الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: تحريم الحيل.
ومنها: تخليل الخمر كما ذكره شيخنا رحمه الله، والله أعلم.
فتلخَّص أن
الحيل نوعان: أقوال، وأفعال
.
فالأقوال يشترط لثبوت أحكامها العَقْلُ، ويُعتبر فيها القَصْد، وتكون صحيحةً تارةً، وفاسدةً أخرى.
ثم ما ثبت حكمه؛ منه ما يمكن فسخُه ورَفعه بعد وقوعه، كالبيع والنكاح؛ ومنه مالا يمكن فيه ذلك، كالعتق والطلاق.
فهذا الضّرب إذا قُصد به الاحتيال على فعل مُحرّم أو إسقاط واجب أمكن إبطاله؛ إما من جميع الوجوه، وإما من الوجه الذي يُبطِل مقصود المحتال، بحيث لا يترتبُ عليه الحكم المحتالُ على حصوله، كما حكم به الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في طلاق الفارّ.
وأما الأفعال فإن اقتضت الرّخصة للمحتال لم تحصل، كالسفر للقصر والفِطْرِ، وإن اقتضت تحريمًا على الغير فإنه قد يقعُ، وتكون بمنزلة إتلافِ النفس والمال، وإن اقتضت حِلًا عامًا إما بنفيها أو بواسطة زَوالِ الملك، فهذه مسألةُ القتل، وذبح الصيد للحلال، وذبح المغصوب للغاصب.
وبالجملة، فإذا قُصد بالفعل استباحةُ مُحرّمٍ لم يَحلّ له، وإن قُصِدَ إزالةُ مُلكِ الغير ليَحِلّ له فالأقيسُ أنه لا يحلّ له أيضًا، وإن حلّ لغيره.
وقد دخل في القسم الأول احتيالُ المرأة على فسخ النكاح بالرّدة، فهي لا تمشي غالبًا إلا عند مَنْ يقول: الفُرقة [83 أ] تتنجز بنفس الرّدة، أو يقول بأنها لا تُقتلُ، فالواجب في مثل هذه الحيلة أن لا ينفسخ بها النكاح.
وإذا علم الحاكم أنها ارتدت لذلك لم يُفرّق بينهما، وتكون مرتدةً من حيثُ العقوبة والقتلُ، غير مرتدةٍ من جهة فسادِ النكاح، حتى لو تُوفّيتْ أو قُتلتْ قبلَ الرجوع استحقّ ميراثها، لكن لا يجوز له وطؤها في حال الرّدة؛ فإن الزوجة قد يَحرُم وطؤُها بأسباب من جهتها، كما لو أحرمت.
لكن لو ثبت أنها ارتدت، ثم قالت: إنما ارتددتُ لفسخ النكاح، لم يُقبل هذا؛ فإنه قد يُجعل ذريعة إلى عود نكاح كل مرتدة، بأن تُلَقّن أنها إنما ارتدَّت للفسخ، ولأنها مُتّهمة في ذلك، ولأن الأصل أنها مُرتدة في جميع الأحكام.
فصل
وقد استدل البخاري في «صحيحه»
(1)
على بطلان الحيل بقوله صلى الله عليه وسلم:
«لا يُجمَعُ بَيْنَ مُتَفَرّقٍ، ولا يُفَرّقُ بين مجتمعٍ، خَشْيَةَ الصدقة» . فإن هذا النهي يَعُمّ ما قَبْلَ الحَوْلِ وما بعده.
واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم في الطاعون: «إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فِرارًا منه»
(2)
.
وهذا من دقة فقهه رضي الله عنه؛ فإنه إذا كان قد نهى صلى الله عليه وسلم عن الفرار من قَدَر الله تعالى إذا نزل بالعبد رضًا بقضاء الله تعالى وتسليمًا لحكمه؛ فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد؟
وبأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فَضْلِ الماء يمنع به الكلأ
(3)
.
(1)
برقم (6955).
(2)
برقم (6973).
(3)
أخرجه البخاري (6962)، ومسلم (1566) عن أبي هريرة.
فدلَّ على أن الشيء الذي هو في نفسه غير محرّم، إذا قُصدَ به أمر محرمٌ صار محرمًا.
واحتج أحمد على بطلان الحيل وتحريمها بلعنهِ صلى الله عليه وسلم للمحلّل
(1)
، وبقوله:«لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلوا محارم الله بأدنَى الحيل»
(2)
.
واحتج على تحريم الحيل لإسقاط الشفعة بقوله: «فلا يحلّ له أن يبيع؛ حتى يُؤْذِنَ شريكه»
(3)
.
واحتج ابن عباس وبعده أيوب السَّخْتياني
(4)
، وغيره من السلف بأن الحيل مُخادعة لله تعالى، وقد قال تعالى:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يخادعون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9]، قال ابن عباس: ومن يخادع الله يخدعه
(5)
.
ولا ريب أن من تدبّر القرآن، والسّنّة، ومقاصد الشارع: جَزم بتحريم الحِيَل وبطلانها؛ فإن القرآن دلّ على أن المقاصد والنيّاتِ معتبرةٌ في التصرّفات والعادات، كما هي معتبرة في القربات
(6)
والعبادات، فتجعلُ
(7)
الفعل حلالًا أو حرامًا، وصحيحًا أو فاسدًا، وصحيحًا من وجه فاسدًا من
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه مسلم (1608) عن جابر.
(4)
تقدّم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
في الأصل: «التقربات» .
(7)
في الأصل: «فيجعل» .
وجه، كما أن القصد والنية في العبادات تجعلها كذلك.
وشواهد هذه القاعدة كثير ة جدًّا في الكتاب والسنة:
فمنها: قوله تعالى في آية الرجعة: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وذلك نصّ في أن الرجعة إنما تثبت لمن قصد الصلاح دون الضّرار؛ فإذا قصد الضرار لم يُمَلّكْه الله الرجعة.
ومنها: قوله تعالى في آية الخلع: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وهذا دليل على أن الخُلعَ المأذون فيه إنما هو إذا خافَ الزوجان أن لا يُقيما حدود الله، وأن النكاح الثاني إنما يُباح إذا ظنّا أن يُقيما حدود الله؛ فإنه شرط في الخلع خوف عدم إقامة حدوده، وشرط في العَوْد ظنَّ إقامة حدوده.
ومنها: قوله تعالى في آية الفرائض: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]؛ فإنه سبحانه وتعالى إنما قدّم على الميراث وَصِية مَنْ لم يُضارَّ الورثة بها، فإذا كانت الوصية وصية ضرار؛ كانت حرامًا، وكان للوارث إبطالها، وحرم على الموصَى له أخذ ذلك بدون رِضَا الورثة [83 ب]، وأكد سبحانه ذلك بقوله:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
وتأمل كيف ذكر سبحانه وتعالى الضرار في هذه الآية دون التي قبلها؛ لأن الأُولى تضمنت ميراث العمودين، والثانية تضمنت ميراث الأطراف من الزوجين، والإخوة، والعادة أن الميت قد يُضارّ زوجه وإخوته، ولا يكاد يضارّ والديه وولده.
والضرار نوعان: جَنَفٌ، وإثم؛ فإنه قد يقصدُ الضّرار وهو الإثم، وقد يضارّ من غير قصد وهو الجنَف، فمتى أوصَى بزيادة على الثُلُثِ فهو مُضارٌّ، قصد أو لم يقصد، فللوارث ردُّ هذه الوصية.
وإن أوصى بالثلث فما دونه، ولم يُعلم أنه قصد الضرار، وجب إمضاؤها، فإن علم الوصي أن الموصي إنما أوصى ضرارًا لم يحلّ له الأخذ، ولو اعترف الموصي أنه إنما أوصى ضرارًا لم تَجز إعانته على إمضاء هذه الوصية.
وقد جَوّز سبحانه وتعالى إبطال وصية الجَنَف والإثم، وأن يُصلح الوصيُّ أو غيره بين الورثة والموصَى له، فقال تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182]، وكذلك إذا ظهر للحاكم أو الوصي الجنَفُ أو الإثم في الوقف ومَصرفه، أو بعض شروطه، فأبطل ذلك، كان مُصْلحًا لا مُفسدًا، وليس له أن يُعِينَ الواقف على إمضاء الجَنفِ والإثم، ولا يصحِّح هذا الشرط، ولا يحكم به؛ فإن الشارَع قد رَدّه وأبطله، فليس له أن يصحِّحَ ما رده الشارع وحَرّمه؛ فإن ذلك مضادَّة له ومناقضة.
ومن ذلك: قوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}
(1)
[النساء: 19]؛ فهذا دليل على أنه إذا عَضَلها لِتَفْتَدِيَ نفسها منه، وهو ظالم لها بذلك، لم يحلّ له أخذ ما بَذَلَتْه، ولا يملكه بذلك
(2)
.
ومن ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]، فحرّم سبحانه وتعالى أن يأخذ منها شيئًا مما آتاها إذا كان قد تَوَسّل إليه بالعَضْلِ.
ومن ذلك: أن جَدَاد النّخل عَملٌ مباح أيَّ وقتٍ شاء صاحبُه، لكن لمَّا قصد أصحابُه به في الليل حرمانَ الفقراء عاقبهم الله تعالى بإهلاكه، ثم قال:{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33]، ثم جاءت السنة بكراهة الجداد بالليل
(1)
لكونه ذريعة إلى هذه المفسدة.
ونص عليه غير واحد من الأئمة، كأحمد بن حنبل وغيره.
فصل
(2)
قال أصحاب الحيل: قد أسمعتمونا على بطلان الحيل وتحريمها ما فيه كفايةٌ، فاسمعوا الآن على جوازها واستحبابها ما يُقِيم عذرَنا:
ووجه الاستدلال: أنه سبحانه إنما عذرَهم بتخلُّفهم وعجْزِهم؛ إذ لم
(1)
أخرجه أبو داود في المراسيل (127، 128، 129) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن الحسين مرسلًا.
(2)
«فصل» ساقطة من الأصل.
يستطيعوا حِيْلةً يتخلصون بها من المُقام بين أظْهُر الكفار، وهو حرام، فَعُلِمَ أن الحيلة التي تُخلِّص من الحرام مُسْتَحبة مأذونٌ فيها، وعامّة الحيل التي تنكرونها علينا هي من هذا الباب، فإنها حيل تُخَلِّص من الحرام، ولهذا سَمّى بعضُ من صَنّف في ذلك كتابه:«المخارج من الحرام، والتخلُّص من الآثام» .
واعتبر هذا بحيلة العينة؛ فإنها تُخَلّص من الربا المحرم.
وكذلك الجمع بين الإجارة والمساقاة، يُخَلّص من بَيع الثمرة قبل بُدوّ صلاحها، وهو حرام.
وكذلك خُلع اليمين [84 أ] يُخَلّص من وقوع الطلاق الذي هو حرام، أو مكروه، أو من مواقعة المرأة بعد الحِنْثِ، وهو حرام.
وكذلك هِبَةُ الرجل مالَه قبل الحوْلِ لوَلَدِه أو امرأته، يُخلّصه من إثم مَنْع الزكاة، كما يتخلص من إثم المنع بإخراجها، فهما طريقان للتخلُّص.
فالحيل تخلِّص من الحرج، وتخلِّص من الإثم، والله تعالى قد نفى الحرجَ عَنّا وعن ديننا
(1)
، ونَدَبنا إلى التخلص منه ومن الآثام، فمن أفضل الأشياء معرفةُ ما يُخلّصنا من هذا وهذا، وتعليمُه، وفَتْحُ طريقه.
ألا ترى أن الرجل إذا حلف بالطلاق: ليَقْتُلَنّ أباه، أو ليشربن الخمر، أو ليزنين بامرأة ونحو ذلك كان في الحيلة تخليصُه من مفسدة فعل ذلك، ومن مفسدة خراب بيته، ومفارقة أهله؛ فإن مَنْ لا يرى الحيلة ليس له عنده مخرج إلا بوقوع الطلاق، فإذا علم أنه يقع به الطلاق فزال فِعْلُ المحلوف عليه، فأي شيء أفضلُ من تخليصه من هذا وهذا؟
(1)
«عن ديننا» ساقطة من الأصل.
وكذلك من وَقع عليه الطلاق الثلاث، ولا صبرَ له عن امرأته، ويرى اتصالها بغيره أشدّ من موته، فاحْتلنا له بأن زوَّجناها بعبدٍ فوطئها، ثم وَهَبْناهُ منها فانفسخ نكاحه، وحلّت لزوجها المطلّق بعد انقضاء العدّة.
قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه أيوبَ عليه السلام وقد حلف لَيَجْلِدَنّ امرأتَه مئةً: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44].
قال سعيد عن قتادة
(1)
: كانت امرأته قد عَرّضَت له بأمر، وأرادها إبليس على شيء فقال لها: لو تكلمتِ بكذا وكذا. وإنما حملها عليه الجوع
(2)
، فحلف نبيّ الله لئن شفاهُ الله تعالى ليجلدنها مئة جلدة، قال: فأُمِرَ بأصلٍ فيه تسعة وتسعون قضيبًا، والأصل تَكْملة المئة، فيضربها به ضربة واحدةً، فأبَرّ الله تعالى نبيه، وخَفّف عن أمَتِهِ.
وقال عبد الرحمن بن جُبير
(3)
: لقيها
(4)
إبليس، فقال لها: والله لو تكلّم صاحِبُك بكلمة واحدةٍ، لكُشِفَ عنه كلّ ضُرٍّ، ولرجع إليه ماله وولده، فأخبرت أيوب عليه السلام، فقال: ويلك، ذاك عدو الله، إنما مَثَلُك مَثَلُ المرأة الزانية، إذا جاءها صديقها بشيء قَبِلته وأدخلته، وإن لم يأتها بشيء
(1)
رواه الطبري في تفسيره (21/ 213)، ورواه بنحوه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 167، 168) ــ ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (10/ 68) ــ عن معمر عن قتادة، وعزاه في الدر المنثور (7/ 195) لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في بعض النسخ: «الجزع» .
(3)
رواه أحمد في الزهد (ص 89) والطبري في تفسيره (21/ 212) عن أبي المغيرة عن صفوان عن عبد الرحمن بن جبير بنحوه.
(4)
في الأصل: «لقنها» .
طردته وأغلقت بابها عنه. لمّا أعطانا الله تعالى المال والولد آمنا به، وإذا قبض الذي له منا نكفُرُ به؟ إن أقامني الله تعالى من مرضي لأجلدنك مئة. فأفتاه الله سبحانه بما أخبر به: أن يأخذ ضِغْثًا وهو الحُزْمَة من الشيء، مثل الشماريخ الرّطبة والعيدان ونحوها مما هو قائم على ساق، فيضربها ضربة واحدة.
وهذا تعليم منه سبحانه لعباده التخلُّص من الآثام، والمخرج من الحرج بأيّ
(1)
شيء، وهذا أصلنا في باب الحيل؛ فإنا قسنا على هذا، وجعلناه أصلًا.
قالوا: وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى التخلّص من صريح الربا، بأن يبيع التمْر بدراهم، ثم يشتري بتلك الدراهم تمرًا:
فروى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمرٍ بَرْنِي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«من أين هذا؟» ، قال: كان عندنا تَمْرٌ رديءٌ، فبعتُ منه صاعين بصاعٍ ليَطْعَم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك:«أوّهْ! عينُ الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبِعِ التمرَ ببيعٍ آخر، ثم اشترِ به» . متفق عليه
(2)
.
وفي لفظ آخر: «بعِ الجَمْعَ بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جَنِيبًا» .
والجمع والجنيب: نوعان من التمر.
وفي لفظ لمسلم: «بِعْهُ بسلعةٍ، ثم ابتعْ بسلعتك أيّ التمرِ شئت» .
(1)
في بعض النسخ: «بأيسر» .
(2)
البخاري (2312)، ومسلم (1594).
فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم أو السلعة، ثم يبتاعَ بها تمرًا، وهذا ضرب من الحيلة، ولم يُفرّق بين بيعه ممن يشتري منه التمر، أو من غيره.
وقد قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282]، وهذا إرشاد إلى حيلة العِينَة وما شابهها؛ فإن السلعة تدور بين المتعاقدين [84 ب] للتخلص من الربا.
قالوا: وقد دلَّت السنة على أنه يجوز للإنسان أن يتخلّص من القول الذي يأثم به أو يخاف بالمعاريض، وهي حيلة في الأقوال، كما أن تلك حيلة في الأعمال.
فروى قيس بن الربيع، عن سليمان التَيْمي، عن أبي عثمان النّهْدي، عن عمر بن الخطاب
(1)
رضي الله عنه، قال: إن في معاريض الكلام ما يُغْنِي الرجل عن الكذب.
وقال الحَكَمْ، عن مُجاهد، عن ابن عباس
(2)
رضي الله عنهما: ما يَسُرُّني
(1)
رواه في المخارج في الحيل (ص 4) عن يعقوب عن قيس به، ورواه ابن أبي شيبة (5/ 282) وهناد في الزهد (1377) والبخاري في الأدب المفرد (884) والطبري في تهذيب الآثار (242، 243 ــ مسند علي ـ) والطحاوي في شرح المشكل (7/ 369) والبيهقي في الكبرى (10/ 199) وفي الشعب (4/ 203) وابن عبد البر في التمهيد (16/ 252) من طرق أخرى عن سليمان التيمي به، وصحّح إسناده الألباني في السلسلة الضعيفة (3/ 214). ورواه الطبري في تهذيب الآثار (244 ـ مسند علي ـ) من طريق محمد بن عبيد الله عن عمر، وورد أيضًا من طريق ليث عن مجاهد عن عمر.
(2)
رواه في المخارج في الحيل (ص 6) عن يعقوب عن الحسن بن عمارة عن الحكم به، وزاد في آخره: وسودُها. ورواه ابن أبي شيبة (5/ 282) عن جرير عن منصور قال: بلغني عن ابن عباس أنه قال: «ما أحبّ لي بالمعاريض كذا وكذا» . ورواه الطبري في تهذيب الآثار (245 ــ مسند علي ـ) عن ابن حميد عن جرير عن منصور عن ابن عباس بلفظ ابن أبي شيبة.
بمعاريض الكلام حُمْرُ النعم.
وقال الزهري
(1)
، عن حُميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أُمِّه، أم كُلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيْط، وكانت من المهاجرات الأُول قالت: لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخّص في شيء مما يقول الناس: إنه كذب، إلا في ثلاث: الرجل يُصلِح بين الناس، والرجل يكذب لامرأته، والكذب في الحرب.
ومعنى الكذب في ذلك: هو المعاريض، لا صريح الكذب.
وقال منصور
(2)
: كان لهم كلام يَدْرَأون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا، وقد لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طليعة للمشركين، وهو في نفر من أصحابه فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن من ماء!» ، فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: أحياءُ اليمن كثير، لعلهم منهم، وانصرفوا!
(3)
وأراد صلى الله عليه وسلم بقوله: «نحن من ماء» قوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6].
(1)
رواه مسلم (2605).
(2)
لم أقف عليه من كلام منصور، ورواه في المخارج في الحيل (ص 8) وابن أبي شيبة (5/ 282) والطبري في تهذيب الآثار (234 ــ مسند علي ـ) عن جرير عن منصور عن إبراهيم به، ولفظ ابن أبي شيبة:«كان لهم كلام يتكلّمون به يدرأون به عن أنفسهم مخافةَ الكذب» ، ولفظ الطبري بنحوه.
(3)
رواه ابن إسحاق ــ كما في سيرة ابن هشام (3/ 163) ــ عن محمد بن يحيى بن حبان مرسلًا.
ولما وطئ عبد الله بن رواحة جاريته أبصرته امرأته، فأخذت السّكّين وجاءت، فوجدته قد قضى حاجته، فقالت: لو رأيتك حيث كنت لوَجَأْتُ بها في عُنُقِك، فقال: ما فعلتُ؟ فقالت: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن. فقال:
شَهِدْتُ بأنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ
…
وأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الكَافِرينَا
وأنَّ العَرْشَ فَوْقَ المَاءِ طافٍ
…
وفَوْقَ العَرْشِ ربُّ العالَمِينَا
وتَحْمِلُهُ ملائكَةٌ شِدادٌ
…
ملائكةُ الإلَهِ مُسَوِّمينَا
فقالت: آمنت بكتاب الله، وكذّبت بصري، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بَدَتْ نواجذه
(1)
.
(1)
رواه اليزيدي في أماليه (ص 102) ــ ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (28/ 112) والذهبي في السير (1/ 238) ــ عن عبد العزيز بن أخي الماجشون قال: بلغنا أنه كانت لعبد الله بن رواحة جارية يستسرّها سرًّا عن أهله
…
وذكر القصّة، وصحّحها الألوسي في تفسيره (7/ 114). ورواه ابن عساكر (28/ 114) عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن الثقة عن ابن رواحة وليس فيه الجزء المرفوع. ورواه في المخارج في الحيل (ص 4) عن الزهري عن ابن رواحة. ورواه ابن أبي الدنيا في العيال (572) ــ ومن طريقه ابن عساكر (28/ 114) ــ عن ابن الهاد أن امرأة ابن رواحة رأته على جارية له
…
وليس فيه الجزء المرفوع. ورواه الدارمي في الرد على الجهمية (82) عن قدامة بن إبراهيم عن ابن رواحة نحوه وليس فيه الجزء المرفوع، قال الذهبي في العلو (83):«روِي من وجوه مرسلة، وهذا منقطع» . ورواه ابن عساكر (28/ 116) عن الهيثم بن عدي قال: ذكروا أن ابن رواحة ابتاع جارية
…
ورواه في المخارج في الحيل (ص 4، 5) عن قيس بن موسى أن ابن رواحة ابتاع جارية
…
وذكرا القصة بهذه الأبيات وفيها أبيات أخرى. ورواه الدارقطني (1/ 120) وابن عساكر (28/ 116) عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة مرسلا بأبيات أخرى، ورواه الدارقطني (1/ 121) عن زمعة عن سلمة عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه، قال السبكي في الطبقات (1/ 266):«زمعة وشيخه متكلم فيهما» ، وقال مغلطاي في شرح ابن ماجه (1/ 758): «هذا متصل، لولا ضعف زمعة لكان إسناده لا بأس به
…
وقال عبد الحق: لا يروى من وجه صحيح يحتجّ به؛ لأنه منقطع وضعيف». ورواه ابن أبي الدنيا في العيال (571) وفي المداراة (164) عن الشعبي مرسلًا بأبيات أخرى .. ورواه ابن أبي شيبة (5/ 273)، وابن أبي الدنيا في العيال (573)، والخرائطي في اعتلال القلوب (482)، وابن عساكر (28/ 113) عن نافع عن ابن رواحة نحوه بأبيات أخرى وليس فيه الجزء المرفوع، وهذا منقطع.
قال ابن عبد البر
(1)
: ثبت ذلك عن عبد الله بن رَواحَة.
ويُذكر عن عمر بن الخطاب
(2)
رضي الله عنه أنه قال: عجبتُ لمن يعرف المعاريض، كيف يكذب؟
ودُعِي أبو هريرة رضي الله عنه إلى طعام فقال: إني صائم، ثم رَأَوْهُ يأكل، فقالوا: ألم تقل: إني صائم؟ فقال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر»
(3)
؟
(1)
قال في الاستيعاب (3/ 900): «قصته مع زوجته مشهورة، رويناها من وجوه صحاح» ، وفيما قال نظر؛ فإن أسانيدها لا تخلو من مقال، وعلى فرض اعتضادها ففي المتن اختلاف ونكارة، حتى إنَّ محمد رشيد رضا بالغ فحكم عليها بالوضع كما في مجلة المنار (14/ 103). وقال النووي في المجموع (2/ 183): إسناد هذه القصة ضعيف ومنقطع.
(2)
لم أقف عليه، وقال السمعاني في تفسيره (5/ 183):«وعن بعضهم: عجبت لمن يعرف لحن الكلام كيف يكذب» .
(3)
رواه بمعناه الطيالسي (2393)، وابن راهويه (12)، وأحمد (2/ 384، 513)، وأبو يعلى (6650)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 382)، والبيهقي في الكبرى (4/ 293)، وغيرهم، وفي إسناده اختلاف، وصحّحه ابن حبان (3659)، وقال الألباني في الإرواء (4/ 99):«إسناده صحيح على شرط مسلم» .
وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم، ولا شيء معه، قال: أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله، فيظن أنه أراد يومه والذي يليه، وإنما أراد يَوْمَي الدنيا والآخرة
(1)
.
وذكر الأعمشُ، عن إبراهيم
(2)
، أنه قال له رجل: إن فلانًا أمرني أن آتي مكان كذا وكذا، وأنا لا أقدر على ذلك المكان، فكيف الحيلة؟ فقال له: قل: والله ما أُبْصِرُ إلا ما سدَّدَني غيري، تعني: إلا ما بصَّرك ربُّك.
وقال حمّاد، عن إبراهيم
(3)
في رجلٍ أخذه رجلٌ، فقال: إن لي معك حقًا، فقال: لا، فقال: احْلِفْ بالمشي إلى بيت الله، فقال
(4)
: احْلِفْ بالمشي إلى بيت الله، واعْنِ مَسْجَد حَيّك.
وذكر هشام بن حسّان، عن ابن سِيرين
(5)
: أن رجلًا كان يُصيب بالعَيْنِ،
(1)
لم أقف عليه.
(2)
رواه في المخارج في الحيل (ص 6) عن يعقوب عن قيس بن الربيع عن الأعمش به، ورواه الطبري في تهذيب الآثار (233 ــ مسند علي ـ) من طريق سفيان عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يعلّمهم إذا بعث السلطان إلى الرجل قال: ما أبصِر إلا ما بصّرني غيري وما أهتدي إلا ما سدّدني غيري ونحو هذا. ورواه في المخارج في الحيل (ص 7) عن يعقوب عن عقبة عن إبراهيم نحوه.
(3)
رواه في المخارج في الحيل (ص 5 - 6) عن يعقوب عن قيس بن الربيع عن حماد به، ورواه الخطيب في الفقيه والمتفقّه (2/ 411) من طريق شبابة عن قيس عن حماد قال: قلت لإبراهيم: أمرّ على العاشر فيستحلفني بالمشي إلى بيت الله، قال: احلف له وانو مسجد حيّك.
(4)
في الأصل تحته: «أي إبراهيم» .
(5)
رواه في المخارج في الحيل (ص 6) عن يعقوب عن قيس بن الربيع عن هشام به، وعزاه ابن حجر في الفتح (10/ 595) للطبري.
رأى بَغْلة شُريح، فأراد أن يَعِينها، ففطن له شُريح، فقال: إنها إذا رَبضَتْ لم تقُمْ حتى تُقام، فقال الرجل: أف أف، وسلمت بغلته، وإنما أراد: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها.
وقال الأعمش، عن إبراهيم
(1)
: إنه سئل عن الرجل يبلغه عن الرجل الشيء يقوله فيه، فيسأله عنه؟ فقال: قل: والله إن الله لَيَعْلَمُ ما من ذلك شيء، يعني بـ (ما): الذي.
وقال عقبة بن المغيرة
(2)
: كنا نأتي إبراهيم وهو خائف من الحَجّاج، فكُنّا إذا خرجنا من عنده يقول: إن سُئِلْتم عني وحُلِّفتم فاحْلِفوا بالله ما تدرون أين أنا؟ ولا لنا به علم، ولا في أي موضع هو؟ واعْنُوا أنكم لا تدرون أيّ موضع أنا فيه قائم أو قاعد، وقد صَدَقتْم.
وجاءه رجلٌ فقال
(3)
: إني اعترضتُ [85 أ] على دابة، فَنَفَقَتْ، فأخذتُ غيرها، ويريدون أن يُحَلّفوني أنها هي الدابة التي اعترضتُ عليها؟ فقال: اركبها، واعْتَرِضْ عليها على بَطْنِك راكبًا، ثم احلفْ أنها الدابة التي اعترضت عليها.
وقال أبو عوانة، عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم
(4)
، وامرأته تُعاتبه
(1)
رواه في المخارج في الحيل (ص 6) عن يعقوب عن قيس بن الربيع عن الأعمش به.
(2)
رواه في المخارج في الحيل (ص 6 - 7) عن يعقوب عن عقبة بن أبي العيزار به. وذكره ابن بطال في شرح صحيح البخاري (9/ 358) وسماه: عقبة بن العيزار. وفي الأذكياء لابن الجوزي (ص 71): وقال إبراهيم بن هاشم: عن رجل قد سماه قال: كنا إذا خرجنا من عند إبراهيم يقول: إن سئلتم عني فقولوا
…
وذكره.
(3)
رواه في المخارج في الحيل (ص 7) عن يعقوب عن عقبة به.
(4)
رواه الطبري في تهذيب الآثار (230 ــ مسند علي ــ) من طريق ليث عن طلحة بن مصرف عن إبراهيم. وانظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/ 83، 9/ 359)، والمبسوط (30/ 183).
في جاريةٍ له، وبيده مِرْوَحَة، فقال: أُشهِدكُم أنها لها، فلما خرجنا قال: علامَ شهدتم؟ قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها، قال: أما رأيتموني أُشير إلى المروحة؟ إنما قلتُ لكم: اشْهَدوا أنها لها، وأنا أعني المروحة.
وقال محمد بن الحسن، عن عمر بن ذَرٍّ، عن الشعبي
(1)
: من حلف على يمين لا يستثني، فالبِرّ والإثم فيها على علمه، قلت: ما تقول في الحيل؟؟ قال: لا بأس بالحيل فيما يَحِلّ ويجوز، وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام، ويخرج به إلى الحلال، فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به، وإنما نَكْرَهُ من ذلك أن يحتال الرجل في حقٍّ لرجل حتى يُبطله، أو يحتال في باطل حتى يُمَوِّهَه، أو يحتال في شيء حتى يُدْخِل فيه شُبْهة، وأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك.
وكان حماد
(2)
رحمه الله إذا جاءه مَنْ لا يريد الاجتماع به وضَع يده على ضِرْسِه، ثم قال: ضِرْسي، ضِرْسي.
ووجَّه الرشيدُ إلى شَريك
(3)
رجلًا ليُحْضره، فسأله شريكٌ أن ينصرف ويُدافع بحضوره، ففعلَ، فحبسَه الرشيدُ، ثم أرسل إليه رسولًا آخر فأحضره، وسأله عن تخلّفه لما جاءه رسوله؟ فحلف له بالأيمان المغلظة أنه ما رأى الرسول في اليوم الذي أرسله فيه، وعنى بذلك الرسول الثاني، فصدّقه، وأمر بإطلاق الرجل.
(1)
هذا القدر من كلام الشعبي ذكره السرخسي في المبسوط (30/ 185).
(2)
لم أقف عليه.
(3)
لم أقف عليه.
وأُحضر الثوري
(1)
إلى مجلس المهدي، فأراد أن يقومَ، فَمُنعَ، فحلف بالله أنه يعود، فترك نعله وخرج، ثم رجع فلبسها، ولم يَعُدْ، فقال المهدي: ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله.
قالوا: وليس مذهب من مذاهب الأئمة المتبوعين إلا وقد تضمَّن كثيرًا من مسائل الحيل.
فأبعدُ الناس عن القول بها: مالك، وأحمد.
وقد سُئل أحمد عن المروذي وهو عنده، ولم يرد أن يخرج إلى السائل، فوضع أحمدُ إصبعه في كفّه، وقال: ليس المروذي هاهنا، وماذا يصنع المروذي هاهنا؟
وقد سُئل أحمدُ عن رجل حلف بالطلاق ليَطأنّ امرأته في نهار رمضان، فقال: يُسافر بها ويطؤها في السفر.
وقال صاحب «المستوعب»
(2)
: وجدت بخط شيخنا أبي حكيم: حُكي أن رجلًا سأل أحمدَ عن رجل حلف أن لا يُفْطر في رمضان، فقال له: اذهب إلى بشر بن الوليد، فسَلْه ثم ائتني فأخبرني، فذهب فسأله، فقال له بشرٌ: إذا أفطر أهلك فاقعد معهم ولا تفطر، فإذا كان السَّحر فكلْ، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«هلمّ إلى الغداء المبارك»
(3)
، فاستحسنه أحمد.
(1)
ذكره العجلي في الثقات (1/ 412)، وعن العجلي رواه الخطيب في تاريخ بغداد (9/ 160).
(2)
طُبع منه أربع مجلدات خاصة بالعبادات، ولم أجد النص فيها.
(3)
رواه ابن أبي شيبة (2/ 275)، وأحمد (4/ 126، 127)، وأبو داود (2346)، والنسائي (2162)، والطحاوي في شرح المشكل (5503)، والطبراني في الكبير (18/ 251)، وغيرهم من طريق يونس بن سيف عن الحارث بن زياد عن أبي رهم عن العرباض بن سارية، وأعلّه البزار، وابن القطان في بيان الوهم والإيهام (1805)، والمنذري في الترغيب (2/ 89)، والذهبي في الميزان (2/ 168)، وقال النووي في المجموع (6/ 361):«في إسناده نظر» ، لكن شواهده كثيرة، وقد صحّحه ابن خزيمة (1938)، وابن حبان (3465)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2030)، وفي الباب عن عمر وأبي الدرداء وعتبة بن عبد وابن عمر وأنس والمقدام بن معد يكرب وعائشة وشيبان بن مالك وعن ضمرة والمهاجر ابني حبيب مرسلًا. وانظر: السلسلة الصحيحة (2983، 3408).
قالوا: وقد علّم الله سبحانه نبيّه يوسف عليه السلام الحيلة التي تَوصّل بها إلى أخذ أخيه، بإظهار أنه سارقٌ، ووضع الصُّواع في رَحْله، ولم يكن لذلك حقيقةٌ، لكن أظهر ذلك توصلًا به إلى أخذ أخيه، وجعله عنده.
وأخبر الله سبحانه أن ذلك كيدٌ كاده سبحانه ليوسف؛ ليأخذ أخاه، ثم أخبر سبحانه أن ذلك من العلم الذي يرفع به درجاتِ مَنْ يشاء، وأن الناس متفاوتون فيه، ففَوْق كل ذي علمٍ عليمٌ.
فصل
(1)
قال منكرو الحيل:
الحيل ثلاثة أنواع:
نوع: هو قربة وطاعة، وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى.
ونوع: هو جائز مباح، لا حَرَجَ على فاعله، ولا على تاركه، وتَرَجُّحُ فعله على تركه أو عكس ذلك: تابعٌ لمصلحته.
(1)
«فصل» ساقطة من الأصل.
ونوع: هو مُحرّمٌ ومخادعة لله ورسوله، متضمّن لإسقاط ما أوْجبه، وإبطال ما شَرعه، وتحليل ما حَرّمه.
وإنكار السلف والأئمة وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع.
فإن الحيلة لا تُذَمّ مطلقًا، ولا تحمَدُ مطلقًا، ولفظُها لا يُشعِرُ بمدحٍ ولا ذَمٍّ، وإن غلب في العرفِ إطلاقها على ما يكون من الطرق الخَفِيّة إلى حُصولِ الغرضِ، بحيث لا يُتفَطّن [85 ب] له إلا بنوع من الذّكاء والفِطنة.
وأخص من هذا: تخصيصُها بما يُذَمّ من ذلك، وهذا هو الغالب على عُرف الفقهاء المنكرين للحيل؛ فإن أهلَ العرف لهم تصرفٌ في تخصيص الألفاظ العامة ببعض موضوعاتها، وتقييد مطلقها ببعض أنواعه.
فإن الحيلة فِعْلَةٌ: من الحَوْلِ، وهو التصرف من حالٍ إلى حالٍ، وهي من ذوات الواو، وأصلها: حِوْلَة؛ فسكنت الواوُ، وانكسر ما قبلها، فقُلِبَتْ ياءً، كميزان، ومِيقات، وميعاد.
قال في «المُحْكَم»
(1)
: الحَوْلُ، والحَيْل، والحِوَلُ، والحَوْلة، والحِيلَة، والحَوِيل، والمَحَالة، والاحتيال، والتحيل، والتَّحوُّل، كل ذلك: الحِذق، وجَودة النظَر، والقدرة على دقة
(2)
التصرف.
قال: والحِوَل، والحِيلُ: جمع حِيلَة. ورجلٌ حُوَّل، وحُوَلةَ، وحَوَاليٌّ، وحُوالِيٌّ، وحَولْوَلٌ: شديد الاحتيال.
وما أحْوَله وأحْيَله، وهو أحولُ منك. انتهى.
(1)
المحكم (4/ 6) ط. دار الكتب العلمية.
(2)
في النسخ: «وجه» . والتصويب من المحكم.
فالحيلة: فِعْلةٌ من الحول، وهو التحوّل من حالٍ إلى حالٍ، وكل من حاول أمرًا يريد فعله، أو الخلاصَ منه، فما يحاوله به: حيلة يَتَوَصّل بها إليه.
فالحيلة معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقًا ومنعًا، ومصلحة ومفسدة، وطاعة ومعصية.
فإن كان المقصود أمرًا حسنًا كانت الحيلة حسنة، وإن كان قبيحًا كانت الحيلةُ قبيحةً، وإن كان طاعةً وقُربة كانت الحيلةُ عليه كذلك، وإن كانت معصيةً وفسوقًا كانت الحيلة عليه كذلك.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلّوا محارم الله بأدنَى الحيل»
(1)
صارت في عُرْف الفقهاء إذا أطلقت يُقْصَد بها الحيل التي يُستَحَلُ بها المحارم، كحيل اليهود.
وكل حيلةٍ تتضمن إسقاط حقٍّ لله، أو لآدميّ فهي مما يستحلُّ بها المحارم.
ونظير ذلك لفظ الخداع؛ فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن كان بحقٍّ فهو محمود، وإن كان بباطل فهو مذمومٌ.
ومن النوع المحمود قوله صلى الله عليه وسلم: «الحرب خدعة»
(2)
، وقوله في الحديث الذي رواه الترمذي
(3)
وغيره: «كلّ الكذب يُكْتَبُ على ابن آدم إلا ثلاث
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سنن الترمذي (1939) من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مرفوعا بمعناه، ورواه أيضًا ابن وهب في الجامع (532)، وابن أبي شيبة (5/ 327)، وأحمد (6/ 454، 459، 460)، وابن أبي الدنيا في الصمت (499)، والطبري في التهذيب (209، 210 ــ مسند علي ـ)، والطبراني في الكبير (24/ 164 ـ 166)، وابن عدي في مقدمة الكامل (1/ 40)، وغيرهم، واختُلف في إسناده فقيل: عن شهر عن أبي هريرة، وقيل: عنه عن الزبرقان عن النواس بن سمعان، وقيل: عنه مرسلًا، وقيل غير ذلك، وحسنه الترمذي، وأعلّه الطحاوي في شرح المشكل (7/ 370) بابن خثيم، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 309):«فيه شهر بن حوشب، وقد وثِّق وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات» . وفي الباب عن أنس وأبي أيوب وأم كلثوم بنت عقبة وعائشة.
خصال: رجل كذب على امرأتِه ليُرضيها، ورجل كذب بين امرأين ليُصلح بينهما، ورجلٌ كذب في خَدْعة حَرب».
ومن النوع المذموم قوله في حديث عِيَاض بن حِمارٍ، الذي رواه مسلم في «صحيحه»
(1)
: «أهل النار خمسة
…
» ذكر منهم رجلًا «لا يُصبح ولا يُمسي إلا وهو يُخادِعك عن أهلك ومالك» ، وقوله تعالى:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يخادعون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9]، وقوله تعالى:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62].
ومن النوع المحمود: خَدْعُ كَعْب بن الأشْرفِ وأبي رافع عَدُوَّيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُتِلا
(2)
، وقَتْلُ خالد بن سفيان الهُذَليّ
(3)
.
(1)
برقم (2865).
(2)
حديث كعب بن الأشرف أخرجه البخاري (4037)، ومسلم (1801) عن جابر بن عبد الله. وحديث أبي رافع أخرجه البخاري (4039) عن البراء بن عازب.
(3)
الأصل، م:«سفيان بن خالد» . والتصويب من النسخ الأخرى والمصادر. قتله عبد الله بن أنيس، وروى خبر قتله أحمد (3/ 496)، وأبو داود (1251) مختصرًا، وأبو يعلى (905) ــ ومن طريقه الضياء في المختارة (9/ 28 - 30) ـ، والبيهقي في الكبرى (3/ 256، 9/ 38)، وغيرهم من طريق محمد بن جعفر عن ابن عبد الله بن أنيس عن أبيه، وصحّحه ابن خزيمة (982، 983)، وابن حبان (7160)، وحسن إسناده النووي في الخلاصة (2/ 750)، وابن كثير في تفسيره (1/ 656)، وأبو زرعة في طرح التثريب (3/ 136)، وابن حجر في الفتح (2/ 437، 7/ 380). وورد أيضًا من طريق محمد بن كعب عن عبد الله بن أنيس، وانظر: السلسلة الصحيحة (2981). وفي الباب عن عروة وموسى بن عقبة والزهري مرسلًا.
ومن أحسن ذلك: خديعة مَعْبَد بن أبي معبد الخُزاعي لأبي سُفيان وعسكر المشركين حين هَمّوا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين، فردَّهم من فورهم
(1)
.
ومن ذلك: خديعة نُعيم بن مسعود الأشجعي ليهود بني قُرَيظة، ولكفار قريش والأحزاب، حتى ألقى الخُلْفَ بينهم، وكان سببَ تفرقهم ورُجوعهم
(2)
.
(1)
رواه ابن إسحاق ــ كما في سيرة ابن هشام (4/ 53) ــ عن عبد الله بن أبي بكر معضلا، ومن طريق ابن إسحاق رواه الطبري في تفسيره (8243)، والبيهقي في الدلائل (3/ 315 - 316).
(2)
رواه البيهقي في الدلائل (3/ 445) عن ابن إسحاق عن رجل عن عبد الله بن كعب بن مالك، وذكره ابن هشام في السيرة (4/ 188) عن ابن إسحاق بغير إسناد. وذكره ابن سعد في الطبقات (2/ 73). وروى قصّةَ وقعةِ الأحزاب عبد الرزاق (5/ 367) عن الزهري عن ابن المسيب مرسلًا، وفيها أن الخديعة والإيقاع بين الطرفين كان من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان نعيم أداةً في ذلك من غير أن يشعر، وكذلك رواه البيهقي في الدلائل (3/ 398) من طريق موسى بن عقبة عن الزهري مرسلًا، ورواه أيضًا (3/ 447) من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة. قال ابن كثير في البداية (4/ 129):«ما ذكره ابن إسحاق من قصة نعيم أحسن مما ذكره موسى بن عقبة» .
ونظائر ذلك كثيرة.
وكذلك المكر: ينقسم إلى محمود ومذموم؛ فإن حقيقته إظهارُ أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده.
فمن المحمود: مكره تعالى بأهل المكر، مقابلةً لهم بفعلهم، وجزاءً لهم بجنس عملهم، قال تعالى:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، وقال تعالى:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50].
وكذلك الكَيْدُ: ينقسم إلى نوعين، قال تعالى:{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183]، وقال:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76]، وقال:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16].
فصل
إذا عُرف ذلك: فلا إشكال أنه يجوز للإنسان أن يُظْهِر قولًا أو فعلًا، مقصودُه به [86 أ] مقصودٌ صالح، وإن كان ظاهرُه خلاف ما قصد به، إذا كانت فيه مصلحة دينية، مثل دَفْع الظلم عن نفسه، أو غيره، أو إبطال حِيلةٍ محرمة.
وإنما المحرّم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعها الله ورسوله له، فيصير مخادعًا لله، كائدًا لدينه، ماكرًا بشَرْعه، فإن مقصودَه حصولُ الشيء الذي حرمه الله تعالى ورسوله بتلك الحيلة، وإسقاط الذي أوجبه بتلك الحيلة.
وهذا ضِدّ الذي قَبْله؛ فإن ذلك مقصوده التوصلُ إلى إظهار دين الله، ودفع معصيته، وإبطالُ الظلم، وإزالة المنكر.
فهذا لونٌ، وذاك لونٌ آخر.
ومثال ذلك: التأويل في اليمين، فإنه نوعان: نوع لا ينفعه ولا يُخلّصه من الإثم، وذلك إذا كان الحقّ عليه فجحده، ثم حَلفَ على إنكاره متأوّلًا؛ فإن تأويله لا يُسقط عنه إثم اليمين الغموس، والنية للمُسْتَحْلِفِ في ذلك باتفاق المسلمين، بل لو تأوّل من غير حاجة لم ينفعه ذلك عند الأكثرين.
وأما المظلوم المحتاج فإنه ينفعه تأويله، ويُخَلّصه من الإثم، ويكون اليمين على نِيّته.
فإذا استحلفه ظالم بأيمان البَيْعة، أو أيمان المسلمين، فتأوّل الأيمان بجمع يمين وهي اليد.
أو حَلَّفه بأن كلّ امرأة له طالق، فتأوّل أنها طالق من وَثاق، أو طالق عند الولادة، أو طالق من غيري، ونحو ذلك.
أو استحلفه بأن كلّ مملوك له حُرّ أو عَتيق، فتأوّل أنه عفيف أو كريم، من قولهم: فَرَس عتيق.
أو استحلفه بأن تكون امرأته عليه كظَهْر أُمِّه، فتأوّل ظهر أمه بمركوبها.
فإن ضَيّق عليه وألزمه أن يقول: إنه مُظاهر من امرأته؛ تأوّل بأنه قد ظاهر بين ثوبين أو جُبّتين من عند امرأته.
وإن استحلفه بالحرام؛ تأوّل أن الحرامَ الذي حرّمه الله عليه يلزمه تحريمه.
فإن ضَيّق عليه بأن يُلزمه أن يقول: الحرامُ يلزمني من زوجي، أو أن تكون عليّ حرامًا؛ قَيّد ذلك بنيته: إذا أحْرَمَتْ، أو صامَت، أو قامت إلى الصلاة، ونحو ذلك.
وإن استحلفه بأن كل مالٍ له أو كل ما يملكه صدقةٌ؛ تأوّل بأنه
(1)
صدقة من الله عليه.
وإن قال له: قل: وأن جميعَ ما أملكه من دارٍ وعقارٍ وضَيْعةٍ وقفٌ على المساكين؛ تأوّل الفعل المضارع بما يملكه في المستقبل، بعد كذا وكذا سنة.
فإن ضَيّق عليه وقال: جميعُ ما هو جارٍ في ملكي الآن؛ نَوى إضافة الملك إلى الآن، لا إلى نفسه، والآن لا يملك شيئًا.
فإن قال: ما هو في ملكي في هذا الوقت يكون وقفًا؛ أخرج معنى لفظ الوقْفِ عن المعهود إلى معنى آخر، والعربُ تُسَمّي سِوَار العاج وَقفًا.
وإن استحلفه بالمشي إلى بيت الله؛ نوى مسجدًا من مساجد المسلمين.
فإن قال قل: عليّ الحجّ إلى بيت الله؛ نوى بالحج القصدَ إلى المسجد.
فإن قال: إلى البيت العتيق؛ نوى المسجد القديم.
فإن قال: البيت الحرام؛ نوى الحرامَ هَدْمُه، واتخاذه دارًا، وحَمّامًا ونحو ذلك.
وإن استحلفه بالأمانة؛ نوى بها الوديعة، أو اللُّقَطة، ونحو ذلك.
وإن استحلفه بصوم سنةٍ؛ نوى بالصوم الإمساكَ عن
(2)
كلام يمكنه
(1)
في الأصل: «أنه» .
(2)
«عن» ساقطة من م.
الإمساك عنه سنةً أو دائمًا.
هذا كله في المحلوف به.
وأما المحلوف عليه فيجري هذا المجرى.
فإذا استحلفه: ما رأيتَ فلانًا؛ نوى ما ضربتُ رِئته.
أو: ما كلمته؛ نوى ما جرحته.
أو: ما عاشرته ولا خالطته؛ نوى بالمعاشرة والمخالطة معاشرة الزوجة والسُّرِّيَّة.
أو: ما بايعته ولا شاريته؛ نوى بذلك ما بايعته بَيعة اليمين، ولا شاريته من المشاراة، وهي اللَّجاج، أو الغضب، تقول: شَرِي على مثال عَلِم: إذا لَجّ أو استشاط غضبًا.
وإن استحلفه لِصٌّ أنه لا يَدُلّ عليه، ولا يُعلِم به ولا يُخبر به أحدًا؛ نوى أنه لا يفعل [86 ب] ذلك مادام معه.
وإن ضَيّق عليه وقال: ما عاش، أو ما بقي، أو مادام في هذه البلدة؛ نوى قَطْع الظّرْف عما قبله، وأن لا يكون متعلقًا به، أو نوى بـ (ما): الذي؛ أي: لا أدل عليك الذي عاش أو بقي بعد أخذك.
وإن استحلفه أن لا يطأ زوجته؛ نوى وطأها برجله.
وإن استحلفه أن لا يتزوج فلانة؛ نوى أن لا يتزوجها نكاحًا فاسدًا.
وكذلك إذا استحلفه أن لا يبيع كذا، أو لا يشتريه، أو لا يؤجره، ونحو ذلك.
وكذلك لو استحلفه أن لا يدخل هذه الدار، أو البلد، أو المحلة؛ قَيّد الدخول بنوع معيَّن بالنية.
ولو استحلفه: أنك لا تعلم أين فلان؟ نوى مكانه الخاص من داره، أو بلده، أو سوقه.
ولو استحلفه: أنه ليس عنده في داره؛ نوى أنه ليس عنده إذا خرج من الدار.
فإن ضيَّق عليه، وقال: الآن؛ نوى أنه ليس حاضرًا معه الآن، وقد بَرّ وصدق.
وإن استحلفه: ليس لي به علم؛ نوى أنه ليس لي علمٌ بِسِرِّه، وما ينطوي عليه، وما يُضْمِرُه، أو ليس لي علم به على جهة التفصيل؛ فإن هذا لا يعلمه إلا الله وحده.
فصل
وللمظلوم المستحْلَف مخرجان يتخلص بهما:
مخرج بالتأويل حالَ الحلف.
فإن فاته فله مخرج يتخلَّص به بعده إن أمكنه، كما إذا استحلفه قُطَّاع الطريق أو اللصوص أن لا يخبر بهم أحدًا، فالحيلة في ذلك: أن يجمع الوالي المتهمين، ثم يسأله عن واحدٍ واحدٍ، فيُبرّئ البريء، ويسكت عن المتهم.
وهذا المخرج أضيق من الأول.
فإذا استحلفه ظالم أن لا يشكو غريمه، ولا يطالبه بحقِّه، فحلف ولم يتأوّل: أحال عليه بذلك الحق مَنْ يطالبه به، ولم يحنث في يمينه.
وإذا استحلفه ظالم أن يبيعه شيئًا، فله أن يُملّكه زَوْجته، أو ولده، فإذا باعه بعد ذلك كان قَدْ بَرّ في يمينه، ويمنع من تسليمه مَنْ مَلّكه إياه.