المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تغيير الفطرة - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي انقسام القلوب إلى صحيحٍ وسقيمٍ ومَيّتٍ

- ‌الباب الثانيفي ذكر حقيقة مرض القلب

- ‌ حال القلوب عند ورود الحق المنزل

- ‌الباب الثالثفي انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبعية وشرعية

- ‌الباب الرابعفي أن حياة القلب وإشراقه مادةُ كل خير فيه وموتَه وظلمتَه مادةُ كل شر فيه

- ‌ضرب الله سبحانه المثلَين المائيَّ والناريَّ لوحيه ولعباده

- ‌الباب الخامسفي أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدركًا للحقِّ مريدًا له، مُؤْثِرًا له على غيره

- ‌الباب السادسأنه لا سعادة للقلب ولا لذةَ ولا نعيمَ ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه

- ‌ المقدور يكتنفه(1)أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه

- ‌ تعلُّق العبد بما سوى الله تعالى مَضَرة عليه

- ‌مُحِبُّ الدنيا لا ينفكُّ من ثلاث: هَمٍّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي

- ‌ غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم بك، وإن أضرَّ ذلك بدينك ودنياك

- ‌الباب السابعفي أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه

- ‌الباب الثامنفي زكاة القلب

- ‌إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته

- ‌ الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته

- ‌ زكاة القلب موقوفة على طهارته

- ‌الباب التاسعفي طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

- ‌ خبث الملبس يُكسِبُ القلب هيئةً خبيثة

- ‌ العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه

- ‌ معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهِّرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد»

- ‌ عشق الصور المحرّمة نوع تَعَبُّدٍ لها

- ‌لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا

- ‌ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ

- ‌مَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين

- ‌ فوائد نظر العبد في حق الله عليه:

- ‌الباب الثاني عشرفي علاج مرض القلب بالشيطان

- ‌الباب الثالث عشرفي مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم

- ‌ تغيير الفطرة

- ‌ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها

- ‌الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه:

- ‌الفصل الأولفي النية في الطهارة والصلاة

- ‌ النية قصد فعل الشيء

- ‌إن شك في حصول نيّته فهو نوع جنون

- ‌الشرك وتحريم الحلال قرينان

- ‌ الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:

- ‌ لا تجد أحدًا عُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى

- ‌فصلالاسم الثاني والثالث: الزور، واللغو

- ‌فصلالاسم الرابع: الباطل

- ‌ حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

- ‌ حديث عائشة رضي الله عنها:

- ‌المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة

- ‌المحرَّمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها

- ‌القربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها

- ‌الأفعال الموجبة للتحريم لا يُعتبر لها العقل، فضلًا عن القصد

- ‌ الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع

- ‌ الحيل نوعان: أقوال، وأفعال

الفصل: ‌ تغيير الفطرة

وقتادة

(1)

، والسدّي

(2)

، وسعيد بن المسيّب

(3)

، وسعيد بن جُبير

(4)

.

ومعنى ذلك هو أن الله تعالى فَطَر عباده على الفِطْرة المستقيمة، وهي ملّة الإسلام، كما قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم: 30،31].

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يُولَد على الفِطرة، فأبواه يُهوّدانه، ويُنصّرانه، ويُمجّسانه، كما تُنْتَجُ البهيمةُ بَهيمةً جَمْعَاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جَدْعاء؟! حتى تكونوا أنتم تَجْدعونها» ، ثم قرأ أبو هريرة:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية [الروم: 30]، متفق عليه

(5)

.

فجمع النبىّ صلى الله عليه وسلم بين الأمرين:‌

‌ تغيير الفطرة

بالتهويد والتنصير، وتغيير الخِلقة بالجدْع، وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لا بد أن يُغيّرهما؛ فغيَّر فطرة الله بالكفر، وهو تغيير الخلقة التي خُلِقُوا عليها، وغير الصورة بالجَدع والبَتْك، فغير الفطرة إلى الشرك، والخِلقة إلى البتك والقطع، فهذا تغيير خلقة الروح، وهذا تغيير خلقة الصورة.

(1)

رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 173) ـ ومن طريقه ابن جرير في تفسيره (9/ 219) ــ عن معمر عن قتادة، ورواه ابن جرير أيضًا من طريق سعيد عن قتادة.

(2)

رواه ابن جرير في تفسيره (9/ 220) من طريق أحمد بن مفضل عن أسباط عنه.

(3)

انظر: تفسير البغوي (2/ 289)، وتفسير الرازي (11/ 39).

(4)

رواه سعيد بن منصور في سننه (691) عن سفيان عن حميد الأعرج عنه، وعزاه في الدر المنثور (2/ 690) لابن المنذر.

(5)

البخاري (1358)، ومسلم (2658).

ص: 186

ثم قال: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} ، فوَعْدُه ما يصل إلى قلب الإنسان، نحو: سيطول عمرُك، وتنال من الدنيا لذّتك، وستعلو على أقرانك، وتظفر بأعدائك، والدنيا دُوَلٌ، ستكون لك كما كانت لغيرك، ويُطوِّل أملَه، ويَعِدُه بالحُسْنى على شِركه ومعاصيه، ويُمنّيه الأمانيَّ الكاذبة على اختلاف وجوهها.

والفرق بين وعده وتمنيته

(1)

: أن الوعد في الخبر، والتمنية في الطلب والإرادة؛ فيعده الباطل الذي لا حقيقة له وهو الغرور ويُمنِّيه المحال الذي لا حاصل له.

ومن تأمَّل أحوال أكثر الناس وجدهم متعلّقين بوعده وتمنيته وهم لا يشعرون؛ يَعِدُ الباطل، ويمنِّي المحال، والنفس المهينة التي لا قَدْر لها تغتذي بوعده وتمنيته، كما قال القائل:

مُنًى إنْ تَكُنْ حَقًّا تَكُنْ أحْسَنَ المُنَى

وَإِلَّا فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَنًا رَغْدَا

(2)

فالنفس المبطلة الخسيسة تلتذ بالأمانيّ الباطلة والوعود الكاذبة، وتفرح بها كما يفرح بها النساء والصبيان ويتحركون لها، فالأقوال الباطلة مصدرها وعد الشيطان وتمنيته؛ فإنه يُمنِّي

(3)

أصحابها الظَّفر بالحق

(1)

في أغلب النسخ: «تمنيه» .

(2)

البيت لرجل من بني الحارث في حماسة أبي تمام (2/ 144)، وذيل أمالي القالي (ص 102)، ومجموعة المعاني (ص 141)، ولبعض الأعراب في عيون الأخبار (1/ 261)، وبلا نسبة في الصناعتين (ص 77)، وزهر الآداب (1/ 352).

(3)

م: «فإنها تمني» .

ص: 187

وإدراكه، ويَعدُهم الوصول إليه من غير طريقه، فكل مُبطِلٍ فله نصيبٌ من قوله:{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120].

ومن ذلك قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268].

قيل: {يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} ، يخوّفكم به، يقول: إن أنفقتم أموالكم افتقرتم.

{وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} ، قالوا: هي البخل في هذا الموضع خاصة.

ويُذكر عن مقاتل

(1)

والكلبي

(2)

: «كل فحشاء في القرآن فهي الزنى إلا في هذا الموضع؛ فإنها البخل» .

والصواب أن الفحشاء على بابها، وهي كل فاحشة، فهي صفة لموصوف محذوفٍ، فحذف موصوفها إرادةً للعموم؛ أي بالفَعْلة الفحشاء، والخُلّة الفحشاء، ومن جملتها البخل.

فذكر سبحانه وعد الشيطان وأمره، يأمر بالشر، ويُخوِّف من فعل الخير، وهذان الأمران هما جماع ما يطلبه الشيطان من الإنسان؛ فإنه إذا خوّفه من فعل الخير تركه، وإذا أمره بالفحشاء وزيّنها له ارتكبها.

وسمَّى سبحانه تخويفه وَعْدًا؛ لانتظار الذي خوَّفه إياه كما ينتظر الموعود ما وُعد به.

ثم ذكر سبحانه وعده على طاعته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهى المغفرة والفضل، فالمغفرة: وقاية الشر، والفضل: إعطاء الخير.

(1)

انظر: تفسير الثعلبي (2/ 39، 270)، وتفسير القرطبي (2/ 210).

(2)

انظر: تفسير البغوي (1/ 333). والبسيط للواحدي (4/ 429).

ص: 188

(1)

رواه الترمذي (2988)، والنسائي في الكبرى (11051)، وأبو يعلى (4999)، وغيرهم من طريق هناد، والبزار (2027)، والبيهقي في الشعب (4/ 120) من طريق الحسن بن الربيع، كلاهما عن أبي الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة عن ابن مسعود مرفوعًا، قال الترمذي:«هذا حديث حسن غريب، وهو حديث أبي الأحوص، لا نعلمه مرفوعًا إلا من حديث أبي الأحوص» ، وصححه ابن حبان (997)، وأحمد شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري (5/ 572). قال البزار:«رواه غير أبي الأحوص موقوفًا» ، فرواه عمرو وجرير وحماد بن سلمة عند ابن جرير (5/ 572 ـ 575)، وحماد بن زيد عند الطبراني في الكبير (9/ 101)، أربعتهم عن عطاء به موقوفًا، قال أبو حاتم كما في العلل (2/ 244):«هذا من عطاء بن السائب، كان يرفع الحديث مرة ويوقفه أخرى» ، ورجح أبو زرعة وقفه، وقال ابن تيمية كما في المجموع (4/ 31 ـ 32):«هو محفوظ عن ابن مسعود، وربما رفعه بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم» . وورد من وجه آخر عن عطاء موقوفًا، فرواه مسعر ـ كما في تفسير ابن كثير (1/ 700) ـ عن عطاء عن عوف بن مالك عن ابن مسعود، ورواه ابن علية ـ عند ابن جرير (5/ 572) ـ عن عطاء عن مرة أو عوف عن ابن مسعود .. وقد توبع عطاء على الرفع وعلى الوقف، فرواه ابن مردويه ـ كما في تفسير ابن كثير (1/ 700) ـ من طريق أبي ضمرة عن الزهري، والبيهقي في الشعب (4/ 120) من طريق إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان، كلاهما عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن مسعود مرفوعًا، ورواه ابن المبارك في الزهد (1435)، وأحمد في الزهد (ص 157) من طريق المسيب بن رافع عن عامر بن عبدة عن ابن مسعود موقوفًا، ورواه عبد الرزاق في التفسير (1/ 109)، وأبو داود في الزهد (174) عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن مسعود موقوفًا.

ص: 189

فالملك والشيطان يتعاقبان على القلب تعاقب الليل والنهار، فمن الناس من يكون ليله أطول من نهاره، وآخر بضده، ومنهم من يكون زمنه نهاراً كله، وآخر بضده.

فصل

ومن كيده للإنسان: أنه يُورِده المواردَ التي يُخيَّل إليه أن فيها منفعته، ثم يُصْدِرُهُ المصادر التي فيها عطبه، ويتخلّى عنه ويُسلِمه ويقف يشمتُ به، ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والزنى والقتل، ويدل عليه ويفضحه، قال تعالى:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48]، فإنه تراءى للمشركين عند خروجهم إلى بدرٍ في صورة سُراقة بن مالك، وقال: إني جارٌ لكم من بني كِنانة أن يقصدوا أهلكم وذراريكم بسوء، فلما رأى عدوُّ الله جنودَ الله من الملائكة نزلت لنصر رسوله فرَّ عنهم وأسلمهم، كما قال حسان:

دَلّاهُمُ بِغُرُورٍ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ

إِنَّ الخبِيثَ لمنْ وَالاهُ غَرّارُ

(1)

وكذلك فعل بالراهب الذي قتل المرأة وولدها، أمره بالزنى بها ثم بقتلها، ثم دلّ أهلها عليه، وكشف [33 أ] أمره لهم، ثم أمره بالسجود له، فلما فعل فر عنه وتركه، وفيه أنزل الله سبحانه: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ

(1)

البيت في ديوانه (ص 476)، وسيرة ابن هشام (1/ 664).

ص: 190

قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]، وهذا السياق لا يختص بالذي ذُكرت عنه هذه القصة

(1)

، بل هو عامّ في كل من أطاع الشيطان في أمره له بالكفر، لينصره ويقضي حاجته؛ فإنه يتبرأ منه ويُسْلمه كما يتبرأ من أوليائه جملةً في النار، ويقول لهم:{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22]، فأوردهم شرَّ الموارد، وتبرأ منهم كلَّ البراءة.

وتكلَّم الناس في قول عدو الله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ}

(2)

:

فقال قتادة

(3)

، وابن إسحاق

(4)

: «صدق عدو الله في قوله: {إِنِّي أَرَى مَا

(1)

هذه القصة وردت في حديث مرفوع رواه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان (61)، والبيهقي في الشعب (4/ 372) عن عبيد بن رفاعة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، وعبيد ولِد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصحّ سماعه، ولذا حكم العراقي في تخريج الإحياء (2/ 719) على الحديث بالإرسال. ووردت عن عددٍ من الصحابة: فرواها عبد الرزاق في تفسيره (3/ 285)، وابن جرير في تفسيره (23/ 294 - 295) وغيرهم عن علي رضي الله عنه، وعن عبد الرزاق رواه ابن راهويه ــ كما في إتحاف الخيرة (5857) ــ، والبيهقي في الشعب (4/ 373)، وصححه الحاكم (3801)، ورواها ابن جرير أيضًا (23/ 295) عن ابن مسعود رضي الله عنه، ورواها ابن جرير (23/ 295 - 296)، والثعلبي في تفسيره (9/ 284، 285) من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما. ووردت أيضًا عن بعض التابعين.

(2)

أكثر الأقوال المذكورة هنا في البسيط للواحدي (10/ 191 ــ 192).

(3)

رواه ابن جرير في تفسيره (13/ 9)، وابن أبي حاتم في تفسيره (9164) من طريق يزيد بن زريع عن سعيد عنه، وعزاه في الدر المنثور (4/ 79) لأبي الشيخ.

(4)

سيرة ابن هشام (3/ 285)، ورواه ابن جرير في تفسيره (13/ 8) عن ابن حميد عن سلمة عنه.

ص: 191

لَا تَرَوْنَ}، وكذب في قوله:{إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} ، والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له ولا مَنَعَة، فأوردهم وأسلمهم، وكذلك عادة عدو الله بمن أطاعه».

وقالت طائفة: «إنما خاف بَطْشة الله به في الدنيا، كما يخاف الكافر والفاجر أن يُقتل أو يُؤخذ بجرمه، لا أنه خاف عقابه في الآخرة» .

وهذا أصحُّ، وهذا الخوف لا يستلزم إيمانًا ولا نجاةً.

قال الكلبي

(1)

: «خاف أن يأخذه جبريل، فيُعرِّفهم حاله، فلا يطيعونه» .

وهذا فاسد؛ فإنه إنما قال لهم ذلك بعد أن فرّ ونكصَ على عقبيه؛ إلا أن يريد أنه إذا عرف المشركون

(2)

أن الذي أجارهم وأوردهم إبليس لم يطيعوه فيما بعد ذلك، وقد أبعد النُّجْعَة إن أراد ذلك، وتكلّف غير المراد.

وقال عطاء

(3)

: «إني أخاف الله أن يُهلكني فيمن يُهلك» .

وهذا خوف هلاك الدنيا، فلا ينفعه.

وقال الزجَّاج

(4)

، وابن الأنباري:«ظن أن الوقت الذي أُنظر إليه قد حضر. زاد ابن الأنباري، قال: أخاف أن يكون الوقت المعلوم الذي يزول معه إنظاري قد حضر؛ فيقع بي العذاب، فإنه لما عاين الملائكة خاف أن يكون وقت الإنظار قد انقضى، فقال ما قال إشفاقًا على نفسه» .

(1)

انظر: تفسير الثعلبي (4/ 366)، وتفسير البغوي (3/ 367).

(2)

في الأصل وأكثر النسخ: «المشركين» . والمثبت من ح.

(3)

انظر: تفسير الثعلبي (4/ 366)، وتفسير البغوي (3/ 366)، وزاد المسير (3/ 367).

(4)

معاني القرآن (2/ 421).

ص: 192

فصل

ومن كيد عدو الله: أنه يخوِّف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم، ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر؛ وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وقد أخبرنا الله سبحانه عنه بهذا؛ فقال:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].

المعنى عند جميع المفسرين: يُخوِّفكم بأوليائه.

قال قتادة: «يُعظِمهم في صدوركم»

(1)

.

ولهذا قال: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمان قوي خوفه منهم.

ومن مكايده: أنه يسحر العقل دائمًا حتى يكيده، ولا يَسْلَم من سحره إلا من شاء الله، فيزيّن له الفعل الذي يضره، حتى يخيَّل إليه أنه من أنفع الأشياء له، ويُنفّره من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له، حتى يخيَّل له أنه يضره.

فلا إله إلا الله! كم فُتن بهذا السحر من إنسان! وكم حال به بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان! وكم جمَّل

(2)

الباطل وأبرزه في صورة

(1)

لم أقف عليه من تفسير قتادة، وورد نحوه عن السدي عند ابن جرير في تفسيره (7/ 417)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4535) من طريق أحمد بن مفضّل عن أسباط عنه، وعن أبي مالك عند ابن أبي حاتم (4534) من طريق سليمان بن كثير عن حصين عنه قال:«يعظِّم أولياءَه في أعينكم» .

(2)

ح: «حلا» . م: «جلا» .

ص: 193

مستحسنة، وبشّع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة! وكم بَهْرَج من الزُّيوف على الناقدين، وكم روّج من الزَّغل على العارفين! فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أربابها في الأهواء المختلفة والآراء المتشعّبة؛ وسلك بهم من سبل الضلال كل مسلك، وألقاهم من المهالك في مهلك بعد مهلك، وزيَّن لهم من عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام، ووأد البنات، ونكاح الأمهات، ووعدهم الفوز بالجِنَانِ مع الكفر والفسوق والعصيان، وأبرز لهم الشرك في صورة التعظيم، والكفر بصفات الرب تعالى وعلوّه على عرشه وتكلمه بكتبه في قالب التنزيه، [33 ب] وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودّد إلى الناس، وحسن الخلق معهم، والعمل بقوله:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]، والإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في قالب التقليد، والاكتفاء بقول من هو أعلم منهم، والنفاق والإدْهان في دين الله في قالب العقل المعيشيّ الذي يندرج به العبد بين الناس.

فهو صاحب الأبوين حين

(1)

أخرجهما من الجنة، وصاحب قابيل حين قتل أخاه، وصاحب قوم نوح حين أُغرِقوا، وقومِ عاد حين أُهلِكوا بالريح العقيم، وصاحب قوم صالح حين أُهلكوا بالصيحة، وصاحب الأُمّة اللوطية حين خُسِفَ بهم وأُتبعوا بالرجم بالحجارة، وصاحب فرعون وقومه حين أُخذوا الأخذَة الرّابية، وصاحب عُبّاد العجل حين جرى عليهم ما جرى، وصاحب قريش حين دعوا يوم بدر، وصاحب كل هالك ومفتون.

(1)

م: «حتى» .

ص: 194

فصل

وأول كيده ومكره: أنه كاد الأبوين بالأيمان الكاذبة أنه ناصح لهما، وأنه إنما يريد خلودهما في الجنة، قال تعالى:{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 20 ــ 22].

فالوسوسة: حديث النّفس والصوت الخفي، وبه سُمِّي صوت الحُليِّ وسواسًا، ورجل موسوِس بكسر الواو، ولا يفتح فإنه لحن، وإنما قيل له: مُوَسوسٌ؛ لأن نفسه تُوسوِس إليه، قال تعالى:{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16].

وعلم عدوُّ الله أنهما إذا أكلا من الشجرة بدت لهما عوراتهما؛ فإنها معصية، والمعصية تَهتِكُ ستر ما بين الله وبين العبد، فلما عصيا انْهتَك ذلك الستر، فبدت لهما سوآتهما

(1)

، فالمعصية تُبدي السوأة الباطنة والظاهرة، ولهذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه الزناة والزواني عراةً باديةً سوآتُهم

(2)

. وهكذا إذا رُئيَ الرجل أو المرأة في منامه مكشوف السوأة، فإنه يدل على فساد دينه، قال الشاعر:

إِنِّي كَأَنِّي أَرَى مَنْ لا حَيَاءَ لَهُ

وَلَا أمَانَةَ وَسْطَ النَّاسِ عُرْيَانا

(3)

(1)

في غير الأصل وح: «عوراتهما» .

(2)

أخرجه البخاري (1386، 7047) عن سمرة بن جندب ضمن حديث طويل.

(3)

البيت ضمن مقطوعة لسوار بن المضرب في حماسة أبي تمام بشرح المرزوقي (3/ 1361)، والزهرة (1/ 12)، وهو له في لسان العرب (وسط) والنوادر لأبي زيد (ص 45).

ص: 195

فإن الله سبحانه أنزل لباسين: لباسًا ظاهرًا يواري العورة ويسترها، ولباسًا باطنًا من التقوى، يُجَمِّلُ العبد ويستره، فإذا زال عنه هذا اللباس انكشفت عورته الباطنة، كما تنكشف عورته الظاهرة بنزع ما يسترها.

ثم قال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} ؛ أي: إلا كراهة أن تكونا ملكين، وكراهة أن تخلدا في الجنة، ومن هاهنا دخل عليهما؛ لما عرف أنهما يريدان الخلود فيها. وهذا باب كيدِه الأعظم الذي يدخل منه على ابن آدم؛ فإنه يجري منه مجرى الدم

(1)

، حتى يصادق نفسه ويخالطها، ويسألها عما تحبه وتُؤْثِرُه، فإذا عرفه استعان بها على العبد، ودخل عليه من هذا الباب.

وكذلك علَّم إخوانه وأولياءه من الإنس إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من بعضهم بعضًا؛ أن يدخلوا عليهم من الباب الذي يحبونه ويهوَونه، فإنه باب لا يُخْذَلُ عن حاجته من دخل منه، ومن رام الدخول من غيره فالباب عليه مسدودٌ، وهو عن طريق مقصده مصدود.

فشامّ عدوُّ الله الأبوين، فأحسّ منهما إيناسًا وركونًا إلى الخلد في تلك الدار في النعيم المقيم، فعلم أنه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب، فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين، وقال:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} .

(1)

كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (2038)، ومسلم (2175) عن صفية.

ص: 196