المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه: - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي انقسام القلوب إلى صحيحٍ وسقيمٍ ومَيّتٍ

- ‌الباب الثانيفي ذكر حقيقة مرض القلب

- ‌ حال القلوب عند ورود الحق المنزل

- ‌الباب الثالثفي انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبعية وشرعية

- ‌الباب الرابعفي أن حياة القلب وإشراقه مادةُ كل خير فيه وموتَه وظلمتَه مادةُ كل شر فيه

- ‌ضرب الله سبحانه المثلَين المائيَّ والناريَّ لوحيه ولعباده

- ‌الباب الخامسفي أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدركًا للحقِّ مريدًا له، مُؤْثِرًا له على غيره

- ‌الباب السادسأنه لا سعادة للقلب ولا لذةَ ولا نعيمَ ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه

- ‌ المقدور يكتنفه(1)أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه

- ‌ تعلُّق العبد بما سوى الله تعالى مَضَرة عليه

- ‌مُحِبُّ الدنيا لا ينفكُّ من ثلاث: هَمٍّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي

- ‌ غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم بك، وإن أضرَّ ذلك بدينك ودنياك

- ‌الباب السابعفي أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه

- ‌الباب الثامنفي زكاة القلب

- ‌إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته

- ‌ الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته

- ‌ زكاة القلب موقوفة على طهارته

- ‌الباب التاسعفي طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

- ‌ خبث الملبس يُكسِبُ القلب هيئةً خبيثة

- ‌ العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه

- ‌ معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهِّرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد»

- ‌ عشق الصور المحرّمة نوع تَعَبُّدٍ لها

- ‌لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا

- ‌ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ

- ‌مَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين

- ‌ فوائد نظر العبد في حق الله عليه:

- ‌الباب الثاني عشرفي علاج مرض القلب بالشيطان

- ‌الباب الثالث عشرفي مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم

- ‌ تغيير الفطرة

- ‌ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها

- ‌الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه:

- ‌الفصل الأولفي النية في الطهارة والصلاة

- ‌ النية قصد فعل الشيء

- ‌إن شك في حصول نيّته فهو نوع جنون

- ‌الشرك وتحريم الحلال قرينان

- ‌ الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:

- ‌ لا تجد أحدًا عُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى

- ‌فصلالاسم الثاني والثالث: الزور، واللغو

- ‌فصلالاسم الرابع: الباطل

- ‌ حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

- ‌ حديث عائشة رضي الله عنها:

- ‌المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة

- ‌المحرَّمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها

- ‌القربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها

- ‌الأفعال الموجبة للتحريم لا يُعتبر لها العقل، فضلًا عن القصد

- ‌ الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع

- ‌ الحيل نوعان: أقوال، وأفعال

الفصل: ‌الميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه:

قالوا: وجِماعُ ما ينكرونه علينا: احتياط [39 أ] في فعل مأمور، أو احتياط في تجنب محظور، وذلك خير وأحسن عاقبةً من التهاون بهذين؛ فإنه يُفضِي غالبًا إلى النقص من الواجب، والدخول في المحرَّم، وإذا وازنّا بين هذه المفسدة ومفسدة الوسواس كانت مفسدة الوسواس أخفّ، هذا إن ساعدناكم على تسميته وسواسًا، وإنما نسميه احتياطًا واستظهارًا، فلستم بأسعد منا بالسنة، ونحن حَولها نُدَنْدِن، وتكميلها نريد.

قال أهلُ الاقتصاد والاتباع: قال الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقال تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

وهذا الصراط المستقيم الذي وصّانا باتباعه: هو الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو قَصْد السبيل، وما خرج عنه فهو من السُّبُل الجائرة، قاله من قاله.

لكن الجَوْر قد يكون جَوْرًا عظيمًا عن الصراط، وقد يكون يسيرًا، وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، وهذا كالطريق الحسيّ

(1)

، فإن السالك قد يعدل عنه ويجور جورًا فاحشًا، وقد يجور دون ذلك، ف‌

‌الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه:

هو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه

(1)

م، ظ:«الحسن» .

ص: 227

عليه، والجائر عنهُ إما مُفرِّط ظالم، أو مجتهد متأوّل، أو مقلد جاهل، فمنهم المستحق للعقوبة

(1)

، ومنهم المغفور له، ومنهم المأجور أجرًا واحدًا، بحسب نيَّاتهم ومقاصدهم، واجتهادهم في طاعة الله ورسوله، أو تفريطهم.

ونحن نسوق من هَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه ما يبين أيّ الفريقين أولى باتباعه، ثم نجيب عما احتجوا به، بعون الله وتوفيقه.

ونقدِّم قبل ذلك ذكر النهى عن الغلوّ، وتعدِّي الحدود، والإسراف، وأن الاقتصاد والاعتصام بالسنة عليهما مدار الدين.

قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]، وقال تعالى:{وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، وقال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، وقال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وقال تعالى:{وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].

وقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غَدَاة العَقَبَة وهو على ناقته: «الْقُطْ لي حَصًى» ، فلقطتُ له سبع حصياتٍ من حصى الخَذْف، فجعل ينفُضُهُنّ في كَفّه ويقول:«أمثال هؤلاء فارْموا» ، ثم قال:«أيها الناس! إياكم والغلوَّ في الدين؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلوُّ في الدين» ، رواه الإمام أحمد، والنسائي

(2)

.

(1)

في الأصل: «للمغفرة» . والمثبت من النسخ الأخرى.

(2)

مسند أحمد (1/ 215، 347)، سنن النسائي (3057، 3059)، ورواه أيضًا ابن سعد في الطبقات (2/ 180 - 181)، وابن أبي شيبة (3/ 203، 248)، وابن ماجه (3029)، وأبو يعلى (2427، 2472)، والطبراني في الكبير (12/ 156)، وغيرهم، وصححه ابن الجارود (473)، وابن خزيمة (2867)، وابن حبان (3871)، والحاكم (1711)، والنووي في المجموع (8/ 171)، وابن تيمية في الاقتضاء (ص 106)، وابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 407)، وهو في السلسلة الصحيحة (1283).

ص: 228

وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُشدّدوا على أنفسكم فيشدِّد الله عليكم؛ فإن قومًا شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، {رَهْبَانِيَّةً

ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}»

(1)

.

فنهى صلى الله عليه وسلم عن التشدُّد في الدين، وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه؛ إما بالقَدَر، وإما بالشرع.

فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به.

(1)

رواه أبو داود (4906)، وأبو يعلى (3694) عن سعيد بن عبد الرحمن عن سهل بن أبي أمامة عن أنس، ومن طريق أبي يعلى رواه الضياء في المختارة (6/ 173 - 174)، وحسنه هو وابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 175)، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 390):«رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة» ، وصحح إسناده البوصيري في الإتحاف (3520)، قال ابن القيم في كتاب الصلاة (ص 222):«تفرد به ابن أبي العمياء، وهو شبه المجهول» ، وقال ابن حجر:«مقبول» ؛ ولذا أورد الألباني حديثه هذا في السلسلة الضعيفة (3468). وورد من وجه آخر عن سهل بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه عن جده بنحوه ليس فيه ذكر الآية، رواه البخاري في التاريخ الكبير (4/ 97)، والطبراني في الكبير (6/ 73)، والأوسط (3078)، والبيهقي في الشعب (3/ 401)، قال الهيثمي في المجمع (1/ 230):«فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وثقه جماعة وضعفه آخرون» ، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (3124). وفي الباب عن أبي هريرة وعن أبي قلابة مرسلًا.

ص: 229

وبالقَدر: كفعل أهل الوسواس، فإنهم شددوا على أنفسهم؛ فشدد عليهم القَدر، حتى استحكم ذلك، وصار صفة لازمة لهم.

قال البخاري

(1)

: «وكره أهل العلم الإسراف فيه، يعني الوضوء [39 ب]، وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم» .

وقال ابن عمر: «إسباغ الوضوء: الإنقاء»

(2)

.

فالفقه كلُّ الفقه: الاقتصاد في الدين، والاعتصام بالسّنّة.

قال أُبَيّ بن كَعْب: «عليكم بالسبيل والسنة؛ فإنه ما من عبد على السبيل والسنة، ذكر الله فاقشعرَّ جلدُه من خشية الله؛ إلا تحاتَّتْ عنه خطاياه كما يَتحاتُّ عن الشجرة اليابسة وَرَقُها، وإنَّ اقتصادًا في سبيلٍ وسنةٍ خيرٌ من اجتهادٍ في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصادًا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم»

(3)

.

(1)

صحيحه مع الفتح (1/ 232).

(2)

علقه البخاري عنه بصيغة الجزم في كتاب الوضوء، باب: إسباغ الوضوء، قال ابن حجر في الفتح (1/ 240) والعيني في العمدة (2/ 258):«وصله عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح» .

(3)

رواه ابن المبارك في الزهد (87) عن الربيع بن أنس عن أبي داود عن أبيّ، وعن ابن المبارك رواه كلّ من ابن أبي شيبة (7/ 224)، وأبي داود في الزهد (189)، وعبد الله ابن أحمد في زوائد الزهد (ص 196 - 197)، وابن بطة في الإبانة (1/ 259)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (10)، وأبي نعيم في الحلية (1/ 252 - 253)، ووقع عند عبد الله: عن أبي قتادة عن أبيّ، وعند أبي نعيم: عن أبي العالية عن أبيّ، وهو كذلك عند ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 10) حيث رواه من طريق أبي نعيم.

ص: 230

قال الشيخ أبو محمد المقدسي في كتابه «ذم الوسواس»

(1)

:

الحمد لله الذي هدانا بنعمته، وشرَّفنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته، ووفَّقنا للاقتداء به والتمسك بسنّته، ومَنّ علينا باتِّباعه الذي جعله عَلَمًا على محبته ومغفرته، وسببًا لكتابة رحمته وحصول هدايته، فقال سبحانه:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، وقال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى قوله: {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} ، ثم قال:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].

أما بعد، فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوًّا للإنسان، يقعد له الصراط المستقيم، ويأتيه من كل جهة وسبيل، كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال:{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17]، وحذَّرنا الله تعالى من متابعته، وأمرنا بمعاداته ومخالفته، فقال سبحانه:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، وقال:{يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27]، وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرًا لنا من طاعته، وقطعًا للعذر في متابعته، وأمرنا الله باتباع صراطه المستقيم، ونهانا عن اتباع السُّبل، فقال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا

(1)

طبع بمصر سنة 1343، ثم نشره عبد الله الطريقي سنة 1411، ولم يعرف أن ابن القيم نقل هنا معظمه مع التعليق عليه وزيادات كثيرة، إلى صفحة 299.

ص: 231

تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

وسبيل الله وصراطه المستقيم: هو الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، بدليل قوله عز وجل:{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1 - 4]، وقال:{إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 67]، وقال:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].

فمن اتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم، وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه، ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع، متبع لسبيل الشيطان، غير داخل فيمن وعد الله بالمحبة والمغفرة والإحسان.

فصل

ثم إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان، حتى اتصفوا بوسوسته، وقبِلوا قوله وأطاعوه، ورغبوا عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو صلى كصلاته، فوضوؤه باطل، وصلاته غير صحيحة، ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤاكلة الصبيان، وأكل طعام عامة المسلمين: أنه قد صار نجسًا، يجب عليه تسبيع يده وفيه، كما لو ولَغ فيهما كلب، أو بال عليهما هِرّ.

ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون، ويقارب مذهب السوفسطائية [40 أ] الذين ينكرون حقائق الموجودات، والأمور المحسوسات، وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات، وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غَسْلًا يشاهده ببصره، ويكبِّر

(1)

(1)

الأصل: «ويكثره» . والمثبت من كتاب ابن قدامة.

ص: 232

ويقرأ بلسانه، بحيث تسمعه أذناه ويعلمه بقلبه، بل يعلمه غيره منه ويتيقنه، ثم يشك هل فعل ذلك أم لا؟ وكذلك يشككه الشيطان في نيته وقصده التي يعلمها من نفسه يقينًا، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله، ومع هذا يقبل قول إبليس في أنه ما نوى الصلاة ولا أرادها؛ مكابرةً منه لعِيانه، وجحدًا ليقين نفسه، حتى تراه متلدِّدًا متحيرًا؛ كأنه يعالج شيئًا يجتذبه، أو يجد شيئًا في باطنه يستخرجه؛ كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس، وقبول من وسوسته، ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية في طاعته.

ثم إنه يقبل قوله في تعذيب نفسه، ويطيعه في الإضرار بجسده، تارة بالغوص في الماء البارد، وتارة بكثرة استعماله وإطالة العَرْك، وربما فتح عينيه في الماء البارد، وغسل داخلهما حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلى كشف عورته للناس، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان، ويستهزئ به من يراه.

قلت: ذكر أبو الفرج ابن الجوزي

(1)

عن أبى الوفاء ابن عقيل أن رجلًا قال له: أَنغَمِسُ في الماء مرارًا كثيرة، وأشكّ هل صح الغسل أم لا؟ فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخ: اذهب؛ فقد سقطت عنك الصلاة، قال: وكيف؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رُفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يُفِيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبيّ حتى يبلغ»

(2)

، ومن ينغمس في الماء مرارًا ويشك

(1)

في «تلبيس إبليس» (ص 138).

(2)

رواه ابن أبي شيبة (4/ 194)، وابن راهويه (1713)، وأحمد (6/ 100، 101، 144)، والدارمي (2296)، وأبو داود (4400)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041)، وأبو يعلى (4400)، وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها، وصححه ابن الجارود (148، 808)، وابن حبان (142)، والحاكم (2350)، وابن العربي في العارضة (3/ 392)، وابن دقيق العيد في الإلمام (1324)، وابن كثير في إرشاد الفقيه (1/ 89)، وحسنه النووي في المجموع (6/ 253)، وابن تيمية في شرح العمدة (2/ 118)، وابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 902)، وقال السبكي في إبراز الحِكم (ص 3):«حديث متصل حسن ورجاله كلّهم علماء» ، وكذا قال ابن الملقن في البدر المنير (3/ 226)، وهو مخرج في الإرواء (297). وفي الباب عن عمر وعلي وابن عباس وأبي قتادة وشداد بن أوس وثوبان وأبي هريرة وعن الحسن مرسلًا.

ص: 233

هل أصابه الماء أم لا؟ فهو مجنون.

قال

(1)

: وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ويشغله بوسوسته في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى، وربما فَوّت عليه رَكعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا، ويكذب.

قلت: وحكى لي من أثق به عن موسوس عظيم: رأيته أنا يكرر عقد النية مرارًا عديدة، فيشق على المأمومين مشقة كبيرة، فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة، فلم يدعه إبليس حتى زاد، ففرق بينه وبين امرأته، فأصابه لذلك غمّ شديد، وأقاما متفرقين دهرًا طويلًا، حتى تزوجت تلك المرأة برجل آخر، وجاءه منها ولد، ثم إنه حنث في يمين حلفها، ففرق بينهما، ورُدَّتْ إلى الأول بعد أن كاد يَتْلَف لمفارقتها.

وبلغني عن آخر: أنَّه كان شديد التنطع في التلفظ بالنية، والتقعُّر في ذلك، فاشتد به التنطع والتقعر يومًا إلى أن قال: أصلي، أصلي ــ مرارًا ــ صلاة كذا وكذا، وأراد أن يقول: أداء، فأعجم الدال، وقال: أذاءً لله، فقطع الصلاة

(1)

أي ابن قدامة في الكتاب المذكور (ص 50).

ص: 234

رجل إلى جانبه، فقال: ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين.

قال

(1)

: ومنهم من يتوسوس في إخراج الحرف، حتى يكرره مرارًا.

قال: فرأيت منهم من يقول: الله أكككبر.

قال: وقال لي إنسان منهم: قد عجزتُ عن قول: «السلام عليكم» ، فقلت له: قل مثل ما قد قلت الآن، وقد استرحتَ.

وقد بلغ الشيطان منهم أنْ عَذَّبهم في الدنيا والآخرة، وأخرجهم عن اتباع الرسول، وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو، وهم يحسبون أنهم يُحسِنون صنعًا.

فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله، وليعزِمْ على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم، وأن ما خالفه من تسويل إبليس ووسوسته، ويوقن أنه عدوّ له لا يدعوه إلى خير:{إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]، وليترك [40 ب] التعريج على كل ما خالف طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنًا ما كان؛ فإنه لا يُشَكّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على الصراط المستقيم، ومن شك في هذا فليس بمسلم.

ومَنْ عَلِمَهُ قال: فإلى أين العدول عن سنته؟ وأيّ شيء ينبغي للعبد غير طريقته

(2)

؟ ويقول لنفسه: ألستِ تعلمين أن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الصراط المستقيم؟ فإذا قالت: بلى؛ قال لها: فهل كان يفعل هذا؟ فستقول:

(1)

أي ابن قدامة. وجميع هذه النصوص من كتابه المذكور.

(2)

في بعض النسخ: «يبتغي العبد غير طريقته» .

ص: 235

لا، فقل لها: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار؟ وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان؟ فإن اتبعتِ سبيله كنت قرينه، وستقولين:{يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38]، ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقْتَدِ بهم، وليحتَذِ

(1)

طريقتهم؛ فقد رُوِّينا عن بعضهم أنه قال: «لقد تقدمني قوم؛ لو لم يتجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته» .

قلت: هو إبراهيم النَّخَعيُّ

(2)

.

وقال زين العابدين يومًا لابنه: «يا بني! اتخذ لي ثوبًا ألبسه عند قضاء الحاجة؛ فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء، ثم يقع على الثوب» . ثم انتَبَه

(3)

فقال: «ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا ثوب واحد» . فتركه

(4)

.

وكان عمر رضي الله تعالى عنه يَهُمّ بالأمر ويَعزِم عليه، فإذا قيل له: لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى، حتى إنه قال:«لقد هممتُ أن أنهى عن لبس هذه الثياب؛ فإنه بلغني أنها تُصبَغ ببول العجائز» ، فقال له أُبَيٌّ:«ما لك أن تنهى؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبسها، ولُبِستْ في زمانه، ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله» . فقال عمر: «صدقت»

(5)

.

(1)

م: «وليتخذ» .

(2)

رواه الدارمي (218) من طريق شريك عن أبي حمزة عن إبراهيم النخعي بمعناه.

(3)

م: «ثم أتيته فقلت» .

(4)

رواه ابن سعد في الطبقات (5/ 218 - 219)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 133).

(5)

رواه عبد الرزاق (1/ 383)، وأحمد (5/ 142)، وابن حزم في حجة الوداع (397) من طريق الحسن البصري عن عمر، قال الهيثمي في المجمع (1/ 633، 5/ 225): «رجاله رجال الصحيح، إلا أن الحسن لم يسمع من عمر ولا من أُبيّ» . ورواه ابن أبي عاصم في كتاب اللباس ـ كما في فتح الباري لابن رجب (2/ 161) ـ من طريق قبيصة بن جابر عن عمر، وفيه أن الرجل المعترض هو عبد الرحمن بن عوف. ورواه عبد الرزاق (1/ 382) عن معمر عن قتادة عن عمر، ولم يسمّ الرجل المعترضَ. ورواه عبد الرزاق أيضًا (1/ 383)، وأبو بكر الخلال ـ كما في فتح الباري لابن رجب (2/ 161) ـ من طريق ابن سيرين قال: همّ عمر أن ينهى عن ثياب حبرة لصبغ البول ثم قال: «كان نُهينا عن التعمّق» .

ص: 236

ثم ليُعْلَم أن الصحابة ما كان فيهم موسوس، ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادّخرها الله عن رسوله وصحابته، وهم خير الخلق وأفضلهم، ولو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسوسين لمقتهم، ولو أدركهم عمر لضربهم وأدبهم، ولو أدركهم

(1)

الصَّحابة لبدَّعوهم.

وها أنا أذكرُ ما جاء في خلافِ مذهبهم؛ على ما يسَّره الله تعالى مُفصَّلًا

(2)

:

(1)

«ولو أدركهم

مفصلا» ساقطة من م.

(2)

هذا كله كلام ابن قدامة في كتابه، وكذا ما سيأتي من فصول.

ص: 237