الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّاسُ في سَدَفِ الظّلا
…
مِ وَنَحْنُ في ضَوْءِ النّهَارِ
(1)
ولهذا ي
ضرب الله سبحانه المثلَين المائيَّ والناريَّ لوحيه ولعباده
.
أما الأول فكما قال في سورة الرعد: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
فضرب لوحيه المثل بالماء لما يحصل به من الحياة، وبالنار لما يحصل بها
(2)
من الإضاءة والإشراق، وأخبر سبحانه أن الأودية تسيل بقدرها، فوادٍ كبيرٌ يسع ماءً كثيرًا، ووادٍ صغيرٌ يسع ماءً قليلًا، كذلك القلوب مُشبّهة بالأودية، فقلب كبير يسع علمًا كثيرًا، وقلب صغير إنما يسع بقدره.
وشبَّه ما تحتمله القلوب من الشبهات والشهوات ــ بسبب مخالطة الوحي لها، وإثارتِه
(3)
لما فيها من ذلك ــ بما يحتمله السيل من الزبد، وشبَّه بطلان تلك الشبهات ــ باستقرار العلم النافع فيها ــ بذهاب ذلك الزبد، وإلقاء الوادي له، وإنما يستقرُّ فيه الماء الذي به النفع. وكذلك في المثل الذي بعده: يذهب الخَبَثُ الذي في ذلك الجوهر، ويستقر صَفْوه.
وأما ضرب هذين المثلين للعباد؛ فكما قال في سورة البقرة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ
(1)
البيتان بلا نسبة في الموشى (ص 326) والكشكول (1/ 369).
(2)
الأصل، م، ث:«به» .
(3)
م: «إمازته» .
لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 17 ـ 18]، فهذا المثل الناري، ثم قال:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} إلى آخره [البقرة: 19]، فهذا المثل المائي. وقد ذكرنا الكلام على أسرار هذين المثلين، وبعض ما تَضَمَّنَاهُ من الحكم في كتاب «المعالم»
(1)
وغيره.
والمقصود أن صلاح القلب وسعادته وفلاحه موقوف على هذين الأصلين، قال تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 69 ـ 70]، فأخبر أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو حيُّ القلب، كما قال في موضع آخر:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هي بما يدعونا إليه الرسول من العلم والإيمان، فعلم أن موت القلب وهلاكه بِفَقْدِ ذلك.
وشبَّه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور، وهذا من أحسن التشبيه؛ فإن أبدانهم قبور لقلوبهم، فقد ماتت قلوبهم وقُبرت في أبدانهم، فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، ولقد أحسن القائل:
وَفي الجهلِ قَبْلَ الموْتِ مَوْتٌ لأَهْلِه
…
وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ القُبُورِ قُبُورُ
وَأَرْوَاحُهُمْ في وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِهمْ
…
وَلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ
(2)
(1)
أي «إعلام الموقعين» . انظر (1/ 150 ــ 152) منه.
(2)
البيتان بلا نسبة في أدب الدنيا والدين ص 43، ونسبا لعلي بن أبي طالب في ديوانه.
ولهذا جعل سبحانه وحيه الذي يُلقيه إلى الأنبياء روحًا، كما قال تعالى:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} في موضعين من كتابه [غافر: 15]
(1)
، وقال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]؛ لأن حياة الأرواح والقلوب به، وهذه الحياة الطيبة التي [7 أ] خصَّ بها سبحانه مَن قَبِلَ وحيه، وعَمِل به، فقال:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، فخصَّهم سبحانه بالحياة الطيبة في الدارين، ومثله قوله تعالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]، ومثله قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41، 42]، ومثله قوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30].
فبيَّن سبحانه أنه يُسعِد المحسنَ بإحسانه في الدنيا وفي الآخرة، كما أخبر أنه يُشقي المسيء بإساءته في الدنيا والآخرة، قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
وقال تعالى وجمع بين النوعين فقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ
(1)
والموضع الثاني قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2].
فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]. فأهل الهدى والإيمان لهم شَرْحُ الصدر واتساعه وانفساحه، وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والحرج.
وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]. فأهل الإيمان في النور وانشراح الصدور، وأهل الضلال في الظلمة وضيق الصدور.
وسيأتي في باب طهارة القلب مزيدُ تقريرٍ لهذا إن شاء الله.
والمقصود أن حياة القلب وإضاءته مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه.