المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي انقسام القلوب إلى صحيحٍ وسقيمٍ ومَيّتٍ

- ‌الباب الثانيفي ذكر حقيقة مرض القلب

- ‌ حال القلوب عند ورود الحق المنزل

- ‌الباب الثالثفي انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبعية وشرعية

- ‌الباب الرابعفي أن حياة القلب وإشراقه مادةُ كل خير فيه وموتَه وظلمتَه مادةُ كل شر فيه

- ‌ضرب الله سبحانه المثلَين المائيَّ والناريَّ لوحيه ولعباده

- ‌الباب الخامسفي أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدركًا للحقِّ مريدًا له، مُؤْثِرًا له على غيره

- ‌الباب السادسأنه لا سعادة للقلب ولا لذةَ ولا نعيمَ ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه

- ‌ المقدور يكتنفه(1)أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه

- ‌ تعلُّق العبد بما سوى الله تعالى مَضَرة عليه

- ‌مُحِبُّ الدنيا لا ينفكُّ من ثلاث: هَمٍّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي

- ‌ غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم بك، وإن أضرَّ ذلك بدينك ودنياك

- ‌الباب السابعفي أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه

- ‌الباب الثامنفي زكاة القلب

- ‌إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته

- ‌ الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته

- ‌ زكاة القلب موقوفة على طهارته

- ‌الباب التاسعفي طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

- ‌ خبث الملبس يُكسِبُ القلب هيئةً خبيثة

- ‌ العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه

- ‌ معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهِّرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد»

- ‌ عشق الصور المحرّمة نوع تَعَبُّدٍ لها

- ‌لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا

- ‌ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ

- ‌مَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين

- ‌ فوائد نظر العبد في حق الله عليه:

- ‌الباب الثاني عشرفي علاج مرض القلب بالشيطان

- ‌الباب الثالث عشرفي مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم

- ‌ تغيير الفطرة

- ‌ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها

- ‌الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه:

- ‌الفصل الأولفي النية في الطهارة والصلاة

- ‌ النية قصد فعل الشيء

- ‌إن شك في حصول نيّته فهو نوع جنون

- ‌الشرك وتحريم الحلال قرينان

- ‌ الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:

- ‌ لا تجد أحدًا عُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى

- ‌فصلالاسم الثاني والثالث: الزور، واللغو

- ‌فصلالاسم الرابع: الباطل

- ‌ حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

- ‌ حديث عائشة رضي الله عنها:

- ‌المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة

- ‌المحرَّمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها

- ‌القربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها

- ‌الأفعال الموجبة للتحريم لا يُعتبر لها العقل، فضلًا عن القصد

- ‌ الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع

- ‌ الحيل نوعان: أقوال، وأفعال

الفصل: ‌المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة

وقال مالك بن دينار: بلغني أن ريحًا تكون في آخر الزمان وظُلَم، فيفزعُ الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مُسخوا.

وقد ساق هذه الأحاديث والآثار وغيرها بأسانيدها: ابنُ أبي الدنيا في كتاب «ذَمِّ الملاهي»

(1)

.

ف‌

‌المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة

ولا بدّ، وهو واقعٌ في طائفتين:

- علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه، فقلبَ الله تعالى صُورَهم، كما قلبوا دينه.

- والمجاهرين المتَهَتِّكين بالفسق والمحارم.

ومن لم يُمْسَخْ منهم في الدنيا مُسخ في قَبره، أو يوم القيامة.

وقد جاءَ في حديثٍ الله أَعلم بحاله: «يُحشر أكَلَة الربا يوم القيامة في صورة الخنازير والكلاب»

(2)

؛ من أجلِ حيلتهم على الربا، كما مُسخ أصحاب داود لاحتيالهم على أخذ الحيتان يوم السبت.

وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث كثيرة.

قال شيخنا

(3)

رحمه الله: «وإنما ذاك إذا استحلُّوا هذه المحرَّمات

(1)

وسبق تخريجها.

(2)

لم أقف عليه. وقد ذكره شيخ الإسلام في بيان الدليل (ص 44) من غير عزو، وقال: الله أعلم بحال هذا الحديث.

(3)

بيان الدليل (ص 45).

ص: 592

بالتأويلات الفاسدة؛ فإنهم لو استحلّوها مع اعتقاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرَّمها كانوا كفارًا، ولم يكونوا من أمته، ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ، كسائر الذين يفعلون هذه المعاصي مع اعترافهم بأنها معصية، ولَمَا قيل فيهم: يَسْتَحِلّون، فإن المستحل للشيء هو الذي يفعله معتقدًا حِلّه، فيُشْبِهُ أن يكون استحلالهم للخمر يعني به: أنهم يُسَمّونَها بغير اسمها، كما جاء

(1)

في الحديث، فيشربون الأنبذة المحرّمة، ولا يسمونها خمرًا، واستحلالُهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجردُ سمع صوت فيه لَذّة، وهذا لا يحرُم كأصوات الطيور، واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال في بعض الصور، كحال الجرب وحال الحكّة ونحوهما، فيقيسون عليه سائر الأحوال، ويقولون: لا فرق بين حالٍ وحال وهذه التأويلات ونحوها واقعة في الطوائف الثلاثة، الذين قال فيهم عبد الله بن المبارك رحمه الله:

وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلا الملُوكُ

وَأحْبَارُ سَوءٍ ورُهْبَانُها

(2)

ومعلوم أنها لا تُغني عن أصحابها من الله شيئًا، بعد أن بَلّغ الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيّن تحريم هذه الأشياء بيانًا قاطعًا للعذرِ، مُقيمًا للحجة.

والحديث الذي رواه أبو داود

(3)

بإسناد صحيح من حديث

(1)

«جاء» ساقطة من م.

(2)

البيت له في بهجة المجالس (2/ 334)، وتمثل به إبراهيم بن أدهم كما في تاريخ دمشق (6/ 336)، والبداية والنهاية (13/ 509).

(3)

سنن أبي داود (3690) لكن ليس فيه عنده قوله: «يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات» إلى آخره، وقد عزاه المصنف فيما مضى لابن ماجه (4020)، وصحّح إسناده، وتقدّم تخريجه هناك.

ص: 593

عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيَشْرَبَنّ ناس من أمتي الخمر، يُسمُّونها بغير اسمِها، يُعزَف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يَخْسِفُ الله تعالى بهم الأرضَ، ويجعل منهم القردة والخنازير» .

الوجه الثامن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» الحديث

(1)

.

وهو أصل في إبطال الحيل، وبه احتج البخاري

(2)

على ذلك، فإن مَن أراد أن يعامل رجلًا معاملةً يعطيه فيها ألفًا بألفٍ وخمس مئة إلى أجَلٍ، فأقرضه تسع مئة، وباعه ثوبًا بست مئة يساوي ألفًا؛ إنما نوى بإقراض التسع مئة تحصيل الربح الزائد، وإنما نوى بالست مئة التي أظهر أنها ثمن الثوب الربا.

والله يعلم ذلك من جِذْر قلبه، وهو يعلمه، ومَنْ عامَله يعلمه، ومن اطلّع على حقيقة الحال يعلمه، فليس له من عمله إلا ما نواه وقصده حقيقة، من إعطاء ألف حالّة، وأخذ ألف وخمس مئة مؤجّلة، وجعل صورة القَرْض وصورة البيع محلِّلًا لهذا المحرّم.

الوجه التاسع: ما رواه عَمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«البَيِّعان بالخيار حتى يَتَفَرقا، إلا أن يكون صَفْقَةَ خِيارٍ، ولا يحِلّ له أن يفارقه خَشْيَةَ أن يَسْتَقِيلَهُ» .

(1)

أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907) عن عمر بن الخطاب.

(2)

برقم (6953).

ص: 594

رواه أحمد، وأهل «السنن»

(1)

؛ وحَسّنه الترمذي.

وقد استدل به الإمام أحمد، وقال: فيه إبطال الحيل

(2)

. ووجه ذلك أن الشارع أثبتَ الخيار إلى حين التفرّق الذي يفعله المتعاقدان بداعية طباعهما، فحرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقصد المفارق منعَ الآخر من الاستقالة، وهى طلبُ الفسخ، سواءً كان العقدُ لازمًا أو جائزًا؛ لأنه قصد بالتفرّق غيرَ ما جُعل التفرق في العرف له؛ فإنه قصد به إبطال حق أخيه من الخيار، ولم يوضع التفرقُ لذلك، وإنما جُعل التفرق لذَهاب كلٍّ واحد منهما في حاجته ومصلحته.

الوجه العاشر: ما روى محمد بن عَمرٍو، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا ترتكبوا ما ارتكبَتِ اليهود، وتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل» .

(1)

مسند أحمد (2/ 183)، سنن أبي داود (3458)، سنن الترمذي (1247)، سنن النسائي (4495)، ورواه أيضًا الطحاوي في شرح المشكل (5259، 5260)، والدارقطني (3/ 50)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (5/ 271)، وصححه ابن الجارود (620)، وابن خزيمة كما في بلوغ المرام (827)، والنووي في المجموع (9/ 185)، وابن دقيق العيد في الإلمام (1014)، قال ابن الملقن في البدر المنير (2/ 156):«إسناده إلى عمرو صحيح على شرط مسلم» ، وحسنه الألباني في الإرواء (1311). وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وحكيم بن حزام وأبي برزة وسمرة وأبي هريرة وأم عطية وعن ابن أبي مليكة وعطاء مرسلا، لكن ليس فيها النهي عن المفارقة خشية الاستقالة.

(2)

انظر إبطال الحيل لابن بطة (ص 108).

ص: 595

رواه أبو عبد الله بن بَطّة

(1)

: حدثنا أحمد بن محمد بن سَلْمٍ، حدثنا الحسن بن الصبّاح الزّعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرٍو.

وهذا إسناد جيد، يصحح مثله الترمذي.

وهو نصٌّ في تحريم استحلال محارم الله تعالى بالحيل، وإنما ذكر صلى الله عليه وسلم أدنى الحيل تنبيهًا على أن مثل هذا المحرَّم العظيم الذي قد توعّد الله تعالى عليه بمحاربة من لم ينته عنه.

فمن أسهل الحيل على مَنْ أراد فعله: أن يعطيه مثلًا ألفًا إلا درهمًا باسم القَرْض، ويبيعه خِرْقةً تساوى درهمًا بخمس مئة.

وكذلك المطلِّق ثلاثًا: من أسهل الأشياء عليه أن يُعْطي بعضَ السفهاء عشرة دراهم مثلًا، ويستعيره لِيَنْزُوَ على مطلَّقته، فتطيب له، بخلاف الطريق الشرعي، فإنه يصعب معه عَوْدُها حلالًا؛ إذ من الممكن أن لا يُطَلِّق، بل أن يموت المطلِّق أولًا قبله.

ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهانا عن التّشَبُّه باليهود، وقد كانوا احتالوا في الاصطياد يوم السبت بأن حفروا خنادق يوم الجمعة، تقعُ فيها الحيتان يوم السبت، ثم يأخذونها يوم الأحد، وهذا عند المحتالين جائز؛ لأن فعل الاصطياد لم يُوجد يوم السبت، وهو عند الفقهاء حرام؛ لأن المقصود هو الكَفّ عما يُنالُ

(1)

إبطال الحيل (ص 46 - 47)، وحسن إسناده ابن تيمية كما في المجموع (29/ 29)، وابن كثير في تفسيره (1/ 293، 3/ 493)، والسخاوي في الأجوبة المرضية (1/ 214)، والألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 608)، وصححه ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (2/ 531، 3/ 426).

ص: 596

به الصيد بطريق التسبُّب أو المباشرة.

ومن احتيالهم: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا حرّم عليهم الشحوم تأوّلوا أن المراد نفس إدخاله الفَمَ، وأن الشحم هو الجامد دون المُذاب، فجَمَلوه فباعوه، وأكلوا ثَمَنه، وقالوا: ما أكلنا الشحمَ، ولم ينظروا في أن الله تعالى إذا حَرّم الانتفاع بشيء فلا فرق بين الانتفاع بعينه أو ببدله؛ إذ البدل يسدّ مسدّه، فلا فرق بين حال جُموده وذَوْبِهِ، فلو كان ثمنه حلالًا لم يكن في تحريمه كبير أمر.

وهذا هو:

الوجه الحادي عشر: وهو ما روى ابن عباس، قال: بلغ عمرَ رضي الله عنه أن فلانًا باع خمرًا، فقال: قاتل الله فلانًا! ألم يعلَم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهودَ! حُرِّمت عليهم الشحومُ، فجملوها فباعوها» . متفق عليه

(1)

.

قال الخطابي

(2)

: «جملوها معناه: أذابوها حتى تصير وَدَكًا، فيزول عنها اسم الشحم، يقال: جَملتُ الشحمَ، وأجملته، واجتملته؛ والجميل: الشحم المذاب» .

وعن جابر بن عبد الله، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الله حَرّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام» ، فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحومَ الميتة، فإنه يُطلَى بها السُّفُن، ويُدهنُ بها الجلود، ويَستَصْبِحُ بها الناس؟ فقال:«لا هو حرام» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «قاتل الله اليهود! إن الله

(1)

أخرجه البخاري (2223)، ومسلم (1582).

(2)

معالم السنن (5/ 128)، وانظر أعلام الحديث (2/ 1100).

ص: 597

لما حرّم عليهم شحومها جَمَلوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه». رواه البخاري، وأصله متفق عليه

(1)

.

قال الإمام أحمد ــ في رواية صالح وأبي الحارث ــ في أصحاب الحيل: «عمدوا إلى السّنَن، فاحتالوا في نَقْضِها، فالشيء الذي قيل: إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلُّوه» ، ثم احتج بهذا الحديث، وحديث:«لعن اللهُ المحلِّل والمحلَّل له»

(2)

.

قال الخطابي

(3)

وقد ذكر حديث الشحوم: في هذا الحديث بطلان كل حيلة يُحتالُ بها للتوصِّل إلى المحرَّم، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئاته، وتبديل اسمه.

وقد مُثِّلت حيلة أصحاب الشحوم بمن قيل له: لا تَقْرَبْ مال اليتيم، فباعه، وأخذ ثمنه فأكله، وقال: لم آكل نفس مال اليتيم، أو اشترى شيئًا في ذمَّته، ونَقَده، وقال: هذا قد ملكته، وصار عِوضه دَينًا في ذمتي؛ فإنما أكلت ما هو ملكي باطنًا وظاهرًا.

ولو لا أن الله سبحانه رحم هذه الأمة بأن نَبِيَّها صلى الله عليه وسلم نبَّههم على ما لُعنت به اليهود، وكان السابقون منها فُقهاء أتقياء، علموا مقصود الشارع، فاستقرّت الشريعة بتحريم المحرمات من الدم، والميتة، ولحم الخنزير، وغيرها، وإن تبدّلت صورها، وبتحريم أثمانها= لطرَّق الشيطان لأهل الحِيَل ما طرَّق لهم في الأثمان ونحوها؛ إذ البابان باب واحد على ما لا يخفى.

(1)

البخاري (2236)، ومسلم (1581).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

معالم السنن (5/ 129).

ص: 598

الوجه الثاني عشر: أن باب الحيل المحرمة مَدارُهُ على تسمية الشيء بغير اسمه، على تغيير صورته مع بقاء حقيقته، فمداره على تغيير الاسم مع بقاء المسمَّى، وتغيير الصورة مع بقاء الحقيقة؛ فإن المحلل مثلًا غَيّر اسم التحليل إلى اسم النكاح، واسم المحلِّل إلى الزوج، وغيّر مُسمّى التحليل بأن جعل صورته صورة النكاح، والحقيقةُ حقيقة التحليل.

ومعلوم قطعًا أن لَعْنَ الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك إنما هو لما فيه من الفساد العظيم، الذي اللعنةُ من بعض عقوبته، وهذا الفساد لم يَزُلْ بتغيير الاسم والصورة مع بقاء الحقيقة، ولا بتقديم الشرط من صُلب العقد إلى ما قبله؛ فإن المفسدة تابعة للحقيقة، لا للاسم، ولا لمجرد الصورة.

وكذلك المفسدة العظيمة التي اشتمل عليها الربا، لا تزول بتغيير اسمه من الربا إلى المعاملة، ولا بتغيير صورته من صورة إلى صورة، والحقيقة معلومة متفق عليها بينهما قبل العقد، يعلمها مِنْ قلوبهما عالم السرائر. فقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غَيّرا اسمه إلى المعاملة، وصورتَه إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه البتة، وإنما هو حيلة ومَكْرٌ، ومخادعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

وأيّ فرق بين هذا وبين ما فعلته اليهود من استحلال ما حَرّم الله عليهم من الشحوم بتغيير اسمه وصورته؟ فإنهم أذابوه حتى صار وَدَكًا، وباعوه، وأكلوا ثمنه، وقالوا: إنما أكلنا الثمن، لا المثمَّن، فلم نأكل شحمًا.

وكذلك من استحلّ الخمر باسم النبيذ، كما في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «لَيَشْرَبَنّ ناسٌ من أمتي الخمر، يُسمونها بغير اسمها، يُعزَف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات،

ص: 599

يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير»

(1)

.

وإنما أُتي هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنُّوه من انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرّم وثبوته، وهذا بعينه هو شبهة اليهود في استحلال بيع الشحم بعد جَمْله، واستحلال أخذ الحِيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الحفائر والشباك من فعلهم يوم الجمعة، وقالوا: ليس هذا صيد يوم السبت، ولا استباحةً لنفس الشحم.

بل الذي يستحل الشراب المسكر زاعمًا أنه ليس خمرًا، مع علمه أن معناه معنى الخمر، ومقصودَه مقصودُه، وعملَه عملُه: أفسدُ تأويلًا؛ فإن الخمر اسم لكل شراب مسكر، كما دلّت عليه النصوص الصحيحة الصريحة، وقد جاء هذا الحديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخرى:

منها: ما رواه النسائي

(2)

عنه صلى الله عليه وسلم: «يشرب ناسٌ

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

سنن النسائي (8/ 312) من طريق شعبة عن أبي بكر بن حفص عن ابن محيريز عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا الإسناد رواه الطيالسي (586)، وأحمد (4/ 237)، إلا أنّه وقع عند الطيالسي: عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أو رجال من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصحّح إسناده ابن تيمية كما في الفتاوى الكبرى (6/ 40)، وهو في السلسلة الصحيحة (414). وطريق شعبة هذه هي في الحقيقة أحدُ الأوجه التي رُوِي بها حديث عبادة التالي.

ص: 600

من أمتي الخمر، يسمُّونها بغير اسمها». وإسناده صحيح.

ومنها: ما رواه ابن ماجه

(1)

عن عُبادة بن الصامت يرفعه: «يشرب ناسٌ من أمتي الخمر يسمُّونها بغير اسمها» .

رواه الإمام أحمد

(2)

، ولفظه:«ليستحلنّ طائفة من أمتي الخمر» .

ومنها: ما رواه ابن ماجه

(3)

أيضًا من حديث أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تذهبُ الليالي والأيام حتى تَشربَ طائفة من أمتي الخمر، يسمُّونها بغير اسمها» .

فهؤلاء إنما شربوا الخمر استحلالًا، لمّا ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ، وأن ذلك اللفظ لا يتناول ما استحلوه، وكذلك شُبْهتهم في استحلال الحرير والمعازف، فإن الحرير قد أبيح للنساء، وأبيح للضرورة، وفى الحرب، وقد قال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}

(1)

سنن ابن ماجه (3385) من طريق بلال بن يحيى عن أبي بكر بن حفص عن ابن محيريز عن ثابت بن السمط عن عبادة نحوه، وبهذا الإسناد رواه ابن أبي شيبة (5/ 68)، وابن أبي الدنيا في ذم المسكر (8)، والضياء في المختارة (8/ 255، 256)، وفي إسناده اختلاف، قال الهيثمي في المجمع (5/ 119):«ثابت بن السمط مستور، وبقية رجاله ثقات» ، وحسّن إسناده ابن حجر في الفتح (10/ 51)، والمناوي في التيسير (2/ 563)، وهو في السلسلة الصحيحة (90).

(2)

مسند أحمد (5/ 318) من طريق بلال بن يحيى العبسي به.

(3)

سنن ماجه (3384) عن العباس بن الوليد عن عبد السلام بن عبد القدوس عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أبي أمامة، وبهذا الإسناد رواه الطبراني في الكبير (8/ 94)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 97)، إلا أنه وقع عند الطبراني: عبد الصمد بن عبد القدوس، قال أبو حاتم كما في العلل (2/ 31):«هذا حديث منكر، عبد السلام بن عبد القدوس بن حبيب لا أعرفه» . ورواه الطبراني في مسند الشاميين (430) عن محمد بن هارون عن العباس عن عبد السلام به، إلا أنه جعله من مسند أبي هريرة. وفي الباب أيضًا عن ابن عباس وكيسان أو نافع بن كيسان وعائشة.

ص: 601

[الأعراف: 32]، والمعازف قد أبيح بعضها في العُرْس ونحوه، وأبيح الحُداء، وأبيح بعض أنواع الغناء. وهذه الشبهة أقوى بكثير من شُبه أصحاب الحيل.

فإذا كان من عقوبة هؤلاء أن يُمسخ بعضهم قردة وخنازير، فما الظن بعقوبة مَنْ جُرْمُهم أعظم، وفعلهم أقبح؟

فالقوم الذين يُخسَف بهم ويُمسَخون إنما فُعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد، الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة، وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء، ولذلك مُسخوا قردة وخنازير، كما مُسخ أصحاب السبت بما تأولوا من التأويل الفاسد، الذي استحلوا به المحارم، وخُسف ببعضهم كما خُسف بقارون؛ لأن في الخمر والحرير والمعازف من الكِبْر والخُيَلاء ما في الزينة التي خرج فيها قارون على قومه، فلمّا مَسخوا دين الله تعالى مسخهم الله، ولمّا تكبّروا عن الحق أذلّهم الله تعالى، فلما جمعوا بين الأمرين جَمع الله لهم بين هاتين العقوبتين، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83].

وقد جاء ذكر المسخ والخسف في عدة أحاديث تقدم ذكر بعضها.

فصل

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن طائفة من أمته تستحلّ الربا باسم البيع، كما أخبر عن استحلال الخمر باسم آخر.

فروى ابن بطة

(1)

بإسناده عن الأوزاعي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتي على

(1)

لم أقف على رواية ابن بطة في كتابه «إبطال الحيل» ، ورواه الخطابي في غريب الحديث (1/ 218) عن عبد العزيز بن محمد المسكي عن ابن الجنيد عن سويد عن ابن المبارك عن الأوزاعي مرسلًا. وذكره شيخ الإسلام في بيان الدليل (ص 67) نقلًا عن ابن بطة.

ص: 602

الناس زمان يستحلّونَ الربا بالبيع»، يعني العِينة.

وهذا وإن كان مرسلًا فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق، وله من المسندات ما يشهد له، وهي الأحاديث الدالة على تحريم العِينة

(1)

.

فإنه من المعلوم أن العينة عند مُسْتحِلِّها إنما يسميها بيعًا، وفي هذا الحديث بيانُ أنها ربًا لا بيع؛ فإن الأمة لم يستحلَّ أحد منها الرِّبا الصريح، وإنما استُحِلَّ باسم البيع وصورته، فصوّروه بصورة البيع، وأعاروه لفظه.

ومن المعلوم أن الربا لم يُحَرَّم لمجرد صورته ولفظه، وإنما حُرِّم لحقيقته ومعناه ومقصوده، وتلك الحقيقة والمعنى والمقصود قائمة في الحِيَل الرِّبوية، كقيامها في صريحه سواءً، والمتعاقدان يعلمان ذلك من أنفسهما، ويعلمه من يشاهد حالهما، والله يعلم أن قصدهما نفسُ الربا، وإنما توسّلا إليه بعقدٍ غير مقصود، وسمّياه باسم مستعار غير اسمه.

ومعلوم أن هذا لا يرفع التحريم، ولا يرفع المفسدة التي حُرِّم الربا لأجلها، بل يزيدها قوة وتأكيدًا من وجوه عديدة:

منها: أنه يُقدِم على مُطالبة الغريم المحتاج بقوة، لا يقدم بمثلها المُرْبي صريحًا؛ لأنه واثق بصورة العقد واسمه.

ومنها: أنه يطالِبُه مطالبةَ من يعتقد حلّ تلك الزّيادة وطِيبها، بخلاف

(1)

منها حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد (2/ 84) وأبو داود (3462)، وهو حديث صحيح.

ص: 603

مطالبة المُرْبي صريحًا.

ومنها: اعتقاده أن ذلك تجارة حاضرة مُدارَةٌ، والنفوس أرغبُ شيء في التجارة، فهو في ذلك بمنزلة من أحَبّ امرأة حبًّا شديدًا، ويمنعه من وصالها كونُها مُحَرَّمَةً عليه، فاحتال إلى أن أوقع بينه وبينها صورة عقد لا حقيقة له، يأمن به من بَشاعة الحرام وشناعته، فصار يأتيها آمنًا، وهما يعلمان في الباطن أنها ليست زوجته، وإنما أظهرا صورة عقد يتوصّلان به إلى الغرض.

ومن المعلوم أن هذا يزيد المفسدة التي حَرّم الحكيمُ الخبير لأجلها الزنى والربا قوةً؛ فإن الله سبحانه وتعالى حرّم الربا لما فيه من ضرر المحتاج، وتعريضه للفقر الدائم، والدَّين اللازم الذي لا يَنْفَكّ عنه، وتوَلُّد ذلك وزيادته إلى غاية تجتاحه، وتَسْلُبه متاعه وأثاثه وداره، كما هو الواقع في الواقع.

فالربا أخو القمار الّذي يجعل المقمور سليبًا حزينًا مَحْسورًا.

فمن تمام حكمة الشريعة الكاملة المنتظمة لمصالح العباد: تحريمه وتحريم الذريعة الموصلة إليه، كما حَرّم التفرّق في الصرف قبل القبض، وأن يبيعَه دِرْهَمًا بدرهمٍ إلى أجل، وإن لم يكن هناك زيادة، فكيف يُظنّ بالشارع مع كمال حكمته أن يُبيح التحيُّل والمكرَ على حصول هذه المفسدة، ووقوعها زائدةً متضاعفة بأكل المحتال فيها مال المحتاج أضعافًا مضاعفة؟

ولو سلك مثلَ هذا بعضُ الأطباء مع المرضى لأهلكهم؛ فإن ما حرّم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من المحرمات؛ إنما هو حِمْيَةٌ لحفظ صحة القلب، وقوة الإيمان، كما أن ما يمنع منه الطبيبُ مما يَضُرّ المريض حِمْيةٌ له، فإذا احتال

ص: 604

المريض أو الطبيبُ على تناول ذلك المؤذي بتغيير صورته مع بقاء حقيقته وطبعه، أو تغيير اسمه مع بقاء مسمَّاه، ازداد المريض بتناوله مرضًا إلى مرضه، وترامَى به إلى الهلاك، ولم ينفعه تغيُّر صورته، ولا تبدُّل اسمه.

وأنت إذا تأمّلتَ الحيلَ المتضمنة لتحليل ما حرّم الله سبحانه وتعالى، وإسقاطِ ما أوجب، وحَلِّ ما عَقَدَ= وجدت الأمر فيها كذلك، ووجدت المفسدة الناشئة منها أعظم من المفسدة الناشئة من المحرمات الباقية على صورها وأسمائها، والوِجْدانُ شاهدٌ بذلك.

فالله سبحانه إنما حرّم هذه المحرمات وغيرها لما اشتملت عليه من المفاسد المُضرّة بالدنيا والدين، ولم يحرِّمها لأجل أسمائها وصورها، ومعلوم أن تلك المفاسد تابعة لحقائقها، لا تزول بتبدُّل أسمائها وتغيُّر صُوَرها، ولو زالت تلك المفاسد بتغيير الصورة والأسماء لما لعن الله سبحانه اليهود على تغيير صورة الشّحم واسمه بإذابته، حتى استحدث اسم الوَدَك وصورته، ثم أكلوا ثمنه، وقالوا: لم نأكله، وكذلك تغيير صورة الصيد يوم السبت بالصيد يوم الأحد.

فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها زيادةٌ في المفسدة التي حُرمت لأجلها، مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله، ونِسْبَة المكر والخداع والغش والنفاق إلى شرعه ودينه، وأنه يُحَرِّم الشيء لمفسدةٍ، ويبيحه لأعظم منها.

ولهذا قال أيوب السختياني

(1)

: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون.

(1)

تقدم تخريجه.

ص: 605

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل»

(1)

.

وقال بِشْر بن السريِّ

(2)

ـ وهو من شيوخ الإمام أحمد

(3)

ــ: نظرتُ في العلم، فإذا هو الحديث والرأيُ، فوجدت في الحديث ذكر النبيين والمرسلين، وذكر الموت، وذكر ربوبية الرب تعالى وجلاله وعظمته، وذكر الجنّة والنار، والحلالِ والحرام، والحثّ على صلة الأرحام، وجِماع الخير، ونظرت في الرأي، فإذا فيه المَكْرُ، والخديعة، والتَّشاحُّ، واستقصاء الحق، والممالأة في الدين، واستعمال الحِيل، والبعثُ على قَطيعة الأرحام، والتجرُّؤ على الحرام.

وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل وذُكر أصحاب الحيل، فقال: يحتالون لنقض سُنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والرأيُ الذي اشتُقَّت منه الحيل المتضمنةُ لإسقاط ما أوجب الله تعالى وإباحة ما حرم الله: هو الذي اتفق السلفُ على ذَمِّه وعَيْبه.

فروى حَرْبٌ عن الشّعبي، قال: قال ابن مسعود

(4)

رضي الله عنه: إيّاكُم

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 76). ورواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص 75) بإسناده من كلام يونس بن سليمان السقطي.

(3)

«أحمد» ساقط من م.

(4)

رواه الطبراني في الكبير (9/ 105) والهروي في ذم الكلام (278) من طريق سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة عن أبي يزيد عن الشعبي به، قال الهيثمي في المجمع (1/ 432):«الشعبي لم يسمع من ابن مسعود، وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف» .

ص: 606

و «أرأيتَ، أرأيتَ» ؛ فإنما هلك من كان قبلكم بـ «أرأيت، أرأيت» ، ولا تقيسوا شيئًا بشيء؛ فتزلَّ قَدَمٌ بعد ثبوتها.

وعن الشعبي، عن مسروق، قال: قال عبد الله

(1)

: ليس من عام إلا والذي بعده شرٌّ منه، لا أقول: أميرٌ خيرٌ من أميرٍ، ولا عامٌ أخْصَبُ من عام، ولكن ذهابُ خيارِكم وعلمائكم، ثم يَحدُثُ قوم يقيسون الأمور برأيهم، فَيَنْهدِم الإسلام ويَنْثَلِمُ.

وقال عمر بن الخطاب

(2)

رضي الله عنه: إيّاكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعْيَتْهم الأحاديث أن يحفظوها، وتَفَلَّتتْ منهم أن يَعُوها، فاسْتَحْيَوْا حين سُئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوها برأيهم، فإياكم وإيّاهم.

(1)

رواه الدارمي (188)، والفسوي في المعرفة (3/ 377)، وابن وضاح في البدع (78، 248)، والطبراني في الكبير (9/ 105)، وابن أبي زمنين في أصول السنة (10)، وأبو عمرو الداني في الفتن (210، 211)، وابن حزم في الإحكام (8/ 509)، والبيهقي في المدخل (205)، وابن عبد البر في الجامع (1039 - 1042)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 456)، وغيرهم من طرق عن مجالد عن الشعبي به، ورواه الخطيب أيضًا (1/ 456) من طريق عبدة بن سليمان عن مجالد عن الشعبي عن عبد الله، قال الهيثمي في المجمع (1/ 433):«فيه مجالد بن سعيد وقد اختلط» ، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (13/ 21).

(2)

رواه الدارقطني (4/ 146)، وابن أبي زمنين في أصول السنة (8)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (201)، وابن حزم في الإحكام (6/ 213 - 214)، والبيهقي في المدخل (213)، وابن عبد البر في الجامع (1034، 1036 - 1038)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 452 - 455)، والهروي في ذم الكلام (259، 260)، وعنه الأصبهاني في الحجة (1/ 221)، من طرق متعدّدة عن عمر، بألفاظ متقاربة يزيد بعضهم على بعض، ولا تخلو آحاد هذه الطرق من مقال.

ص: 607

وقال أحمد في رواية ابن سعيد

(1)

: لا يجوز شيءٌ من الحيل.

وفى رواية صالح ابنه: الحيلُ لا نراها.

وقال في رواية الأثرم، وذكر حديث عبد الله بن عمرو في حديث:«البيِّعان بالخيار، ولا يحلّ لواحد منهما أن يفارق صاحبه خشيَة أن يستقيله»

(2)

، قال: فيه إبطالُ الحِيل.

وقال في رواية أبى الحارث: هذه الحيلُ التي وضعها هؤلاء احتالوا في الشيء الذي قيل لهم: إنه حرام، فاحتالوا فيه حتى أحَلّوه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لعن الله اليهود! حُرمت عليهم الشحوم، فأذابوها وأكلوا أثمانها» ، فإنما أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحوم، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحالَّ والمحلَّل له

(3)

.

وقال في رواية ابنه صالح: ينقضون الأيمان بالحيل، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، وقال تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7].

وقال في رواية أبى طالب في التّحَيُّل لإسقاط العِدّة من الحمل: سبحان الله! ما أعجب هذا! أبطلوا كتاب الله والسنة، جعل الله على الحرائر العِدّة من الحمل، فليس من امرأةٍ تُطلّق أو يموت زوجها إلا تعتدّ من أجل الحمل، ففرْج يُوطأ، ثم يعتقبها على المكان، فيتزوجها فيطؤها، فإن كانت حاملًا

(1)

م: «أبي سعيد» خطأ. ح: «أحمد بن سعيد» وهو الشالنجي.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 608

كيف يصنع؟ يطأها رجلٌ اليوم، ويطأها الآخر غدًا! هذا نقضٌ لكتاب الله والسنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا توطأ حامل حتى تضَع، ولا غير ذاتِ حملٍ حتى تحيض»

(1)

؛ فلا تدري هي حامل أم لا؟ سبحان الله! ما أَسْمجَ هذا!

وقال في رواية حُبَيش

(2)

بن سِنْدي في الرجل يشتري الجارية ثم يُعتقها من يومه ويتزوجها: أيطؤها من يومه؟ فقال: كيف يطؤها هذا من يومه، وقد وطئها ذاك بالأمس؟ وغضب، وقال: هذا أخبث قول.

وقال في رواية الميموني: إذا حلف على شيء، ثم احتال بحيلة، فصار إليه، فقد صار إلى ذلك بعينه.

وقال في رواية الميموني فيمن حلف على يمين، ثم احتال لإبطالها، هل

(1)

رواه أحمد (3/ 28، 62، 87)، والدارمي (2295)، وأبو داود (2157)، والطحاوي في شرح المشكل (3048، 3049)، والطبراني في الأوسط (1973)، والدارقطني (4/ 112)، والبيهقي في الكبرى (5/ 329، 7/ 449)، وغيرهم من طريق شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك عن أبي سعيد مرفوعًا، وفي رواية أحمد والطحاوي: عن أبي إسحاق وقيس بن وهب، وعند الطحاوي أيضًا والدارقطني: عن قيس بن وهب والمجالد، وصحّحه الحاكم (2790)، وحسنه ابن عبد البر في التمهيد (3/ 143، 18/ 279)، وابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 415)، وابن حجر في التلخيص (1/ 441)، والشوكاني في النيل (7/ 66)، وصحّحه ابن العربي في العارضة (3/ 61)، وابن قدامة في المغني (7/ 506، 515)، والمصنف في الزاد (5/ 612)، والألباني في الإرواء (187، 1302). وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر ورويفع بن ثابت وعلي والعرباض وأبي أمامة وأبي هريرة وجابر وأبي الدرداء وعن الشعبي وطاوس والزهري مرسلًا.

(2)

ح، ظ:«حبش» . ت: «حنش» تحريف.

ص: 609

يجوز؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز، فقال له الميموني: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا؟ فإذا وجدنا لهم فيها قولًا اتبعناه؟ قال: بلى هكذا هو، قلت: أوليس هذا منا نحن حيلة؟ قال: نعم، فقلت: إنهم يقولون في رجلٍ حلف على امرأته، وهى على دَرَجه: إن صَعِدت أو نزلتِ فأنتِ طالق، قالوا: تُحمَل حملًا، ولا تنزل، فقال: هذا الحِنْثُ بعينه، ليس هذا حيلة، هذا هو الحِنْث.

وذُكر لأحمد أن امرأة كانت تريد أن تُفارق زوجَها، فيأبى عليها، فقال لها بعض أرباب الحيل: لو ارْتَدَدْتِ عن الإسلام بِنْتِ منه، ففعلتْ. فغضب أحمد رحمه الله وقال: من أفتى بهذا أو علَّمه أو رضي به فهو كافر.

وكذلك قال عبد الله بن المبارك

(1)

، ثم قال: ما أرى الشيطانَ يُحسِن مثل هذا حتى جاء هؤلاء، فتعلَّمه منهم.

وقال يزيد بن هارون

(2)

: أفتى أصحابُ الحِيل بشيء لو أفتى به اليهود والنصارى كان قبيحًا، أفْتَوا رجلًا حَلَف أن لا يطلِّق امرأته بوجه من الوجوه، فبُذل له مال كثير في طلاقها، فأفتوه بأن يُقَبِّل أمها أو يُباشرها.

وذُكرت الحيلة عند شَريك

(3)

، فقال: من يُخادع الله يخدعه.

(1)

رواه أبو بكر الخلال في العلم ــ كما في بيان الدليل (ص 139) ــ عن ابن راهويه عن سفيان بن عبد الملك عن ابن المبارك. وانظر: الاعتصام للشاطبي (2/ 85 - 86). ورواه بمعناه الخطيب في تاريخ بغداد (13/ 427) من طريق أبي إسحاق الطالقاني عن ابن المبارك.

(2)

رواه الخلال في كتابه ــ كما في بيان الدليل (ص 140) ــ عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن يزيد بن هارون.

(3)

رواه الهروي في ذم الكلام (1001).

ص: 610

وقال النضر بن شُمَيل

(1)

: في «كتاب الحيل» ثلاث مئة وعشرون مسألة كلُّها كفر.

وقال حفصُ بن غياث

(2)

: ينبغي أن يكتب عليه: «كتاب الفجور» .

وقال عبد الله بن المبارك

(3)

في قِصّة بنت أبى رَوْح، حيث أُمرت بالارتداد في أيام أبى غَسّان، فارتدَّت، ففُرِّق بينهما، وأُودعت السجن، فقال ابن المبارك وهو غضبان: من أمر بهذا فهو كافر، ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به فهو كافر، وإن هَوِيَهُ ولم يأمر به فهو كافر.

وقال أيوب السختياني

(4)

: ويلٌ لهم! مَنْ يخدعون؟ يعني: أصحاب الحيل.

وقال بعض أهل الحيل

(5)

: ما تَنْقِمون منا إلا أنّا عَمَدنا إلى أشياء كانت عليكم حرامًا؛ فاحْتَلْنا فيها حتى صارت حلالًا.

(1)

رواه الخطيب في تاريخ بغداد (13/ 427).

(2)

رواه الهروي في ذم الكلام (1000).

(3)

رواه الخلال في العلم ــ كما في بيان الدليل (ص 138) ــ عن ابن راهويه عن سفيان بن عبد الملك عن ابن المبارك. وانظر: أخبار الشيوخ للمردوي (ص 164) والمجروحين لابن حبان (3/ 71، 72) والاعتصام للشاطبي (2/ 85 - 86). ورواه بمعناه الخطيب في تاريخ بغداد (13/ 428) من طريق أبي إسحاق الطالقاني عن ابن المبارك.

(4)

رواه الخلال في العلم ــ كما في بيان الدليل (ص 139) ــ عن حماد بن زيد عن أيوب.

(5)

انظر: بيان الدليل (ص 138).

ص: 611

وقال زاذان

(1)

: قال علي رضي الله عنه، يعني وقد رأى مبادئ الحيل: إنى أراكم تحلون أشياء قد حرَّمها الله، وتحرّمون أشياء قد أحلَّها الله.

قلت: ومَن تأمل الشريعة، ورُزق فيها فقه نَفْسٍ، رآها قد أبطلت على أصحاب الحيل مقاصدهم، وقابلتهم بنقيضها، وسَدّت عليهم الطرق التي فتحوها للتحيّل الباطل.

فمن ذلك: أن الشارع منع المتحيِّل على الميراث بقتل مُوَرِّثه ميراثَه، ونقله إلى غيره دونه لمَّا احتال عليه بالباطل.

ومن ذلك: بطلان وصية الموصَى له بمال، إذا قَتَل الموصِي.

ومن ذلك: بطلانُ تدبير المُدَبَّر، إذا قَتلَ سَيدَه ليُعجِّلَ العتقَ.

ومن ذلك: تحريمُ المنكوحة في عِدَّتها على الزوج تحريمًا مُؤبّدًا: عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومالك، وإحدى الروايتين عن أحمد، لمّا احتال على وَطئها بصورة العقد المحرّم.

ومن ذلك: ما لو احتالَ المريضُ على منع امرأته من الميراث بطلاقها، فإنها تَرِثه مادامت في العِدّة عند طائفة، وعند آخرين: ترثه وإن انقضت عِدّتُها ما لم تتزوج، وعند طائفة: تَرِثُ وإن تزوجت.

ومن ذلك: بُطلان إقرار المريض لوارثه بمال، لأنه يَتخذُه حيلةً على الوصيّة له.

ونظائر ذلك كثيرة.

(1)

لم أقف عليه.

ص: 612

فالمحتال بالباطل يُعامَل بنقيض قصده شرعًا وقَدَرًا. وقد شاهد الناس عِيانًا أنه مَنْ عاش بالمكْر ماتَ بالفقر.

ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى مَن احتالَ على إسقاط نصيب المساكين وقت الجِدَاد: بحرمانهم الثمرة كلَّها.

وعاقب من احتالَ على الصيد المحرم: بأن مَسخَهم قِردةً وخنازير.

وعاقب من احتال على أكل أموال الناس بالربا: بأنه يَمْحَقُ ماله، كما قال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، فلا بد أن يُمْحَق مالُ المرابي ولو بلغ ما بلغ.

وأصل هذا: أنه سبحانه جعل عُقوبات أصحاب الجرائم بضدِّ ما قصدوا له بتلك الجرائم.

فجعل عقوبة الكاذب: إهدار كلامه ورَدَّه عليه.

وجعل عقوبة الغالِّ من الغنيمة لمَّا قصد تكثير ماله بالغُلول: حِرمانَ سَهْمِه، وإحراق متاعه.

وجعل عقوبة من اصطاد في الحرَم أو الإحرام: تحريم أَكْلِ ما صاده، وتغريمه نظيره.

وجعل عقوبة من تكبّر عن قبول الحق والانقياد له: أن ألزمه من الذُّلِّ والصَّغار بحسب ما تكبّر عنه من الحق.

وجعل عقوبة من استكبرَ عن عُبوديته وطاعته: أن صَيّره عبدًا لأهل عبوديته وطاعته.

ص: 613

وجعل عقوبة من أخاف السبيلَ وقطعَ الطريقَ: أن تُقطّع أطرافُه، وتُقطَع عليه الطرق كلّها بالنفي من الأرض، فلا يسيرُ فيها إلا خائفًا.

وجعل عقوبة من الْتَذَّ بَدَنُه كله ورُوحه بالوطءِ الحرام: إيلامَ بَدَنه وروحِه بالجَلْدِ والرّجم، فيصل الألم إلى حيث وصلت اللذّة.

وشرع النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة من اطّلع في بيت غيره: أن تُقلَع عينُه بعُودٍ ونحوه

(1)

؛ إفسادًا للعُضْو الذي خانه به، وأوْلجه بيته بغير إذنه، واطّلع به على حُرْمته.

وعاقب كل خائنٍ: بأنه يُضِلّ كَيْدَه ويُبطله، ولا يهديهِ لمقصوده، وإن نال بعضه، فالذي ناله سبب لزيادة عقوبته وخيبته

(2)

: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52].

وعاقب من حرص على الولاية والإمارة والقضاء: بأن شرع منعه وحرمانه ما حرص عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنا لا نُولِّي عَمَلنا هذا مَنْ سأله»

(3)

.

ولهذا عاقب أبا البشر: بأن أخرجه من الجنة لمّا عصاه بالأكل من الشجرة ليخلُد فيها، فكانت عقوبته إخراجه منها، ضد ما أمّله.

وعاقب من اتخذ معه إلها آخر ينتصرُ به ويتعزّز به: بأن جعله عليه ضِدًّا يَذِلّ به، ويُخذل به، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا

(1)

كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (2158).

(2)

ح، ت، ظ:«خيانته» .

(3)

أخرجه البخاري (2261)، ومسلم (1733) عن أبي موسى الأشعري.

ص: 614

لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82]، وقال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74، 75]، وقال تعالى:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22]، ضِدّ ما أمّله المشرك من اتخاذ الإله من النصر والمدح.

وعاقب الناس إذا بخَسُوا الكَيْل والميزان: بِجَوْر السلطان عليهم

(1)

، يأخذ من أموالهم أضعاف ما يَبْخَس به بعضهم بعضًا.

وعاقبهم إذا منعوا الزكاة والصدقة تَرْفِيهًا لأموالهم: بِحَبْس الغَيْثِ عنهم

(2)

، فيمحق بذلك أموالهم، ويستوي غَنِيُّهم وفقيرهم في الحاجة.

وعاقبهم إذا أعرضوا عن كتابه وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم وطلبوا الهُدى من غيره: بأن يُضِلَّهم، ويسُدَّ عليهم أبواب الهُدَى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عليٍّ رضي الله عنه، الذي رواه الترمذي وغيره

(3)

، وذكرَ القرآن: «من تركه من

(1)

كما في حديث ابن عمر الذي أخرجه ابن ماجه (4019) ضمن حديث طويل. وهو حديث صحيح.

(2)

كما في الحديث السابق.

(3)

سنن الترمذي (2906)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (6/ 125)، وأحمد (1/ 91)، والدارمي (3331، 3332)، والبزار (834 ـ 836)، وأبو يعلى (367)، وابن عدي في الكامل (4/ 5)، والبيهقي في الشعب (2/ 325)، وغيرهم من طريق الحارث الأعور عن علي، قال الترمذي:«لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال» ، وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 21):«هذا الحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلّموا فيه، بل قد كذّبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه يتعمّد الكذب في الحديث فلا والله أعلم، وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين عليّ، وقد وَهِم بعضهم في رفعه» ، وهو في السلسلة الضعيفة (1776، 6393). ورواه الطبراني في الكبير (20/ 84) ــ وعنه أبو نعيم في الحلية (5/ 253) ــ من حديث معاذ بن جبل، قال الهيثمي في المجمع (7/ 342):«فيه عمرو بن واقد وهو متروك» .

ص: 615

جَبّار قَصَمهُ الله، ومن ابتغى الهُدى في غيره أضَلّه الله»؛ فإن المُعْرِضَ عن القرآن: إما أن يُعرض عنه كِبْرًا، فجزاؤه أن يَقْصِمَهُ الله، أو طلبًا للهُدَى من غيره، فجزاؤه أن يُضِلَّهُ الله.

وهذا باب واسع جدًّا عظيم النفع، فمن تدبره يجده متضمنًا لمعاقبة الرب سبحانه مَنْ خرج عن طاعته: بأن يعكس عليه مقصوده شرعًا وقَدرًا، دنيا وآخرة.

وقد اطردت سُنّته الكونيَّة سبحانه في عباده، بأنَّ مَنْ مكَر بالباطل مُكِر به، ومن احتال احتِيل عليه، ومن خادع غيره خُدِع. قال الله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقال تعالى:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، فلا تجد ماكرًا إلا وهو مَمْكُورٌ به، ولا مخادعًا إلا وهو مخدوع، ولا محتالًا إلا وهو محتال عليه.

فصل

وإذا تدبرتَ الشريعة وجدتها قد أتت بسدِّ الذرائع إلى المحرمات، وذلك عكسُ فتح باب الحِيَل الموصلة إليها، فالحيلُ وسائلُ وأبوابٌ إلى المحرّمات، وسَدّ الذرائع عكس ذلك، فبين البابين أعظم تناقض، والشارع حَرّم الذرائع، وإن لم يُقْصَدْ بها المحرّم؛ لإفضائها إليه، فكيف إذا قُصِدَ بها المحرم نفسه؟

ص: 616

فنهى الله سبحانه عن سَبٍّ آلهة المشركين: لكونه ذريعةً إلى أن يَسُبُّوا الله سبحانه وتعالى عَدوًا وكُفرًا، على وَجْهِ المقابلة.

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن «من أكبر الكبائر شَتْم الرجل والديه» ، قالوا: وهل يَشتُمُ الرجل والديه؟ قال: «نعم، يَسُبّ أبا الرجل فيَسُبّ أباه، ويسبّ أمّه فيسُب أمه»

(1)

.

ولما جاءت صفية تزوره صلى الله عليه وسلم وهو معتكف؛ قام معها ليوصلها إلى بيتها، فرآهما رجلان من الأنصار فقال:«على رِسْلكما! إنها صفية بنتُ حُيَيٍّ» ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيتُ أن يَقذِف في قلوبكما شرًّا»

(2)

.

فسدّ الذريعة إلى ظنهما السوء بإعلامهما أنها صفية.

وأمسك صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع ما فيه من المصلحة؛ لكونه ذريعةً إلى التنفير، وقول الناس: إن محمدًا يقتل أصحابه

(3)

.

وحرّم القَطْرَة من الخمر، وإن لم يحصل بها مفسدة الكثير؛ لكون قليلها ذريعةً إلى شرب كثيرها

(4)

.

وحرم إمساكها للتخليل

(5)

، وجعلها نجسة؛ لئَلا تفضي مُقاربتُها بوجه من الوجوه إلى شربها.

(1)

أخرجه البخاري (5973)، ومسلم (90) عن عبد الله بن عمرو.

(2)

أخرجه البخاري (2038 ومواضع أخرى)، ومسلم (2175) عن صفية.

(3)

أخرجه البخاري (3518)، ومسلم (2584) عن جابر.

(4)

أخرجه أبو داود (3681)، والترمذي (1865)، وابن ماجه (3393) عن جابر، ولفظه:«ما أسكر كثيره فقليله حرام» . وإسناده حسن.

(5)

أخرجه مسلم (1983) عن أنس.

ص: 617

ونهى عن الخليطين

(1)

، وعن شُرب العصير والنبيذ بعد ثلاثٍ

(2)

، وعن الانتباذ في الأوْعية التي لا يُعلم بتخمير النبيذ فيها

(3)

: حَسْمًا للمادّة، وسدًّا للذَّريعة.

وحرّم الخلوة بالمرأة الأجنبية، والسفر بها

(4)

، والنظر إليها لغير حاجة

(5)

: حَسْمًا للمادة وسدًّا للذريعة.

ومنع النساء إذا خرجْنَ إلى المسجد من الطيب والبَخُور

(6)

.

ومنعهنّ من التسبيح في الصلاة لنائبةٍ تَنُوب، بل جعل لهنّ التصفيق

(7)

.

ومنع المعتدّة من الوفاة من الزينة والطِّيب والحُلِيّ

(8)

.

ومنع الرجل من التصريح بخطبتها في العِدّة، وإن كان إنما يَعقد النكاح بعد انقضائها

(9)

.

ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأةً غيرها، حتى كأنه ينظُرُ إليها

(10)

.

(1)

أخرجه البخاري (5601)، ومسلم (1986) عن جابر.

(2)

أخرجه مسلم (2004) عن ابن عباس.

(3)

أخرجه البخاري (5594)، ومسلم (1994) عن علي.

(4)

كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (3006)، ومسلم (1341) عن ابن عباس.

(5)

أخرجه مسلم (2159) عن جرير.

(6)

أخرجه مسلم (443) عن زينب الثقفية. وفي الباب أحاديث أخرى.

(7)

أخرجه البخاري (1203)، ومسلم (422) عن أبي هريرة.

(8)

أخرجه البخاري (5334 ـ 5336)، ومسلم (1486 ـ 1488) عن أم حبيبة وزينب بنت جحش وأم سلمة.

(9)

كما في سورة البقرة/ 235.

(10)

أخرجه البخاري (5240، 5241) عن ابن مسعود.

ص: 618

ونهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن فاعله

(1)

.

ونهى عن تَعْلِية القبور وتشريفها، وأمر بتسويتها

(2)

.

ونهى عن البناء عليها وتجصيصها، والكتابة عليها، والصلاة إليها وعندها، وإيقاد المصابيح عليها

(3)

.

كل ذلك سدًّا لذريعة اتخاذها أوثانًا، وهذا كلّه حرام على مَنْ قصده ومَنْ لم يقصده، بل على من قصد خلافه: سدًّا للذريعة.

ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها

(4)

: لكون هذين الوقتين وقتَ سجود الكفار للشمس، ففي الصلاة نوعُ تَشَبُّهٍ بهم في الظاهر، وذريعةٌ إلى الموافقة والمشابهة في الباطن، وأكَّد ذلك بالنَّهي عن الصلاة بعد العصر، وبعد الفجر

(5)

، وإن لم يحضر وقت سجود الكفار للشمس: مبالغةً في هذا المقصود، وحمايةً لجانب التوحيد، وسدًّا لذريعة إلى الشرك بكل ممكن.

ومنع من التفرّق في الصّرف قبل التقابُض، وكذلك الربوي إذا بيع بربوي آخر

(6)

، من غير جنسه: سَدًّا لذريعة النَّسَاءِ، الذي هو صُلْب الربا ومعظمه.

(1)

سبق تخريجها.

(2)

سبق تخريجها أيضًا.

(3)

سبق تخريجها أيضًا.

(4)

أخرجه البخاري (582)، ومسلم (828) عن ابن عمر.

(5)

أخرجه البخاري (586)، ومسلم (827) عن أبي سعيد الخدري.

(6)

أخرجه البخاري (2177)، ومسلم (1584) عن أبي سعيد الخدري.

ص: 619

بل منعَ من بَيْعِ الدرهم بالدرهمين نَقْدًا: سدًّا لذريعة ربا النَّسَاءِ، كما عَلّل صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث الذي رواه مسلم في «صحيحه»

(1)

، وهذا أحسن العلل في تحريم رِبا الفَضْل.

وحرم الجمع بين السّلَف والبيع

(2)

: لما فيه من الذّريعة إلى الربح في السّلَف بأخذ أكثر مما أعطى، والتوسّل إلى ذلك بالبيع أو الإجارة، كما هو الواقع.

ومنع البائع أن يشتريَ السّلعة من مشتريها بأقلّ مما اشتراها به، وهي مسألة العينة، وإن لم يقصد الربا: لكونه وسيلة ظاهرة واقعة إلى بيع خمسة عشر نَسيئةً بعشرة نقدًا.

وحرّم جمع الشّرْطين في البيع: لكونه وسيلة إلى ذلك، وهو منطبق على مسألة العينة.

ومَنع من القَرْض الذي يَجُرّ النّفع، وجعله رِبًا.

ومنع المُقْرِض من قَبول هَدِيّة المقترض، ما لم يكن بينهما عادَةٌ جارية بذلك قبل القَرْضِ.

ففي «سُنن ابن ماجه»

(3)

: عن يحيى بن أبي إسحاق الهُنَائي، قال

(1)

برقم (1585).

(2)

أخرجه أحمد (2/ 175، 179، 205)، وأبو داود (3504)، والترمذي (1234)، والنسائي (7/ 288)، وابن ماجه (2188) عن عبد الله بن عمرو. وإسناده حسن.

(3)

سنن ابن ماجه (2432) عن هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش عن عتبة بن حميد عن يحيى به، وبهذا الإسناد رواه الطبراني في الأوسط (4585)، والبيهقي في الكبرى (5/ 350)، وممّا أُعلّ به الوقف والاختلاف في اسم الراوي عن أنس، وحسنه ابن تيمية في إقامة الدليل (ص 127 - 128)، قال ابن عبد الهادي في التنقيح (4/ 108):«إسناده غير قويّ على كلّ حال، فإنّ ابن عياش متكلّم فيه، وعتبة سئل أحمد عن حديثه فقال: ضعيف وليس بالقويّ، ووثقه ابن حبان» ، وقال البوصيري في المصباح (3/ 70):«هذا إسناد فيه مقال، عتبة ضعفه أحمد، وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات، ويحيى لا يعرَف حاله» ، وهو في السلسلة الضعيفة (1162).

ص: 620

سألت أنسَ بن مالك: الرجلُ مِنّا يُقرِضُ أخاه المال، فيُهدِي إليه، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقرض أحدُكم قرضًا، فأُهدي إليه، أو حمله على الدّابة، فلا يَركبْها ولا يقبله؛ إلا أن يكون جَرى بينه وبينه قبل ذلك» .

وروى البخاري في «تاريخه»

(1)

: عن يزيد بن أبى يحيى الهُنَائي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقرضَ أحدكم فلا يأخذ هَدِيّة» .

وفى «صحيح البخاري»

(2)

: عن أبى بُرْدَة عن أبي موسى قال: قدمتُ المدينة، فلقيت عبد الله بن سَلَام، فقال لي: إنك بأرضٍ الرِّبا فيها فاشٍ، فإذا كان لك على رجلٍ حقٌّ، وأهدَى إليك حِمْلَ تِبْنٍ، أو حِملَ شعير، أو حِملَ قَتٍّ، فلا تأخذه؛ فإنه ربًا.

وروى سعيدٌ في «سننه»

(3)

هذا المعنى عن أُبَيّ بن كعب.

(1)

لم أقف عليه من رواية البخاري، وعزاه لتاريخه المجد ابن تيمية في المنتقى (5/ 287 ــ النيل ـ)، وتبعه حفيده في إقامة الدليل (ص 128). وقد رواه البيهقي في الكبرى (5/ 350) من طريق سعيد بن منصور عن ابن عياش عن عتبة عن يزيد بن أبي يحيى عن أنس مرفوعًا بنحو لفظ ابن ماجه. وقد تقدّم تخريجه.

(2)

برقم (3814).

(3)

روى عبد الرزاق (8/ 143) وابن أبي شيبة (4/ 326) والطحاوي في شرح المشكل (11/ 115) والبيهقي في الكبرى (5/ 349) من طريق كلثوم بن الأقمر عن زر بن حبيش عن أبيّ قال: «إذا أقرضتَ رجلا قرضًا فأهدى لك هدية فخذ قرضك، واردد إليه هديته» .

ص: 621

وجاء عن ابن مسعود

(1)

، وعبد الله بن عباس

(2)

، وعبد الله بن عمر

(3)

نحوه.

وكل ذلك سدًّا لذريعة أخذ الزيادة في القرض، الذي موجَبه ردّ المثل.

ونهى عن بيع الكالئ بالكالئ

(4)

، وهو الدَّين المؤخّر بالدَّين المؤخّر:

(1)

روى البيهقي في الكبرى (5/ 350) من طريق ابن سيرين عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل استقرض من رجل دراهم، ثم إنَّ المستقرض أفقر المقرضَ ظهر دابته، فقال عبد الله:«ما أصاب من ظهر دابته فهو ربا» ، قال البيهقي:«هذا منقطع» .

(2)

روى عبد الرزاق (8/ 143) وابن أبي شيبة (4/ 326) من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: «إذا أسلفتَ رجلا سلفًا فلا تقبل منه هديّة كراع، ولا عاريةَ ركوب دابة» ، وصحّحه ابن حزم في المحلى (8/ 86). وروى معناه عبد الرزاق (8/ 143) وابن منصور ــ كما في تحقيق ابن الجوزي (1505) ــ والبيهقي في الكبرى (5/ 350) من طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس، وصححه ابن حزم في المحلى (8/ 86)، والألباني في الإرواء (5/ 234). وروى البيهقي (5/ 349) من طريق أبي صالح عن ابن عباس نحوَه، وصححه الألباني (5/ 234).

(3)

روى عبد الرزاق (8/ 144) عن الثوري عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: إني أقرضتُ رجلا قرضًا فأهدى لي هديّة، قال:«اردُد إليه هديته أو أثِبه» ، ورواه عبد الرزاق (8/ 144) عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن رجل عن ابن عمر بنحوه. وصحّحه ابن حزم في المحلى (8/ 86).

(4)

رواه ابن أبي شيبة (4/ 461)، والبزار (6132)، والطحاوي في شرح المعاني (5132)، والبيهقي في الكبرى (5/ 290)، وغيرهم من طرقٍ عن موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعًا، وقيل: عن موسى عن نافع عن ابن عمر، وعن موسى عن عيسى بن سهل بن رافع عن أبيه عن جدّه، وقيل: عن موسى بن عقبة، وورد موقوفًا، قال الشافعي كما في البدر المنير (6/ 569):«أهل الحديث يوهنونه» ، وضعّفه أحمد كما في العلل المتناهية (988)، وابن المنذر كما في البدر المنير، والنووي في المجموع (9/ 400)، وابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 37)، والهيثمي في المجمع (4/ 144)، والبوصيري في الإتحاف (3/ 334)، وابن حجر في الدراية (795)، وهو مخرّج في الإرواء (1382).

ص: 622

لأنه ذريعةٌ إلى ربا النسيئة، فلو كان الدَّيْنان حالَّين لم يمتنع؛ لأنهما يسقطان جميعًا من ذِمّتهما، وفى الصورة المنهي عنها ذريعةٌ إلى تضاعفُ الدَّين في ذِمَّة كلٍّ منهما في مقابلة تأجيله، وهذه مفسدة ربا النَّساءِ بعينها.

ونهى الله سبحانه وتعالى النِّساء أن {يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]، فلما كان الضرب بالرِّجْل ذريعة إلى ظهور صوت الخَلْخال الذي هو ذريعة إلى مَيْلِ الرجال إليهن: نهاهن عنه.

وأمر الله سبحانه الرجال والنساء بغضِّ أبصارهم، لمّا كان النظر ذريعةً إلى الميل والمحبة؛ التي هي ذريعة إلى مواقعة المحظور.

وحرّم التجارة في الخمر، وإن كان إنما يبيعها من كافر يَسْتَحِلُّ شُرْبَها، فإن التجارة فيها ذريعة إلى اقتنائها وشربها، ولهذا لمَّا أُنزلت الآيات في تحريم الربا قرأها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَرَن بها تحريم التجارة في الخمر

(1)

، فإن الربا ذريعةٌ إلى إفساد الأموال، والخمر ذريعةٌ إلى إفساد العقول، فجمع بين تحريم التجارة في هذا وهذا.

(1)

أخرجه البخاري (4540)، ومسلم (1580) عن عائشة.

ص: 623

ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين

(1)

، لئلا يُتخذ ذريعة إلى الزيادة في الصوم الواجب، كما فعل أهل الكتاب.

ونهى عن التشبُّه بأهل الكتاب وغيرهم من الكفار في مواضع كثيرة، لأن المشابهة الظاهرة ذريعةٌ إلى الموافقة الباطنة، فإنه إذا أشبه الهَدْيُ الهَدْيَ أشبه القلبُ القلبَ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«خالف هَدْيُنا هَدْيَ الكفار»

(2)

. وفي «المسند» مرفوعًا: «من تشبّه بقوم فهو منهم»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082) عن أبي هريرة.

(2)

رواه ابن مردويه ــ كما في تفسير ابن كثير (1/ 553) ــ والبيهقي في الكبرى (5/ 125) من طريق عبد الوارث بن سعيد عن ابن جُريج عن محمد بن قيس عن المسوَر بن مَخرمة مرفوعًا، وصحّحه الحاكم (3097)، وحسّن إسناده النووي في المجموع (8/ 128). ورواه الشافعي (1707) عن مسلم بن خالد، وأبو داود في المراسيل (151) من طريق ابن إدريس، كلاهما عن ابن جُريج عن محمد بن قيس مرسلا. ورواه ابن أبي شيبة (3/ 387) عن يحيى بن أبي زائدة عن ابن جريج عمّن أخبره عن محمد بن قيس مرسلا. وفي الباب عن ابن عمر وعن سعيد بن جبير مرسلًا.

(3)

مسند أحمد (2/ 50، 92)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (4/ 212، 6/ 471)، وعبد بن حميد (848)، وأبو داود (4033)، والطبراني في مسند الشاميين (216)، والبيهقي في الشعب (2/ 75)، وغيرهم من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر، وصححه ابن حبان كما في البلوغ (437)، وحسن إسناده ابن تيمية في الاقتضاء (ص 82)، والذهبي في السير (15/ 509)، وابن حجر في الفتح (10/ 271، 274)، وصحّحه ابن مفلح في الفروع (1/ 317)، والعراقي في المغني (851)، قال الهيثمي في المجمع (5/ 487):«فيه ابن ثوبان، وثقه ابن المديني وأبو حاتم وغيرهما، وضعفه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات» ، وهو مخرّج في الإرواء (1269). ورواه الطحاوي في شرح المشكل (1/ 213) من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن حسان به. وفي الباب عن حذيفة بن اليمان وأبي هريرة وأنس وعن طاوس مرسلًا.

ص: 624

وحَرّم الجمعَ بين المرأة وعَمّتها، وبين المرأةِ وخالتها

(1)

، لكونه ذريعة إلى قطيعة الرحم، وبهذه العلة بعينها عَلّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم»

(2)

.

وأمر بالتسوية بين الأولاد في العطيّةِ، وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جَوْرٌ لا يصلح، ولا تنبغي الشهادة عليه، وأمر فاعله بردِّه، ووعظَه وأمَرهُ بتقوى الله تعالى، وأمره بالعدل

(3)

: لكون ذلك ذريعةً ظاهرة قريبةً جدًّا إلى وقوع العداوة بين الأولاد وقطيعة الرحم بينهم، كما هو المشاهد عِيانًا.

فلو لم تأتِ السنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بالمنع منه، لكان القياس وأصولُ الشريعة وما تضمنته من المصالح ودَرْءِ المفاسد يقتضي تحريمه.

ومنع مِنْ نكاح الأمَة لكونه ذَريعةً ظاهرةً إلى استرقاق ولده، ثم جَوّز

(1)

أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1408) عن أبي هريرة.

(2)

رواه الطبراني في الكبير (11/ 337) وابن عدي في الكامل (4/ 159) وابن عبد البر في التمهيد (18/ 278) والذهبي في الميزان (4/ 82) من طريق الفضيل بن ميسرة عن أبي حَريز عن عكرمة عن ابن عباس، وصحّحه ابن حبان (4116)، وحسنه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (5/ 758)، قال ابن الملقن في البدر المنير (7/ 601):«مداره على أبي حَريز، واسمه: عبد الله بن الحسَين، قَاضِي سجستان، وحالته مُختلف فيها» ، وهو في السلسلة الضعيفة (6528). وفي الباب عن عيسى بن طلحة مرسلًا.

(3)

أخرجه البخاري (2586)، ومسلم (1623) عن النعمان بن بشير.

ص: 625

وطأها بملك اليمين لزوال هذه المفسدة.

ومنع من تجاوز أربع زوجاتٍ

(1)

: لكونه ذريعةً ظاهرة إلى الجَوْر، وعدم العدل بينهن، وقصر الرجال على الأربع فُسْحَةً لهم في التخلّص من الزنى، وإن وقع منهم بعضُ الجور، فاحتماله أقلُ مَفْسدةً من مفسدة الزنى.

ومنع من عقد النكاح في حال العِدّة وحال الإحرام، وإن تأخّر الدخول إلى ما بعد انقضائها وحصول الحِلّ، لكون العقد ذَريعةً إلى الوطء، والنفوس لا تصبر غالبًا مع قوة الداعي.

وشرط في النكاح شروطًا زائدة على مُجرَّدِ العقد، فقطع عنه شَبَه بعض أنواع السفاح به؛ كاشتراط إعلانه إما بالشهادة، أو بترك الكتمان، أو بهما، واشتراط الولي، ومنع المرأة أن تَلِيَه، ونَدَب إلى إظهاره، حتى استَحَبّ فيه الدُّفَّ والصوتَ والوليمة، وأوجب فيه المهر.

ومنع هِبَةَ المرأة نفسَها لغير النبي صلى الله عليه وسلم. وسِرُّ ذلك أن في ضد ذلك والإخلال به: ذريعةً إلى وقوع السفاح بصورة النكاح، كما في الأثر

(2)

: «إن الزانية هي التي تزوِّج نفسها» ؛ فإنه لا تشاء زانيةٌ تقول: زَوّجْتُك نفسي بكذا، سرًّا من وَليِّها، بغير شهود، ولا إعلان، ولا وليمة، ولا دُفٍّ، ولا صوت، إلا فعلت، ومعلوم قطعًا أن مفسدة الزنى لا تنتفي بقولها: أنكحتك نفسي، أو

(1)

أخرجه أبو داود (2241)، وابن ماجه (1952) عن قيس بن الحارث.

(2)

رواه عبد الرزاق (6/ 200) وابن أبي شيبة (4/ 135) والدارقطني (3/ 227، 228) والبيهقي في الكبرى (7/ 110) عن أبي هريرة موقوفًا عليه، ورفعه بعضهم، وهو مخرّج في الإرواء (1841). وروى سعيد بن منصور (533) عن ابن عباس قال:«البغيّ التي تزوّج نفسها بغير ولي» .

ص: 626

زوّجتك نفسي، أو أبَحْتُكَ مني كذا وكذا، فلو انتفت مفسدة الزنى بذلك لكان هذا من أيسر الأمور عليها وعلى الرجال.

فعظّم الشارع أمر هذا العقد، وسدّ الذريعة إلى مشابهته للزِّنى بكل طريق، ثم أكّد ذلك بأن جعل له حريمًا من العِدّة، يزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكامًا من المصاهرة وحُرْمَتها، ومن التوارث.

ولهذا كان الراجح في الدليل: أن الزنى لا يُثبِتُ حُرمة المصاهرة؛ كما لا يُثبِتُ التوارث والنفقة وحقوق الزوجية، ولا يَثبُت به النسب، ولا العِدّة على الصحيح، وإنما تُسْتَبْرأ بحَيْضة ليُعلم براءةُ رَحِمها، ولا يقع فيه طلاق، ولا ظِهار، ولا إيلاء، ولا يثبت المَحْرَمِيَّةُ بينه وبين أمِّها وابنتها، فلا يثبت حرمة المصاهرة ولا تحريمها؛ فإن الشارع جعل وُصلة الصهر فيه مع وُصْلة النسب، وجمع بينهما في قوله:{فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]، فإذا انتفت وُصْلة النسب فيه انتفت وصلة الصِّهْر.

وكنا ننصر القول بالتحريم، ثم رأينا الرجوع إلى عدم التحريم أولى؛ لاقتضاء الدليل له.

وليس المقصود استيفاء أدلة المسألة من الجانبين، وإنما الغرض التنبيه على أن من قواعد الشرع العظيمة: قاعدة سدِّ الذرائع.

ومن ذلك: نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تُقام الحدود في دار الحرب، وأن تقطع الأيدي في الغزو

(1)

: لئلا يكون ذلك ذَريعةً إلى لحاق المحدود بالكفار.

(1)

أخرجه أبو داود (4408)، والترمذي (1450)، والنسائي (8/ 91) عن بسر بن أرطاة.

ص: 627

ومن ذلك: أن المسلم إذا احتاج إلى التزوُّج بدار الحرب، وخاف على نفسه الزنى، عَزَل عن امرأته، نص عليه أحمد، لئلّا يكون ذلك ذريعة إلى أن يَنشأ ولده كافرًا.

ومن ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على قتل الجماعة الكثيرة بالواحد، وإن كان القصاصُ يقتضي المساواة: لئلا يُتخذَ ذريعةً إلى إهدار الدماء، وتعاون الجماعة على قتل المعصوم.

ومن ذلك: أن السكران لو قَتَل اقْتُصّ منه، وإن كان في هذه الحال لا قصدَ له: لئلا يُتخذ السكر ذريعة إلى قتل المعصوم، وسقوط القصاص.

ومن ذلك: نهيُهُ سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن الجهر بالقرآن بحَضرة العدو، لمّا كان ذريعة إلى سَبِّهم للقرآن ومَن أنزله.

ومن ذلك: أنه سبحانه نهى الصحابة أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {رَاعِنَا} [البقرة: 104]، مع قصدهم المعنى الصحيح وهو المراعاة: لئلّا يتخذ اليهودُ هذه اللفظة ذريعةً إلى السّبّ، ولئلّا يتَشبّهوا بهم، ولئلّا يُخاطَبَ بلفظ يحتمل معنًى فاسدًا.

ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله، وأحبَّ لمن صلّى إلى عمود أو عود أو شجرة أن يجعله على أحد حاجبيه، ولا يَصْمُدَ له صمدًا

(1)

: سدًّا لذريعة التشبه بالسجود لغير الله تعالى.

ومن ذلك: أنه أمر المأمومين أن يُصلّوا جلوسًا إذا صلى إمامهم

(1)

أخرجه أبو داود (693) عن المقداد بن الأسود. وإسناده ضعيف، كما في نصب الراية (2/ 84) وتهذيب سنن أبي داود (1/ 343).

ص: 628

جالسًا

(1)

: سدًّا لذريعة التشبُّه بفارس والروم في قيامهم على ملوكهم وهم قعود.

ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع الرجل من أخذ نظير حقه بصورة الخيانة ممَّن خان، وجَحْدِ حقِّه، وإن كان إنما يأخذ حقه أو دونه، فقال لمن سأله عن ذلك:«أدِّ الأمانة إلى مَن ائْتَمَنك، ولا تخنْ من خانك»

(2)

؛ لأن ذلك ذريعة إلى إساءة الظن به، ونسبته إلى الخيانة، ولا يمكنه أن يحتج عن نفسه، ويقيم عذره، مع أن ذلك أيضًا ذريعةٌ إلى أن لا يقتصر على قدْر الحقِّ وصفته؛ فإن النفوس لا تقتصر في الاستيفاء غالبًا على قدر الحق.

ومن ذلك: أنه سلّط الشريك على انتزاع الشِّقْص المشفوع من يد المشتري: سدًّا لذريعة المفسدة الناشئة من الشركة، والمخالطة بحسْب الإمكان، وقبل البيع ليس أحدُهما أولى بانتزاع نصيب شريكه من الآخر، فإذا رغبَ عنه وعَرَضه للبيع كان شريكه أحقّ به، لما فيه من إزالة الضرر عنه، وعدم تضرره هو؛ فإنه يأخذه بالثمن الذي يأخذه به الأجنبي.

ولهذا كان الحق أنه لا يَحِلّ الاحتيال لإسقاط الشُّفعة، ولا تسقط بالاحتيال؛ فإن الاحتيال على إسقاطها يعود على الحكمة التي شُرعت لها بالنقض والإبطال.

ومن ذلك: أنه لا تُقبل شهادة العدو ولا الظَّنِين في تُهمة أو قرابة، ولا الشريك فيما هو شريك فيه، ولا الوصي فيما هو وصيٌّ فيه، ولا الولد على

(1)

أخرجه البخاري (689)، ومسلم (411) عن أنس. وفي الباب أحاديث أخرى.

(2)

سيأتي تخريجه.

ص: 629

ضَرّة أمه، ولا يحكم القاضي بعِلْمه، كل ذلك سدًّا لذريعة التهمة والغرض الفاسد.

ومن ذلك: أن السنة مَضَتْ بكراهة إفراد رجب بالصوم

(1)

، وإفراد يوم الجمعة

(2)

: لئلا يُتخذ ذريعة إلى الابتداع في الدين، بتخصيص زمان لم يَخُصَّه الشارع بالعبادة.

ومن ذلك: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بقَطْع الشجرة التي كانت تحتها البيعة

(3)

، وأمر بإخفاء قبر دانيال سدًّا لذريعة الشرك والفتنة

(4)

، [81 أ] ونهى عن تعمُّد الصلاة في الأمكنة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل بها في سفره، وقال: أتريدون أن تَتخذوا آثارَ أنبيائكم مساجد؟ من أدركته الصلاة فيه فَليُصَلِّ، وإلا فلا

(5)

.

ومن ذلك: جَمْعُ عثمان بن عفان رضي الله عنه الأمّة على حرف واحد من الأحرف السبعة، لئلا يكون اختلافهم فيها ذريعةً إلى اختلافهم في القرآن، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم.

ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي أرسل معه بهَدْيِهِ إذا عَطب منه شيء دون المحِلِّ أن يَنْحَره، ويصْبُغ نَعْله الذي قَلّدَه به بدَمه، ويُخَلِّيَ بينه وبين

(1)

ورد في ذلك آثار عن عمر وغيره، أخرجها ابن أبي شيبة (3/ 102)، وعبد الرزاق (4/ 292).

(2)

أخرجه البخاري (1984)، والنسائي في الكبرى (2/ 141) عن جابر بن عبد الله.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

إلى هنا انتهى الخرم في الأصل الذي بدأ من (ص 584).

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 630

المساكين، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رُفْقته

(1)

، قالوا: لأنه لو جاز له أن يأكل منه أو أحد من رفقته قبل بلوغ المحِلِّ، فربّما دعته نفسه إلى أن يُقَصِّر في عَلَفِه وحِفْظِه، حتى يُشارِف العَطَب، فيَنْحَره. فسَدّ الشارعُ الذريعة، ومنعه ورُفقتَه من الأكل منه.

ومن ذلك: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الذرائع التي توجب الاختلاف والتفرّق، والعداوة والبغضاء، كخِطْبة الرجل على خِطْبة أخيه، وسَوْمه على سومه، وبَيْعِه على بيعه، وسؤال المرأة طلاقَ ضَرَّتها

(2)

، وقال:«إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخِر منهما»

(3)

؛ سدًا لذريعة الفتنة والفُرْقة.

ونهى عن قتال الأمراء، والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا، ما أقاموا الصلاة

(4)

: سدًا لذريعة الفساد العظيم، والشرِّ الكبير بقتالهم، كما هو الواقع؛ فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعافُ أضعاف ما هم عليه، والأمّة في بقايا تلك الشرور إلى الآن.

ومن ذلك: أن الشروط المضرُوبَة على أهل الذمة تضمّنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس، والشعور، والمراكب، والمجالس: لئلا تُفْضي مشابهتهم للمسلمين في ذلك إلى معاملتهم معاملة المسلمين في الإكرام والاحترام، ففي إلزامهم بتميُّزهم عنهم سدٌّ لهذه الذريعة.

(1)

أخرجه مسلم (1326) عن ذؤيب الخزاعي.

(2)

أخرجه البخاري (2140)، ومسلم (1413) عن أبي هريرة.

(3)

أخرجه مسلم (1853) عن أبي سعيد الخدري.

(4)

أخرجه مسلم (1854) عن أم سلمة.

ص: 631