المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئا - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي انقسام القلوب إلى صحيحٍ وسقيمٍ ومَيّتٍ

- ‌الباب الثانيفي ذكر حقيقة مرض القلب

- ‌ حال القلوب عند ورود الحق المنزل

- ‌الباب الثالثفي انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبعية وشرعية

- ‌الباب الرابعفي أن حياة القلب وإشراقه مادةُ كل خير فيه وموتَه وظلمتَه مادةُ كل شر فيه

- ‌ضرب الله سبحانه المثلَين المائيَّ والناريَّ لوحيه ولعباده

- ‌الباب الخامسفي أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدركًا للحقِّ مريدًا له، مُؤْثِرًا له على غيره

- ‌الباب السادسأنه لا سعادة للقلب ولا لذةَ ولا نعيمَ ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه

- ‌ المقدور يكتنفه(1)أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه

- ‌ تعلُّق العبد بما سوى الله تعالى مَضَرة عليه

- ‌مُحِبُّ الدنيا لا ينفكُّ من ثلاث: هَمٍّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي

- ‌ غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم بك، وإن أضرَّ ذلك بدينك ودنياك

- ‌الباب السابعفي أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه

- ‌الباب الثامنفي زكاة القلب

- ‌إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته

- ‌ الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته

- ‌ زكاة القلب موقوفة على طهارته

- ‌الباب التاسعفي طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

- ‌ خبث الملبس يُكسِبُ القلب هيئةً خبيثة

- ‌ العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه

- ‌ معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهِّرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد»

- ‌ عشق الصور المحرّمة نوع تَعَبُّدٍ لها

- ‌لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا

- ‌ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ

- ‌مَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين

- ‌ فوائد نظر العبد في حق الله عليه:

- ‌الباب الثاني عشرفي علاج مرض القلب بالشيطان

- ‌الباب الثالث عشرفي مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم

- ‌ تغيير الفطرة

- ‌ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها

- ‌الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه:

- ‌الفصل الأولفي النية في الطهارة والصلاة

- ‌ النية قصد فعل الشيء

- ‌إن شك في حصول نيّته فهو نوع جنون

- ‌الشرك وتحريم الحلال قرينان

- ‌ الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:

- ‌ لا تجد أحدًا عُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى

- ‌فصلالاسم الثاني والثالث: الزور، واللغو

- ‌فصلالاسم الرابع: الباطل

- ‌ حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

- ‌ حديث عائشة رضي الله عنها:

- ‌المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة

- ‌المحرَّمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها

- ‌القربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها

- ‌الأفعال الموجبة للتحريم لا يُعتبر لها العقل، فضلًا عن القصد

- ‌ الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع

- ‌ الحيل نوعان: أقوال، وأفعال

الفصل: ‌لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئا

الباب العاشر [21 أ]

في علامات مرض القلب وصحته

كلُّ عضو من أعضاء البدن خُلق لفعل خاص به، كماله في حصول ذلك الفعل منه، ومرضه أن يتعذر عليه الفعل الذي خُلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب. فمرض اليد: أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين: أن يتعذر عليها النظر والرؤية، ومرض اللسان: أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن: أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف، ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خُلق له من المعرفة بالله، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوة.

ف‌

‌لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا

، ولو نال كلَّ حظ من حظوظ الدنيا ولذّاتها وشهواتها، ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين، بل إذا كان القلب خاليًا من ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذابًا له ولا بدَّ، فيصير مُعذَّبًا بنفس ما كان مُنعَّمًا به من جهتين: من جهة حسرة فَوْته، وأنه حِيلَ بينه وبينه، مع شدة تعلُّق روحه به، ومن جهة فَوْت ما هو خير له وأنفع وأدوم حيث لم يحصل له، فالمحبوب الحاصل فات، والمحبوب الأعظم لم يظفر به. وكل من عرف الله أحبَّه وأخلص العبادة له ولا بدَّ، ولم يُؤثِر عليه شيئًا من المحبوبات فمن آثر عليه شيئًا من المحبوبات؛ فقلبه مريض، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث، وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيِّب، وتعوَّضت بمحبة غيره.

ص: 112

وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به

(1)

صاحبه؛ لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تُؤلِمه جراحات القبائح، ولا يُوجِعه جهله بالحق وعقائده الباطلة؛ فإن القلب إذا كان فيه حياة يألم بورود القبيح عليه، ويألم بجهله بالحق بحسب حياته، و

ما لِجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ

(2)

وقد يشعر بمرضه

(3)

، ولكن يشتد عليه تحمُّلُ مرارة الدواء والصبر عليها؛ فيُؤْثِرُ بقاءَ ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس، وليس لها أنفع منه.

وتارة يُوطِّن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه؛ لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مَخُوفٍ مُفْضٍ إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر، وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق، ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عَدِمَ الرفيقَ، واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس؟ فلي بهم أسوة.

وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم؛ فالبصير الصادق لا يستوحش

(1)

«به» ساقطة من م.

(2)

صدره: من يَهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه.

والبيت للمتنبي في ديوانه (4/ 217).

(3)

م: «بما فيه» .

ص: 113

من قلة الرفيق ولا من فقده؛ إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل

(1)

الأول، {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]؛ فتفرُّدُ العبد في طريق طلبه دليل على صدق الطلب.

ولقد سئل إسحاق بن راهَوَيْه عن مسألة فأجاب عنها، فقيل له: إن أخاك أحمد بن حنبل يقول فيها بمثل قولك، فقال: ما ظننتُ أن أحدًا يوافقني عليها، ولم يستوحش بعد ظهور الصواب له من عدم الموافق؛ فإن الحق إذا لاح وتبيَّن لم يَحْتَجْ إلى شاهد يشهد به. [21 ب]

والقلب يُبْصِرُ الحقَّ كما تبصر العينُ الشمسَ؛ فإذا رأى الرائي الشمس لم يحتج ــ في علمه بها واعتقاده أنها طالعة ــ إلى من يشهد بذلك ويوافقه عليه.

وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب «الحوادث والبدع»

(2)

. «حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة: فالمراد به لزوم الحق واتّباعه، وإن كان المتمسِّك به قليلًا، والمخالف له كثيرًا؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم.

قال عمرو بن ميمون الأوْدي: صحبتُ معاذًا باليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يومًا من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاةٌ يؤخِّرون الصلاة عن مواقيتها،

(1)

ش: «الرفقة» .

(2)

هو «الباعث على إنكار البدع والحوادث» (ص 26، 27) ط. بشير عيون.

ص: 114

فصلوا الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، قال: قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تُحدِّثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضُّني عليها، ثم تقول: صلِّ الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصلِّ مع الجماعة وهي نافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون! قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية؛ تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعةَ، الجماعةُ ما وافق الحق، وإن كنتَ وحدك

(1)

.

وفي طريق أخرى: فضرب على فخذي وقال: ويحك! إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل.

قال نُعيم بن حماد: يعني إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك؛ فإنك أنت الجماعة حينئذٍ. ذكره البيهقي وغيره»

(2)

.

وقال أبو شامة عن مبارك، عن الحسن البصري، قال:«السنة ــ والذي لا إله إلا هو ــ بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقلّ الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا»

(3)

.

(1)

رواه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (160)، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/ 408 - 409) من طريق البيهقي.

(2)

رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/ 409) من طريق البيهقي، وانظر: تهذيب الكمال (22/ 264 - 265).

(3)

رواه الدارمي (216)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (743). والنصُّ في كتاب أبي شامة (ص 16).

ص: 115

وكان محمد بن أسلم الطُّوسي ــ الإمام المتفق على إمامته مع رتبته ــ أتبع الناس للسنة في زمانه، حتى قال:«ما بلغني سنةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها، ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبًا، فما مُكّنت من ذلك»

(1)

.

فسُئل بعض أهل العلم في زمانه عن السّواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث: «إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم»

(2)

: مَنِ السواد الأعظم؟ فقال: «محمد بن أسلم الطُّوسي هو السواد الأعظم»

(3)

.

وصدق والله؛ فإن العصر إذا كان فيه إمامٌ عارف بالسنة داعٍ إليها، فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السوادُ الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولَّاه الله ما تولى، وأصلاه جهنّم، وساءت مصيرًا.

والمقصود أن من علامات أمراض القلوب عُدُولَها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة، وعُدُولَها عن دوائها النافع إلى دائها الضار، فهنا أربعة أمور: غذاء نافع، ودواء شافٍ، وغذاء ضارٌّ، وداءٌ

(4)

مهلك.

(1)

لم أقف عليه.

(2)

رواه عبد بن حميد (1218)، وابن ماجه (3950)، وابن أبي عاصم في السنة (84)، وابن عدي في الكامل (6/ 328)، وغيرهم عن أنس رضي الله عنه، وضعفه ابن كثير في تحفة الطالب (37)، والبوصيري في الزوائد، وابن حجر كما في فيض القدير (2/ 431)، وعبد الله الغماري في تخريج أحاديث اللمع (ص 246)، وهو في السلسلة الضعيفة (2896).

(3)

سئل ابن راهويه: من السواد الأعظم؟ فقال: «محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعه» . رواه أبو نعيم في الحلية (9/ 238، 239)، ومن طريقه الذهبي في السير (12/ 196 - 197).

(4)

ت، ظ، ش:«ودواء» .

ص: 116

فالقلب الصحيح: يُؤثِرُ النافعَ الشافي على الضارِّ المؤذي، والقلب المريض بضدِّ ذلك.

وأنفع الأغذية: غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية: دواء القرآن، وكلٌّ منهما فيه الغذاء والدواء.

ومن علامات صحته أيضًا أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحلَّ فيها، حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، [22 أ] جاء إلى هذه الدار غريبًا، يأخذ منها حاجته، ويعود إلى وطنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر:«كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعُدَّ نفسك من أهل القبور»

(1)

.

فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا

مَنَازِلُكَ الأولَى وَفِيهَا المُخَيَّمُ

وَلكِنَّنَا سَبْيُ العَدُوِّ فَهَلْ تُرَى

نَعُودُ إلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ؟

(2)

وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه: «إن الدنيا قد ترحّلت مدبرةً، وإن الآخرة قد ترحّلت مقبلةً، ولكلٍ منهما بَنُونَ، فكونوا من أبناء الآخرة،

(1)

رواه ابن المبارك في الزهد (ص 5)، وابن أبي شيبة (7/ 75)، وأحمد (2/ 24، 41)، والترمذي (2333)، وابن ماجه (4114)، وغيرهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقواه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 148). وهو في صحيح البخاري (6053) بدون قوله:«وعدَّ نفسك من أهل القبور» .

(2)

البيتان من ميمية المؤلف التي نشرت لأول مرة في الهند سنة 1316 ضمن مجموعة تسمى «أربح بضاعة في معتقد أهل السنة والجماعة» (جمعها علي بن سليمان آل يوسف). وأورد المؤلف منها أبياتًا كثيرة في طريق الهجرتين (ص 108 ـ 115)، وحادي الأرواح (ص 12 ـ 15). ومطلع القصيدة في الرسالة التبوكية (ص 3).

ص: 117

ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل»

(1)

.

وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة، وقرب منها، حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتلَّ آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها.

ومن علامات صحة القلب: أنه لا يزال يَضرِب على صاحبه، حتى يُنيب إلى الله ويُخْبِت إليه، ويتعلق به تعلُّق المحب المضطر إلى محبوبه، الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأُنس به. فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوي، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف. فَذِكْرُه: قُوتُه وغذاؤه، ومحبته والشوق إليه: حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه: داؤه، والرجوع إليه: دواؤه. فإذا حصل له ربُّه سكن إليه واطمأن به، وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدَّتْ تلك الفاقة، فإن في القلب فاقة لا يسدُّها شيء سوى الله تعالى أبدًا، وفيه شعثٌ

(2)

لا يَلُمُّه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده، فهو دائمًا يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذٍ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، وتصير له حياة

(1)

علقه البخاري في كتاب الرقاق، باب: في الأمل وطوله، عن علي مجزومًا به، وهو موصول عند ابن المبارك في الزهد (ص 86)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 100)، وأحمد في الزهد (ص 130)، وهناد في الزهد (1/ 290 - 291)، وابن أبي الدنيا في قصر الأمل (49)، وأبي نعيم في الحلية (1/ 76)، وغيرهم.

(2)

الأصل: «شعب» . والمثبت من بقية النسخ.

ص: 118

أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خُلِقَ الخَلْقُ، ولأجله خُلِقت الجنة والنار، وله أُرْسِلت الرسل وأُنزلت الكتب، ولو لم يكن له جزاءً إلا نفسُ وجوده لكفى به جزاءً، وكفى بفوته حسرةً وعقوبةً، كما قيل:

وَمَن صَدَّ عَنَّا حَظُّهُ

(1)

البُعْدُ والقِلَى

وَمَنْ فاتَنا

(2)

يَكْفِيهِ أَنِّي أَفُوتُهُ

(3)

قال بعض العارفين: «مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والتنعُّم بذكره وطاعته»

(4)

.

وقال آخر: «إنه ليمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيِّب»

(5)

.

وقال آخر: «والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته»

(6)

.

(1)

ح، ش:«حسبه» .

(2)

في النسخ: «فته» ، والمثبت من ح.

(3)

لم أجد البيت فيما بين يدي من المصادر.

(4)

روى أبو نعيم في الحلية (8/ 167) بإسناده عن عبد الله بن المبارك قال: «أهل الدنيا خرجوا من الدنيا قبل أن يتطعَّموا أطيب ما فيها» ، قيل له: وما أطيب ما فيها؟ قال: «المعرفة بالله عز وجل» .

(5)

ذكر ابن كثير في البداية والنهاية (10/ 257) عن أبي سليمان الداراني أنه قال: «إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربًا، فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب» .

(6)

روى أبو نعيم في الحلية (9/ 372) بإسناده عن ذي النون المصري قال: «ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنان إلا برؤيته» .

ص: 119

وقال أبو الحسين

(1)

الورّاق: «حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت، والعيش الهني الحياة مع الله تعالى لا غير»

(2)

.

ولهذا كان الفَوْتُ عند العارفين بالله أشدَّ عليهم من الموت؛ لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق، فكم بين الانقطاعين؟!

وقال آخر: «من قرَّت عينه بالله تعالى قرَّت به كل عين، ومن لم تقرَّ عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات»

(3)

.

وقال يحيى بن معاذ: «من سُرَّ بخدمة الله سُرَّت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرَّت عينه بالله قرَّتْ عيون كل أحد بالنظر إليه»

(4)

.

ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره؛ إلا بمن يَدُلُّهُ عليه، ويُذكِّره به، ويذاكره بهذا الأمر.

ومن علامات صحته: أنه إذا فاته وِرْده وجد لفواته ألمًا أعظم من تألُّم الحريص بفوات ماله [22 ب] وفقده.

ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة، كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب.

(1)

ح: «الحسن» .

(2)

رواه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص 230) عن أبي بكر محمد بن أحمد بن إبراهيم عنه به.

(3)

لم أقف عليه.

(4)

رواه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص 102)، وعنه البيهقي في الزهد الكبير (726).

ص: 120

ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همُّه وغمُّه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقُرَّةَ عينه وسرورَ قلبه.

ومن علامات صحته: أن يكون همُّه واحدًا، وأن يكون في الله.

ومن علامات صحته: أن يكون أشحَّ بوقته أن يذهب ضائعًا من أشد الناس شُحًّا بماله.

ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك مِنّة الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله.

فهذه ستةُ

(1)

مشاهد، لا يشهدها إلا القلب الحيُّ السليم.

وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذي همُّه كله في الله، وحبُّه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابِّه، والخلوة به آثرُ عنده من الخلطة؛ إلا حيث تكون الخلطة

(2)

أحبَّ إليه وأرضى له، قُرّةُ عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كلما وجد من نفسه التفاتًا إلى غيره تلا عليها:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28]، فهو يُردِّد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه؛ فينصبغ القلب بين

(1)

في النسخ: «ست» .

(2)

«الخلطة» ساقطة من م وبعض النسخ.

ص: 121

يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة

(1)

العبودية، فتصير العبودية صفة

(2)

وذوقًا لا تكلفًا، فيأتي بها تودُّدًا وتحببًا وتقربًا، كما يأتي المحب المتيَّم في محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله.

فكلما عَرَضَ له أمر من ربه أو نهْيٌ أحسَّ من قلبه ناطقًا ينطق لبّيْكَ وسَعْديْك، إني سامع مطيع ممتثل، ولك عليّ المِنّة في ذلك، والحمد فيه عائد إليك.

وإذا أصابه قَدَر وجد من قلبه ناطقًا يقول: أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربي العزيز الرحيم، لا صبر لي إن لم تُصبِّرني، ولا قوة لي إن لم تَحمِلنْي وتُقَوِّني، لا ملجأ لي منك إلا إليك، ولا مستعان لي إلا بك، ولا انصرافَ لي عن بابك، ولا مذهب لي عنك.

فينطرح بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكلِّيَّته عليه، فإن أصابه بما يكره قال: رحمةٌ أُهدِيَتْ إليّ، ودواء نافع من طبيب مشفق، وإن صُرِفَ عنه ما يحب قال: شرٌّ صُرف عني:

وَكَمْ رُمْتُ أَمْرًا خِرْتَ لِي في انْصِرافِهِ

وَمَا زِلْتَ بي مِنِّي أَبَرَّ وَأَرْحَمَا

(3)

فكل ما مسّه به من السراء والضراء اهتدى بها طريقًا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه، كما قيل

(4)

:

(1)

م: «بصفة» .

(2)

الأصل: «صبغة» ، والمثبت من النسخ الأخرى.

(3)

البيت ضمن ثلاثة أبيات في ذيل مرآة الزمان (4/ 169) لأبي الحسين النوري.

(4)

لم أقف على القائل.

ص: 122

ما مَسّنِي قدَرٌ بِكُرْهٍ أوْ رِضًا

إلَّا اهْتَدَيْتُ بِهِ إليكَ طَرِيقَا

أَمْضِ القَضَاءَ على الرِّضَا مِنِّي بِهِ

إنِّي وجَدْتُكَ فِي البَلاءِ رَفِيقَا

فلله هاتيك القلوبُ وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أُودِعَتْهُ من الكنوز والذخائر! ولله طِيبُ أسرارها، ولاسيما يوم تُبْلَى السرائر!

سَيَبْدُو لَهَا طِيبٌ وَنُورٌ وَبَهْجَةٌ

وَحُسْنُ ثَنَاءٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائرُ

(1)

تالله لقد رُفع لها عَلَمٌ عظيم فشمَّرتْ إليه، واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه، ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى؛ فلم تستجب له، واختارته على ما سواه وآثرت ما لديه.

(1)

لم أجد البيت.

ص: 123

الباب الحادي عشر [23 أ]

في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

هذا الباب كالأساس والأصل لما بعده من الأبواب؛ فإن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبُّ، ثم تنبعث منها إلى الأعضاء، وأولُ ما تنال القلب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة:«الحمد لله، نستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا»

(1)

.

وفي «المسند» ، والترمذي من حديث حُصين بن عبيد

(2)

: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا حُصين! كم تعبد اليوم إلهًا؟»

(3)

قال: سبعةً، ستةً في الأرض وواحدًا في السماء، قال:«فمن الذي تُعِدُّ لرَغْبتك ورهبتك؟» ، قال: الذي في السماء، قال:«أسْلِمْ حتى أعلِّمك كلمتين ينفعك الله بهما» ، فأسلم، فقال له:«قل: اللهم ألهمني رشدي، وقِني شرّ نفسي»

(4)

.

(1)

رواه أحمد (1/ 392)، وأبو داود (2118)، والترمذي (1105)، والنسائي (1404، 3277)، وابن ماجه (1892)، وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وصححه ابن الجارود (679)، وابن العربي في عارضة الأحوذي (3/ 27)، والنووي في شرح صحيح مسلم (6/ 160) وفي غيره، والذهبي في المهذب (3/ 1142)، وليس في شيء من روايات هذا الحديث ذكر الاستهداء. وانظر: مجموع الفتاوى (18/ 286 ــ 290) والسلسلة الضعيفة (6525)، وخطبة الحاجة للألباني.

(2)

في الأصل وأغلب النسخ: «المنذر» .

(3)

«اليوم إلها» ساقطة من الأصل.

(4)

رواه الترمذي (3483)، والدارمي في النقض على المريسي (1/ 227 - 228)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2355)، والبزار (3579، 3580)، والطبراني في الكبير (18/ 174)، وفي الأوسط (1985)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1184)، وغيرهم من طريق شبيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وفي إسناده ضعف وانقطاع، وأعلّ بالإرسال. قال الترمذي:«غريب» ، وقال البزار:«اختلفوا في إسناده» ، وقال الذهبي في العلو (ص 25):«شبيب ضعيف» ، وصححه ابن القيم في الوابل الصيب (ص 411)، وحسنه ابن حجر في التهذيب (2/ 384)، وانظر: العلل الكبير للترمذي (ص 364).

ص: 124

وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من شرِّها عمومًا، ومن شر ما يتولد منها من الأعمال، ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات، وجمع بين الاستعاذة من شر النفس وسيئات الأعمال؛ وفيه وجهان:

أحدهما: أنه من باب إضافة النوع إلى جنسه، أي: أعوذ بك من هذا النوع من الأعمال.

والثاني: أن المراد به عقوبات الأعمال التي تسوء صاحبها.

فعلى الأول: يكون قد استعاذ من صفة النفس وعملها.

وعلى الثاني: يكون قد استعاذ من العقوبات وأسبابها.

ويدخل العمل السيئ في شر النفس، فهل المعنى: ما يسوؤني

(1)

من جزاء عملي، أو من عملي السيئ؟

وقد يترجَّح الأول، فإن الاستعاذة من العمل السيئ بعد وقوعه إنما هي استعاذة من جزائه وموجَبه؛ وإلا فالموجود لا يمكن رفعه بعينه.

وقد اتفق السالكون إلى الله ــ على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم ــ

(1)

م: «يسرني» ، تصحيف.

ص: 125

على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يُدخَلُ عليه سبحانه ولا يُوصل إليه إلا بعد تركها، وإماتتها بمخالفتها، والظفر بها.

فإن الناس على قسمين:

قسم ظفرت به نفسه؛ فملكتْه وأهلكتْه، وصار طوعًا لها تحت أوامرها.

وقسم ظفروا بنفوسهم؛ فقهروها، فصارت طوعًا لهم، مُنقادةً لأوامرهم.

كما قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم، فمن ظَفِر بنفسه أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك، قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41].

فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب تعالى يدعو العبد إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعي مرة والى هذا مرة، وهذا موضع المحنة و الابتلاء.

وقد وصف سبحانه النفسَ في القرآن بثلاث صفات: المطمئنة، والأمّارة بالسوء، واللوامة.

فاختلف الناس: هل النفس واحدة، وهذه أوصاف لها؟ أم للعبد ثلاثة أنفس: نفس مطمئنة، ونفس لوامة، ونفس أمارة؟

والأول: قول الفقهاء والمتكلمين، وجمهور أهل التفسير، وقول مُحقِّقي الصوفية.

والثاني: قول كثير من أهل التصوف.

ص: 126