الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التي تكون لمن ذلك لُبْسُهُ من النساء، وأهل الفخر والخُيَلاء.
والمقصود أن طهارة الثوب وكونه من مكسب طيب هو من تمام طهارة القلب وكمالها؛ فإن كان المأمور به ذلك فهو وسيلة مقصودة لغيرها، فالمقصود لنفسه أولى أن يكون مأمورًا به، وإن كان المأمور به طهارة القلب وتزكية النفس فلا يتم إلا بذلك، فَتَبيَّنَ
(1)
دلالة القرآن على هذا وهذا.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ [17 أ] أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} ، عقيب قوله:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} إلى قوله {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41]، مما يدلُّ على أن
العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه
، فإنه إذا قبل الباطل أحبَّهُ ورضيه، فإذا جاء الحق بخلافه ردّه وكذَّبه إن قدر على ذلك، وإلا حَرّفه، كما تصنع الجَهْميّة بآيات الصفات وأحاديثها، يردون هذه بالتأويل الذي هو تكذيب لحقائقها، وهذه بكونها أخبار آحاد لا يجوز الاعتماد عليها في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته. فهؤلاء وإخوانهم من الذين لم يُرِد الله أن يطهر قلوبهم؛ فإنها لو طهرت لما تعوَّضت بالباطل عن كلام الله تعالى ورسوله. كما أن المنحرفين من أهل الإرادة لمَّا لم تطهر قلوبهم تعوَّضوا بالسماع الشيطاني عن السماع القرآني الإيماني.
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: «لو طَهُرت قلوبنا لما شَبِعتْ من كلام الله»
(2)
.
(1)
م، ظ، ت:«فبيّن» .
(2)
رواه الحسين المروزي في زوائد الزهد (ص 399)، وعبد الله في زوائد الزهد (ص 128) عن ابن عيينة عن عثمان، ومن طريق عبد الله رواه أبو نعيم في الحلية (7/ 272، 300). ورواه البيهقي في الشعب (2/ 409)، وفي الاعتقاد (ص 105) من طريق ابن عيينة عن إسرائيل بن موسى عن الحسن عن عثمان، ومن طريق البيهقي رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (39/ 239).
فالقلب الطاهر ــ لكمال حياته ونوره وتخلُّصه من الأدران والخبائث ــ لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذي لم يُطهِّره الله، فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة، فإن القلب النجس كالبدن العلىل المريض، لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح.
ودلت الآية على أن طهارة القلب موقوفة على إرادة الله، وأنه سبحانه لما لم يُرِد أن يُطهِّر قلوب القائلين بالباطل المحرِّفين للحق لم يحصل لها الطهارة.
ولا يصحُّ أن تفسَّر الإرادة هاهنا بالإرادة الدينية، وهي الأمر والمحبة، فإنه سبحانه قد أراد ذلك لهم أمرًا ومحبة، ولم يرده منهم كونًا؛ فأراد الطهارة لهم، ولم يُرِدْ وقوعها منهم؛ لما له في ذلك من الحكمة التي فَواتُها أكرهُ إليه من فوات الطهارة منهم.
وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتابنا الكبير في القَدَر
(1)
.
ودلت الآية على أن من لم يُطهِّر الله قلبه فلا بد أن يناله الخِزْيُ في الدنيا والعذاب في الآخرة، بحسب نجاسة قلبه وخبثه، ولهذا حرّم الله سبحانه
(1)
هو «شفاء العليل» ، انظر الباب التاسع والعشرين منه في انقسام القضاء والإرادة إلى كونيّ متعلق بخلقه، وإلى ديني متعلق بأمره.
الجنة على من في قلبه نجاسة وخبث، ولا يدخلها إلا بعد طِيبه وطهره
(1)
، فإنها دار الطيبين، ولهذا يقال لهم:{طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، أي ادخلوها بسبب طيبكم. والبشارة عند الموت لهؤلاء دون غيرهم، كما قال تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، فالجنة لا يدخلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخبث.
فمن تطهر في الدنيا ولقي الله طاهرًا من نجاساته دخلها بغير مُعَوِّق، ومن لم يتطهر في الدنيا؛ فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعدما يتطهر من تلك النجاسة، ثم يخرج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حُبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيُهَذَّبون ويُنقَّون من بقايا بقيت عليهم، قصَّرت
(2)
بهم عن الجنة، ولم توجب لهم دخول النار، حتى إذا هُذّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم في دخول الجنة
(3)
.
والله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يدخل المصلي عليه حتى يتطهر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفًا على الطِّيب والطهارة، [17 ب] فلا يدخلها إلا طَيِّبٌ طاهر، فهما طهارتان: طهارة البدن، وطهارة القلب، ولهذا شُرع للمتوضئ أن يقول عقيب وضوئه: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من
(1)
في م: «تطهره» .
(2)
م، ت، ظ:«فصرف» .
(3)
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (2440) عن أبي سعيد الخدري.