الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس
أنه لا سعادة للقلب ولا لذةَ ولا نعيمَ ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه
معلومٌ أن كل حيٍّ سوى الله سبحانه مِن ملَك أو إنس أو جن أو حيوان؛ فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ولا يتم له إلا بتصوره للنافع والضار، والمنفعة من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب.
فلا بد له
(1)
من أمرين: أحدهما: هو المحبوب المطلوب الذي ينتفع به، ويلتذُّ بإدراكه، والثاني: المُعِين الموصل، المحصّل لذلك المقصود. وبإزاء ذلك أمران آخران: أحدهما: مكروه بغيض ضارٌّ، والثاني: مُعين دافع له عنه. فهذه أربعة أشياء:
أحدها
(2)
: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
الثاني: أمر مكروه مطلوب العدم.
الثالث: الوسيلة إلى حصول المحبوب.
الرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد، بل ولكل حيوان، لا يقوم وجوده
(3)
وصلاحه إلا بها.
(1)
«له» ساقطة من م.
(2)
م، ت:«أحدهما» .
(3)
«وجوده» ساقطة من م.
فإذا تقرر ذلك، فالله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعوَّ المطلوب، الذي يراد وجهُه، ويُبتغَى قُرْبُه، ويُطلَب رضاه، وهو المُعين على حصول ذلك. وعبودية ما سواه والالتفات إليه والتعلق به هو المكروه الضار، وهو المُعين على دفعه.
فهو سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون ما سواه؛ فهو المعبود المحبوب المراد، وهو المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له، والمكروه البغيض هو بمشيئته وقدرته، وهو المعين لعبده على دفعه عنه، كما قال أعرف الخلق به:«أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك [8 أ] منك»
(1)
(2)
؛ فمنه المنجى، وإليه الملجأ، وبه الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته، فالإعاذة فعله، والمستعاذ منه فعله أو مفعوله الذي خَلَقَه بمشيئته.
فالأمر كله له، والحمد كله له، والمُلك كله له، والخير كله في يديه، لا يحصي أحد من خلقه ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق كل ما يثني عليه أحد من خلقه، ولهذا كان صلاح العبد وسعادته في تحقيق معنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]؛ فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذى يستعان به على المطلوب،
(1)
أخرجه مسلم (486) من حديث عائشة.
(2)
أخرجه البخاري (247)، ومسلم (2710) من حديث البراء بن عازب.
فالأول من معنى ألوهيته، والثاني من معنى ربوبيته؛ فإن الإله هو الذي تألهُه القلوب محبةً، وإنابةً، وإجلالًا، وإكرامًا، وتعظيمًا، وذُلًّا، وخضوعًا، وخوفًا، ورجاءً، وتوكلًا. والربُّ هو الذي يَرُبُّ عبده، فيعطيه خلقه، ثم يهديه إلى مصالحه، فلا إله إلا هو، ولا ربَّ إلا هو، فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل، فكذلك إلهية ما سواه.
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه، كقوله:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقوله عن نبيه شُعيب:{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، وقوله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58]، وقوله:{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 8 ـ 9]، وقوله:{قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، وقوله عن الحنفاء أتباع إبراهيم:{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4].
فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين لمعنيَيِ التوحيد، اللذين لا سعادة للعبد بدونهما البتة.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمعرفته، والإنابة إليه، ومحبته، والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته في الآخرة تَقَرُّ عيونهم، ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم في الآخرة شيئًا هو أحب إليهم ولا أقرُّ لعيونهم ولا أنعم لقلوبهم من النظر إليه، وسماع كلامه منه بلا واسطة، ولم يُعطِهم في الدنيا شيئًا خيرًا لهم
(1)
،
(1)
«خيرًا لهم» ساقطة من ش وغيرها.
ولا أحبَّ إليهم، ولا أقرَّ لعيونهم من الإيمان به، ومحبته، والشوقِ إلى لقائه، والأُنْسِ بقربه، والتنعُّم بذِكْره.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين الأمرين في الدعاء الذي رواه النسائي، والإمام أحمد، وابن حبان في «صحيحه» وغيرهم
(1)
من حديث عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو به: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحْيِني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفَد، وأسألك قُرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائك، في غير ضَرّاءَ مُضِرّة، ولا فتنة مُضلة، اللهم زَيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين» .
فجمع في هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شيء في الدنيا وهو الشوق إلى لقائه سبحانه، وأطيب شيء في الآخرة وهو النظر إلى وجهه سبحانه، ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفًا على عدم ما يضر في الدنيا، ويفتن في الدين [8 ب]، قال:«في غير ضرّاء مُضرة، ولا فتنة مُضلة» .
(1)
مسند أحمد (4/ 264)، سنن النسائي (3/ 54 ـ 55)، صحيح ابن حبان (1971)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (6/ 44)، والبزار (1392، 1393)، وأبو يعلى (1624)، وصححه الحاكم (1923)، وقال الشوكاني في النيل (2/ 333):«رجال إسناده ثقات» ، وصححه الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية (ص 100)، واحتج به الأئمة على إثبات نظر المؤمنين في الآخرة إلى الباري تعالى. وفي الباب عن أنس وزيد بن ثابت رضي الله عنهما.