الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن ذلك: منعه صلى الله عليه وسلم من بَيْع القلادة التي فيها خَرَز وذَهَب بذهب
(1)
، لئلا يُتخذ ذريعةً إلي بيع الذهب بالذهب متفاضلًا، إذا ضُم إلى أحدهما خَرَزٌ أو نحوه.
ولو لم يكن في هذا الباب إلا أن الله سبحانه وتعالى أوجب إقامة الحدود سدًّا للذريعة إلى الجرائم، إذا لم يكن عليها وازعٌ طبعي، وجعل مقادير عقوباتها وأجناسها وصفاتها بحسب مفاسدها في نفسها، وقُوّةِ الداعي إليها، وتقاضِي الطباع لها.
وبالجملة، ف
المحرَّمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها
مطلوبة الإعدام، كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام.
و
القربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها
.
ففَتْح باب الذرائع في النوع الأول كسدِّ باب الذرائع في النوع الثاني، وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة، فبَيْنَ باب الحيل وباب سدّ الذرائع أعظمُ تناقض.
وكيف يُظَنّ بهذه الشريعة العظيمة الكاملة التي جاءت بدفع المفاسد، وسد أبوابها وطُرقها، أن تُجَوِّز فتح باب الحِيَل وطُرُق المكر على إسقاط واجباتها، واستباحة محرّماتها، والتذَرُّع إلى حصول المفاسد التي قَصدتْ دفعها؟
وإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعةً إلى الفعل المحرم إما بأن يُقصد به ذلك المحرم، أو بأن لا يقصد به، وإنما يقصد به المباح نفسُه، لكن قد يكون
(1)
أخرجه مسلم (1591) عن فضالة بن عبيد.
ذريعةً إلى المحرم، يُحَرّمه الشارع بحسب الإمكان، ما لم يُعارِض ذلك مصلحةٌ راجحة تقتضي حِلّهُ، فالتذرُّع إلى المحرّمات بالاحتيال عليها أوْلَى أن يكون حرامًا، وأولى بالإبطال والإهدار إذا عُرف قصد فاعله، وأولى أن لا يُعان فاعله عليه، وأن يعامَلَ بنقيض قَصْده، وأن يُبْطَل [81 ب] عليه كَيْدُه ومكْره.
وهذا بحمد الله تعالى بَيِّنٌ لمن له فِقْهٌ وفهم في الشرع ومقاصده.
قال شيخ الإسلام
(1)
رحمه الله: وتجويز الحيل يُناقض سَدّ الذرائع مناقضةً ظاهرةً؛ فإن الشارع يَسُدّ الطريق إلى ذلك المحرم بكل ممكنٍ، والمحتال يتوسّل إليه بكل ممكن، ولهذا اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح وغيرها شروطًا سَدّ ببعضها التذرُّع إلى الربا والزنى، وكَمَّل بها مقصود العقود، ولم يُمكن المحتال الخروجُ منها في الظاهر، فيريد الاحتيال على ما منعَ الشارع منه، فيأتي بها مع حيلةٍ أخرى تُوصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سَدّ الشارع الذريعة إليه، فلم يبق لتلك الشروط التي يأتي بها فائدةٌ ولا حقيقة، بل تبقى بمنزلة العبث واللعب، وتَطْويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة.
قال: واعتبر هذا بالشُّفْعَة، فإن الشارع أباحَ انتزاع الشِّقْصِ من مُشتريه، والشارعُ لا يُخرِج الملك عن مالكه بقيمةٍ أو غيرها إلا لمصلحةٍ راجحةٍ، وكانت المصلحة هاهنا تكميل العقار للشريك؛ فإنه بذلك يزول ضَرر المشاركة والمقاسمة، وليس في هذا التكميل ضررٌ على البائع؛ لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشتري، شريكًا كان أو أجنبيًا.
(1)
بيان الدليل (ص 298).
فالمحتال لإسقاطها مناقضٌ لمقصود الشارع، مُضادٌّ له في حُكمه، فالشارع يقول: لا يحلُّ له أن يبيعَ حتى يُؤذِنَ شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، والمحتال يقول: لك أن تتحيّل على منع الشريك من الأخذ بأنواع من الحيل، التي ظاهرها مَكْرٌ وخداع، وباطنها مَنْعُ الشريك مما أباحه له الشارع ومكّنه منه، وتفويتُ نفس مقصود الشارع.
والمصيبةُ الكبرى إظهار المحتال أنه إنما فعل ما أذن له الشارع في فعله، وأنه مكّنه من المكر والخداع، والتحيل على إسقاط حق الشريك، وهذا بَيّن لمن تأمله.
قال: والمقصود بيان تحريم الحيل، وأن صاحبَها متعرّضٌ لسخط الله تعالى وأليم عقابه، ويترتبُ على ذلك أن يُنقضَ على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان، وذلك في كل حيلة بحسبها، فلا يخلو الاحتيال إما أن يكون من واحد أو اثنين فأكثر.
فإن كان من اثنين فأكثر، فإن كان عقدَ بيع تواطآ عليه تَحيُّلًا على الربا، كما في العِينَة؛ حُكم بفساد العَقْدَين، ويُرَدّ إلى الأول رأسُ ماله، كما قالت أمّ المؤمنين عائشة
(1)
رضي الله تعالى عنها، وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربًا، لا يحل الانتفاع به، بل يجبُ رَدُّه إن كان باقيًا، وبَدَلُهُ إن كان تالفًا.
وكذلك إن جَمعَا بين بيع وقَرْضٍ، أو إجارة وقرض، أو مُضاربة أو شركة أو مُساقاة أو مزارعةٍ وقرض، حُكم بفسادهما، فيجب أن يُرَدّ عليه بدلُ ماله الذي جعلاه قرضًا، والعقد الآخر فاسد، حكمه حكم العقود الفاسدة.
(1)
أخرجه الدارقطني (3/ 52)، والبيهقي (5/ 330، 331). وفي إسناده جهالة.
وكذلك إن كان نكاحًا تواطآ عليه، كان حكمه حكم الأنكحة الفاسدة.
وكذلك إن تواطآ على هبةٍ أو بيع لإسقاط الزكاة، أو على هبةٍ لتصحيح نكاحٍ فاسد، أو وقفٍ فاسد، مثل أن تريد مُواقعةَ مملوكها فتَهبه لرجلٍ، فيزوجها به، فإذا قضتْ وطرها منه استوهَبته من الرجل، فوهبها إيّاه، فانفسخَ النكاح، فهذا البيع والهبة فاسدان في جميع الأحكام.
وإن كان الاحتيالُ من واحدٍ: فإن كانت حيلةً يُستقلّ بها لم يحصل بها غرضه، فإن كانت عقدًا كان فاسدًا، مثل أن يهبَ لابنه هِبةً يريد أن يَرجع فيها لئلا يجب عليه الزكاة؛ فإن وجود هذه الهبة كعدمها، وليست هبةً في شيء من الأحكام، لكن إن ظهر المقصود تَرتّب الحكم عليه ظاهرًا وباطنًا، وإلا كانت فاسدةً في الباطن فقط.
وإن كانت حيلة [82 أ] لا يستقل بها، مثل أن ينوي التحليل، ولا يظهره للزوجة، أو يرتجع المرأة إضرارًا بها، أو يهب ماله إضرارًا لورثته ونحو ذلك، كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضَه باطلة، فلا يحل له وطءُ المرأة، ولا يرثها لو ماتت.
وإذا علم الموهوبُ له والموصَى له غَرضَه، لم يحصلْ له الملك في الباطن، فلا يحلّ له الانتفاع به، بل يجب ردُّه إلى مُسْتَحِقّه.
وأما بالنسبة إلى العاقِد الآخر الذي لم يعلم فإنه صحيح، يفيد مقصود العقود الصحيحة.
ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة.
وإن كانت الحلية له وعليه كطلاق المريض، صحح الطلاق من جهة أنه