا فهي واحدة.

قال: واختُلِف في هذا الباب عن الحسن: فرُوي عنه أنها ثلاث، وذكر قتادة، وحُميد، ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك، وقال: واحدة بائنة.

وقال محمد بن نصر في كتاب «اختلاف العلماء»

(1)

: أجمع أهل العلم: أن الرجل إذا طلق امرأته تطليقةً، ولم يدخل بها، أنها بانَتْ منه، وليس عليها عِدّة، واختلفوا في غير المدخول بها، إذا طلقها الزوج ثلاثًا بلفظٍ واحد:

فقال الأوزاعي، ومالك، وأهل المدينة: لا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره.

وروي عن ابن عباس، وغير واحد من التابعين أنهم قالوا: إذا طلقها ثلاثًا قبل أن يدخل بها فهي واحدة.

وأكثر أهل الحديث على القول الأول.

قال: وكان إسحاق

(2)

يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأوّل حديث

(1)

(ص 133).

(2)

في بعض النسخ هنا وفيما بعد: «أبي إسحاق» . وهو خطأ، والمراد هنا ابن راهويه.

ص: 511

طاوس، عن ابن عباس ــ كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهم تُجعل واحدة ــ على هذا.

قلت: هذا تأويل إسحاق.

وأما أبو داود فجعله منسوخًا، فقال في كتاب «السنن»:«باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث» ، ثم ساق حديث ابن عباس

(1)

رضي الله عنهما: أن الرجل كان إذا طلّق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، ثم نُسخ ذلك بقوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، ثم ذكر في أثناء الباب حديث أبي الصهباء.

وكأنه اعتقد أن حكمه كان ثابتًا لمّا كان الرجل يراجع امرأته كلما طلقها. وهذا وَهمٌ، لوجهين:

أحدهما: أن المنسوخ هو ثبوت الرجعة بعد الطلاق ولو بلغ ما بلغ، كما كان في أول الإسلام.

الثاني: أن النسخ لا يثبت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونُ الثلاث واحدةً قد عُمِل به في خلافة الصديق كلها، وأول خلافة عمر رضي الله عنه. فمن المستحيل أن يُنسخ بعد ذلك.

وأما ابن المنذر فقال: لم يكن ذلك عن علم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أمره.

(1)

سنن أبي داود (2197)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (7/ 337)، ورواه أيضًا النسائي (3554)، كلاهما من طريق علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس به، قال الشوكاني في السيل (1/ 426):«في إسناده علي بن الحسين وفيه مقال خفيف» ، وصححه الألباني في الإرواء (2080).

ص: 512

قال: وغير جائز أن يُظَنّ بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، ثم يُفْتِي بخلافه، فلما لم يجز ذلك دَلّ فُتْيا ابن عباس رضي الله عنه على أن ذلك لم يكن عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره؛ إذ لو كان ذلك عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ما اسْتَحَلَّ ابنُ عباس أن يفتيَ بخلافه، أو يكون ذلك منسوخًا، استدلالًا بفُتيا ابن عباس.

وهذا المسلك ضعيف جدًّا لوجوه:

أحدها: أن حديث عِكرمة عن ابن عباس ــ في رد النبي صلى الله عليه وسلم امرأة رُكانة عليه بعد الطلاق الثلاث ــ يُبطل هذا التأويل رأسًا.

الثاني: أن هذا لو كان صحيحًا لقال ابن عباس لأبي الصهباء: ما أدري أبَلَغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يبلغه؟ فلما أقرّه على ذلك إقرارَ راوٍ لذلك: عُلم أنه مما بلغه

(1)

.

الثالث: أنه لو كان ذلك صحيحًا لم يقل عمرُ: إن الناس قد استعجلوا في شيء

(2)

كانت لهم فيه أناة، بل كان الواجب أن يبين أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلاف ذلك، وأن هذا العمل من الناس خلافُ دين الإسلام وشرع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقول: فلو أنا أمضيناه عليهم! فإن هذا إنما يكون إمضاءً من الله تعالى ورسوله، لا من عمر.

الرابع: أنه من الممتنع أو المستحيل أن يكون خيارُ الخلق يُطَلِّقُون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَهْد خليفته من بعده ويُراجعون، على خلاف دينه،

ص: 513

فيطلِّقون طلاقًا محرمًا، ويراجعون رَجْعة محرمة، ولا يُعْلِمون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بَينَ أظْهُرِهم.

ثم حديث ابن عباس الذي رواه أحمد يردّ ذلك، ثم تردُّه فتوى ابن عباس في إحدى الروايتين عنه

(1)

، وهي ثابتة عنه بأصحّ إسناد؛ كما أن الرواية الأخرى ثابتة عنه.

وكيف يستمر جَهْلُ أخيار الأمة بالطلاق والرجعة مدة حياته صلى الله عليه وسلم، ومدة حياة الصديق رضي الله عنه كلها، وشَطْرًا من خلافة عمر رضي الله عنه، ثم يظهر لهم بعد ذلك الطلاق والرجعة الجائزان؟

وكيف يصحُّ قول عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة؟ وكيف يصح قوله: فلو أنا أمضيناه عليهم؟

فهذا المسلك كما ترى!

وأما الإمام أحمد رحمه الله فإنما ردَّه بفتوى ابن عباس بخلافه، وهو راوي الحديثين.

قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: كان الطلاقُ الثلاثُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما: طلاق الثلاث واحدة؛ بأي شيء تدفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوهٍ خلافَه.

وكذلك نقل عنه ابن منصور.

وهذا المسلك إنما يجيء على إحدى الروايتين: أن الصحابيّ إذا عمل

(1)

تقدم تخريجها.

ص: 514

بخلاف الحديث لم يُحتجّ به، واتُّبع عمل الصحابي.

والمشهور عنه أن العبرة بما رواه الصحابي لا بقوله، إذا خالف الحديث. ولهذا أخذ برواية ابن عباس في حديث بريرة

(1)

، وأن بَيْعَ الأمَة لا يكون طلاقًا لها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيّرها، ولو انفسخ النكاح ببيعها لم يُخيّرها، مع أن مذهب ابن عباس أن بيع الأمة طلاقها، واحتج بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، فأباح وَطْءَ مملوكته المزوَّجة، ولو كان النكاح باقيًا لم ينفسخ لم يُبَحْ له وطؤها. والجمهور وأحمد معهم خالفوه في ذلك، وقالوا: لا يكون بيعها طلاقًا، واحتجوا بحديث بَرِيرة، وتركوا رأيه لروايته؛ فإن روايته معصومة، ورأيه غير معصوم.

والمشهور من مذهب الشافعي أن الأخذ بروايته دون رأيه، والمشهور من مذهب أبي حنيفة عكس ذلك، وعن أحمد روايتان.

فهذا المسلك في رد الحديث لا يقْوى.

وسلك آخرون في رد الحديث مسلكًا آخر؛ فقالوا: هو حديث مضطرب لا يصح، ولذلك أعرض عنه البخاري، وترجم في «صحيحه»

(2)

على خلافه، فقال:«باب جواز الطلاق الثلاث في كلمة، لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}» ، ثم ذكر حديث اللّعان، وفيه: فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يغير عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يقرّ على باطل.

(1)

أخرجه البخاري (5279)، ومسلم (1504) عن عائشة.

(2)

انظر: الصحيح مع الفتح (9/ 361).

ص: 515

قالوا: ووجه اضطرابه: أنه تارة يُروَى: عن طاوس، عن ابن عباس، وتارةً: عن طاوس، عن أبي الصهباء، عن ابن عباس، وتارة: عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، فهذا اضطرابه من جهة السند.

وأما المتن: فإن أبا الصهباء تارة يقول: ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها؛ جعلوها واحدة؟ وتارة يقول: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر واحدة؟ فهذا يخالف اللفظ الآخر.

وهذا المسلك من أضعف المسالك، وردُّ الحديث به ضَرْبٌ من التّعَنُّتِ. ولا يُعرف أحد من الحفاظ قَدحَ في هذا الحديث ولا ضَعّفه، والإمام أحمد لما قيل له: بأي شيء ترده؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس خلافه، ولم يردّه بتضعيف ولا قدح في صحته، وكيف يتهيّأ القدحُ في صحته؛ ورواتُه كلهم أئمة حفاظ؟ حَدّث به عبد الرزاق وغيره عن ابن جُريج بصيغة الإخبار، وحَدّث به كذلك ابن جُريج عن ابن طاوس، وحدث به ابن طاوس عن أبيه، وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن، وطاوس من أخص أصحاب ابن عباس، ومذهبه أن الثلاث واحدة.

وقد رواه حَمّاد بن زيد، عن أيوب، عن غير واحد، عن طاووس، فلم ينفرد به عبد الرزاق، ولا ابن جُريج، ولا عبد الله بن طاوس، فالحديث من أصح الأحاديث.

وتَرْكُ رواية البخاري له لا يوهِنه، وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلّا يطوِّل كتابه؛ فإنه سمّاه: «الجامع المختصر الصحيح

»، ومثل هذا العذر لا يقبله من له حظٌّ من العلم.

ص: 516

وأما رواية مَنْ رواه عن أبي الجوزاء: فإن كانت محفوظةً فهي مما يزيد الحديث قوة، وإن لم تكن محفوظة وهو الظاهر، فهي وَهْم في الكُنية

(1)

؛ انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مُلَيكة: من أبي الصهباء إلى أبي الجَوْزاء؛ فإنه كان سيء الحفظ، والحفاظ قالوا: أبو الصهباء، وهذا لا يوهِن الحديث. وهذه الطريق عند الحاكم في «المستدرك»

(2)

.

وأما رواية من رواه مُقَيّدًا قبل الدخول: فقد تقدم أنها لا تناقض رواية الآخرين، على أنها عند أبي داود: عن أيوب، عن غير واحد، ورواية الإطلاق: عن مَعْمر، وابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، فإن تعارضا فهذه الرواية أولى، وإن لم يتعارضا فالأمر واضح.

وحديث داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: صريحٌ في كون الثلاث واحدةً في حق المدخول بها.

وغاية ما يُقَدّر في حديث أبي الصهباء أن قوله: قبل الدخول زيادة من ثقة، فيكون الأخذ بها أولى. وحينئذٍ فيدلّ أحد حديثي ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت في حق البِكْر، وحديثَه الآخر على أنه ثابت في حكم الثيِّب أيضًا، فأحد الحديثين يُقَوِّي الآخر، ويَشْهد بصحته، وبالله التوفيق.

وقد ردَّه آخرون بمسلك أضعف من هذا كله، فقالوا: هذا حديث لم يروه عن رسول الله إلا ابن عباس وحده، ولا عن ابن عباس إلا طاوس وحده. فقالوا: فأين أكابر الصحابة وحُفّاظهم عن رواية مثل هذا الأمر العظيم، الذي الحاجةُ إليه شديدة جدًّا؟ فكيف خفي هذا على جميع

(1)

م، ظ:«من الكتبة» .

(2)

تقدم تخريجها.

ص: 517

الصحابة، وعَرَفه ابن عباس وحده؟ وخفي على أصحاب ابن عباس كلِّهم، وعلمه طاوس وحده؟

وهذا أفسد من جميع ما تقدم، ولا تُردّ أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بمثل هذا فكم من حديثٍ تفرّد به واحد من الصحابة، لم يَرْوِه غيره، وقَبِلته الأمة كلهم، فلم يردَّه أحد منهم.

وكم من حديث تفرّد به من هو دون طاوس بكثير، ولم يردَّه أحد من الأئمة.

ولا نعلم أحدًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يُقْبَل، وإنما يُحكى عن أهل البدع ومَنْ تَبعهم في ذلك أقوالٌ، لا يُعرف لها قائل من الفقهاء.

وقد تفرّد الزهرى بنحو ستين سُنّة، لم يروها غيره

(1)

، وعملت بها الأمة، ولم يردوها بتفرُّده.

هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث رُكانة، وهو موافق لحديث طاوس عنه، فإن قَدَح في عكرمة أبطل وتناقض؛ فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قَدْح من قَدَحَ فيه.

فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله: أن يُتوقّفَ فيه، ولا يُجزم بصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قيل: ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشذوذ: أن يخالف الثقاتِ فيما رووه،

(1)

قاله مسلم في صحيحه (3/ 1268)، وفيه:«نحوٌ من تسعين حديثًا» .

ص: 518

فيشِذّ عنهم بروايته. فأما إذا روى الثقة حديثًا منفردًا به، لم يرو الثقات خلافه، فإن ذلك لا يسمى شاذًّا، وإن اصْطُلِحَ على تسميته شاذًّا بهذا المعنى لم يكن الاصطلاح موجِبًا لردِّه، ولا مُسَوِّغًا له.

قال الشافعي

(1)

رحمه الله: وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث، بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات.

قاله في مناظرته لبعض من ردّ الحديث بتفرُّد الراوي به.

ثم إن هذا القول لا يمكن أحدًا من أهل العلم، ولا من الأئمة، ولا من أتباعهم طَردُه، ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم.

والعجب أن الرّادِّين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بَنوا كثيرًا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة، انفرد بها رواتها، لا تعرف عن سواهم، وذلك أشهر وأكثر من أن نعدّهُ.

ولمَّا رأى بعضُهم ضعف هذه المسالك

(2)

، وأنها لا تجدي شيئًا: استروح إلى تأويله، فقال: معنى الحديث أن الناس كانوا يطلِّقون على عهد رسول الله، وأبي بكر، وعمر واحدةً، ولا يوقعون الثلاث، فلما كان في أثناء خلافة عمر رضي الله عنه أوقعوا الثلاث، وأكثروا من ذلك، فأمضاه عليهم عمر رضي الله عنه كما أوقعوه، فقوله: كانت الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة؛ أي: في التطليق وإيقاع المطلِّقين، لا في حكم الشرع.

قال هذا القائل: وهذا من أقوى ما يُجاب به، وبه يزول كل إشكال.

(1)

أخرجه عنه الحاكم في معرفة علوم الحديث (ص 119).

(2)

م: «هذا المسلك» .

ص: 519

ولَعَمْرُ الله، لو سكت هذا كان خيرًا له وأستر؛ فإن هذا المسلك من أضعف ما قيل في الحديث، وسياقُه يبين بطلانه بيانًا ظاهرًا لا إشكال فيه، وكأن قائله أحبّ الترويج على قوم ضعفاء العلم، مُخلِدين إلى حَضيض التقليد، فروّج عليهم مثل هذا.

وهذا القائل كأنه لم يتأمل ألفاظ الحديث، ولم يُعْنَ بِطُرُقه؛ فقد ذكرنا من بعض ألفاظه قول أبي الصهباء لابن عباس: أما علمت أن الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه، وصدرًا من إمارة عمر رضي الله عنه؟ فأقرّ ابن عباس بذلك، وقال: نعم.

وأيضًا فقول هذا المتأول: إنهم كانوا يُطلِّقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة؛ فقد نقضه هو بعينه وأبطله، حيث احتجّ على وقوع الثلاث بحديث الملاعِن

(1)

، وحديث محمود بن لبيد: أن رجلًا طلق امرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«أيُلعَبُ بكتاب الله، وأنا بين أظهُركُم؟»

(2)

؛ ثم زاد هذا القائل في الحديث زيادة من عنده، فقال:«وأمضاه عليه، ولم يَرُدّه» .

وهذه اللفظة موضوعة، لا تُروى في شيء من طرق هذا الحديث البَتّة، وليست في شيء من كتب الحديث، وإنما هي من كِيس هذا القائل، حمله عليها فَرْطُ التقليد.

(1)

أخرجه البخاري (423) ومسلم (1492) عن سهل بن سعد.

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 520

ومحمود بن لَبيد لم يذكر ما جرى بعد ذلك، من إمضاءٍ أو ردٍّ إلى واحدة.

والمقصود أن هذا القائل تناقضَ، وتأول الحديث تأويلًا يُعلم بطلانه من سياقه.

ومن بعض ألفاظه: أن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر يُرد إلى الواحدة، وهذا موافق للَّفظ الآخر: كان إذا طلق امرأته ثلاثًا جعلوها واحدةً، وجميع ألفاظه متفقة على هذا المعنى، يفسر بعضها بعضًا.

فجعل هذا وأمثالُه المُحْكَم مُتشابهًا، والواضح مُشْكِلًا!

وكيف يصنع بقوله: فلو أمضيناه عليه، فإن هذا يدل على أنه رأي من عمر رضي الله عنه رآه أن يُمضيه عليهم لتتايُعهم فيه، وشدِّهم على أنفسهم ما وسَّعه الله عليهم، وجمعهم ما فَرّقه، وتطليقهم على غير الوجه الذي شرعه، وتعدِّيهم حدوده.

ومن كمال علمه رضي الله عنه: أنه علم أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل المخرج إلا لمن اتقاه، وراعى حدوده، وهؤلاء لم يتَّقوه في الطلاق، ولم يراعوا حدوده، فلا يستحقون المخرج الذي ضمنه لمن اتقاه.

ولو كان الثلاث تقع ثلاثًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دينه الذي بعثه الله تعالى به، لم يُضِف عمر رضي الله عنه إمضاءه إلى نفسه، ولا كان يصح هذا القول منه، وهو بمنزلة أن يقول في الزنى، وقتل النفس، وقذف المحصنات: لو حرّمناه عليهم، فحرَّمه عليهم، وبمنزلة أن يقول في وجوب الظهر والعصر، ووجوب صوم شهر رمضان، والغُسْلِ من الجنابة: فلو فرضناه عليهم، ففرضه عليهم.

ص: 521

فدعوا هذه التأويلات المستكرهة، التي كلما نظر فيها طالب العلم ازداد بصيرةً في المسألة، وقويَ جانبها عنده؛ فإنه يرى أن الحديث لا يُردُّ يمثل هذه الأشياء.

وقد سلك أبو عبد الرحمن النسائي في «سننه»

(1)

في الحديث مسلكًا آخر، فقال:«باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة» ، ثم ساقه، قال:«حدثنا أبو داود: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جُريج، عن ابن طاوس، عن أبيه: أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يا ابن عباس! ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر تُردّ إلى الواحدة؟ قال: نعم» .

وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة وبين لفظ الحديث: وجدتها لا تدلُّ عليها، ولا تُشعر بها بوجه من الوجوه، بل الترجمة لون، والحديث لون آخر، وكأنه لما أشكل عليه وجه الحديث حمله على ما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، طَلُقَتْ واحدة.

ومعلومٌ أن هذا الحكم لم يزل ولا يزال كذلك، ولا يتقيد ذلك بزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنه، ثم يتغير في خلافة عمر رضي الله عنه، ويُمضي الثلاث بعد ذلك على المطلِّق، والحديث لا يندفع بمثل هذا البتّة.

وسلك آخرون في الحديث مسلكًا آخر، فقالوا: هذا حديث يخالف أصول الشرع، فلا يُلتفت إليه.

(1)

سنن النسائي (6/ 145).

ص: 522

قالوا: لأن الله سبحانه ملّك الزوج ثلاث تطليقات، وجعل إيقاعها إليه، فإن قلنا بقول الشافعي ومن وافقه: إن جمع الثلاث جائز، فقد فعل ما أُبيح له، فيصح

(1)

. وإن قلنا: جمع الثلاث حرام، وهو طلاق بِدْعِيّ، فالشارع إنما ملكه تفريق الثلاث فُسْحةً له، فإذا جمعها فقد جَمع ما فُسح له في تفريقه، فلزمه حكمه كما لو فرّقه.

قالوا: وهذا كما أنه يملك تفريقَ المطلَّقات وجمعهنّ، فكذلك يملك تفريق الطلاق وجمعه، فهذا قياس الأصول، فلا نُبطله بخبر الواحد.

قال الآخرون: هذا القياس لا يصلح أن يَثْبُتَ به هذا الحكم، لو لم يُعارَض بنص، فَضْلًا عن أن يقدَّم على النص، وهو قياس مخالف لأصول الشرع، ولغة العرب، وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل الصحابة في عهد الصِّدِّيق.

فأما مخالفته لأصول الشرع: فإن الله سبحانه إنما ملَّك المطلِّق بعد الدخول طلاقًا يملك فيه الرجعة، ويكون مخيّرًا فيه بين الإمساك بالمعروف وبين التسريح بالإحسان، ما لم يكن بعِوَضٍ، أو يستوفي فيه العِدَد، والقرآن قد بيّن ذلك كله؛ فبيّن أن الطلاق قبل الدخول تَبِينُ به المرأة، ولا عِدة عليها، وبيّن أن المفتدية تملك نفسها، ولا رجعة لزوجها عليها، وبين أن المطلَّقة الطَّلْقةَ المسبوقة بطلقتين قبلها تَبين منه وتحرم عليه، فلا تَحِلّ له حتى تنكح زوجًا غيره، وبَيّن أن ما عدا ذلك من الطلاق فللزَّوج فيه الرجعة، وهو مخيّر فيه بين الإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان.

(1)

«فيصح» ساقطة من م.

ص: 523

وهذا كتاب الله عز وجل قد تضمَّن هذه الأنواع الأربعة وأحكامها، وجعل سبحانه وتعالى أحكامها من لوازمها التي لا تنفكّ عنها، فلا يجوز أن تتغيّر أحكامها البتة، فكما لا يجوز في الطلاق قبل الدخول أن تثبت فيه الرّجعة، وتجب به العِدّة، ولا في الطلقة المسبوقة بطلقتين أن يثبت فيها الرّجعة، وأن تُباح بغير زوجٍ وإصابةٍ، ولا في طلاق الفِدية أن تثبت فيه الرجعة، فكذلك لا يجوز في النوع الآخر من الطلاق أن يتغير حكمه، فيقع على وجهٍ لا تثبت فيه الرجعة؛ فإنه مخالفٌ لحكم الله تعالى الذي حكم به فيه، وهذا صفة لازمة له، فلا يكون على خلافها البتة.

ومن تأمل القرآن وجده لا يحتمل غير ذلك، فما شرع الله سبحانه الطلاق إلا وشرع فيه الرجعة، إلا الطلاق قبل الدخول، وطلاق الخُلع، والطلقةَ الثالثة، فبيننا وبينكم كتاب الله، فإن كان فيه شيء غير هذا فأوجِدُونا إياه.

ومما يوضح ذلك: أن جمهور الفقهاء من الطوائف الثلاثة احتجوا على الشافعي في تجويزه جمع الثلاث بالقرآن، وقالوا: ما شرع الله سبحانه جمعَ الطلاق الثلاث، وما شرع الطلاق بعد الدخول بغير عوض إلا شرع فيه الرجعة؛ ما لم يستوفِ العدد.

واحتجوا عليه بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، قالوا: ولا يُعقل في لغة من لغات الأمم المرتان إلا مرة بعد مرة.

فعارضهم بعض أصحابه بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«ثلاثةٌ يُؤتَوْنَ أجْرَهُم مَرتين»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري (97)، ومسلم (154) عن أبي موسى الأشعري.

ص: 524

فأجابهم الآخرون بأن المرَّتين والمرَّات يراد بها الأفعال تارة، والأعيان تارة، وأكثر ما تستعمل في الأفعال، وأما الأعيان فكقوله في الحديث:«انشقَّ القمرُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين»

(1)

، أي: شِقّتين وفِلقتين. ولمَّا خفي هذا على من لم يُحِطْ به علمًا زعم أن الانشقاق وقع مرة بعد مرة في زمانين، وهذا مما يعلم أهل الحديث ومن له خِبرة بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته أنه غلط، وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة، ولكن هذا وأمثاله فهموا من قوله «مرتين» المرة الزمانية.

إذا عُرف هذا فقوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، وقوله:{يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] أي: ضعفين؛ فيؤتون أجرهم مضاعفًا، وهذا يمكن اجتماع المرتين منه في زمان واحد.

وأما المرَّتان من الفعل فمحالٌ اجتماعهما في زمن واحد؛ فإنهما مِثلان، واجتماعُ المثلين محال، وهو نظير اجتماع حَرفين في آنٍ واحدٍ من متكلمٍ واحدٍ، وهذا مستحيل قطعًا، فيستحيل أن يكون مرّتا الطلاق في إيقاع واحد.

ولهذا جعل مالك وجمهور العلماء من رَمَى الجمار بسبع حصَيات جُملةً: أنه غير مُؤَدٍّ للواجب عليه، وإنما يُحسَب له رَمي حصاةٍ واحدة، فهي رميةٌ لا سبع رميات.

واتفقوا كلهم على أنه لو قال في اللعان: أشهد بالله أربع شهادات أني صادق، كانت شهادة واحدة.

وفى الحديث الصحيح: «من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مئة مرة

(1)

أخرجه مسلم (2802) عن أنس.

ص: 525

حُطَّتْ عنه خطاياه، ولو كانت مثل زَبد البحر»

(1)

. فلو قال: «سبحان الله وبحمده مئة مرة» هذا اللفظ لم يستحقَّ الثواب المذكور، وكانت تسبيحةً واحدة.

وكذلك قوله: «تسبِّحون الله دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمدون ثلاثًا وثلاثين، وتكبرون أربعًا وثلاثين»

(2)

. لو قال: «سبحان الله ثلاثًا وثلاثين» لم يكن مُسَبِّحًا هذا العدد، حتى يأتي به واحدة بعد واحدة.

ونظائر ذلك في الكتاب والسنة أكثر من أن تُذْكَر.

قالوا: فقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إما أن يكون خبرًا في معنى الأمر؛ أي: إذا طلقتم فطلقوا مرتين، وإما أن يكون خبرًا عن حُكمه الشرعي الديني؛ أي: الطلاق الذي شَرَعْتُه لكم وشرعتُ فيه الرجعة: مرتان. وعلى التقديرين: إنَّما يكون ذلك مرّة بعد مرة، فلا يكون مُوقِعًا للطلاق الذي شرع إلا إذا طلق مرة بعد مرة، ولا يكون موقعًا للمشروع بقوله: أنت طالق ثلاثًا، ولا مرتين.

قالوا: ويوضح ذلك أنه حصر الطلاق المشروع في مرتين، فلو شَرَعَ جَمْعَ الطلاق في دَفْعةٍ واحدة لم يكن الحصر صحيحًا، ولم يكن الطلاق كله مرتان، بل كان منه مرتان، ومنه مرة واحدة تَجْمعه، وهذا خلاف ظاهر القرآن، وأنه لا طلاق للمدخول بها إلا مرتان، وتبقى الثالثة المحرمة بعد ذلك.

قالوا: ويدل عليه أن الطلاق اسم مُحلًّى باللام، وليست للعهد، بل

(1)

أخرجه البخاري (6405) ومسلم (2691) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه مسلم (596) عن كعب بن عجرة.

ص: 526

للعموم، فالمراد بالآية: كل الطلاق مرتان، والمرة الثالثة التي تُحرِّمها عليه، وتُسقِط رَجْعَتَهُ، وهذا صريح في أن الطلاق المشروع هو المتفرق؛ لأن المرات لا تكون إلا متفرقة، كما تقدم.

قالوا: ويدُلُّ عليه قول تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، فهذا حكم كل طلاق شرعه الله، إلا الطلقة المسبوقة بتطليقتين قبلها؛ فإنه لا يبقى بعدها إمساك.

قالوا: ويدلُّ عليه قوله سبحانه: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، و «إذا» من أدوات العموم، كأنَّه قال: أيُّ طلاقٍ وقع منكم في أيِّ وقتٍ فحُكْمُه هذا، إلا أنَّه أخرج من هذا العموم الطَّلقة المسبوقة باثنتين، [فبقي ما عداها داخلًا][*] في لفظ الآية نصًّا أو ظاهرًا.

قالوا: ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، فهذا عام في كل طلاق غير الثالثة المسبوقة باثنتين، فالقرآن يقتضي أن ترجع إلى زوجها إذا أراد في كل طلاق، ماعدا الثالثة.

قالوا: ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 1، 2]، ووجه الاستدلال

[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس (هكذا) في المطبوع. وتم التصويب من الأصل الوارد من «عطاءات العلم» جزاهم الله خيرا

ص: 527

بالآية من وجوه:

أحدها: أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن يطلّق لعدتها، أي: لاستقبال عِدّتها، فيطلق طلاقًا يعقبه شروعها في العدة، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حَيْضها أن يراجعها

(1)

، وتلا هذه الآية تفسيرًا للمراد بها، وأن المراد بها الطلاقُ في قُبُل العِدّة، وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر.

ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث: إنه لا يجوز له أن يُرْدِف الطلقة بأخرى في ذلك الطّهر، لأنه غير مطلق للعِدّة؛ فإن العدة قد استُقْبِلت من حين الطلقة الأولى، فلا تكون الثانية للعدة.

ثم قال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ومن وافقه: إذا أراد أن يطلقها ثانيةً طلَّقها بعد عقدٍ أو رَجْعةٍ؛ لأن العدة تنقطع بذلك، فإذا طلقّها بعد ذلك أخرى طلقها للعدة.

وقال في رواية أخرى عنه: له أن يطلقها الثانية في الطّهر الثاني، ويطلقها الثالثة في الطهر الثالث، وهو قول أبي حنيفة. فيكون مطلقًا للعدة أيضًا؛ لأنها تَبْتَني على ما مضى.

والصحيح هو الأول، وأنه ليس له أن يُردف الطلاق قبل الرّجعة

أو العقد؛ لأن الطلاق البائن لم يكن لاستقبال العدة، بل هو طلاق لغير العدّة، فلا يكون مأذونًا فيه؛ فإن العدة إنما تُحسب من الطلقة الأولى؛ لأنه طلاق للعدة، بخلاف الثانية والثالثة.

(1)

تقدم تخريجه.

ص: 528

ومن جعله مشروعًا قال: هو الطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها، وكلاهما طلاق للعدة.

وأصحاب القول الأول يقولون: المراد بالطلاق للعدة الطلاق لاستقبالها، كما في القراءة الأخرى التي تفسِّر القراءة المشهورة:(فَطَلِّقوهُنَّ في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ).

قالوا: فإذا لم يُشرع إرْداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد، فأنْ لا يُشرع جمعُه معه أولى وأحْرى؛ فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه، ولهذا يُسَوِّغ الإرداف في الأطهار مَن لا يُجوِّز الجمعَ في الطهر الواحد.

وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم جمع الثلاث بهذه الآية. قال مجاهد

(1)

: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلّق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننتُ أنه رَادُّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأُحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس؟ وإن الله عز وجل قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، فما أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله عز وجل قال:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ.

وهذا حديث صحيح. فَفَهِمَ ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرمٌ، وهذا فَهْمُ مَنْ دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يُفَقِّهه الله في الدين، ويُعَلِّمه التأويل

(2)

، وهو من أحسن الفهوم كما تقرر.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (1/ 266، 314، 328، 335) وابن حبان (7055) وغيرهما، وهو حديث صحيح.

ص: 529

الوجه الثاني من الاستدلال بالآية: قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]، وهذا إنما هو في الطلاق الرجعى، فأما البائن فلا سُكنى لها ولا نفقة، لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي لا مَطعن في صحتها

(1)

، الصريحة التي لا شبهة في دلالتها، فدلّ على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله، ولهذا قال الجمهور: إنه لا يشرع له، ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العِوض.

وأبو حنيفة قال: يملك ذلك؛ لأن الرجعة حقّه، وقد أسقطها.

والجمهور يقولون: ثبوتُ الرجعة وإن كان حقًّا له فلها عليه حقوق الزوجية، فلا يملك إسقاطَها إلا بمخالعة أو باستيفاء العِدَدِ، كما دلّ عليه القرآن.

الوجه الثالث: أنه قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]، فإذا طلقها ثلاثًا جملةً واحدةً فقد تعدّى حدود الله، فيكون ظالمًا.

الوجه الرابع: أنه سبحانه قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، وقد فهم أعلم الأمّة بالقرآن ــ وهم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ــ أن الأمر هاهنا هو الرجعة، فقالوا: وأيّ أمرٍ يُحدِثُ بعد الثلاث؟

الوجه الخامس: قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، فهذا حكم كل طلاقٍ شرعه الله إلا أن يُسبَق

(1)

أخرجها مسلم (1480) عن فاطمة بنت قيس.

ص: 530

بطلقتين قبله، وقد احتجّ ابن عباسٍ على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} في قُبُل عِدَتِهِنّ، كما تقدم؛ وهذا حق؛ فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق في طُهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم؛ لأنه يكون مُطلقًا في غير قُبُل العدّة= فلأن تدُلَّ على تحريم الجمع أولى وأحرى.

قالوا: والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرْفَقها بالزوج والزوجة؛ لئلا يتسارع العبد في وقوعه، ومفارقة حبيبه، ومدَّ له وقتَ العدة أجلًا؛ لاستدراك الفارط بالرجعة.

فلم يُبِحْ له أن يُطلق المرأة في حال حيضها؛ لأنه وقت نُفرته عنها، وعدم قدرته على استمتاعه بها، ولا عَقِيبَ جماعها، لأنه قد قَضى غرضه منها، وربَّما فَتَرت رغبته فيها، وزهد في إمساكها لقضاء وطره، فإذا طلقها في هاتين الحالتين ربما يندم فيما بعد هذا، مع ما في الطلاق في الحيض من تطويل العدة، وعَقِيبَ الجماع من طلاق مَن لعلها قد اشتمل رَحِمُها على ولدٍ منه، فلا يريد فراقها.

فأما إذا حاضت ثم طهرت فنفسه تتوق إليها؛ لطول عهده بجماعها، فلا يُقْدِمُ على طلاقها في هذه الحال إلا لحاجته إليه، فلم يُبحْ له الشارع أن يطلِّقها إلا في هذه الحال، أو في حال استبانة حملها؛ لأن إقدامه أيضًا على طلاقها في هذه الحال دليلٌ على حاجته إلى الطلاق.

وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم هذا بمنعه لعبد الله بن عمر أن يطلق في الطُّهر الذي يلي الحيضة التي طلّق فيها، بل أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن بدا له أن يُطلِّقها فلْيُطَلِّقها، وفى ذلك عدة حكَم:

ص: 531

منها: أن الطهر المتصل بالحيضة هو وهي في حكم القرْء الواحد، فإذا طلقها في ذلك الطهر فكأنه طلقها في الحيضة؛ لاتصاله بها، وكونه معها كالشيء الواحد.

الثانية: أنه لو أُذن له في طلاقها في ذلك الطهر فيصير كأنه راجع لأجل الطلاق، وهذا ضِدّ مقصود الرجعة؛ فإن الله تعالى إنما شرعها للإمساك، ولَمِّ شَعَثِ النكاح، وعَود الفراش، فلا يكون لأجل الطلاق؛ فيكون كأنه راجع ليطلِّق، وإنما شرعت الرجعة ليُمسك. وبهذا بعينه أبطلنا نكاح المحلِّل؛ فإن الله سبحانه وتعالى شرع النكاح للإمساك والمعاشرة، والمحلِّل تزوج ليطلِّق، فهو مضادٌّ الله تعالى في شرعه ودينه.

الثالثة: أنه إذا صبر عليها حتى تحيض، ثم تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، زال ما في نفسه من الغضب الحامل له على الطلاق، وربما صَلحت الحال بينهما، وأقْلعت عمّا يدعوه إلى طلاقها، فيكون تطويل هذه المدة رحمةً به وبها.

وإذا كان الشارع ملتفتًا إلى مثل هذه الرحمة والشفقة على الزوج، وشرَعَ الطلاق على هذا الوجه الذي هو أبعدُ شيء عن الندم، فكيف يليق بشرعه أن يشرع إبانتها وتحريمها عليه بكلمةٍ واحدة، يجمع فيها ما شرعه متفرقًا، بحيث لا يكون له سبيل إليها؟ وكيف يجتمع في حكمة الشارع وحُكمه هذا وهذا؟

فهذه الوجوه ونحوها مما بيَّن بها الجمهورُ أن جمعَ الثلاث غير مشروع، هي بعينها تبيِّن عدم الوقوع، وأنه إنما يقع المشروع وحده، وهي الواحدة.

ص: 532

قالوا: فتبيَّن أنّا بأصول الشرع وقواعده أسعدُ منكم، وأن قياس الأصول وقواعد الشرع من جانبنا، وقد تأيدت بالسنة الصحيحة التي ذكرناها.

وقولكم: إن المطلق ثلاثًا قد جمع ما فُسح له في تفريقه، هو إلى أن يكون حجةً عليكم أقرب؛ فإنه إنما أُذن له فيه ومُلِّكَهُ مفرَّقًا لا مجموعًا، فإذا جمع ما أُمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه، ولهذا قال من قال من السلف: رجلٌ أخطأ السنة، فيُردّ إليها. فهذا أحسن من كلامهم وأبين، وأقرب إلى الشرع والمصلحة.

ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملّكه الله تعالى العبدَ، وأذِن فيه مُفرّقًا فأراد أن يجمعه، كرَمْي الجمار الذي إنما شُرعَ له مفرّقًا، واللعان الذي شرع كذلك، وأيمان القسامة التي شرعت كذلك.

ونظير قياسكم هذا: أن له أن يُؤخِّر الصلوات كلها ويُصلِّيها في وقتٍ واحدٍ؛ لأنه جمع ما أُمر بتفريقه! على أن هذا قد فهمهُ كثير من العوام، يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل، ويصلُّون الجميع في وقت واحد، ويحتجُّون بمثل هذه الحجة بعينها، ولو سكتُّم عن نُصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها.

فصل

فاستَروحَ بعضُهم إلى مسلك آخر غير هذه المسالك، لمّا تبين له فسادها، فقال: هذا حديث واحد، والأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دالّة على خلافه، وذكروا أحاديث:

منها: ما في «الصحيحين»

(1)

عن فاطمة بنت قيس: أن أبا حَفْص بن

(1)

أخرجه مسلم (1480)، ولم يخرجه البخاري.

ص: 533

المغيرة طلقها البتّة وهو غائب، فأرسل إليها وكيلَه بشعير، فسَخِطَته، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك؟ فقال:«ليس لك عليه نفقة» .

وقد جاء تفسير هذه البتة في الحديث الآخر الصحيح

(1)

: أنه طلقها ثلاثاً، فلم يجعل لها النبي صلى الله عليه وسلم سُكنَى ولا نفقة.

فقد أجاز عليه الثلاث، وأسقط بذلك نفقتها وسُكناها.

وفى «المسند»

(2)

أن هذه الثلاث كانت جميعًا، فروَى من حديث الشعبي: أن فاطمة خاصمت أخا زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرجها من الدار، ومنعها النفقة، فقال:«ما لكَ ولابنةِ قيسٍ؟» ، قال: يا رسول الله! إن أخي طلقها ثلاثًا جميعًا

وذكر الحديث.

ومنها: ما في «الصحيحين»

(3)

عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً طلّق امرأته ثلاثًا، فتزوجت، فطُلِّقت، فسُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أتَحِلّ للأول؟ قال: «لا، حتى يذوق عُسَيْلتها كما ذاق الأول» .

ووجه الدليل: أنه لم يستفصل: هل طلقها ثلاثًا مجموعة أو متفرقة؟

(1)

هو طريق آخر للحديث السابق.

(2)

مسند أحمد (6/ 373، 416) عن يحيى بن سعيد عن مجالد عن الشعبي به، قال ابن القيم فيما يأتي:«لم يقل ذلك عن الشعبي غيرُ مجالد، مع كثرة من روى هذه القصّةَ عن الشعبي، فتفرَّد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله: ثلاثًا جميعًا» ، ثم وجّهه على تقدير صحته، ولعلّ هذا التقدير متحقّق؛ فقد توبع مجالد في روايته هذه، حيث رواه الطبراني في الكبير (24/ 383) من طريق محمد بن سليمان لوين عن محمد بن جابر عن حبيب بن أبي ثابت عن الشعبي عنها قالت: طلّقني زوجي ثلاثًا جميعًا.

(3)

البخاري (2639) ومسلم (1433).

ص: 534

ولو اختلف الحال لوجب الاستفصال.

ومنها: ما اعتمد عليه الشافعي في قصة الملاعنة: أن عُويمرًا العَجْلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أرأيتَ رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، فيقتله فتقتلونه، أو كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قد أُنْزِل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فائْتِ بها» ، قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا فرغا من تلاعنهما قال عُويمر: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الزهري: وكانت تلك سُنّة المتلاعنين. متفق على صحته

(1)

.

قال الشافعي: فقد أقرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطلاق ثلاثًا، ولو كان حرامًا لما أقرّه عليه.

ومنها: ما رواه النسائي

(2)

عن محمود بن لبيد، قال: أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان، ثم قال:«أيُلْعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟» ، حتى قام رجلٌ فقال: يا رسول الله! ألا أقتله؟

ولم يقل: إنه لم يقع عليه إلا واحدة، بل الظاهر أنه أجازها عليه؛ إذ لو كانت زوجته ولم يقع عليه إلا واحدة لبيّن له ذلك؛ لأنه طلقها ثلاثًا يعتقد لزومها، فلو لم يلزمه لقال له: هي زوجتك بعدُ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

(1)

البخاري (5309)، ومسلم (1492) عن سهل بن سعد الساعدي.

(2)

(6/ 142، 143)، وتقدم تخريجه.

ص: 535

ومنها: ما رواه أبو داود وابن ماجه عن رُكانة: أنه طلق امرأته البتة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«ما أردتَ؟» ، قال: واحدة، قال:«آلله ما أردتَ بها إلا واحدة؟» قال: آلله ما أردتُ بها إلا واحدة.

ورواه الترمذي، وفيه: فقال: يا رسول الله! إني طلقت امرأتي البتة، فقال:«ما أردتَ بها؟» ، فقلت: واحدة، قال:«والله؟» قلت: والله، قال:«فهو ما أردتَ»

(1)

.

قال أبو داود: «هذا أصح من حديث ابن جُريج: أن رُكانة طلق امرأته ثلاثًا» .

قال ابن ماجه: «سمعت أبا الحسن علي بن محمد الطَّنافِسيّ يقول: ما أشرفَ هذا الحديثَ!» .

(1)

سنن أبي داود (2210)، سنن الترمذي (1177)، سنن ابن ماجه (2051)، ورواه أيضًا الطيالسي (1188)، وابن أبي شيبة (4/ 91)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (443)، وأبو يعلى (1537، 1538)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 90، 282، 3/ 254)، والطبراني في الكبير (5/ 70، 10/ 44)، وابن عدي في الكامل (3/ 225، 5/ 208)، والدارقطني (4/ 34)، وغيرهم عن الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده، وصحّحه أبو داود كما نقل الدارقطني، وابن حبان (4274)، والحاكم (2807)، والنووي في شرح صحيح مسلم (10/ 71)، وابن دقيق في الإلمام (1333)، وحسنه ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 197)، وأعلّه غيرهم بالاضطراب في إسناده ومتنه، وضعفِ رواته وجهالتهم، وممّن ضعّفه أحمد كما في العلل المتناهية (1058)، والبخاري كما نقل الترمذي، وابن حزم في المحلى (10/ 191)، وابن تيمية كما في المجموع (32/ 311، 33/ 15، 67، 73)، والمصنّف فيما يأتي، والشوكاني في النيل (7/ 11)، والألباني في الإرواء (2063).

ص: 536

قال أبو عبد الله ابن ماجه: «أبو عُبَيْدٍ تركه ناحيةً، وأحمد جَبُن عنه» .

ووجه الدلالة: أنه حلّفه ما أراد بها إلا واحدة؟ وهذا يدل على أنه لو أراد بها أكثر من واحدة لألزمه ذلك، ولو كانت واحدة مُطْلقًا لم يفترق الحالُ بين أن يريد واحدة أو أكثر. وإذا كان هذا في الكناية فكيف في الطلاق الصريح؛ إذا صرح فيه بالثلاث؟

ومنها: ما رواه الدارقطني

(1)

من حديث حَمّاد بن زيد، حدثنا عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس، قال: سمعت مُعاذ بن جَبَل يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا معاذ! مَنْ طلّق للبِدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا ألزمناه بدعته» .

ومنها: ما رواه الدارقطني

(2)

من حديث إبراهيم بن عُبيد الله بن

(1)

سنن الدارقطني (4/ 20، 44) من طريق إسماعيل بن أبي أمية الذارع عن حماد به، وبهذا الإسناد رواه البيهقي في الكبرى (7/ 327)، ورواه الدارقطني أيضًا (4/ 45، 20) من طريق إسماعيل الذارع عن سعيد بن راشد عن حميد الطويل عن أنس عن معاذ به، قال الدارقطني:«إسماعيل بن أبي أمية ضعيف متروك الحديث» ، وذكره ابن حزم في المحلى (10/ 165) من مسند أنس وقال:«موضوع بلا شكّ» ، وقال المصنف فيما يأتي وفي الزاد (5/ 237):«هذا حديث باطل» ، وضعفه المناوي في التيسير (2/ 832)، وهو في السلسلة الضعيفة (6/ 434).

(2)

سنن الدارقطني (4/ 20) من طريق عبيد الله بن الوليد وصدقة بن أبي عمران عن إبراهيم به، وبهذا الإسناد رواه الخطيب في تاريخه (14/ 227)، وابن عساكر في تاريخه (64/ 303)، قال الدارقطني:«رواته مجهولون وضعفاء» . ورواه عبد الرزاق (6/ 393) عن يحيى بن العلاء عن عبيد الله بن الوليد عن إبراهيم عن داود بن عبادة بن الصامت قال طلق جدّي امرأة له

قال ابن حزم في المحلى (10/ 170): «هذا الحديث في غاية السقوط؛ لأنه من طريق يحيى وليس بالقوي، عن عبيد الله وهو هالك، عن إبراهيم بن عبيد الله وهو مجهول لا يعرف، ثم هو منكر جدًّا؛ لأنه لم يوجد قط في شيء من الآثار أن والد عبادة أدرك الإسلام، فكيف جدّه؟ وهو محال بلا شكّ، ثم ألفاظه متناقضة» ، وتبعه المصنف في الزاد (5/ 262). ورواه ابن راهويه ــ كما في المطالب العالية (1704) ــ وابن عدي في الكامل (4/ 323) من طريق عبيد الله بن الوليد عن داود بن إبراهيم عن عبادة بن الصامت، وهو في السلسلة الضعيفة (1211).

ص: 537

عُبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده، قال: طلّق بعضُ آبائي امرأته ألفًا، فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! إن أبانا طلق امرأته ألفًا، هل له من مَخْرج؟ فقال:«إن أباكم لم يَتّق الله فيجعل له مخرجًا! بانت منه بثلاثٍ على غير السنة، وتسعُ مئةٍ وسبعة وتسعون إثمٌ في عنقه» .

ومنها: ما رواه الدارقطني

(1)

أيضًا من حديث زاذان عن علي رضي الله عنه، قال: سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً طلّق البتة، فغضب، وقال: «أتتخذون آيات الله هُزُوًا

(2)

ولعبًا؟ من طلّق البتة ألزمناه ثلاثًا، لا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره».

(1)

سنن الدارقطني (4/ 20) من طريق إسماعيل بن أبي أمية القرشي عن عثمان بن مطر عن عبد الغفور عن أبي هاشم عن زاذان به، وبهذا الإسناد رواه ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد (18/ 78)، قال الدارقطني:«إسماعيل هذا كوفي ضعيف الحديث» ، وقال المصنف فيما يأتي:«في إسناده مجاهيل وضعفاء» ، وضعّفه ابن عبد الهادي في التنقيح (2818)، والذهبي في التنقيح (2/ 206)، وقال ابن حجر في الدراية (2/ 102):«إسناده ضعيف جدًّا» . ورواه أبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 134) من طريق قتيبة بن مهران عن عبد الغفور به، وحكم عليه الألباني بالوضع في السلسلة الضعيفة (2894).

(2)

زاد في ت: «ودين الله هزوا» .

ص: 538

ومنها: ما رواه الدارقطني

(1)

من حديث الحسن البصري، قال: حدثنا عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهى حائض، ثم أراد أن يُتبعها بتطليقتين أُخريين عند القَرائن، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«يا ابن عمر! ما هكذا أمرك الله تعالى، إنك قد أخطأت السّنة، والسنة أن تستقبل الطّهر، فتُطَلِّقَ عند ذلك أو أمسِكْ» . فقلت: يا رسول الله! أرأيت لو طلقتها ثلاثًا، أكان يحلّ لي أن أراجعها؟ قال:«لا، كانت تبين منك، وتكون معصية» .

ومنها: ما رواه أبو داود، والنسائي

(2)

عن حماد بن زيد، قال: قلت

(1)

سنن الدارقطني (4/ 31) عن شعيب بن رزيق عن عطاء الخراساني عن الحسن به، وبهذا الإسناد رواه الطبراني في مسند الشاميين (2455، 2456)، والبيهقي في الكبرى (7/ 330، 334)، وأعلّه ابن حزم في المحلى (10/ 170) بشعيب وقال:«هذا الحديث في غاية السقوط» ، قال البيهقي:«هذه الزيادات التي أتى بها عن عطاء ليست في رواية غيره، وقد تكلّموا فيه» ، وقال في المعرفة (5/ 461):«أتى عطاء في هذا الحديث بزيادات لم يتابَع عليها، وهو ضعيف في الحديث، لا يُقبل منه ما يتفرَّد به» ، وقال المصنف فيما يأتي:«لا ريب أن الثقات الأثبات الأئمّة رووا حديث ابن عمر هذا فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب البتة؛ ولهذا لم يرو حديثَه هذا أحد من أصحاب الصحيح ولا السنن» ، وقوى إسناده الذهبي في التنقيح (2/ 205)، قال ابن عبد الهادي في تنقيحه (4/ 403):«في ذلك نظرٌ، بل الحديث فيه نكارة، وبعض رواته متكلَّم فيه» ، وحكم بنكارته الألباني في الإرواء (2054).

(2)

سنن أبي داود (2206)، سنن النسائي (3410)، سنن الترمذي (1178)، ورواه أيضًا البزار (8572)، والبيهقي في الكبرى (7/ 349)، وصحّحه الحاكم (2824)، قال النسائي:«هذا حديث منكر» ، وتبعه ابن العربي في القبس (2/ 729)، وأعلّه البخاري بالوقف، وأعلّه ابن حزم في المحلى (10/ 119) بذلك وبجهالة كثير، قال البيهقي:«كثير هذا لم يثبت من معرفته ما يوجب قبول روايته، وقول العامة بخلاف روايته» ، وهو في ضعيف سنن أبي داود (379).

ص: 539

لأيوب: هل علمت أحدًا قال في «أمرك بيدك» : إنها ثلاث غيرَ الحسن؟ قال: لا. ثم قال: اللهم غفْرًا، إلا ما حدثني قَتادة عن كثير مولى ابن سمرة، عن أبي سلمة، عن أبى هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ثلاث» . فلقيتُ كثيرًا فسألته، فلم يعرفه، فرجعتُ إلى قتادة فأخبرته، فقال: نسِيَ.

ورواه الترمذي

(1)

، وقال:«لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب، عن حمّاد بن زيد» .

وحسبك بسليمان بن حرب وحماد بن زيد، ثقتين ثبتين.

ومنها: ما رواه البيهقي

(2)

من حديث سُويد بن غَفَلة، عن الحسن: أنه طلق عائشة الخثعميَّة ثلاثًا، ثم قال: لولا أني سمعت جدي، أو حدثني أبي أنه سمع جدي، يقول:«أيّما رجل طلَّق امرأته ثلاثًا عند الأقْراء أو ثلاثًا مُبهمة لم تحلَّ له حتى تنكح زوجًا غيره» لراجعتها.

رواه من حديث ابن حُميد، حدثنا سلمة بن الفَضل، عن عمرو

(3)

بن أبى قيس، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سُويد. وهذا مرفوع.

(1)

برقم (1178).

(2)

سنن البيهقي (7/ 336)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (13/ 251)، ورواه أيضًا الطبراني في الكبير (3/ 91)، والدارقطني (4/ 30)، قال الهيثمي في المجمع (4/ 625):«في رجاله ضعف، وقد وثِّقوا» ، وقال الذهبي في المهذب (6/ 2829):«عجبتُ من سكوت المؤلّف عن هذا الخبر الساقط» . ورواه الدارقطني (4/ 31) من طريق عمرو بن شمر عن عمران بن مسلم وإبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد به، وكلا الإسنادين شديدُ الضعف، وهو في السلسلة الضعيفة (1210، 3776).

(3)

ح، ش:«عمر» .

ص: 540

قالوا: فهذه الأحاديث أكثر وأشهر، وعامَّتها أصحّ من حديث أبى الصهباء، وحديث ابن جُريج، عن عكرمة عن ابن عباس؛ فيجب تقديمها عليه، ولا سيما على قاعدة الإمام أحمد، فإنه يُقدِّم الأحاديث المتعددة على الحديث الفرد عند التعارض، وإن كان الحديث الفردُ متأخرًا، كما قَدّم في إحدى الروايتين أحاديث تحريم الأوعية على حديث بُريدة لكونها متعددة؛ وحديثُ بريدة في إباحتها فرد، وهو متأخّر، فإنه قال:«كنتُ نهيتُكم عن الانتباذ في الأوعية، فاشربوا فيما بدا لكم، غير أن لا تشربوا مُسْكرًا» . مع أنه حديث صحيح، رواه مسلم

(1)

، ولا نعرف له عِلّة.

فصل

قال الآخرون: هذه الأحاديث التي ذكرتموها، ولم تَدَعوا بعدها شيئًا، هي بين أحاديث صحيحة لا مَطعنَ فيها ولا حجةَ فيها، وبين أحاديث صريحة الدلالة، لكنها باطلة أو ضعيفة لا يصح شيء منها. ونحن نذكر ما فيها ليتبيّن الصواب، ويزول الإشكال:

أما حديث فاطمة بنت قيس: فمن أصح الأحاديث، مع أن أكثر المنازعين لنا في هذه المسألة قد خالفوه، ولم يأخذوا به، فأوجبوا للمبتوتة النفقة والسُّكنى، ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه. وأما الشافعي ومالكٌ فأوجبوا لها السكنى. والحديث قد صرّح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى، فخالفوه ولم يعملوا به، فإن كان الحديث صحيحًا وهو حجةٌ فهو حجة عليكم، وإن لم يكن محفوظًا، بل هو غلط كما قاله بعض المتقدمين، فليس حجةً علينا في جمع الثلاث. فأما أن

(1)

برقم (977).

ص: 541

يكون حجة لكم على منازعيكم، وليس حجة لهم عليكم، فبعيدٌ من العدل والإنصاف.

هذا مع أنَّا نتنزَّل على هذا المقام، ونقول: الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من المحتج به، ولو تأمّل طرق الحديث وكيف وقعت القصة لم يحتجَّ به؛ فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة، وإنّما كان قد طلقها تطليقتين قبل ذلك، ثم طلقها آخر الثلاث، كذا جاء مصرّحًا به في «الصحيح» .

فروى مسلم في «صحيحه»

(1)

عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة: أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبى طالب رضي الله عنه إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقةٍ كانت بقيَتْ من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام وعيّاش بن أبى ربيعة بنفقة، فقالا لها: والله ما لكِ نفقة إلا أن تكوني حاملاً، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له قولهما، فقال:«لا نفقةَ لك» وساق الحديث بطوله.

فهذا المفسَّرُ يُبَيِّن ذلك المجمَل، وهو قوله: طلَّقها ثلاثًا.

وقال الليث

(2)

: عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس، أنها أخبرته أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلَّقها آخر ثلاث تطليقات، وساق الحديث.

(1)

برقم (1480).

(2)

رواية اللّيث هذه أخرجها أيضًا مسلم (1480) ولم يذكر لفظها، وإنما أحال على الرواية التي قبلها فقال:«مثلَه» ، أي: مثل رواية صالح عن ابن شهاب.

ص: 542

ذكره أبو داود

(1)

، ثم قال: «وكذلك رواه صالح بن كَيسان

(2)

، وابن جُريج

(3)

، وشعيب بن أبي حمزة

(4)

؛ كلهم عن الزّهري».

ثم ساق

(5)

من طريق عبد الرزاق، عن مَعْمر، عن الزهري، عن عبيد الله، قال: أرسل مَروان إلى فاطمة فسألها؟ فأخبرته: أنها كانت عند أبي حفص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمّر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على بعض اليمن، فخرج معه زوجها، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وذكر الحديث بتمامه.

والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصةُ بن ذُؤيب، كذلك ذكره أبو داود من طريق أخرى

(6)

.

(1)

سنن أبي داود (2291).

(2)

رواية صالح هذه أخرجها مسلم (1480) عنه عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة فطلَّقها آخر ثلاث تطليقات، الحديث.

(3)

رواية ابن جريج هذه أخرجها عبد الرزاق (7/ 20)، وأحمد (6/ 416)، والطبراني في الكبير (24/ 366)، والدارقطني (4/ 29)، إلا أنّه جاء فيها عندهم جميعًا تسميةُ زوجها بأبي عمرو بن حفص بن المغيرة.

(4)

لم أقف على روايةٍ لشعيب عن الزهري عن أبي سلمة بهذا الحديث، والذي وقفتُ عليه ما رواه النسائي (3552) والطبراني في مسند الشاميين (3126) عنه عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن فاطمة بنت قيس به، وفيه أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، وأنه أرسل إليها بتطليقة وهي بقيّة طلاقها.

(5)

سنن أبي داود (2292). ورواية عبد الرزاق هذه أخرجها أيضًا مسلم (1480/ 41) إلا أنّه جاء فيها تسميةُ زوجها بأبي عمرو بن حفص بن المغيرة.

(6)

بيان أن الواسطةَ قبيصة هو في رواية عبد الرزاق نفسِها، وهو كذلك في صحيح مسلم، والله أعلم.

ص: 543

فهذا بيان حديث فاطمة.

قالوا: ونحن أخذنا به جميعه، ولم نخالف شيئًا منه؛ إذ كان صحيحًا صريحًا، لا مطعن فيه، ولا معارض له، فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار.

وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ: طلقها ثلاثًا، وطلقها البتة، وطلقها آخر ثلاث تطليقات، وأرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وطلقها ثلاثًا جميعًا. هذه جملة ألفاظ الحديث، وبالله التوفيق.

فأما اللفظ الخامس وهو قوله: «طلقها ثلاثًا» ، فهذا أولاً من حديث مُجالد عن الشعبي، ولم يقل ذلك عن الشعبي غيره، مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبي، فتفرَّد مُجالد

(1)

على ضَعْفه من بينهم بقوله: ثلاثًا جميعًا.

وعلى تقدير صحته: فالمراد به أنه اجتمع لها التطليقات الثلاث، لا أنها وقعت بكلمة واحدة، فإذا طلقها آخر ثلاث صحَّ أن يقال: طلقها ثلاثًا جميعًا؛ فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد، وهو الأغلب عليها، لا الاجتماع في الآن الواحد، كقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، فالمراد حصول الإيمان من الجميع، لا إيمانهم كلِّهم في آنٍ واحد سابِقِهم ولاحِقِهم.

(1)

تقدم بيان عدم تفرد مجالد بهذا اللفظ.

ص: 544

فصل

وكذلك ما ذكروه من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً طلق امرأته ثلاثًا، فسُئل النبي صلى الله عليه وسلم: هل تَحِلّ للأول؟ فقال: «لا» الحديث، هو حقٌّ يجب المصير إليه، لكن ليس فيه أنه طلقها ثلاثًا بفَمٍ واحد، فلا تُدخلوا فيه ما ليس فيه.

وقولكم: «لم يستفصل» ، جوابه: أن الحال قد كان عندهم معلومًا، وأن الثلاث إنما تكون ثلاثًا واحدةً بعد واحدة، وهذا مقتضى اللغة، والقرآن، والشرع، والعُرف كما بيّنا؛ فخرج الكلام على المفهوم المتعارف من لغة القوم.

فصل

وأما ما اعتمد عليه الشافعي من طلاق الملاعن ثلاثًا بحَضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكره، فلا دليل فيه؛ لأن الملاعنة يَحْرُمُ عليه إمساكها، وقد حُرِّمت عليه تحريمًا مؤبدًا، فما زاد الطلاقُ الثلاث هذا التحريم الذي هو مقصود اللعان إلا تأكيدًا وقوة.

هذا جواب شيخنا رحمه الله.

وقال ابن المنذر، وقد ذكر الأدلة على تحريم جمع الطلاق الثلاث وأنه بِدعَة، ثم قال:«وأما ما اعْتَلّ به من رأى أن مُطَلِّق الثلاث في مرة واحدة مُطلِّق للسنة بحديث العَجلاني؛ فإنما أوقع الطلاق عنده على أجنبيةٍ، علم الزوج الذي طلّق ذلك أو لم يعلم؛ لأن قائله يوقع الفرقة بالْتِعان الرجل قبل أن تلتعن المرأة، فغير جائز أن يحتج بمثل هذه الحجة من يرى أن الفرقة تقع بالْتِعانِ الزوج وحده» . انتهى.

ص: 545

وحينئذٍ فنقول: إما أن تقع الفرقة بالْتِعان الزوج وحده، كما يقوله الشافعي، أو بالْتِعانهما كما يقوله أحمد، أو يقف على تفريق الحاكم:

فإن وقعت بالْتِعانِه أو الْتِعانهما فالطلاق الذي وقع منه لَغوٌ، لم يُفد شيئًا البتة، بل هو في طلاق أجنبية.

وإن وقعت الفرقة على تفريق الحاكم فهو يفرِّق بينهما تفريقًا يُحرِّمها عليه تحريمًا مؤبدًا، فالطلاق الثلاث أكّد هذا التحريم الذي هو موجَب اللعان، ومقصود الشارع، فكيف يُلحق به طلاق غير الملاعنة، وبينهما أعظم فرق؟

فصل

وأما حديث محمود بن لَبيد في قصة المطلق ثلاثًا، فالاحتجاج به على الجواز من باب قَلْبِ الحقائق، والاحتجاج بأعظم ما يدل على التحريم، لا على الإباحة. والاستدلال به على الوقوع من باب التكهنّ والخَرص، والزيادة في الحديث ما ليس فيه، ولا يدل عليه بشيءٍ من وجوه الدلالات البتة.

ولكن المقلِّد لا يُبالي بنُصرة تقليده بما اتفق له، وكيف يُظَنّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله، وصحَّحه، واعتبره في شرعه وحُكمه، ونفَّذه؟ وقد جعله مستهزئًا بكتاب الله تعالى. وهذا صريحٌ في أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع جمع الثلاث، ولا جعله من أحكامه.

ص: 546

فصل

وأما حديث رُكانة أنه طلق امرأته البتة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلفه: ما أراد بها إلا واحدة؟ فحديث لا يصح.

قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب «العلل»

(1)

له: «قال أحمد: حديث ركانة ليس بشيء» .

وقال الخَلّال في كتاب «العلل» عن الأثْرَم: «قلت لأبى عبد الله: حديث ركانة في البتّة؟ فضعفه، وقال: ذاك جعله بنيَّته» .

وقال شيخنا رحمه الله

(2)

: «الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث كالإمام أحمد، والبخاري، وأبى عُبيد، وغيرهم، ضعَّفوا حديث ركانة البتة؛ وكذلك أبو محمد بن حَزم، وقالوا: إن رُوَاتَهُ قوم مجاهيل، لا تعرف عدالتهم وضبْطُهم» .

قال: «وقال الإمام أحمد: حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا يثبت، وقال أيضًا: حديث ركانة في البتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عِكرمة، عن ابن عباس: أن رُكانة طلق امرأته ثلاثًا؛ وأهل المدينة يُسَمّون من طلق ثلاثًا طلق البتة» .

فإن قيل: فقد قال أبو داود: «حديث البتة أصح من حديث ابن جُريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا؛ لأنهم أهل بيته وهم أعلم به» ؛ يعني: وهم الذين رووا حديث البتة.

(1)

العلل المتناهية (2/ 150).

(2)

انظر مجموع الفتاوى (33/ 15).

ص: 547

فقال شيخنا في الجواب: «أبو داود إنما رجّح حديث البتة على حديث ابن جريج، لأنه روى حديث ابن جريج من طريق فيها مجهول، فقال: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني بعض ولد أبي رافع، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلق عبد يزيد ــ أبو ركانة وإخوتِه ــ أمَّ ركانة ثلاثًا

الحديث

(1)

. ولم يرو الحديث الذي رواه أحمد في «مسنده»

(2)

عن إبراهيم بن سعد: حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثنا داود بن الحُصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: طلق رُكانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا في مجلسٍ واحد.

فلهذا رجّح أبو داود حديث الْبَتّة على حديث ابن جُريج، ولم يتعرّض لهذا الحديث، ولا رواه في «سُننه» . ولا ريب أنه أصحُّ من الحديثين، وحديث ابن جريج شاهد له وعاضد، فإذا انضمّ حديث أبي الصهباء إلى حديث ابن إسحاق إلى حديث ابن جريج مع اختلاف مخارجها، وتعدّد طرقها= أفادت العلم بأنها أقوى من حديث البتة بلا شك.

ولا يمكن من شَمَّ روائحَ الحديث ولو على بُعْدٍ أن يرتاب في ذلك، فكيف يقدِّم الحديث الضعيف الذي ضعَّفه الأئمة ورواته مجاهيل، على هذه الأحاديث؟».

فصل

وأما حديث مُعاذ بن جبل: فلقد وَهَت مسألةٌ يُحتجّ فيها بمثل هذا الحديث الباطل.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 548

والدارقطني إنما رواه للمعرفة، وهو أجلّ من أن يَحْتَجَّ به. وفى إسناده إسماعيل بن أميّة الذَّارع، يرويه عن حَمَّاد، قال الدارقطني بعد روايته:«وإسماعيل بن أمية: متروك الحديث»

(1)

.

فصل

وأما حديث عُبادة بن الصّامت الذي رواه الدارقطني: فقد قال عَقِيبَ إخراجه: «رواته مجهولون وضعفاء إلا شيخنا وابن عبد الباقي»

(2)

.

فصل

وأما حديث زاذان عن عليٍّ رضي الله عنه: فيرويه إسماعيل بن أميّة القُرشي، قال الدارقطني:«إسماعيل بن أمية هذا كوفي ضعيف الحديث»

(3)

.

قلت: وفى إسناده مجاهيل وضعفاء.

فصل

وأما حديث الحسن عن ابن عمر: فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف.

قال الدارقطني

(4)

: حدثنا على بن محمد بن عُبَيد الحافظ، حدثنا محمد بن شاذان الجوهَرِيّ، حدثنا معلى بن منصور، حدثنا شعيب بن رُزَيْقٍ، أن عطاءً الخرسانى حدّثهم، عن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن عمر، فذكره.

(1)

سنن الدارقطني (5/ 37) ط. مؤسسة الرسالة.

(2)

المصدر نفسه (5/ 37).

(3)

المصدر نفسه (5/ 38).

(4)

سنن الدارقطني (5/ 56، 57). وقد سبق تخريجه والكلام عليه.

ص: 549

وشعيب، وثّقه الدارقطني. وقال أبو الفتح الأزديّ:«فيه لِينٌ» . وقال البيهقي

(1)

وقد روى هذا الحديث: «هذه الزيادات انفرد بها شعيب، وقد تكلّموا فيه» . انتهى.

ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر هذا، فلم يأتِ أحد منهم بما أتى به شعيب البتة، ولهذا لم يروِ حديثَهُ هذا أحدٌ من أصحاب «الصحيح» ولا «السنن» .

فصل

وأما حديث كثير مولى سَمُرة، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة: فقد أنكره كثير لمّا سُئل عنه، ومثل هذا بعيد أن يُنسى، وقد أعَلّ البيهقي هذا الحديث، وقال

(2)

: «كثير لم يَثْبُتْ من معرفته ما يوجب الاحتجاج به» ، قال:«وقول العامة بخلاف روايته» .

وقد ضعفه عبد الحق في «أحكامه»

(3)

، وابن حزم في كتابه

(4)

.

فصل

وأما حديث سُويد بن غَفَلة عن الحسن: فمن رواية محمد بن حُميد الرازي، قال أبو زُرعة الرّازى:«كذاب» . وقال صالح جَزَرة: «ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن الشاذَكُوني» .

(1)

السنن الكبرى (7/ 330).

(2)

المصدر نفسه (7/ 349).

(3)

الأحكام الوسطى (3/ 196).

(4)

المحلى (10/ 119).

ص: 550

وسَلَمَة بن الفضل، قال أبو حاتم:«منكر الحديث» . وإن كان الأبرش فقد ضعفّه إسحاق بن راهَويه وغيره.

فصل

فلما رأى آخرون ضَعْفَ هذه المسالك استَرْوحوا إلى مسلك آخر، وظنُّوا أنهم قد استراحوا به من كُلفة التأويل ومشَقّته، فقالوا: الإجماع قد انعقد على لزوم الثلاث، وهو أكبر من خبر الواحد، كما قال الشافعي رحمه الله:«الإجماع أكبر من الخبر المنفرد» ، وذلك أن الخبر يجوز الخطأ والوهم على راويه، بخلاف الإجماع؛ فإنه معصوم.

قالوا: ونحن نسوق عن الصحابة والتابعين ما يبين ذلك:

فثبت في «صحيح مسلم»

(1)

: أن عمر رضي الله عنه أمضى عليهم الثلاث، ووافقه الصحابة.

قال سعيد بن منصور

(2)

: حدثنا سفيان، عن شقيق، سمع أنسًا يقول: قال عمر في الرجل يطلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها؛ قال: هي ثلاث، لا

(1)

برقم (1472).

(2)

سنن ابن منصور (1074)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (7/ 334). ورواه عبد الرزاق ــ كما في تخريج الكشاف للزيلعي (4/ 49) ــ والطحاوي في شرح المعاني (4150) عن ابن عيينة به، ورواه ابن منصور (1073) ــ ومن طريقه الطحاوي في شرح المعاني (4148) ــ عن أبي عوانة عن شقيق به، وصحّح إسناده ابن حجر في الفتح (9/ 362)، والصنعاني في السبل (3/ 173)، ورواه ابن أبي شيبة (4/ 61) عن علي بن مسهر عن شقيق بن أبي عبد الله به، لكن ليس فيه التقييد بما قبل الدخول.

ص: 551

تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره، وكان إذا أُتِيَ به أوْجعه.

وروى البيهقي

(1)

من حديث ابن أبي لَيلى، عن علي رضي الله عنه فيمن طلّق ثلاثًا قبل الدخول، قال: لا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره.

وروى حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي: لا تحلُّ له حتى تنكح زوجًا غيره

(2)

.

وروى أبو نُعيم، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن بعض أصحابه: جاء رجلٌ إلى عليٍّ رضي الله عنه، فقال: طلّقتُ امرأتي ألفًا، فقال: ثلاثٌ تُحرِّمها عليك، واقسِمْ سائرها بين نسائك

(3)

.

وقال عَلْقَمَة بن قيس

(4)

: أتى رجلٌ ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: إن

(1)

السنن الكبرى (7/ 334) من طريق الحسن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به، ورواه سعيد بن منصور (1096) عن هشيم عن ابن أبي ليلى عن رجل حدثه عن أبيه عن علي به.

(2)

رواه ابن أبي شيبة (4/ 66)، والبيهقي في الكبرى (7/ 335).

(3)

رواه البيهقي في الكبرى (7/ 335)، ورواه ابن أبي شيبة (4/ 62) عن ابن فضيل عن الأعمش عن حبيب عن رجل من أهل مكة عن علي، وعن وكيع عن الأعمش عن حبيب عن عليّ.

(4)

رواه عبد الرزاق (6/ 394)، وابن أبي شيبة (4/ 63)، والدارمي (110)، والطبراني في الكبير (9/ 325، 326)، والبيهقي في الكبرى (7/ 335) واللفظ له، وغيرهم من طرقٍ عن محمد بن سيرين عن علقمة به، واقتصر ابن أبي شيبة على قصّة الذي طلّق عددَ النجوم، قال الهيثمي في المجمع (4/ 623):«رجاله رجال الصحيح» ، وقال ابن حجر في المطالب (1701):«هذا إسناد صحيح إن كان ابن سيرين سمعه من علقمة، وقد وقع التصريح بتحديثٍ له بهذا الحديث في رواية البيهقي» ، وكذا في روايتَي الطبراني.

ص: 552

رجلاً طلق امرأته البارحة مئةً، قال: قُلتَها مرةً واحدة؟ قال: نعم. قال: تُريد أن تبين منك امرأتك؟ قال: نعم، قال: هو كما قلت.

وأتاه رجلٌ، فقال: إنه طلق امرأته البارحة عددَ النّجوم، فقال له مثل ذلك، ثم قال: قد بَيّن الله سبحانه أمر الطلاق، فمن طلّق كما أمره الله تعالى فقد بُيِّن له، ومن لبّس جعلنا به لَبْسه، والله لا تُلبِّسون إلا على أنفسكم، ونَتَحمّلُه عنكم! هو كما تقولون.

وروى مالك في «الموطأ»

(1)

عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثَوبان، عن محمد بن إياس بن البُكير، قال: طلّق رجل امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، ثم بدا له أن يَنكحها، فجاء يسْتَفتي، فذهبتُ معه أسأل له، فسأل أبا هريرة وابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، فقالا له: لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجًا غيرك، قال: إنما كان طلاقي إياها واحدةً، فقال ابن عباس: إنك قد أَرْسَلْتَ مِنْ يَدِكِ ما كان لك من فضل.

وفى «الموطأ»

(2)

أيضًا في هذه القصة: أن ابن البُكير سأل عنها ابن

(1)

الموطأ (1180)، وعنه الشافعي (464، 1297)، والفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 220)، والطحاوي في شرح المعاني (4137)، والبيهقي في الكبرى (7/ 335، 337). ورواه عبد الرزاق (6/ 333) عن ابن جريج، والطحاوي (4139) من طريق ابن أبي ذئب، كلاهما عن ابن شهاب به مختصرًا مضافًا إليهما ابن عمر رضي الله عنهم.

(2)

الموطأ (1182) عن يحيى بن سعيد عن بكير بن عبد الله عن معاوية بن أبي عياش بالقصّة، وعنه الشافعي (1299)، والطحاوي في شرح المعاني (4138)، والبيهقي في الكبرى (7/ 335، 355)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1909). ورواه ابن أبي شيبة (4/ 67) من طريق يحيى بإسناده عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة بالحكم دون القصة، ومن طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن محمد بن إياس بن بكير عن الثلاثة بالحكم دون القصة. ورواه عبد الرزاق (6/ 334) عن عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن ابن عباس وأبي هريرة بنحوه، وأعله ابن حزم في المحلى (10/ 176) بابن راشد.

ص: 553

الزبير، فقال: إن هذا أمرٌ مالنا فيه قول، اذهب إلى ابن عباس وأبى هريرة؛ فإني تركتهما عند عائشة، فاسألهما ثم ائْتِنا فأخبرنا، فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لأبى هريرة: أفْتِه يا أبا هريرة! فقد جاءتك مُعضلة، فقال أبو هريرة: الواحدةُ تُبينها، والثلاثُ تحرِّمهَا، حتى تنكح زوجًا غيره، وقال ابن عباس مثل ذلك.

فهذه عائشة رضي الله عنها لم تنكر عليهما، ولا ابنُ الزبير.

وفى «الموطأ»

(1)

أيضًا: عن النعمان بن أبي عَيّاش عن عطاء بن يسار، قال: جاء رجل يستفتي عبد الله بن عَمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يَمَسّها، قال عطاء: فقلت: إنما طلاقُ البكر واحدة، فقال لي عبد الله: إنما أنت قاصّ! الواحدة تبينها، والثلاث تُحرِّمها، حتى تنكح زَوجًا غيره.

(1)

الموطأ (1181) عن يحيى بن سعيد عن بكير بن عبد الله عن النعمان به، وعنه الشافعي (465، 1298)، وعبد الرزاق (6/ 334)، والطحاوي في شرح المعاني (4146)، والبيهقي في الكبرى (7/ 335). ورواه سعيد بن منصور (1095) وابن أبي شيبة (4/ 66) والفسوي مختصرًا في المعرفة والتاريخ (1/ 302) من طرق عن يحيى عن بكير عن عطاء به. قال ابن عبد البر في الاستذكار (6/ 111):«أنكر مسلم إدخالَ مالكٍ فيه بين بكير وعطاء بن يسار النعمانَ، وقال: لم يتابع مالكًا أحدٌ من أصحاب يحيى على ذلك» .

ص: 554

وروى عبيد الله

(1)

عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، لم تحِلّ له حتى تنكح زوجًا غيره.

وروى البيهقي

(2)

من حديث معاذ بن معاذ: حدثنا شُعبة، عن طارق بن عبد الرحمن: سمعتُ قيس بن أبي حازم، قال: سأل رجلٌ المغيرة وأنا شاهدٌ عن رجل طلق امرأته مئةً، فقال: ثلاثة تحرّم، وسبعٌ وتسعون فَضْلٌ.

وروى البيهقي

(3)

عن سُويد بن غَفَلة، قال: كانت عائشة الخثْعَميّةُ عند الحسن، فلما قُتل عليّ رضي الله عنه قالت: لتَهْنِك الخلافة! قال: بقتل عليٍّ تُظهرين الشماتة؟ اذهبي فأنت طالق، يعني ثلاثًا، فَتلَفّعَت بثيابها، وقعدت حتى قضَت عِدّتها، فبعث إليها ببقيةٍ بقيت لها من صداقها، وعشرة آلافٍ صدقةً، فقالت لما جاءها الرسول: متاعٌ قليل من حبيبٍ مفارق، فلمّا بَلَغَهُ قولُها بَكَى، وقال: لولا أني سمعت جدي، أو حدثني أبي أنه سمع جدي، يقول:«أيما رجل طلّق امرأته ثلاثًا عند الأقراء، أو ثلاثة مُبْهَمة، لم تحِلّ له حتى تنكح زوجًا غيره» لراجعتُها.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن

(1)

رواه عبد الرزاق (6/ 331) والبيهقي في الكبرى (7/ 335) عن سفيان عن عبيد الله به، ورواه عبد الرزاق (6/ 331) عن عبد الله بن عمر عن نافع به.

(2)

السنن الكبرى (7/ 336)، ورواه ابن أبي شيبة (4/ 62) عن غندر عن شعبة به.

(3)

في السنن الكبرى (7/ 337)، وتقدم تخريجه.

(4)

العلل ومعرفة الرجال (5664)، وعنه العقيلي في الضعفاء (3/ 401)، وصحّحه ابن حزم في المحلى (10/ 180)، لكن أبو البَختَري لم يدرك عليًّا. ورواه ابن أبي شيبة (4/ 91، 93، 94، 95) وأحمد في العلل (5666) ــ وعنه العقيلي (3/ 401) ــ والدارقطني (4/ 32) من طريق عطاء عن الحسن عن علي، قال ابن الجوزي في التحقيق (1706):«الحسن لم يسمع من عَلي» . ورواه الشافعي في الأم (7/ 172) وعبد الرزاق (6/ 356) وابن منصور (1678) من طريق إبراهيم عن علي. ورواه عبد الرزاق (6/ 359) عن معمر عن قتادة عن علي. ورواه البيهقي في الكبرى (7/ 344) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن علي به، ومن طريق أبي سهل عن الشعبي عن علي لكن جعله في هذه الرواية بمنزلة الثلاث إذا نوى، قال البيهقي:«الرواية الأولى أصحّ إسنادًا» .

ص: 555

عطاء بن السائب، عن علي رضي الله عنه أنه قال في الحرام، والبتّة، والبائن، والخليّة، والبَرِيّة: ثلاثًا، ثلاثًا.

قال شعبة: فلقيت عطاءً، فقلت: مَن حَدّثك عن علي؟ قال: أبو البَخْتَرِي.

قال أحمد: وأنا أهابُها، لا أجيب فيها؛ لأنه يُروى عن عامة الناس أنها ثلاث: علي، وزيد

(1)

، وابن عمر، وعامة التابعين.

وأما ابن عباس: فروى عنه مجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البُكير، ومعاوية بن أبي عياش، وغيرهم، أنه ألزم الثلاث مَنْ أوقعها جملة

(2)

.

قال الإمام أحمد وقد سأله الأثرم: بأيّ شيءٍ تَرُدُّ حديث ابن عباس: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر رضي عنهما: طلاق الثلاث واحدةً، بأي شيء تدفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافَه، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث، وإلى هذا نذهب.

(1)

الرواية عن زيد بن ثابت أخرجها عبد الرزاق (6/ 336، 337) وسعيد بن منصور (1080) من طرق عن مطرف عن الحكم عنه.

(2)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي (7/ 337).

ص: 556

وذكر البيهقي

(1)

: أن رجلاً أتى عِمران بن حُصين وهو في المسجد، فقال: رجل طلّق امرأته ثلاثًا في مجلس، فقال: أَثِمَ بربِّه، وحرمت عليه امرأته، فانطلق الرجل، فذكر ذلك لأبي موسى، يريد بذلك عَيْبه، فقال: ألا تَرى أن عمران قال كذا وكذا؟ فقال أبو موسى: أكثر اللهُ فينا مثلَ أبي نُجَيْدٍ.

قالوا: فهذا عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعمران بن حصين، والمغيرة بن شعبة، والحسن بن علي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

وأما التابعون فأكثر من أن يذكروا، والإجماع يَثبت بدون هذا، ولهذا حكاه غير واحد منهم أبو بكر بن العَرَبي

(2)

وأبو بكر الرازي

(3)

، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، فإنه قال في رواية الأثرم، وذكر قول من قال: إذا خالف السنة يُرَدّ إلى السنة، وليس بشيء، وقال: هذا مذهب الرافضة.

وظاهر هذا: أن القول بالوقوع إجماع أهل السنة.

وقال الآخرون: قد عرفتم ما في دعوى الإجماع الذي لم يُعلم له مخالف، أنه راجع إلى عدم العلم، لا إلى العلم بانتفاء المخالف، وعدم

(1)

السنن الكبرى (7/ 332) من طريق حميد الطويل عن واقع بن سحبان عن عمران، وبهذا الإسناد رواه ابن أبي شيبة (4/ 60) مختصرًا ليس فيه ذهابُه إلى أبي موسى، والدولابي في الكنى (340، 489)، والحاكم (5996)، وقد وقع في بعض هذه المصادر المطبوعة: رافع بن سحبان، وهو تحريف.

(2)

أحكام القرآن (1/ 191).

(3)

هو الجصاص، انظر: أحكام القرآن له (1/ 388).

ص: 557

العلم ليس بعلم حتى يحتجّ به ويُقدَّم على النصوص الثابتة! هذا إذا لم يُعلم مخالفٌ، فكيف إذا عُلم المخالف؟

وحينئذ فتكون المسألةُ مسألةَ نزاعٍ يجب رَدُّها إلى الله تعالى ورسوله، ومن أبى ذلك فهو إما جاهل مُقَلد، وإما مُتَعصب صاحب هَوًى، عاصٍ لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، مُتعرِّضٌ لِلُحُوق الوعيد به؛ فإن الله تعالى يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59].

فإذا ثبت أن المسألة مسألة نزاع وجب قطعًا ردُّها إلى كتاب الله وسنة رسوله، وهذه المسألة مسألة نزاع بلا نزاع بين أهل العلم الذين هم أهلُه، والنزاع فيها من عَهْد الصحابة إلى وقتنا هذا. وبيان هذا من وجوه:

أحدها: ما رواه أبو داود

(1)

وغيره من حديث حَمّاد بن زَيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا قال أنت طالق ثلاثًا بفمٍ واحد فهي واحدة.

وهذا الإسناد على شرط البخاري.

وقال عبد الرزاق

(2)

: أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، قال: دخل الحَكَمُ بن عُتيبة

(3)

على الزهري بمكة، وأنا معهم، فسألوه عن البِكْر تُطَلَّق ثلاثًا، فقال: سُئل عن ذلك ابنُ عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن عَمرو، فكلّهم قالوا: لا

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

مصنف عبد الرزاق (6/ 335).

(3)

م، ش:«عيينة» تصحيف.

ص: 558

تَحِلّ له حتى تنكح زوجًا غيره، قال: فخرج الحكمُ وأنا معه، فأتى طاوسًا وهو في المسجد، فأكبَّ عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها، وأخبره بقول الزهري، قال: فرأيت طاوسًا رفع يديه تَعَجُّبًا من ذلك، وقال: والله ما كان ابنُ عباس يجعلها إلا واحدةً.

أخبرنا ابن جُريج

(1)

، قال: وأخبرني حسن بن مسلم، عن ابن شهاب، أن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا، ولم يَجمع كنّ ثلاثًا، قال: فأخبرت طاوسًا، فقال: أشهدُ ما كان ابن عباس يَراهُنّ إلا واحدة.

فقوله: إذا طلق ثلاثًا ولم يجمع كن ثلاثًا، أي: إذا كُنّ متفرقات، فدلّ على أنه إذا جمعهن كانت واحدة، وهذا هو الذي حلف عليه طاوس أن ابن عباس كان يجعله واحدة.

ونحن لا نشك أن ابن عباس صحّ عنه خلاف ذلك، وأنها ثلاث، فهما روايتان ثابتتان عن ابن عباس بلا شك.

الوجه الثاني: أن هذا مذهبُ طاوس.

قال عبد الرزاق

(2)

: أخبرنا ابن جُريج، عن ابن طاوس، عن أبيه: أنه كان لا يرى طلاقًا ما خالف وجهَ الطلاق، ووجه العِدّة، وأنه كان يقول: يُطلقها واحدة، ثم يَدَعُها حتى تنقضي عدتها.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة

(3)

: حدثنا إسماعيل بن عُلَيّةَ، عن ليثٍ، عن

(1)

مصنف عبد الرزاق (6/ 335).

(2)

مصنف عبد الرزاق (6/ 302)، وصحّحه المصنف في الصواعق (2/ 628).

(3)

مصنف ابن أبي شيبة (4/ 69)، ورواه عبد الرزاق (6/ 336) عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه في الرجل يطلق امرأته بكرا ثلاثًا قبل أن يدخل بها قال: سواء هي واحدة على كلّ حال، أي: سواء جمعها أو فرّقها.

ص: 559

طاوس وعطاء، أنهما قالا: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها فهي واحدة.

الوجه الثالث: أنه قول عطاء بن أبي رباح.

قال ابن أبي شيبة

(1)

: حدثنا محمد بن بشر

(2)

، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن طاوس وعطاء وجابر بن زيد، أنهم قالوا: إذا طلقها ثلاثًا قبل أن يدخل بها فهي واحدة.

الوجه الرابع: أنه قول جابر بن زيد كما تقدم.

الوجه الخامس: أن هذا مذهب محمد بن إسحاق، عن داود بن الحُصين، حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم.

ولفظه: حدثنا سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عِكرمة، عن ابن عباس: أن رُكانة طلق امرأته ثلاثًا، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة

(3)

.

قال أبو عبد الله: «وكان هذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السّنة، فَيُرَدّ إلى السنة» .

الوجه السادس: أنه مذهب إسحاق بن راهَوَيه في البِكر.

(1)

مصنف ابن أبي شيبة (4/ 69)، ورواه سعيد بن منصور (1077) عن سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء وجابر بن زيد به.

(2)

ح: «لبيد» .

(3)

تقدّم تخريجه.

ص: 560

قال محمد بن نصر المروزي في كتاب «اختلاف العلماء»

(1)

له: وكان إسحاق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأول حديث طاووس عن ابن عباس ــ كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر يُجعل واحدة ــ على هذا.

قال: فإن قال لها ولم يدخل بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؛ فإن سفيان، وأصحاب الرأي، والشافعي، وأحمد، وأبا عبيد

(2)

قالوا: بانَتْ منه بالأولى، وليست الثنتان بشيءٍ؛ لأن غير المدخول بها تَبِين بواحدة، ولا عدّة عليها.

وقال مالك، وربيعة، وأهل المدينة، والأوزاعي، وابن أبي ليلى: إذا قال لها ثلاث مرات: أنت طالق، نَسَقًا متتابعة، حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، فإن هو سكت بين التطليقتين بانت بالأُولى، ولم تلحقها الثانية.

فصار في وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاثة مذاهب للصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم:

أحدها: أنها واحدة، سواءً قالها بلفظ واحد أو بثلاثة ألفاظ.

والثاني: أنها ثلاث، سواءً أَوْقَعَ الثلاث بلفظ واحد أو بثلاثة ألفاظ.

والثالث: أنه إن أوقعها بلفظ واحد فهي ثلاث، وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهي واحدة.

الوجه السابع: أن هذا مذهب عمرو بن دينار في الطلاق قبل الدخول.

(1)

(ص 133).

(2)

في بعض النسخ: «أبا عبيدة» تصحيف.

ص: 561

قال ابن المنذر في كتابه «الأوسط» : «وكان سعيد بن جُبير، وطاوس، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار يقولون: من طلق البكر ثلاثًا فهي واحدة»

(1)

.

الوجه الثامن: أنه مذهب سعيد بن جبير، كما حكاه ابن المنذر وغيره عنه، وحكاه الثعلبي عن سعيد بن المسيب.

وهو غلط عليه، إنما هو مذهب سعيد بن جبير.

الوجه التاسع: أنه مذهب الحسن البصري الذي استقرّ عليه.

قال ابن المنذر: «واختلف في هذا الباب عن الحسن: فرُوي عنه كما رُوِّيناه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر قَتادة، وحُميد، ويونس عنه أنه رجع عن قوله بعد ذلك، فقال: واحدة بائنة» .

وهذا الذي ذكره ابن المنذر رواه عبد الرزاق في «المصنف»

(2)

، فقال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: سألتُ الحسن عن الرجل يطلِّق البكر ثلاثًا، فقالت أم الحسن: وما بعد الثلاث؟ فقال: صدقت، وما بعد الثلاث؟ فأفتى الحسن بذلك زمنًا، ثم رجع، وقال: واحدةٌ تبينها، ويخطُبُها. فقاله حياتَهُ.

الوجه العاشر: أنه مذهب عطاء بن يسار.

قال عبد الرزاق

(3)

: وأخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد، عن بُكير، عن

(1)

رواه عبد الرزاق (6/ 335) عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن طاوس وعطاء وأبي الشعثاء.

(2)

مصنف عبد الرزاق (6/ 332).

(3)

مصنف عبد الرزاق (6/ 334). وقد تقدم تخريجه.

ص: 562

نُعمان بن أبي عياش، قال: سأل رجل عطاء بن يسار عن الرجل يطلِّق البكر ثلاثًا، فقال: إنما طلاق البكر واحدة، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص: أنت قاصّ، الواحدة تُبينها، والثلاث تحرِّمها، حتى تنكح زوجًا غيره».

فذكر عطاءٌ مذهبه، وعبد الله بن عمرٍو مذهبه.

الوجه الحادي عشر: أنه مذهب خِلَاس بن عمرو، حكاه بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، عنه.

الوجه الثاني عشر: أنه مذهب محمد بن مقاتل الرازي، حكاه عنه المازري في كتابه «المعلم بفوائد مسلم»

(1)

.

قال الخطيب

(2)

: حدث عن عبد الله بن المبارك، وعَبّاد بن العوّام، ووَكيع بن الجرّاح، وأبي عاصم النبيل، روى عنه الإمام أحمد، والبخاري في «صحيحه» . وكان ثقة.

الوجه الثالث عشر: أنه إحدى الروايتين عن مالك، حكاها عنه جماعة من المالكية، منهم التلمساني صاحب «شرح الجلّاب» ، وعزاها إلى ابن أبي زيد، أنه حكاها رواية عن مالك، وحكاها غيره قولاً في مذهب مالك، وجعله شاذًّا.

الوجه الرابع عشر: أن ابن مُغيث المالكي حكاه في كتاب «الوثائق»

(3)

(1)

(2/ 126 ـ 130).

(2)

تاريخ بغداد (3/ 275). وهنا ترجمة محمد بن مقاتل المروزي، وهو غير الرازي، وقد نبَّه ابن حجر على وهم المؤلف في «لسان الميزان» (7/ 518).

(3)

المطبوع بعنوان «المقنع في علم الشروط» (ص 80 ــ 81).

ص: 563

له، وهو مشهور عند المالكية عن بضعة عشر فقيهًا من فقهاء طُلَيْطِلَة المفتين على مذهب مالك، هكذا قال، واحتج لهم بأن قوله: أنت طالق ثلاثًا كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثًا، ولم يطلق إلا واحدة، كما لو قال: أحلف ثلاثًا كانت يمينًا واحدة، ثم ذكر حججهم من الحديث.

الوجه الخامس عشر: أن أبا الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم اللَّخمي المتيطي، صاحب كتاب «الوثائق الكبير» ، الذي لم يُصنَّف في الوثائق مثله، حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف، حتى عن المالكية أنفسهم، فقال:«وأما من قال: أنت طالق ثلاثًا، فقد بانت منه، قال البتة أو لم يقل» .

قال: «وقال بعض الموثِّقين ــ يريد المصنفين في الوثائق ــ: اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مُطَلِّقٌ، كَمْ يلزمه من الطلاق؟ فالجمهور من العلماء: على أنه يلزمه الثلاث، وبه القضاء، وعليه الفتوى، وهو الحق الذي لا شك فيه» .

قال: «وقال بعض السلف: يلزمه من ذلك طلقة واحدة، وتابعهم على ذلك قومٌ من الخلف من المفتين بالأندلس» .

قال: «واحتجوا على ذلك بحجج كثيرة، وأحاديث مسطورة، أضربنا عنها، واقتصرنا على الصحيح منها؛ فمنها: ما رواه داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رُكانة طلق زوجته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، في مجلس واحد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما هي واحدة، فإن شئت فدَعْها، وإن شئت فارتجعها»

(1)

. ثم ذكر حديث أبي الصهباء، وذكر بعض تأويلاته التي

(1)

تقدّم تخريجه.

ص: 564

ذكرناها.

الوجه السادس عشر: أن أبا جَعْفر الطحاويّ حكى القولين في كتابه «تهذيب الآثار»

(1)

، فقال:«باب الرجل يطلق امرأته ثلاثًا معًا» . ثم ذكر حديث أبي الصهباء، ثم قال:«فذهب قومٌ إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا معًا فقد وقعت عليها واحدة، إذا كانت في وقت سُنّة، وذلك أن تكون طاهرًا في غير جماع، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: لمّا كان الله عز وجل إنما أمر عبادَه أن يُطلِّقوا لوقتٍ على صفةٍ، فطلقوا على غير ما أمرهم به، لم يقع طلاقهم، ألا ترى لو أن رجلاً أمر رجلاً أن يُطلق امرأته في وقتٍ، فطلقها في غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة، فطلقها على غير تلك الشريطة: أن طلاقه لا يقع؛ إذ كان قد خالف ما أُمر به» .

ثم ذكر حُجج الآخرين، والجواب عن حُجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدِّين في إنصاف مُخالفيهم، والبحث معهم، ولم يَسْلُك طريق جاهل ظالم مُعتدٍ، يَبرُك على رُكبتيه، ويُفَجِّر عينيه، ويَصولُ بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فَهْمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر، يوجب ضرب العنق، لِيَبْهَتَ خَصْمه، ويمنعه عن بسط لسانه، والجري معه في ميدانه، والله سبحانه عند لسان كل قائل، وهو له يوم الوقوف بين يديه عمَّا قاله سائل.

الوجه السابع عشر: أن شيخنا رحمه الله حكى عن جَدِّه أبي البركات: أنه كان يفتي بذلك أحيانا سرًّا، وقال في بعض مصنفاته

(2)

: هذا قول بعض

(1)

أي شرح معاني الآثار (3/ 55).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (33/ 83، 84) وجامع المسائل (1/ 346).

ص: 565

أصحاب مالك، وأبى حنيفة، وأحمد.

قلت: أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم.

وأما بعض أصحاب أبي حنيفة فإنه محمد بن مقاتل، من الطبقة الثانية من أصحاب أبي حنيفة.

وأما بعض أصحاب أحمد، فإن كان أراد إفتاء جَدِّه بذلك أحيانًا و إلا فلم أقفْ على نقل عن أحد منهم.

الوجه الثامن عشر: قال أبو الحسن المتيطيّ

(1)

في «وثائقه» ــ وقد ذكر الخلاف في المسألة ــ ثم قال: «ومن بعض حججهم أيضًا في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتفريق الطلاق، بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}، وإذا جمع الإنسان ذلك في كلمة كان واحدة، وكان ما زاد عليها لغوًا، كما جعل مالك رحمه الله الذي رمي السبع الجمرات في مرة واحدة جمرةً واحدةً» ، وبنَى عليها أن الطلاق عندهم مثله، قال:«وممن نصر هذا القول من أهل الفُتيا بالأندلس: أصبغُ بن الحباب، ومحمد بن بَقِيٍّ، ومحمد بن عبد السلام الخُشني، وابن زِنْباع، مع غيرهم من نظرائهم» . هذا لفظه.

الوجه التاسع عشر: أن أبا الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدي القُرْطُبي صاحب كتاب «مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام» ذكر الخلاف بين السلف والخلف في هذه المسألة، حتى ذكر الخلاف فيها في مذهب مالك نفسه، وذكر مَنْ كان يُفتي بها من المالكية، والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك، كثير الفوائد جدًّا، ونحن نذكر

(1)

ح: «الواسطي» .

ص: 566

نصّه فيه بلفظه، فنذكر ما ذكره عن ابن

(1)

مُغيث، ثم نُتْبعه كلامه؛ ليُعْلَم أن النقل بذلك معلوم مُتَدَاوَل بين أهل العلم، وأن من قَصُرَ في العلم باعُه، وطال في الجهل والظلم ذراعُه، يُبادر إلى التكفير والعقوبة جهلاً منه وظلمًا، ويَحِقّ له، وهو الدعيّ في العلم

(2)

ليس منه أقربَ رُحْمًا.

قال ابن هشام: «قال ابن مُغيث: الطلاق ينقسم على ضربين: طلاق السنة، وطلاق البدعة. فطلاق السنة: هو الواقع على الوجه الذي نَدب الشرع إليه، وطلاق البدعة: نقيضه، وهو أن يطلقها في حيضٍ أو نفاسٍ أو ثلاثًا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق.

ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلِّق، كم يلزمه من الطلاق؟

فقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس، وقال: قوله «ثلاثًا» لا معنى له؛ لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله في ثلاث إذا كان مخبرًا عما مضى، فيقول طلقت ثلاثًا، يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصح، ولو قرأها مرة واحدة، فقال: قرأتها ثلاث مرات، كان كاذبًا. وكذلك لو حلف بالله ثلاثًا يُرَدِّد الحَلِفَ كانت ثلاثة أيمان، ولو قال: أحلف بالله ثلاثًا لم يكن حلف إلا يمينًا واحدة، والطلاق مثله.

ومثله قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، رُوِّينا ذلك كله عن ابن وَضّاح.

(1)

كذا في ح، وباقي النسخ:«أبي» .

(2)

«في العلم» ساقطة من م.

ص: 567

وبه قال من شيوخ قرطبة: ابن زِنباع شيخُ هُدًى، ومحمد بن بَقِيِّ بن مَخْلَد، ومحمد بن عبد السلام الخُشَني فقيه عصره، وأصْبَغُ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قُرْطُبة.

وكان من حجة ابن عباس: أن الله تعالى فَرّق في كتابه لفظ الطلاق، فقال:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، يريد أكثر الطلاق الذي يمكن بعده الإمساك بالمعروف، وهو الرجعة في العدة، ومعنى قوله:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها، وفى ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع نَدَمٌ منهما، قال الله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، يريد الندَمَ على الفرقة، والرغبةَ في المراجعة. ومُوقعُ الثلاث غيرُ محسن؛ لأنه ترك المندوحة التي وسّع الله تعالى بها ونَبّه عليها، فذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الطلاق مُفَرَّقًا، فدلَّ على أنه إذا جُمع أنه لفظ واحد. فتدبَّرْه.

وقد يخرج من غير ما مسألة من الرواية

(1)

ما يدل على ذلك، من ذلك قول الرجل: مالي صدقة في المساكين، أن الثلث من ذلك يجزئه.

هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه.

أفَتَرى الجاهل الظالم المعتدي يجعل هؤلاء كلهم كفارًا مباحةً دماؤهم؟ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ! بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدِّين، وذنبهم عند أهل العمى أهل التقليد: كونهم لم يرضَوا لأنفسهم بما رضي به المقلدون، وردُّوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله.

(1)

م: «المدونة» .

ص: 568

وَتِلْكَ شَكاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا

(1)

الوجه العشرون: أن هذا مذهب أهل الظاهر داود وأصحابه، وذَنْبهم عند كثير من الناس أخذهم بكتاب ربهم وسنّة نبيهم، ونبذُهم القياسَ وراء ظهورهم، فلم يعبأوا به شيئًا.

وخالفهم أبو محمد بن حَزْم في ذلك، فأباح جمع الثلاث وأوقعها

(2)

.

فهذه عشرون وجهًا في إثبات النزاع في هذه المسألة، بحسب بضاعتنا المُزْجاة من الكتب، وإلا فالذي لم نقف عليه من ذلك كثير.

وقد حكى ابن وَضّاح وابن مُغيث ذلك عن علي، وابن مسعود، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس، ولعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلا شكٍّ عن ابن مسعود، وعلي، وابن عباس: الإلزام بالثلاث لمن أوقعها جملة، وصحّ عن ابن عباس أنه جعلها واحدة، ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك، فلذلك لم نَعُدّ ما حُكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعدّ ما وقفنا عليه في مواضعه، ونعزوه إليها، وبالله التوفيق.

فإن قيل: فقد ذكرتم أعذار الأئمة الملزمين بالثلاث عن تلك الأحاديث المخالفة لقولهم، فما عذركم أنتم عن أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين المحدَّث المُلْهَم، الذي أُمِرنا باتباع سنته والاقتداء به؟ أفتطعنون به

(1)

صدره: وعيَّرها الواشون أني أحبُّها

والبيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين (1/ 70)، وخزانة الأدب (4/ 153)، ولسان العرب (شكا).

(2)

انظر: المحلى (10/ 170).

ص: 569

أنه كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته من بعده والصحابة في عهده يجعلون الثلاث واحدة، مع أنه أيسر على الأمة وأسهل، وأبعد من الحرج، ثم يَعْمِد إلى مخالفة ذلك برأيه، ويُلزم الأمة بالثلاث من قِبل نفسه، فيُضيِّق عليهم ما وسَّعه الله تعالى، ويُعسِّر ما سَهّله، ويَسُدّ ما فتحه، ويُحرج ما فَسَحه، ثم يُتابعه على ذلك أكابر الصحابة، ويوافقونه، ولا يخالفونه؟

ثم هَبْ أنهم خافوا منه في حياته، وكلّا فإنه كان أتقى لله سبحانه وتعالى من ذلك، وكان إذا بيّنت له المرأةُ ما خَفِي عليه من الحق رجع إليه، وكان الصحابة أتقى لله تعالى وأعلم به أن يأخذهم لومة لائم في الحق، وأن يمسكوا عنه خوفًا من عمر رضي الله عنه. فقد دار الأمر بين القَدْح في عمر رضي الله عنه والصحابة معه، وبين رَدِّ تلك الأحاديث: إما لضعفها، وإما لنَسْخها، وخفي علينا الناسخ، وإما بتأويلها وحَمْلها على مَحمِل يصحّ، ولا ريب أن هذا أولى لِتَوْفية حَق الصحابة رضي الله عنهم، الذين هُمْ أعلم بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مِن جميع مَنْ بعدَهم.

قيل: لعَمْرُ الله، وإن هذا لسؤالٌ يُورِد أمثالَه أهلُ العلم، وإنه ليحتاج إلى جواب شافٍ كافٍ، فنقول:

الناس هنا طائفتان: طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر ومَنْ وافقه، وطائفة اعتذرت عن عمر رضي الله عنه، ولم تردَّ الأحاديث.

فقالوا: الأحكام نوعان:

نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة، ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدّرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك. فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا

ص: 570

اجتهاد يخالف ما وُضع عليه.

والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالاً، كمقادير التّعْزيراتِ، وأجناسها، وصفاتها؛ فإن الشارع يُنوِّعُ فيها بحَسْبِ المصلحة:

فشرعَ التعزيرَ بالقَتْلِ لمدمِن الخمر في المرَّة الرابعة

(1)

.

وعَزَمَ على التعزير بتَحْريق البيوت على المتخلِّف عن حضور الجماعة

(2)

، لولا ما منعه من تَعَدِّي العقوبة إلى غير مَنْ يَستَحِقّها من النساء والذّرية.

وعَزّرَ بحِرْمان النصيب المستحَق من السّلَب

(3)

.

وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شَطْرِ ماله

(4)

.

وعَزّر بالعقوبات المالية في عدّة مواضع.

وعَزّر مَنْ مَثّل بعَبْدِه بإخراجه عنه وإعتاقه عليه

(5)

.

(1)

أخرجه النسائي (8/ 313)، والحاكم في المستدرك (4/ 371) عن ابن عمر، وإسناده صحيح. وفي الباب عن جماعة من الصحابة. وللعلامة أحمد محمد شاكر بحث مطوَّل في الكلام على هذا الحديث روايةً ودرايةً في تعليقه على المسند (9/ 49 ــ 92).

(2)

أخرجه البخاري (664)، ومسلم (651) عن أبي هريرة.

(3)

أخرجه مسلم (1753) عن عوف بن مالك.

(4)

أخرجه أبو داود (1575)، والنسائي (5/ 25)، وأحمد (5/ 2، 4) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وهو حديث حسن.

(5)

أخرجه أحمد (2/ 182، 225)، وأبو داود (4519)، وابن ماجه (2680)، وهو حديث حسن.

ص: 571

وعَزّر بتَضْعِيف الغُرْم على سارق ما لا قَطْع فيه، وكاتم الضالّة

(1)

.

وعزّر بالهجر ومَنْع قربان النساء

(2)

.

ولم يُعرف أنه عَزّر بدِرّة، ولا حَبْسٍ، ولا سَوْطٍ، وإنما حَبَس في تُهمةٍ لِيتبيّن حال المتهم

(3)

.

وكذلك أصحابه، تنوّعوا في التعزيرات بعده:

فكان عمر رضي الله عنه يَحلق الرأس، وينفي، ويضرب، ويُحرّق حوانيت الخمَّارين، والقرية التي تُباع فيها الخمر، وحرّق قصر سعدٍ بالكوفة لما احتجب فيه عن الرعية

(4)

.

وكان له رضي الله تعالى عنه في التعزير اجتهادٌ وافقه عليه الصحابة

(1)

أخرجه أبو داود (4390)، والترمذي (1289)، والنسائي (8/ 84، 85) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وإسناده حسن.

(2)

أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769) عن كعب بن مالك.

(3)

أخرجه أبو داود (3630)، والترمذي (1417)،والنسائي (8/ 67) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال الترمذي: حديث حسن.

(4)

خبر حَرقِ عمر بابَ قصرِ سعد رواه ابن المبارك في الزهد (513)، وأحمد (1/ 55) ــ ومن طريقه الحاكم (7308) ـ، وابن صاعد في زوائد الزهد (514 - 518)، والطبراني في الكبير (1/ 144)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (55/ 279 - 280)، من طرقٍ عن عَباية بن رفاعة بذلك في قصّة، قال الهيثمي في المجمع (8/ 306):«رجاله رجال الصحيح، إلا أنّ عباية لم يسمع من عمر» ، وحكم بانقطاعه أيضًا ابن حجر في المطالب العالية (9/ 639)، وحسّن إسناده الذهبي في التلخيص، وكأنّ ابن تيمية صحّحه في المجموع (28/ 111)، وكذا المصنّف في الطرق الحكمية (ص 378).

ص: 572

لكمال نُصْحه، ووفور عِلْمِه، وحسن اختياره للأمّة، وحدوث أسبابٍ اقتضت تَعْزيره لهم بما يَرْدَعهم، لم يكن مثلها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كانت، ولكن زاد الناس عليها وتتايعوا فيها.

فمن ذلك: أنهم لما زادوا في شرب الخمر، وتتايعوا فيه، وكان قليلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعله عمر رضي الله عنه ثمانين، ونفى فيه

(1)

.

ومن ذلك: اتخاذه دِرّة يضرب بها من يستحقُّ الضرب

(2)

.

ومن ذلك: اتخاذه دارًا للسَّجن

(3)

.

ومن ذلك: ضربه للنوائح حتى بدا شَعْرها

(4)

.

وهذا باب واسع، اشتبه فيه على كثيرٍ من الناس الأحكامُ الثابتة اللازمة

(1)

روى البخاري (6397) عن السائب بن يزيد قال: كنّا نُؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرةِ أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديَتنا، حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتَوا وفسقوا جلد ثمانين. وليس فيه ذكر النفي.

(2)

انظر: مصنف عبد الرزاق (10/ 416).

(3)

علّقه البخاري بمعناه بصيغة الجزم في كتاب الخصومات، باب: الربط والحبس في الحرم، وهو موصول عند عبد الرزاق (5/ 147)، والأزرقي في أخبار مكة (2/ 158)، وابن أبي شيبة (5/ 7)، والفاكهي في أخبار مكة (2076)، والبيهقي في الكبرى (6/ 34).

(4)

رواه عبد الرزاق (3/ 557) من طريق عمرو بن دينار ونصر بن عاصم ــ فرّقهما ــ عن عمر بمعناه، ورواه ابن شبّة في تاريخ المدينة (1360) من طريق الأوزاعي، والثعلبي في تفسيره (9/ 299) من طريق أبان بن أبي عياش عن الحسين، كلاهما عن عمر بمعناه.

ص: 573

التي لا تتغير، بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودًا وعدمًا.

ومن ذلك: أنه رضي الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث، ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة، فرأى إلزامهم بها عقوبةً لهم، ليكفّوا عنها.

وذلك إما من التعزير العارض الذي يُفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق فيها الرأس، وينفى عن الوطن، وكما منع النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفوا عنه عن الاجتماع بنسائهم. فهذا له وجه.

وإما ظنًّا أن جعل الثلاث واحدةً كان مشروطًا بشرطٍ، وقد زال، كما ذهب إلى ذلك في مُتْعة الحج، إما مُطلقًا، وإما مُتعة الفسخ. فهذا وجهٌ آخر.

وإما لقيام مانع قام في زمنه، منعَ

(1)

من جعل الثلاث واحدة، كما قام عنده مانعٌ من بَيْع أمّهات الأولاد

(2)

، ومانعٌ من أخذ الجزية من نصارى بني تَغْلِب

(3)

، وغير ذلك. فهذا وجه ثالث.

فإن الحكم ينتفي لانتفاء شروطه، أو لوجود مانعه، والإلزام بالفرقة فسخًا أو طلاقًا لمن لم يَقُم بالواجب: مما يسوغ فيه الاجتهاد.

لكن تارة يكون حقًّا للمرأة، كما في العِنّةِ، والإيلاء، والعجز عن النفقة، والغيبة الطويلة عند من يرى ذلك، وتارة يكون حقًّا للزوج، كالعيوب المانعة له من استيفاء المعقود عليه، أو كماله، وتارة يكون حقًّا لله تعالى، كما في

(1)

«منع» ساقطة من م.

(2)

أخرجه أبو داود (3954) عن جابر بن عبد الله.

(3)

انظر: الأموال لأبي عبيد (71)، والخراج ليحيى بن آدم (206).

ص: 574

تفريق الحَكَمين بين الزوجين عند من يجعلهما وكيلين، وهو الصواب، وكما في وقوع الطلاق بالمُولِي إذا لم يَفِئْ في مدة التربّص عند كثير من السلف والخلف.

وكما قال بعض السلف ووافقهم عليه بعض أصحاب أحمد رحمه الله: أنهما إذا تطاوعا على الإتيان في الدّبر فُرِّق بينهما.

وقريب من ذلك: أن الأب الصالح إذا أمر ابنه بالطلاق لما يراه من مصلحة الولد، فعليه أن يطيعه، كما قاله أحمد رحمه الله وغيره. واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمر أن يطيع أباه، لمّا أمره بطلاق زوجته

(1)

.

فالإلزام إما من الشارع وإما من الإمام بالفرقة، إذا لم يَقُمِ الزوج بالواجب: هو من موارد الاجتهاد.

وأصل هذا أن الله سبحانه وتعالى لما كان يُبْغِض الطلاق، لما فيه من كسْرِ الزوجة، وموافقة رضا عَدُوِّه إبليس، حيث يفرحُ بذلك، ويلتزمُ مَنْ يكون على يديه من أولاده، ويُدنيه منه، ومُفارقة طاعته بالنكاح الذي هو واجبٌ أو مستحب، وتعريض كلٍّ من الزوجين للفجور والمعصية، وغير ذلك من مفاسد الطلاق، وكان مع ذلك قد يحتاج إليه الزوج أو الزوجة، وتكون المصلحة فيه= شَرعه على وجْهٍ تحصلُ به المصلحة، وتَنْدفع به

(1)

رواه الطيالسي (1822)، وأحمد (2/ 20، 42، 53، 157)، وعبد بن حميد (835)، وأبو داود (5140)، والترمذي (1189)، وابن ماجه (2088)، وغيرهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» ، وصححه ابن حبان (427)، والحاكم (2798)، وحسنه البغوي في شرح السنة (2348)، والألباني في السلسلة الصحيحة (919).

ص: 575

المفسدة، وحَرّمه على غير ذلك الوجه، فشرعه على أحسن الوجوه وأقومها لمصلحة الزوج والزوجة.

فشرع له أن يطلقها طاهرًا من غير جماع طَلْقة واحدةً، ثم يَدَعها حتى تنقضي عِدّتها، فإن زال الشر بينهما وحصلت الموافقة كان له سبيل إلى لَمِّ الشَّعَثِ، وإعادة الفراش كما كان، وإلا تركها حتى انقضت عدتها، فإن تبعتها نفسه كان له سبيل إلى خِطْبتها، وتجديد العقد عليها برضاها، وإن لم تتبعها نفسه تركها، فنكحت من شاءت. وجعل العِدّة ثلاثة قُروء، ليطول زَمَنُ المُهْلة والاختيار. فهذا هو الذي شرعه وأذن فيه.

ولم يأذن في إبانتها بعد الدخول إلا بالتراضي بالفسخ والافتداء، فإذا طلقها مرة بعد مرة بقي له طلقةٌ واحدة، فإذا طلقها الثالثة حَرّمها عليه عقوبة له، ولم يحِلّ له أن ينكحها حتى تنكح زوجًا غيره، ويدخل بها، ثم يفارقها بموت أو طلاق. فإذا علم أن حبيبه تصير إلى غيره، فيحظى به دونه، أمسك عن الطلاق.

فلما رأى أميرُ المؤمنين أن الله سبحانه عاقَب المطلِّق ثلاثًا بأن حال بينه وبين زوجته، وحَرّمها عليه حتى تنكح زوجًا غيره= علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرِّم، وبُغضه له، فوافقه أمير المؤمنين رضي الله عنه في عقوبته لمن طلّق ثلاثًا جميعًا بأن ألزمه بها، وأمضاها عليه.

فإن قيل: فكان أسهلَ من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الطلاق الثلاث، ويحرِّمه عليهم، ويعاقب بالضرب والتأديب مَنْ فعله؛ لئلا يقع المحذور الذي يترتب عليه.

قيل: نعم لَعَمْرُ الله، قد كان يمكنه ذلك، ولذلك ندم عليه في آخر أيامه،

ص: 576

وَوَدّ أنه كان فعله.

قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في «مسند عمر»

(1)

: أخبرنا أبو يَعْلَى، حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن

(2)

أبي مالك، عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما نَدِمتُ على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حَرّمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح.

ومن المعلوم أنه رضي الله عنه لم يكن مرادُه تحريمَ الطلاق الرجعي الذي أباحه الله تعالى، وعُلِم بالضرورة من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم جوازُه، ولا الطلاق المحرَّم الذي أجمع المسلمون على تحريمه، كالطلاق في الحيض، وفى الطهر المجامَع فيه، ولا الطلاق قبل الدخول، الذي قال الله تعالى فيه:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضي الله عنه أراده.

فتعين قطعًا أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث، فعُلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك، ولذلك قال: إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم!

وهذا كالصريح في أنه غير حرام عنده، وإنما أمضاه لأن المطلّق كانت له فُسْحَة من الله تعالى في التفريق، فرغب عَمّا فَسَحَه الله تعالى له إلى الشدّة

(1)

لم أقف على هذا الأثر، وخالد بن يزيد هو ابن عبد الرحمن بن أبي مالك، قال في التقريب:«ضعيف وقد اتّهمه ابن معين» ، وأبوه يزيد لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(2)

ح: «عن» تحريف.

ص: 577

والتغليظ، فأمضاه عمر رضي الله عنه عليه، فلما تبين له بالأخرة ما فيه من الشر والفساد نَدِمَ على أن لا يكون حرّم عليهم إيقاع الثلاث، ومنعهم منه، وهذا مذهب الأكثرين: مالك، وأحمد، وأبي حنيفة رحمهم الله.

فرأى عمر رضي الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم به، فلما تبيّن له أن المفسدة لم تندفع بذلك، وما زاد الأمرُ إلا شدة، أخبر أن الأوْلَى كان عُدُوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وأول خلافة عمر رضي الله عنه أولى من ذلك كله، ولا يندفع الشر والفساد بغيره البتة، ولا يُصلِح الناسَ سواه.

ولهذا

(1)

لما رغب كثير من الناس عما كان عليه الأمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، احتاجوا إلى أحد أمرين

(2)

: إما الدخول فيما [80 أ] لَعَن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلَه، وتابَع عليه اللعنة، وإما التزام الآصار والأغلال، ورؤية حبيبه حسرة.

والذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ودلّت عليه السنة الصحيحة الصريحة: يُخَلِّص من هذا وهذا، ولكن تأبَى حكمةُ الله تعالى أن يَفْتح للظالمين المعتدين لحدوده، الراغبين عن تَقواه وطاعته، أبوابَ التيسير والفرج والسهولة؛ فإن الله سبحانه إنما جعل ذلك لمن اتّقاه، والْتزم طاعته وطاعة رسوله، كما قال تعالى في السورة التي بَيّن فيها الطلاق وأحكامه وحدوده، وما شرعه لعباده فيه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وقال فيها:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]، وقال فيها: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ

(1)

هنا انتهى الخرم الكبير في الأصل الذي بدأ في (ص 500).

(2)

بعده في م: «لابد لهم منهما» .

ص: 578

يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5]، فمن طلّق على غير تقوى الله كان حقيقًا أن لا يجعلَ الله له مخرجًا، وأن لا يجعل له من أمره يسرًا.

وقد أشار إلى هذا بعينه الصحابةُ، حيث قال ابن عباس وابن مسعود

(1)

لمن طلّق ثلاثًا جميعًا: إنك لم تتق الله، فيجعل لك مخرجًا.

وقال شُعبة

(2)

، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: سُئِل ابنُ عباسٍ عن رجل طلّق امرأته مئةً، فقال: عصيتَ ربك، وبانتْ منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجًا، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2].

وقال الأعمش

(3)

عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس: أن رجلاً أتاه، فقال: إن عَمِّي طلق امرأته ثلاثًا، فقال: إن عمَّك عصى الله فأندمه الله تعالى، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا، فقال: أفلا يُحلِّلها له رجل؟ فقال: مَنْ يُخادعِ الله يَخْدَعْه.

والله تعالى قد جَرَتْ سُنَّته في خلقه بأن يُحرِّم الطيبات شرعًا وقَدرًا على من ظَلَم وتعدّى حدوده، وعصى أمره، وأن يُيسِّر للعُسْرَى مَنْ بَخِلَ بما أمرَهُ به فلم يفعله، واستغنى عن طاعته باتباع شهوته وهواه، كما أنه سبحانهُ يُيسِّر لليُسْرَى مَنْ أعطَى واتّقى، وصدّق بالحُسْنَى.

فهذا نهاية إقدام الناس في باب الطلاق.

(1)

هذا مشهور عن ابن عباس، وقد تقدّم تخريجه، ولم أقف عليه بهذا اللفظ عن ابن مسعود.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 579

يبقى أن يقال: فإذا خفيَ على أكثر الناس حكم الطلاق، ولم يُفَرِّقوا بين الحلال والحرام منه جهلاً، وأوقعوا الطلاق المحرّم يظنونه جائزًا، هل يَسْتَحِقّون العقوبة بالإلزام به؛ لكونهم لم يتعلموا دينهم الذي أمرهم الله تعالى به، وأعرضوا عنه، ولم يسألوا أهل العلم كيف يطلقون؟ وماذا أبيح لهم من الطلاق؟ وماذا يحرم عليهم منه؟ أم يُقال: لا يستحقون العقوبة؛ لأن الله سبحانه لا يعاقب شرعًا ولا قدرًا إلا بعد قيام الحجة، ومخالفة أمره، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]؟ وأجمعَ الناس على أن الحدود لا تجب إلا على عالم بالتحريم، متعمدٍ لارتكاب أسبابها، والتعزيراتُ مُلْحَقة بالحدود.

فهذا موضع نظر واجتهاد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«التائبُ من الذنبِ كَمَنْ لا ذنبَ له»

(1)

، فمن طلّق على غير ما شرعه الله تعالى وأباحه جاهلاً، ثم علمَ

(1)

رواه ابن ماجه (4250)، والطبراني في الكبير (10/ 150) ــ وعنه أبو نعيم في الحلية (4/ 210) ـ، والدارقطني في العلل (5/ 297)، والسهمي في تاريخ جرجان (674)، وغيرهم من طريق أبي عبيدة عن ابن مسعود مرفوعًا، وفي إسناده اختلاف، وأعلّه البيهقي في الكبرى (10/ 154) وقال:«ورُوي من أوجه ضعيفة» ، وأعلّه بالانقطاع المنذري في الترغيب (4/ 48)، وابن مفلح في الآداب الشرعية (1/ 117)، والهيثمي في المجمع (10/ 330)، والهيتمي في الزواجر (2/ 956)، وحسّن إسناده ابن حجر في الفتح (13/ 471)، قال السخاوي في المقاصد (1/ 249):«يعني لشواهده، وإلا فأبو عبيدة جزم غير واحد بأنه لم يسمع من أبيه» ، ولكن قال ابن رجب في الفتح (7/ 342): أحاديثه عنه صحيحة، تلقاها عن أهل بيته الثقات العارفين بحديث أبيه. وحسّنه الألباني في السلسلة الضعيفة (2/ 83). وفي الباب عن أنس وابن عباس وأبي سعد الأنصاري وأبي عنبة الخولاني وعائشة.

ص: 580

به فندم وتاب، فهو حقيق بأن لا يُعاقَب، وأن يُفْتَى بالمخرج الذي جعله الله تعالى لمن اتّقاه، ويُجعَل له من أمره يُسرًا.

والمقصود أن الناس لابدّ لهم في باب الطلاق من أحد ثلاثة أبواب يدخلون منها:

أحدها: باب العلم والاعتدال الذي بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرعه للأمة، رحمةً بهم وإحسانًا إليهم.

والثاني: باب الآصار والأغلال الذي فيه من العُسْرِ والشدّة والمشقة ما فيه.

والثالث: باب المكر والاحتيال الذي فيه من الخداع والتحيّل، والتلاعب بحدود الله تعالى، واتخاذ آياته هُزُوًا، ما فيه.

ولكل باب من المطلِّقين وغيرهم جُزْءٌ مَقْسُومٌ.

فصل

ومن مكايده التي كاد بها الإسلام وأهله: الحِيَلُ، والمكر، والخداع [80 ب] الذي يتضمن تحليلَ ما حَرّمه الله، وإسقاط ما فَرضه، ومضادّتَه في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذَمّه.

فإن الرأي رأيان: رأيٌ يوافق النصوص، وتشهد له بالصحة والاعتبار، فهو الذي اعتبره السلف وعملوا به.

ورأيٌ يخالف النصوص، وتشهدُ له بالإبطال والإهْدار، فهو الذي ذَمُّوه وأنكروه.

ص: 581

وكذلك الحيل نوعان: نوع يُتَوَصَّل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه والتخلُّص من الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي. فهذا النوع محمودٌ يُثاب فاعله ومُعَلِّمه.

ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرّمات، وقلب المظلوم ظالمًا والظالم مظلومًا، والحق باطلًا والباطل حقًا. فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمّه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض.

وقال الإمام أحمد رحمه الله: لا يجوز شيءٌ من الحيل في إبطال حق مسلم.

وقال الميموني: قلت لأبى عبد الله: من حلف على اليمين ثم احتال لإبطالها، فهل تجوز تلك الحيلة؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز، قلت: أليس حيلتنا فيها أن نَتَّبع ما قالوا، وإذا وجدنا لهم قولًا في شيء اتَّبعناه؟ قال: بلى، هكذا هو، قلت: أوَليس هذا منا نحن حيلةً؟ قال: نعم.

فبيّن الإمام أحمد: أن مَن اتبع ما شُرع له وجاء عن السلف في معاني الأسماء التي عُلّقت بها الأحكام، ليس بمحتالٍ الحيل المذمومة، وإن سُميت حيلة، فليس الكلام فيها.

وغرضُ الإمام أحمد بهذا: الفرقُ بين سلوك الطريق المشروعة التي شُرعت لحصول مقصود الشارع، وبين الطريق التي تُسلك لإبطال مقصوده.

فهذا هو سِرّ الفرق بين النوعين، وكلامنا الآن في النوع الثاني.

ص: 582

قال شيخنا

(1)

رحمه الله: فالدليل على تحريم هذا النوع وإبطاله من وجوه:

الوجه الأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 8، 9]، وقال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقال في أهل العهد:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62]، فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء المخادعين مخدوعون وهم لا يشعرون، وأن الله تعالى خادعُ مَنْ خدعه، وأنه يكفي المخدوع شَرَّ مَنْ خدعه.

والمخادعة هي الاحتيال والمراوغة، بإظهار الخير مع إبطان خلافه، لتحصيل مقصود المخادع، وهذا موافق لاشتقاق اللفظ في اللغة، فإنهم يقولون: طريق خَيْدَع، إذا كان مخالفًا للقصد لا يُشعَر به، ولا يُفطن له، ويقال للسراب: الخيدع، لأنه يَغُرّ من يراه، وضَبٌّ خَدِع أي: مراوغ، كما قالوا: أخْدَعُ من ضَبٍّ، ومنه:«الحرْب خَدْعة»

(2)

، وسوق خادعةٌ أي: متلونة، وأصله: الإخفاءُ والسَّتر، ومنه سميت الخِزانة مُخْدَعًا.

فلما كان القائل: «آمنت» مُظهرًا لهذه الكلمة، غير مريد حقيقتها المطلوبة شرعًا، بل مريدًا لحكمها وثمرتها فقط مُخادعًا= كان المتكلم بلفظ بعْتُ، واشتريت، وطلقت، ونكحت، وخالعت، وآجرت، وساقيت،

(1)

في بيان الدليل على إبطال التحليل (ص 29 وما بعدها).

(2)

أخرجه البخاري (3030)، ومسلم (1739) عن جابر.

ص: 583

وأقرضت ــ غير مريد لحقائقه الشرعية المطلوبة منها، بل مريدًا لأمور أخرى غير ما شُرِعت له، أو ضدّ ما شُرِعت له ــ مخادعًا. ذاك مخادعٌ في أصل الإيمان، وهذا مخادع في أعماله وشرائعه.

قال شيخنا

(1)

رحمه الله: وهذا ضرب من النفاق في آيات الله تعالى وحدوده، كما أن الأول نفاق في أصل الدين.

يؤيد ذلك ما رواه سعيد بن منصور

(2)

عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه جاءه رجل، فقال: إن عَمي طلق امرأته ثلاثًا، أيُحِلّها له رجل؟ فقال: مَنْ يُخادعِ الله يخدعْه.

وعن أنس

(3)

بن مالك

(4)

: أنه سئل عن العِينَة، يعني بيع الحريرة، فقال: إن الله تعالى لا يُخْدَع، هذا ما حرّم الله تعالى ورسوله.

رواه أبو جعفر محمد بن سليمان الحافظ المعروف بِمُطَيَّن في كتاب «البيوع» له.

وعن ابن عباس

(5)

: أنه سئل عن العِينة، يعني بيع الحريرة، فقال: إن الله لا يُخْدَع، هذا ممّا حرّم الله تعالى ورسوله.

رواه الحافظ أبو محمد النَّخْشَبِيُّ.

(1)

بيان الدليل (ص 31).

(2)

سنن سعيد بن منصور (1065)، ومن طريقه ابن بطة في إبطال الحيل (ص 48) وابن حزم في المحلى (10/ 181) والبيهقي (7/ 337).

(3)

من هنا إلى ص 630 خرم في الأصل.

(4)

لم أقف عليه، وقد صحّحه المصنف في إعلام الموقعين (3/ 161).

(5)

لم أقف عليه، وقد صحّحه المصنف في إعلام الموقعين (3/ 161).

ص: 584

فسمى الصحابةُ من أظهر عقد التبايع ومقصودُه به الربا خداعًا لله، وهم المرجوع إليهم في هذا الشأن، والمعوَّل عليهم في فَهْم القرآن.

وقد تقدم عن عثمان، وعبد الله بن عمر، وغيرهما أنهما قالا في المطلقة ثلاثًا: لا يُحِلُّها إلا نكاح رَغْبة، لا نكاح دُلْسة.

قال أهل اللغة: المدالسة: المخادعة.

وقال أيوب السَّخْتِيَاني

(1)

في المُحْتالين: يُخادعون الله كما يخادعون الصبيان، فلو أتَوْا الأمر عِيانًا كان أهون عليّ.

وقال شَريك بن عبد الله القاضي في «كتاب الحيل» : هو «كتاب المخادعة» .

وكذلك المعاهدون إذا أظهروا للرسول صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون سِلْمه، ومقصودهم بذلك المكْرُ به من حيث لا يشعر، فيظهرون له أمانًا، ويُبطنون له خلافه، كما أن المحلل والمرابي يُظهران النكاح والبيع المقصودين، ومقصود هذا: الطلاقُ بعد استفراش المرأة، ومقصود الآخر: ما تواطآ عليه قبل إظهار العقد من بيع الألف الحالّة بألفٍ ومئتين إلى أجل، فمخالفة ما يدلّ عليه العقد شرعًا أو عُرْفًا خَديعة.

قال

(2)

: وتلخيص ذلك أن مُخادعة الله تعالى حرام، والحيلُ مخادعةٌ لله.

(1)

علّقه البخاري عن أيوب مجزومًا به في كتاب الحيل، باب: ما ينهى من الخداع في البيوع، ولفظه:«يخادعون الله كأنما يخادعون آدميًّا، لو أتوا الأمر عيانًا كان أهون عليّ» ، قال ابن حجر في الفتح (12/ 336):«وصله وكيع في مصنفه عن سفيان بن عيينة عن أيوب» .

(2)

أي شيخ الإسلام في بيان الدليل (ص 33).

ص: 585

بيان الأول: أن الله تعالى ذَمّ المنافقين بالمخادعة، وأخبر أنه خادِعُهم، وخَدْعُه للعبد عقوبةٌ تَستَلْزِمُ فِعْلَهُ للمُحَرَّم.

وبيان الثاني: أن ابن عباس وأنسًا وغيرهما من الصحابة والتابعين أفتوا: أن التحليل ونحوه من الحيل مخادعةٌ لله تعالى، وهم أعلمُ بكتاب الله تعالى.

الثاني

(1)

: أن المخادعة إظهار شيء من الخير وإبطان خلافه، كما تقدم.

الثالث: أن المنافق لما أظهر الإسلام ومرادُه غيره: سُمِّي مخادعًا لله تعالى، وكذلك المرائي؛ فإن النفاق والرِّياء من باب واحد، فإذا كان هذا الذي أظهر قولًا غير مُعتقدٍ ولا مُريدٍ لما يُفهم منه، وهذا الذي أظهر فعلًا غير معتقد ولا مريد لما شرع له: مخادعًا، فالمحتال لا يخرج عن أحد القسمين: إما إظهار فعل لغير مقصوده الذي شُرع له، أو إظهار قول لغير مقصوده الذي شُرع له، وإذا كان مشاركًا لهما في المعنى الذي به سُمِّيا مخادعين وجب أن يَشْركهما في اسم الخِداع، وعُلم أن الخداع اسمٌ لعموم الحيل، لا لخصوص هذا النفاق.

الوجه الثاني

(2)

: أن الله سبحانه ذمّ المستهزئين بآياته، والمتكلم بالأقوال التي جعل الشارع لها حقائق ومقاصد، مثل كلمة الإيمان، وكلمة الله تعالى التي يستحل بها الفروج، ومثل العهود والمواثيق التي بين المتعاقدين، وهو لا يريد بها حقائقها المقوِّمة لها، ولا مقاصدها التي جُعلت هذه الألفاظ محصِّلة لها، بل يريد أن يراجع المرأة ليضرّها ويُسيء عشرتَها،

(1)

«الأول» سبق ذكره بعد قوله: «بيان الثاني» .

(2)

هذا الوجه الثاني من الوجوه الدالة على تحريم الحيل، والوجه الأول سبق ذكره في (ص 583).

ص: 586

ولا حاجة له في نكاحها، أو ينكحها ليحلّها لمطلِّقها لا ليتخذِّها زوجة، أو يخلعها ليلبسها، أو يبيع بيعًا جائزًا، ومقصوده به ما حرمه الله تعالى ورسوله، وهو ممن اتخذ آيات الله تعالى هزوًا.

يوضّحه:

الوجه الثالث: ما رواه ابن ماجه

(1)

بإسنادٍ حسن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، ويستهزئون بآياته: طلقتك، راجعتك، طلقتك، راجعتك؟» .

فجعل المتكلم بهذه العقود غيرَ مريدٍ لحقائقها وما شُرعت له، مستهزئًا بآيات الله تعالى، متلاعبًا بحدوده.

ورواه ابن بطة

(2)

بإسناد جيدٍ، ولفظه:«خلعتك، راجعتك، خلعتك، راجعتك» .

الوجه الرابع: ما رواه النسائي

(3)

عن محمود بن لبيد: أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«أيُلَعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟» الحديث، وقد تقدم.

فجعله لاعبًا بكتاب الله مع قصده الطلاق، لكنه خالف وجه الطلاق، وأراد به غير ما أراد الله تعالى به؛ فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن يطلِّق طلاقًا يملك فيه ردّ المرأة إذا شاء، فطلق هو طلاقًا لا يملك فيه ردّها.

(1)

برقم (2017)، وتقدم تخريجه.

(2)

ص 40 وتقدَّم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 587

وأيضًا فإن المرّتين والمرات في لغة القرآن والسنة، بل ولغة العرب، بل ولغات سائر الأمم، لِمَا كان مرّة بعد مرة، فإذا جمع المرتين والمرات في مرة واحدة فقد تعدّى حدود الله تعالى، وما دلّ عليه كتابه، فكيف إذا أراد باللفظ الذي رتّب عليه الشارع حكمًا ضدّ ما قصده الشارع؟

الوجه الخامس: أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم مما بلاهم به في سورة {ن} ؛ وهم قوم كان للمساكين حق في أموالهم إذا جَدُّوا نهارًا؛ بأن يلتقط المساكين ما يتساقط من التمر، فأرادوا أن يجدّوا ليلًا ليسقط ذلك الحق، ولئلا يأتيهم مسكين، وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنّتهم طائفًا وهم نائمون، فأصبحت كالصّريم، وذلك لمّا تحيّلوا على إسقاط نصيب المساكين، بأن يصرموها مصبحين قبل مجيء المساكين، فكان في ذلك عبرةٌ لكل محتال على إسقاط حقٍّ من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده.

الوجه السادس: أن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردةً، لمّا احتالوا على إباحة ما حرّمه الله سبحانه عليهم من الصيد، بأن نصبوا الشباك يوم الجُمعة، فلمّا وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد.

قال بعض الأئمة: ففي هذا زجرٌ عظيم لمن تعاطى الحيل على المناهي الشرعية، ممن يتلبَّس بعلم الفقه، وهو غير فقيه؛ إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، ليس المتحيل على إباحة محارمه، وإسقاط فرائضه.

ومعلوم أنهم لم يستحلّوا ذلك تكذيبًا لموسى عليه السلام وكفرًا بالتوراة وإنما هو استحلال تأويل واحتيال، ظاهره ظاهر الاتقاء، وباطنه

ص: 588

باطن الاعتداء.

ولهذا والله أعلم مُسخوا قردةً؛ لأن صورة القرد فيها شَبَهٌ من صورة الإنسان، وفى بعض ما يُذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له في الحدّ والحقيقة، فلمّا مُسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى، بحيث لم يتمسَّكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته، مسخهم الله تعالى قردةً يشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة، جزاء وفاقًا.

يوضِّحه:

الوجه السابع: أن بني إسرائيل كانوا أكلوا الربا وأموال الناس بالباطل، كما قصّه الله تعالى في كتابه، وذلك أعظم من أكْلِ الصيد المحرّم في يوم بِعَيْنهِ، ولذلك كان الربا والظلم حرامًا في شريعتنا، والصيدُ يوم السبت غير مُحرم فيها، ثم إن أَكَلَةَ الربا وأموال الناس بالباطل لم يُعاقَبوا بالمسْخ، كما عُوقِب به مُسْتَحِلُّو الحرام بالحِيلة، وإن كانوا عُوقبوا بجنسٍ آخر، كعقوبات أمثالهم من العُصاة.

فيُشبه والله أعلم أن هؤلاء لما كانوا أعظم جُرْمًا، إذ هم بمنزلة المنافقين، ولا يعترفون بالذنب، بل قد فَسدَت عقيدتهم وأعمالهم، كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم؛ فإن من أكل الربا والصيد المحرَّم عالمًا بأنه حرام فقد اقترن بمعصيته اعترافُه بالتحريم، وهو إيمان بالله تعالى وآياته، ويترتب على ذلك مِن خَشْيَة الله تعالى، ورَجاء مَغْفِرته، وإمكان التوبة، ما قد يُفْضِي به إلى خيرٍ ورحمة. ومَنْ أكله مُسْتحلًّا له بنوع احتيال تأوّلَ فيه فهو مُصِرٌّ على الحرام، وقد اقترن به اعتقاده الفاسد في حِلِّ الحرام، وذلك قد يُفضي به إلى شَرٍّ طويل.

ص: 589

وقد جاء ذكرُ المسخ في عِدّة أحاديث، قد تقدم بعضها في هذا الكتاب

(1)

، كقوله في حديث أبي مالك الأشعري الذي رواه البخاري في «صحيحه»:«ويَمسخ آخرين قِردةً وخنازير إلى يوم القيامة» .

وقوله في حديث أنس: «لَيَبيتَنّ رجالٌ على أكلٍ وشربٍ وعَزْفٍ، فيُصْبِحُون على أرائكهم ممسوخِين قِرَدَةً وخنازير» .

وفي حديث أبي أُمامة: «يَبيتُ قوم على شرب الخمور وضرب القِيان، فيصبحون قردةً» .

وحديث عائشة: «يكون في أُمتي خسف ومسخ وقذف» .

وفي حديث أبي أمامة أيضًا: «يبيت قوم من هذه الأمة على طُعْمٍ وشرب ولهو، فيصبحون وقد مُسِخوا قردةً وخنازيرَ» .

وفي حديث عِمران بن حُصين: «يكون في أمتي قَذْفٌ ومَسخٌ وخَسْفٌ» .

وكذلك في حديث سَهْل بن سَعْدٍ.

وكذلك في حديث علي بن أبي طالب، وقوله:«فلْيَرْتَقبوا عند ذلك ريحًا حَمْراء، وخَسْفًا، ومسخًا» .

وفى حديثه الآخر: «تُمسخ طائفة من أمتي قِردة، وطائفة خنازير» .

وقوله في حديث أنس رضي الله عنه: «لَيكونَنّ في هذه الأمة خَسْفٌ وقَذْفٌ ومسخٌ» .

وفى حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «يُمسخ قوم من هذه الأمة في آخر

(1)

وتقدم تخريجها هناك.

ص: 590

الزمان قِرَدةً وخنازير»، قالوا: يا رسول الله! أليس يَشْهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؟ قال:«بلى، ويصومون، ويصلون، ويحجون» ، قالوا: فما بالُهم؟ قال: «اتخذوا المعازف والدفوف والقَيْناتِ، فباتوا على شُرْبهم ولَهْوِهم، فأصبحوا وقد مُسِخوا قِردةً وخنازير» .

وفى حديث جُبير بن نُفَير

(1)

: «لَيُبْتَلَيَنّ آخِرُ هذه الأمة بالرّجْفِ، فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا عاد الله تعالى عليهم بالرّجْفِ، والقَذْفِ، والمسخ، والصواعق» .

وقال سالم بن أبي الجَعْد: ليأتينّ على الناس زمانٌ يجتمعون فيه على باب رجل، ينظرون أن يخرج إليهم فيطلبوا إليه الحاجة، فيخرج إليهم، وقد مُسِخَ قردًا أو خنزيرًا، ولَيَمُرّنّ الرجل على الرجل في حانوته يبيعُ، فيرجع إليه وقد مُسخَ قردًا أو خنزيرًا.

وقال أبو الزاهرية: لا تقومُ الساعة حتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيُمسخ أحدهما قردًا أو خنزيرًا، فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك، حتى يقضي شَهْوته، وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيُخْسَف بأحدهما، فلا يَمنَع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك، حتى يقضي شهوته منه.

وقال عبد الرحمن بن غَنْمٍ: يوشك أن يقعد اثنان على ثِفالِ رَحًى يطحنان، فيُمْسخ أحدُهما، والآخرُ ينظر.

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (13) من طريق عقيل بن مدرك عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير، وهذا مرسل وفي إسناده ضعف.

ص: 591