المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي انقسام القلوب إلى صحيحٍ وسقيمٍ ومَيّتٍ

- ‌الباب الثانيفي ذكر حقيقة مرض القلب

- ‌ حال القلوب عند ورود الحق المنزل

- ‌الباب الثالثفي انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبعية وشرعية

- ‌الباب الرابعفي أن حياة القلب وإشراقه مادةُ كل خير فيه وموتَه وظلمتَه مادةُ كل شر فيه

- ‌ضرب الله سبحانه المثلَين المائيَّ والناريَّ لوحيه ولعباده

- ‌الباب الخامسفي أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدركًا للحقِّ مريدًا له، مُؤْثِرًا له على غيره

- ‌الباب السادسأنه لا سعادة للقلب ولا لذةَ ولا نعيمَ ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه

- ‌ المقدور يكتنفه(1)أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه

- ‌ تعلُّق العبد بما سوى الله تعالى مَضَرة عليه

- ‌مُحِبُّ الدنيا لا ينفكُّ من ثلاث: هَمٍّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي

- ‌ غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم بك، وإن أضرَّ ذلك بدينك ودنياك

- ‌الباب السابعفي أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه

- ‌الباب الثامنفي زكاة القلب

- ‌إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته

- ‌ الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته

- ‌ زكاة القلب موقوفة على طهارته

- ‌الباب التاسعفي طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

- ‌ خبث الملبس يُكسِبُ القلب هيئةً خبيثة

- ‌ العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه

- ‌ معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهِّرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد»

- ‌ عشق الصور المحرّمة نوع تَعَبُّدٍ لها

- ‌لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا

- ‌ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ

- ‌مَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين

- ‌ فوائد نظر العبد في حق الله عليه:

- ‌الباب الثاني عشرفي علاج مرض القلب بالشيطان

- ‌الباب الثالث عشرفي مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم

- ‌ تغيير الفطرة

- ‌ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها

- ‌الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه:

- ‌الفصل الأولفي النية في الطهارة والصلاة

- ‌ النية قصد فعل الشيء

- ‌إن شك في حصول نيّته فهو نوع جنون

- ‌الشرك وتحريم الحلال قرينان

- ‌ الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:

- ‌ لا تجد أحدًا عُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى

- ‌فصلالاسم الثاني والثالث: الزور، واللغو

- ‌فصلالاسم الرابع: الباطل

- ‌ حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

- ‌ حديث عائشة رضي الله عنها:

- ‌المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة

- ‌المحرَّمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها

- ‌القربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها

- ‌الأفعال الموجبة للتحريم لا يُعتبر لها العقل، فضلًا عن القصد

- ‌ الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع

- ‌ الحيل نوعان: أقوال، وأفعال

الفصل: ‌ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها

وكان [34 أ] عبد الله بن عباس يقرؤها «مَلِكَيْنِ» بكسر اللام

(1)

، ويقول:«لم يطمعا أن يكونا من الملائكة، ولكن استشرفا أن يكونا ملِكين، فأتاهما من جهة المُلْك»

(2)

.

ويدل على هذه القراءة قوله في الآية الأُخرى: {قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} .

وأما على القراءة المشهورة فيقال: كيف أطمع عدوُّ الله آدم أن يكون بأكله من الشجرة من الملائكة، وهو يرى الملائكة لا تأكل ولا تشرب، وكان آدم أعلم بالله وبنفسه وبالملائكة من أن يطمع أن يكون منهم بأكله، ولاسيّما مما نهاه الله عنه؟

فالجواب: أن آدم وحواء لم يطمعا في ذلك أصلاً، وإنما كذبهما عدو الله، وغرّهما، وخدعهما؛ بأن سمّى تلك الشجرة شجرة الخلد، فهذا أول المكر والكيد، ومنه وَرِثَ أتباعه‌

‌ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها

، فسمَّوا الخمر أمَّ الأفراح، وسمَّوا أخاها بلُقَيْمة الراحة، وسمَّوا الربا بالمعاملة، وسمَّوا المُكُوسَ بالحقوق السلطانية، وسمَّوا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان، وسمَّوا أبلغ الكفر ــ وهو جحد صفات الرب ــ تنزيهًا، وسمَّوا مجالس الفسوق مجالس الطَّيبة! فلما سمَّاها شجرة الخلد قال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تأكلا منها فتخلدا في

(1)

رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 348) من طريق عيسى الأعمى عن السدّي عنه.

(2)

نقله الواحدي عن ابن عباس، انظر: تفسير الرازي (14/ 40)، وتفسير القرطبي (7/ 179).

ص: 197

الجنة ولا تموتا؛ فتكونان مثل الملائكة الذين لا يموتون. ولم يكن آدم قد علم أنه يموت بعد، واشتهى الخلود في الجنة، وحصلت الشُّبهة من قول العدو وإقسامه بالله جهد أيمانه أنه ناصح لهما، فاجتمعت الشبهة والشهوة، وساعد القدر لما قد فرغ الله سبحانه مِن تقديره، فأخذتهما سِنةُ الغَفْلة، واستيقظ لهما العدو، كما قيل:

وَاسْتَيْقَظُوا وَأَرَادَ اللهُ غَفْلَتَهُمْ

لِيَنْفُذَ القَدَرُ المَحْتُومُ فِي الأزَلِ

(1)

إلا أن هذا الجواب يَعترض عليه قولُهُ: {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} .

فيقال: الماكر المخادع لابد أن يكون فيما يمكر به ويكيد من التناقض والباطل ما يدل على مكره وكيده، ولا حاجة بنا إلى تصحيح كلام عدوِّ الله، والاعتذار عنه، وإنما نعتذر عن الأب في كون ذلك رَاجَ عليه وولج سمعه، فهو لم يجزم لهما بأنهما إن أكلا منها صارا مَلَكين، وإنما ردّد الأمر بين أمرين: أحدهما ممتنع، والآخر ممكن، وهذا من أبلغ أنواع الكيد والمكر، ولهذا لما أطمعه في الأمر الممكن جزم له به ولم يُردِّده، فقال:{يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} ، فلم يُدْخِل أداة الشك هاهنا كما أدخلها في قوله:{إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} ، فتأمله.

ثم قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} ، فتضمن هذا الخبر أنواعًا من التأكيد:

أحدهما: تأكيده بالقسم.

(1)

البيت ضمن قصيدة لعبيد الله بن أسعد الموصلي في الروضتين (1:1/ 320).

ص: 198

الثاني: تأكيده بـ (إنّ).

الثالث: تقديم المعمول على العامل إيذانًا بالاختصاص، أي: نصيحتي مختصة بكما، وفائدتها إليكما لا إليّ.

الرابع: إتيانه

(1)

باسم الفاعل الدّال على الثبوت واللزوم، دون الفعل الدال على التجدد، أي: النصح صفتي وسجيَّتي، ليس أمرًا عارضًا لي.

الخامس: إتيانه

(2)

بلام التأكيد في جواب القسم.

السادس: أنه صوّر نفسه لهما ناصحًا من جملة الناصحين، وكأنّه قال لهما: الناصحون لكما في ذلك كثير، وأنا واحد منهم، كما تقول لمن تأمره بشيء: كلُّ أحد معي على هذا، وأنا من جملة من يشير عليك به.

سَعَى نَحْوَها حَتَّى تجَاوَزَ حَدَّهُ

وَكَثَّرَ فَارْتَابَتْ وَلَوْ شَاءَ قَلَّلَا

(3)

وورّث عدوُّ الله هذا المكرَ لأوليائه وحزبه عند خداعهم للمؤمنين، كما كان المنافقون [34 ب] يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءوه:{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]، فأكدوا خبرهم بالشهادة وبـ (إنَّ) وبلام التأكيد، وكذلك قوله سبحانه:{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56].

ثم قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22].

(1)

م، ش:«إثباته» .

(2)

م، ش:«إثباته» مثل السابق.

(3)

البيت لمهيار الديلمي في ديوانه (3/ 194)، والمثل السائر (3/ 130). والشطر الأول ساقط من بعض النسخ. وفي الأصل:«لكن تجاوز حدّها» .

ص: 199

قال أبو عبيدة

(1)

: خذلهما وخلّاهما، من تَدْلِيةِ الدلو، وهو إرسالها في البئر.

وذكر الأزهري

(2)

لهذه اللفظة أصلين: أحدهما؛ قال: أصله الرجل العطشان يتدلى في البئر ليروَى من الماء، فلا يجد فيها ماءً، فيكون قد تدلى فيها بالغرور، فوُضِعَت التدلية موضع الإطماع فيما لا يُجدي نفعًا، فيقال: دَلّاه، إذا أطمعه، ومنه قول أبى جندب الهذلي:

أَحُصُّ فَلَا أُجِيرُ وَمَنْ أُجِرْهُ

فَلَيْسَ كَمَنْ تَدَلَّى بِالْغُرُورِ

(3)

أحُصُّ أي: أقطع.

الثاني: فدلَّاهما بغرور؛ أي: جرّأهما على أكل الشجرة، وأصله: دلَّلهما من الدلال والدالَّة، وهى الجراءة.

قال شَمرٌ: يقال: ما دلَّك عليّ، أي: ما جرّأك علي، وأنشد لقيس بن زهير:

أَظنُّ الحِلْمَ دَلَّ عَلَيَّ قَوْمِي وَقَدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الحَلِيمُ

(4)

(1)

لم أجد قوله في مجاز القرآن. والمؤلف نقله من البسيط للواحدي (9/ 66) كما نقل منه الأقوال الأخرى.

(2)

تهذيب اللغة (14/ 172).

(3)

البيت له في شرح أشعار الهذليين (1/ 355)، ومجمل اللغة (2/ 14)، ولسان العرب (دلا). وفيها:«يُدلَّى» .

(4)

البيت لقيس في الحماسة (1/ 240)، والنقائض (1/ 97)، والفاخر (ص 227)، والعقد الفريد (5/ 157)، والأغاني (17/ 206)، والموفقيات (ص 198)، وأمالي القالي (1/ 261)،وشرح المفضليات (ص 694)، واللسان (دلل)، وهو للربيع بن زياد في خزانة الأدب (3/ 538).

ص: 200

قلت: أصل التدلية في اللغة: الإرسال والتعليق، يقال: دلّى الشيء في مهْوَاة؛ إذا أرسله بتعليق، وتدلى الشيء بنفسه، ومنه قوله تعالى:{فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19].

قال عامة أهل اللغة: يقال: أدلى دلوه؛ إذا أرسلها في البئر، ودَلَاها بالتخفيف: إذا نزعها من البئر، فأدلى دلوه يُدلِيه إدلاءً: إذا أرسلها، ودَلَاها يَدْلوها دلوًا: إذا نزعها وأخرجها، ومنه الإدلاء، وهو التوصل إلى الرجل برحمٍ منه.

ويشاركه في الاشتقاق الأكبر: الدلالة، وهي التوصل إلى الشيء بإبانته وكشفه، ومنه الدَّلُّ، وهو ما يدل على العبد من أفعاله، وكان عبد الله بن مسعود يُشبَّه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هَديه ودلِّه وسمْتِه

(1)

، فالهدي: الطريقة التي عليها العبد من أخلاقه وأقواله وأعماله، والدلّ: ما يدل من ظاهره على باطنه، والسّمت: هيأته ووقاره ورزانته.

والمقصود ذكر كيد عدوّ الله ومكره بالأبوين.

قال مُطرِّف بن عبد الله

(2)

: قال لهما: إني خُلِقتُ قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتَّبعاني أُرشدكما، وحلف لهما، وإنما يُخدَع المؤمن بالله.

قال قتادة

(3)

: «وكان بعض أهل العلم يقول: من خادَعَنا بالله خُدِعْنا» ،

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 320) عن علقمة.

(2)

رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (8296) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عنه.

(3)

رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 351)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8296) من طريقين عن سعيد عنه، وعزاه في الدر المنثور (3/ 431) لعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.

ص: 201

فالمؤمن غِرٌّ كريم، والفاجر خِبٌّ لئيم.

وفى «الصحيح»

(1)

: «أن عيسى ابن مريم رأى رجلاً يسرق، فقال: سرقتَ؟ فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو! فقال المسيح: آمنتُ بالله وكذّبتُ بصري» .

وقد تأوَّله بعضهم على أنه لما حلف له جَوّز أن يكون قد أخذ ماله، فظنه المسيح سرقه.

وهذا تكلُّف، وإنما كان الله سبحانه في قلب المسيح أجلّ وأعظم من أن يحلف به أحد كاذبًا، فلما حلف له السارق دار الأمر بين تهمته وتهمة بصره، فردّ التهمة إلى بصره لمّا اجتهد له في اليمين بالله، كما ظنَّ آدم صدقَ إبليس لما حلف له بالله، وقال: ما ظننت أحدًا يحلف بالله كاذبًا.

فصل

ومن كيده العجيب: أنه يُشامُّ النفس، حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة، أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة؟

فإنْ رأى الغالبَ على النفس المهانةَ والإحجام؛ أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به، وثقّله عليه، وهوّن عليه تركه، حتى يتركه جملة، أو يُقصِّر فيه ويتهاون يه.

وإن رأى الغالبَ عليه قوةَ الإقدام وعلوّ الهمة؛ أخذ يُقلّل [35 أ] عنده المأمور به، ويُوهِمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة.

(1)

أخرجه البخاري (3444)، ومسلم (2368) من حديث أبي هريرة.

ص: 202

فيقصِّر بالأول ويتجاوز بالثاني، كما قال بعض السلف:«ما أمر الله سبحانه بأمر إلا وللشّيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر»

(1)

.

وقد اقتطع أكثرُ الناس إلا أقلَّ القليل في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم جدًّا الثابتُ على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

فقوم قصّر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحدّ بالوسواس.

وقوم قصّر بهم عن إخراج الواجب من المال، وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم، وقعدوا كَلًّا على الناس، مستشرفين إلى ما بأيديهم.

وقوم قصّر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس، حتى أضرُّوا بأبدانهم وقلوبهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة، فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.

وكذلك قصّر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.

وقصّر بقوم في خُلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات، كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلُّم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام.

(1)

رواه الخطابي في العزلة (ص 97) عن إبراهيم بن عبد الرحمن العنبري عن ابن أبي قماش عن ابن عائشة قوله.

ص: 203

وقصّر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفورٍ أو شاةٍ ليأكله، وتجاوز بآخرين حتى جرّأهم على الدماء المعصومة.

وكذلك قصّر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم، دون العمل به.

وقصّر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم، وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص.

وقصّر بقوم حتى زيّن لهم ترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من النكاح، فرغبوا عنه بالكُلِّيّة، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.

وقصّر بقوم حتى جَفَوا الشيوخَ من أهل الدين والصلاح، وأعرضوا عنهم، ولم يقوموا بحقهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله.

وكذلك قصّر بقوم حتى منعهم قبولَ أقوالِ أهل العلم والالتفات إليها بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حلّلوه والحرام ما حرّموه، وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة.

وقصّر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده ولا شاءها منهم، ولكنهم يعملونها بدون مشيئته وقدرته، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: إنهم لا يفعلون شيئًا البتة، وإنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقة، فهي نفس فعله لا أفعالهم، والعبيد ليس لهم قدرة ولا فعلٌ البتةَ.

وقصّر بقوم حتى قالوا: إن رب العالمين ليس داخلاً في خلقه ولا بائنًا عنهم، ولا هو فوقهم ولا تحتهم، ولا خلفهم ولا أمامهم، ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: هو في كل مكان بذاته، كالهواء الذي هو داخل في كل مكان.

ص: 204

وقصّر بقوم حتى قالوا: لم يتكلم الرب سبحانه بكلمة واحدة البتة، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: لم يزل أزلاً وأبدًا يقول: {يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، ويقول لموسى:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [النازعات: 17]؛ فلا يزال هذا الخطاب قائمًا به ومسموعًا منه، كقيام صفة الحياة به.

وقصّر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يُشَفِّع أحدًا في أحد البتة، ولا يرحم أحدًا بشفاعة أحدٍ، وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده [35 ب] بغير إذنه، كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم.

وقصّر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل، فضلاً عن أبى بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة.

وقصّر بقوم حتى نَفَوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته وعطّلوه منها، وتجاوز بآخرين حتى شبَّهوه بخلقه ومَثّلوه بهم.

وقصّر بقوم حتى عادَوا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوهم، واستحلُّوا من حرمتهم، وتجاوز بقوم حتى ادَّعَوا فيهم خصائص النبوة من العصمة وغيرها، وربما ادعوا فيهم الإلهية.

كذا قصّر باليهود في المسيح حتى كذَّبوه، ورمَوه وأمَّه بما برأهما الله منه، وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله، وجعلوه إلهًا يُعبَد مع الله.

وقصّر بقوم حتى نَفَوا الأسباب والقُوى والطبائع والغرائز، وتجاوز بآخرين حتى جعلوها أمرًا لازمًا لا يمكن تغييره ولا تبديله، وربما جعلها بعضهم مستقلة بالتأثير.

ص: 205

وقصّر بقوم حتى تعبَّدوا بالنجاسات، وهم النصارى وأشباهُهم، وتجاوز بقوم حتى أفضى بهم الوسواس إلى الآصار والأغلال، وهم أشباه اليهود.

وقصّر بقوم حتى تزيّنوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات ما يحمدونهم عليه، وتجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح ومن الأعمال السيئة ما يُسقطون به جاهَهم عندهم، وسَمَّوْا أنفسهم الملامتية.

وقصّر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب ولم يلتفتوا إليها، وعدُّوها فضلاً أو فضولاً، وتجاوز بآخرين حتى قَصَرُوا نظرهم وعملهم

(1)

عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح، وقالوا: العارف لا يُسْقِطُ وَارِدَهُ لوِرْدِهِ.

وهذا بابٌ واسعٌ جدًّا، لو تتبعناه لبلغ مبلغًا كثيرًا، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة.

فصل

ومن جملة مكايده: الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التي هي زبالة الأذهان، ونُحاتة الأفكار، والزَّبَدُ الذي تقذف به القلوب المظلمة المتحيرة، التي تَعدِل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، قد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانَتْ عليها غيومُ الخيالات، فمركبها القِيل والقال، والشك والتشكيك وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يُعوَّل عليه، ولا معتقد مطابق للحق يُرجع إليه؛ {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، فقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورًا، وقالوا من عند أنفسهم فقالوا مُنكرًا من القول وزورًا.

(1)

م: «علمهم» .

ص: 206

فهم في شكّهِم يَعْمَهُون، وفى حَيْرتهِم يتردَّدون، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تَلَتْه

(1)

الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال، فهم إليه يتحاكمون، وبه يتخاصمون، فارقوا الدليل، واتبعوا {أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].

فصل

ومن كيده بهم وتحيُّله على إخراجهم من العلم والدين: أن ألقى على ألسنتهم أن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، وأوحى إليهم أن القواطع العقلية والبراهين اليقينية في المناهج الفلسفية والطرق الكلامية، فحال بينهم وبين اقتباس الهدى واليقين من مِشْكاة القرآن، وأحالهم على منطق اليونان، وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العَرِيَّة عن البرهان، وقال لهم: تلك علوم قديمة صَقَلتها العقول والأذهان، ومَرّتْ عليها القرون والأزمان. فانظر كيف تلطَّف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان والدين، كإخراج الشعرة من العجين!

[36 أ] فصل

ومن كيده: ما ألقاه إلى جُهَّال المتصوفة من الشَّطح والطامَّات، وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات، فأوقعهم في أنواع الأباطيل والتُّرَّهات، وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلات، وأوحى إليهم أن وراء العلم طريقًا إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العِيان، وأغناهم عن التقيُّد بالسنة والقرآن.

(1)

ح، ش:«تتلو» ، م:«تمليه» .

ص: 207

فحسّن لهم رياضة النفوس وتهذيبها، وتصفية الأخلاق، والتجافي عما عليه أهل الدنيا، وأهل الرياسة والفقهاء، وأرباب العلوم، والعمل على تفريغ القلب وخُلُوِّه من كل شيء، حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلّم. فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول نَقَش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعدٌّ له من أنواع الباطل، وخَيّله للنفس حتى جعله كالمشاهَد كشفًا وعيانًا، فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر ولنا الكشف الباطن، ولكم ظاهر الشريعة وعندنا باطن الحقيقة، ولكم القشور ولنا اللباب.

فلما تمكّن هذا من قلوبهم سلَخَها من الكتاب والسنة والآثار، كما يُسلَخ الليل من النهار، ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات، وأوهمهم أنها من الآيات البينات، وأنها من قِبَل الله سبحانه إلهامات وتعريفات، فلا تُعْرَضُ على السنة والقرآن، ولا تُعامَل إلا بالقبول والإذعان. فلغير الله ــ لا له ــ سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان: من الخيالات والشطحات وأنواع الهذيان!

وكلما ازدادوا بُعْدًا وإعراضًا عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم.

فصل

ومن أنواع مكايده ومكره: أنه يدعو العبد ــ بحسن خلقه وطلاقته وبِشْره ــ إلى أنواع من الآثام والفجور، فيلقاه مَنْ لا يُخلِّصُه من شره إلا تجهُّمُه والتعبيس في وجهه والإعراض عنه، فيحسِّن له العدوُّ أن يلقاه ببِشْره، وطلاقة وجهه، وحسن كلامه، فيتعلق به، فيروم التخلص منه فيعجِز، فلا يزال العدو يسعى بينهما حتى يصيب حاجته، فيدخل على العبد بكيده من

ص: 208

باب حسن الخلق وطلاقة الوجه.

ومن هاهنا وصّى أطباء القلوب بالإعراض عن أهل البدع، وأن لا يسلِّم عليهم، ولا يُرِيَهم طلاقةَ وجهه، ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض.

وكذلك أوصَوْا عند لقاء من يخاف الفتنة بلقائه من النساء والمردان، وقالوا: متى كَشفتَ للمرأة أو الصبي بياض أسنانك كشفا لك عما هنالك، ومتى لقيتهما بوجه عابسٍ وُقِيتَ شرَّهما.

ومن مكايده: أنه يأمرك أن تلقى المساكين وذوي الحاجات بوجه عبوس، ولا تُرِيهم بشرًا ولا طلاقة، فيطمعوا فيك، ويتجرأوا عليك، وتسقط هيبتك من قلوبهم، فيحرمك صالح أدعيتهم، وميل قلوبهم إليك، ومحبتهم لك؛ فيأمرك بسوء الخلق، ومنع البِشر والطلاقة مع هؤلاء، وبحسن الخلق والبِشْر مع أولئك، ليفتح لك باب الشر، ويغلق عنك باب الخير.

فصل

ومن مكايده: أنه يأمرك بإعزاز نفسك وصَوْنها حيث يكون رضا الرب تعالى في إذلالها وابتذالها، كجهاد الكفار والمنافقين، وأمر الفجار والظلمة بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فيخيِّل إليك أن ذلك تعريض لنفسك إلى مواطن الذل، وتسليط الأعداء، وطعنهم فيك، فيزول جاهك؛ فلا يُقبل منك بعد ذلك ولا يُسمَع منك.

ويأمرك بإذلالها وامتهانها حيث يكون الخير في إعزازها وصيانتها، كما يأمرك بالتبذل لذوي [36 ب] الرياسات، وإهانة نفسك لهم، ويخيِّل إليك أنك تُعِزُّها بهم، وترفع قدرها بالذل لهم، ويُذكِّرك قولَ الشاعر:

ص: 209

أُهِينُ لَهُمْ نَفْسِي لأرْفَعهَا بِهِمْ

وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِي لا تُهِينُهَا

(1)

وغَلِط هذا القائلُ؛ فإن ذلك لا يصلح إلا لله وحده؛ فإنه كلما أهان العبد نفسه له أكرمه وأعزَّه، بخلاف المخلوق، فإنك كلما أهنت نفسك له ذَلَلْتَ عند الله وعند أوليائه، وهُنْتَ عليه.

فصل

ومن كيده وخداعه: أنه يأمر الرجل بانقطاعه في مسجد، أو رباط، أو زاوية، أو تربة، ويحبسه هناك، وينهاه عن الخروج، ويقول له: متى خرجتَ تبذّلت للناس، وسقطت من أعينهم، وذهبتْ هيبتُك من قلوبهم، وربما ترى في طريقك منكرًا.

وللعدو في ذلك مقاصد خفية يريدها منه، منها: الكبر، واحتقار الناس، وحفظ الناموس، وقيام الرياسة. ومخالطةُ الناس تُذهِب ذلك، وهو يريد أن يُزار ولا يزور، ويقصده الناس ولا يقصدهم، ويفرح بمجيء الأمراء إليه، واجتماع الناس عنده، وتقبيل يده، فيترك من الواجبات والمستحبات والقُرُبات ما يُقرِّبه إلى الله، ويتعوّض عنه بما يُقرِّب الناسَ إليه.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى السوق

(2)

.

(1)

البيت بلا نسبة في البيان والتبيين (2/ 189)، وعيون الأخبار (1/ 91)، والعقد الفريد (1/ 70)، وبهجة المجالس (1/ 265)، وقد تمثل به الشافعي كما في آداب الشافعي لابن أبي حاتم (ص 127)، وحلية الأولياء (9/ 148)، وجامع بيان العلم (1/ 117)، والانتقاء (ص 91)، ووفيات الأعيان (7/ 64)، وطبقات الشافعية للسبكي (2/ 165).

(2)

ورد ذلك في أحاديث كثيرة.

ص: 210

قال بعض الحفّاظ: «وكان يشتري حاجته ويحملها بنفسه» ، ذكره أبو الفرج ابن الجوزي وغيره.

وكان أبو بكر يخرج إلى السوق يحمل الثياب، فيبيع ويشتري

(1)

.

ومرَّ عبد الله بن سلام وعلى رأسه حُزْمة حطب، فقيل له: ما يحملك على هذا وقد أغناك الله؟ فقال: أردت أن أدفع به الكِبْرَ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من كِبرٍ»

(2)

.

وكان أبو هريرة يحمل الحطب وغيره من حوائجه بنفسه وهو أمير على المدينة، ويقول:«افسحوا لأميركم، افسحوا لأميركم»

(3)

.

وخرج عمر بن الخطاب يومًا وهو خليفة في حاجة له ماشيًا، فأعيا، فرأى غلامًا على حمار له، فقال: يا غلام! احملني فقد أعييتُ، فنزل الغلام عن الدابة، وقال: اركب يا أمير المؤمنين! فقال: لا، اركب أنت وأنا خلفك،

(1)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وروى البيهقي في الكبرى (6/ 353) عن الحسن أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه غدا إلى السوق، فقال له عمر رضي الله عنه: أين تريد؟ قال: السوق، قال: قد جاءك ما يشغلك عن السوق، قال: سبحان الله! يشغلني عن عيالي؟! وهذا إسناد منقطع.

(2)

رواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص 182)، وأبو يعلى كما في المطالب العالية (3226)، والطبراني في الكبير (13/ 147)، والبيهقي في الشعب (6/ 291)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (29/ 132، 133)، والضياء في المختارة (9/ 452، 454)، وصححه الحاكم (5757)، والبوصيري في إتحاف الخيرة (7993)، وحسنه المنذري في الترغيب (3/ 355)، والهيثمي في المجمع (1/ 284)، والألباني في صحيح الترغيب (2910).

(3)

انظر: إحياء علوم الدين (2/ 241).

ص: 211

فركب خلف الغلام، حتى دخل المدينة والناس يرونه

(1)

.

فصل

ومن كيده: أنه يُغرِي الناس بتقبيل يده، والتمسُّح به، والثناء عليه، وسؤاله الدعاء، ونحو ذلك، حتى يرى نفسه، ويعجبه شأنُها، فلو قيل له: إنك من أوتاد الأرض، وبك يُدفَع البلاءُ عن

(2)

الخلق ظن ذلك حقًّا، وربما قيل له: إنه يُتوَسَّل به إلى الله، ويُسأل الله به وبحرمته، فيقضي حاجتهم، فيقع ذلك في قلبه، ويفرح به، ويظنه حقًّا.

وذلك كلُّ الهلاك، فإذا رأى من أحد من الناس تجافيًا عنه، أو قلة خضوع له، تذمّر لذلك ووجد في باطنه، وهذا شرٌّ من أرباب الكبائر المصرِّين عليها، وهم أقرب إلى السلامة منه.

فصل

ومن كيده: أنه يُحسِّن إلى أرباب التخلّي والزهد والرياضة العملَ بهاجِسهم وواقعهم، دون تحكيم أمر الشارع، ويقولون: القلب إذا كان محفوظًا مع الله كانت هواجسه وخواطره معصومة من الخطأ!

وهذا من أبلغ كيد العدو فيهم، فإن الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحمانية، وشيطانية، ونفسانية، كالرؤيا، فلو بلغ العبد من الزهد والعبادة ما

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا (288)، والدينوري في المجالسة (1401) من طريق الحسن عن عمر، وهذا إسناد منقطع، ومن طريق الدينوري رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (44/ 318 - 319).

(2)

من هنا إلى قوله: «لا يقتدى به» (ص 238) ساقطة من م.

ص: 212

بلغ فمعه شيطانه ونفسه، لا يفارقانه إلى الموت، والشيطان يجري منه مجرى الدم، والعصمة [37 أ] إنما هي للرسل صلوات الله وسلامه عليهم، الذين هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده، ومن عداهم يصيب ويخطئ، وليس بحجة على الخلق.

وقد كان سيِّد المحدَّثين المُلهَمِين عمر بن الخطاب، يقول الشيء، فيردُّه عليه من هو دونه، فيتبين له الخطأ، فيرجع إليه. وكان يَعرِض هواجسَه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليها، ولا يحكم بها، ولا يعمل بها.

وهؤلاء الجُهَّال يرى أحدهم أدنى شيء، فيُحكّم هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليهما، ويقول: حدَّثني قلبي عن ربي، ونحن أخذنا عن الحي الذي لا يموت، وأنتم أخذتم عن الوسائط، ونحن أخذنا بالحقائق، وأنتم أخذتم

(1)

الرسوم، وأمثال ذلك من الكلام الذي هو كفر وإلحاد، وغاية صاحبه أن يكون جاهلًا يُعذَر بجهله، حتى قيل لبعض هؤلاء: ألا تذهب فتسمع الحديث من عبد الرزاق؟ فقال: ما يَصْنَع بالسماع من عبد الرزاق مَنْ يسمع من الملك الخلّاق؟!

وهذا غاية الجهل؛ فإن الذي سمع من الملك الخلاق موسى بن عمران كليم الرحمن، وأما هذا وأمثاله فلم يحصل لهم السماع من بعض ورثة الرسول، وهو يدعي أنه يسمع الخطاب من مُرْسله، فيستغني به عن ظاهر العلم، ولعل الذي يخاطبه هو الشيطان، أو نفسه الجاهلة، أو هما مجتمعين ومنفردين.

(1)

في بعض النسخ: «اتبعتم» .

ص: 213

ومن ظن أنه يستغنى عما جاء به الرسول، بما يُلْقَى في قلبه من الخواطر والهواجس؛ فهو من أعظم الناس كفرًا، وكذلك إن ظن أنه يكتفي بهذا تارة وبهذا تارة.

فما يُلقى في القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه؛ إن لم يُعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة؛ وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان.

وقد سُئل عبد الله بن مسعود عن مسألة المُفَوّضة شهرًا، فقال بعد الشهر:«أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطًا فمني ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله»

(1)

.

وكتب كاتب لعمر بين يديه: «هذا ما أرى اللهُ عمرَ» ، فقال:«لا، امْحُه واكتب: هذا ما رأى عمر»

(2)

.

وقال عمر أيضًا: «أيها الناس! اتهموا الرأي على الدّين؛ فلقد رأيتُني يوم

(1)

رواه عبد الرزاق (6/ 294، 479)، وابن أبي شيبة (3/ 556، 6/ 10)، وأحمد (1/ 447، 4/ 279)، وأبو داود (2118)، والنسائي (3354، 3358)، والطبراني في الكبير (20/ 231، 232)، وغيرهم بأسانيد اختُلف فيها، وصححه ابن الجارود (718)، والطحاوي في شرح المشكل (9/ 215، 13/ 344)، وابن حبان (4100، 4101)، والحاكم (2737)، وابن حزم كما في التلخيص الحبير (3/ 405)، والبيهقي في الكبرى (7/ 246)، وابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 57)، وابن الملقن في البدر المنير (7/ 680)، وهو مخرج في الإرواء (1939).

(2)

رواه الطحاوي في شرح المشكل (9/ 214، 215) وصححه، والبيهقي في الكبرى (10/ 116)، وابن حزم في الإحكام (2/ 1025). قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 55):«إسناده في غاية الصحة» ، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 472):«إسناده صحيح» .

ص: 214

أبي جَنْدَل؛ ولو أستطيع أن أردّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته»

(1)

.

واتهام الصحابة لآرائهم كثير مشهور، وهم أبَرّ الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأبعدها من الشيطان، فكانوا أتبع الأمة للسنة، وأشدهم اتهامًا لآرائهم، وهؤلاء ضد ذلك.

وأهل الاستقامة منهم سلكوا على الجادة، ولم يلتفتوا إلى شيء من الخواطر والهواجس والإلهامات، حتى يقوم عليها شاهدان.

قال الجُنيد بن محمد: قال أبو سليمان الدَّارانيُّ: «ربما يقع في قلبي النُكتة من نكت القوم أيامًا؛ فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة»

(2)

.

وقال أبو يزيد: «لو نظرتم إلى رجل أُعِطي من الكرامات حتى يترفّع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود؟»

(3)

.

(1)

رواه البزار (148)، والدولابي في الكنى (1517)، وابن المنذر في الأوسط (3323)، والطحاوي في شرح المشكل (13/ 37)، والطبراني في الكبير (1/ 72)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (208)، والضياء في المختارة (219)، وغيرهم من طريق مبارك بن فضالة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وحسنه ابن كثير في مسند الفاروق (2/ 497)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 431):«رواه أبو يعلى، ورجاله موثقون وإن كان فيهم مبارك بن فضالة» ، وقال في موضع آخر (6/ 212):«رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح» .

(2)

رواه السلمي في طبقات الصوفية (ص 77)، وعنه القشيري في الرسالة القشيرية (ص 41)، ومن طريق القشيري رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (34/ 127).

(3)

رواه أبو نعيم في الحلية (10/ 40)، والبيهقي في الشعب (2/ 300)، والقشيري في الرسالة القشيرية (ص 38 - 39).

ص: 215

وقال أيضًا: «من ترك قراءة القرآن، ولزوم الجماعات، وحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وادّعى بهذا الشأن؛ فهو مُدّعٍ»

(1)

.

وقال سَرِيٌّ السَّقطيُّ: «من ادعى باطن علمٍ ينقضه ظاهرُ حكمٍ فهو غالط»

(2)

.

وقال الجنيد: «مذهبنا هذا مقيَّد بالأصول بالكتاب والسنة، فمن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ويتفقه لا يُقتدى به»

(3)

.

وقال أبو بكر الدّقاق: «من ضيّع حدود الأمر والنهي في الظاهر حُرِم مشاهدةَ القلب في الباطن» .

وقال أبو الحسين [37 ب] النوري: «من رأيتَهُ يدّعي مع الله حالةً تُخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تَقْرَبْه، ومن رأيته يَدّعي حالة لا يشهد لها حفظُ ظاهر فاتهِمْه على دينه»

(4)

.

وقال أبو سعيد الخراز: «كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل»

(5)

.

(1)

رواه البيهقي في الشعب (2/ 301).

(2)

رواه أبو نعيم في الحلية (10/ 121).

(3)

رواه أبو نعيم في الحلية (10/ 255)، والقشيري في الرسالة القشيرية (ص 51)، والخطيب في تاريخ بغداد (7/ 243، 14/ 401)، ومن طريق أبي نعيم رواه السبكي في طبقات الشافعية (2/ 273).

(4)

رواه أبو نعيم في الحلية (10/ 252)، والقشيري في الرسالة القشيرية (ص 53) بنحوه.

(5)

رواه السلمي في طبقات الصوفية (ص 185)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 247)، وانظر: الرسالة القشيرية (ص 61)، وهذا السطر ساقط من م، ش.

ص: 216

وقال الجريري: «أمرنا هذا كله مجموع على فَصْل واحد: أن تُلزم قلبك المراقبة، ويكون العلم على ظاهرك قائمًا»

(1)

.

وقال أبو حفص الكبير الشأن: «من لم يَزِنْ أفعاله وأحواله بالكتاب والسنة، ولم يَتّهم خواطره؛ فلا تَعُدّوه في ديوان الرجال»

(2)

.

وما أحسنَ ما قال أبو أحمد الشيرازي: «كان الصوفية يَسْخَرون من الشيطان، والآن الشيطان يسخر منهم»

(3)

.

ونظير هذا ما قاله بعض أهل العلم: «كان الشيطان فيما مضى ينهب من الناس، واليوم الرجل الذي ينهب من الشيطان» .

فصل

ومن كيده: أمرُهم بلزوم زيٍّ واحد، ولِبْسَة واحدة، وهيئة ومِشْية معيّنة، وشيخ معينٍ، وطريقة مخترعة، ويفرض عليهم لزوم ذلك؛ بحيث يلزمونه كلزوم الفرائض، فلا يخرجون عنه، ويقدحون فيمن خرج عنه ويذمُّونه، وربما يلزم أحدهم موضعًا مُعَيَّنًا للصلاة لا يصلي إلا فيه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يُوطِّنَ الرجل المكانَ للصلاة كما يوطّن البعير

(4)

.

(1)

رواه القشيري في الرسالة القشيرية (ص 226).

(2)

رواه أبو نعيم في الحلية (10/ 230)، والقشيري في الرسالة القشيرية (ص 45).

(3)

رواه القشيري في الرسالة القشيرية (ص 82)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (52/ 409)، وكنيته عندهما أبو عبد الله، وهو محمد بن خفيف الشيرازي. وفي م:«أحمد الشيرازي» .

(4)

رواه ابن أبي شيبة (1/ 432)، وأحمد (3/ 428، 444)، والدارمي (1323)، وأبو داود (862)، والنسائي (1112)، وابن ماجه (1429)، وغيرهم من طريق تميم بن محمود عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (662، 1319)، وابن حبان (2277)، والحاكم (833)، قال ابن رجب في الفتح (2/ 647):«في إسناده اختلاف كثير، تميم بن محمود قال البخاري: في حديثه نظر» ، وله شاهد من حديث عبد الحميد بن سلمة عن أبيه، به حسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1168).

ص: 217

وكذلك ترى أحدَهم لا يصلي إلا على سجادة، ولم يُصلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على سجادة قط، ولا كانت السجادة تُفرش بين يديه، بل كان يصلي على الأرض، وربما سجد في الطين، وكان يصلي على الحصير، فيصلي على ما اتفق بَسْطُهُ، فإن لم يكن ثمة شيء صلى على الأرض.

وهؤلاء اشتغلوا بحفظ الرسوم عن الشريعة والحقيقة، فصاروا واقفين مع الرسوم المبتدعة، ليسوا مع أهل الفقه، ولا مع أهل الحقائق، فصاحب الحقيقة أشد شيء عليه التقيُّدُ بالرسوم الوضعية، وهي من أعظم الحُجُب بين قلبه وبين الله، فمتى تقيَّد بها حبس بها قلبه عن سيره، وكان أحسن أحواله الوقوف معها، ولا وقوف في السير، بل إما تقدُّمٌ وإما تأخُّرٌ، كما قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37]، فلا وقوف في الطريق؛ إنما هو ذهاب وتقدم، أو رجوع وتأخر.

ومن تأمّل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته وجده مناقضًا لهدي هؤلاء؛ فإنه كان يلبس القميص تارة، والقَباء تارة، والجُبَّة تارة، والإزار والرداء تارة، ويركب البعير وحده، ومُرْدفًا لغيره، ويركب الفرس مُسْرَجًا وعُرْيانًا، ويركب الحمار، ويأكل ما حضر، ويجلس على الأرض تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى البساط تارة، ويمشي وحده تارة، ومع أصحابه تارة. وهَدْيه عدمُ التكلّفِ وعدمُ التقيد بغير ما أمره به ربه، فبين هديه وهدي هؤلاء بَوْن بعيد.

ص: 218

فصل

ومن كيده الذي بلغ به من الجهَّال ما بلغ: الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال، وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخَيّل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي، حتى يضم إليه غيره، فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد، والتعب الحاضر، وبطلان الأجر أو تنقيصه.

ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس، فأهله قد أطاعوا الشيطان، ولبَّوا دعوته، واتبعوا أمره، ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو اغتسل كاغتساله؛ لم يطهُر ولم يرتفع حَدَثه.

ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقَّةً للرسول؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم[38 أ] يتوضأ بالمُدّ، وهو قريب من ثُلثِ رطل بالدّمَشْقي، ويغتسل بالصّاع

(1)

وهو نحو رطل وثلث.

والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه.

وصحَ عنه أنه توضأ مرة مرة

(2)

، ولم يزد على ثلاث، بل أخبر أن «من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (201)، ومسلم (325) عن أنس.

(2)

أخرجه البخاري (157) من حديث ابن عباس.

(3)

رواه أبو عبيد في الطهور (81)، وابن أبي شيبة (1/ 16)، وأحمد (2/ 180)، وأبو داود (135)، والنسائي (140)، وابن ماجه (422)، وغيرهم من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال:«هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدّى وظلم» ، وصححه ابن الجارود (75)، وابن خزيمة (174)، والنووي في المجموع (1/ 419) وفي غيره، وابن الملقن في البدر المنير (2/ 143)، وقال ابن دقيق العيد في الإلمام (1/ 66 - 67):«إسناده صحيح إلى عمرو، فمن يحتج بنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فهو عنده صحيح» ، وكذا قال ابن عبد الهادي في المحرر (1/ 101)، وقال ابن حجر في الفتح (1/ 233):«إسناده جيد» ، وهو في السلسلة الصحيحة (2980). وفي الباب عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما.

ص: 219

فالموسوس مسيء مُتَعدٍّ ظالم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسيء به، متعدٍّ فيه لحدوده؟

وصحّ عنه أنه كان يغتسل هو وعائشة من قصعة بينهما، فيها أثر العجين

(1)

.

ولو رأى الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار، وقال: ما يكفي هذا القدر لغسل اثنين، كيف والعجين يحلِّلُه الماء فيغيره؟ هذا والرشاش ينزل في الماء فينجسه عند بعضهم، ويفسده عند آخرين، فلا تصح به الطهارة.

(1)

التي نُقِل اغتسالها مع النبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فيه أثر العجين هي ميمونة رضي الله عنها، روى ذلك أحمد (6/ 342)، والنسائي (240)، وابن ماجه (378)، والطبراني في الكبير (24/ 430)، وغيرهم من طرق عن إبراهيم بن نافع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم هانئ رضي الله عنها، وصححه ابن خزيمة (240)، وابن حبان (1245)، والنووي في الخلاصة (1/ 67)، وأشار البيهقي في الكبرى (1/ 8) إلى انقطاعه بين مجاهد وأم هانئ وقال:«وهذا مع إرساله أصح» .

ص: 220

وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع غير عائشة، مثل ميمونة وأم سلمة. وهذا كله في «الصحيح»

(1)

.

وثبت أيضًا في «الصحيح»

(2)

عن ابن عمر، أنه قال:«كان الرجال والنساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضَّأون من إناء واحد» .

والآنية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه ونساؤهم يغتسلون منها لم تكن من كبار الآنية، ولا كانت لها مادة تمدُّها، كأنبوب الحمام ونحوه، ولم يكونوا يراعون فيضانها حتى يجري الماء من حافاتها، كما يراعيه جهال الناس ممن بُلي بالوسواس في جُرْن الحمام.

فهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي من رغب عنه فقد رغب عن سنته: جواز الاغتسال من الحياض والآنية، وإن كانت ناقصة غير فائضة. ومن انتظر الحوض حتى يفيض ثم استعمله وحده، ولم يُمكِّن أحدًا أن يشاركه في استعماله، فهو مبتدع مخالف للشريعة.

قال شيخُنا: ويستحق التعزير البليغ، الذي يزجره وأمثالَه عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، ويعبدوا الله بالبدع لا بالاتباع.

ودلَّت هذه السنن الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يُكثِرون صبّ الماء، ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان.

قال سعيد بن المسيّب: «إني لأستنجي من كوز الحُبِّ، وأتوضأ، وأُفْضِلُ منه لأهلي»

(3)

.

(1)

البخاري (250، 253)، ومسلم (321، 322، 324).

(2)

البخاري (193).

(3)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وسيأتي بمعناه فيما رواه الأثرم عن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع سعيد بن المسيب ورجلًا من أهل العراق يسأله عما يكفي الإنسان في غسل الجنابة، فقال سعيد:«إنّ لي تورًا يسع مدَّين من ماء أو نحوهما، فأغتسل به ويكفيني ويفضل منه فضلٌ»

قال: وقال سعيد: «إن لي ركوة أو قدحًا ما يسع إلا نصف المد أو نحوه، ثم أبول ثم أتوضأ وأفضل منه فضلًا» .

ص: 221

وقال الإمام أحمد: «مِنْ فقهِ الرجل قِلَّة وَلُوعِهِ بالماء» .

وقال المرُّوذي: «وضّأْتُ أبا عبد الله بالعسكر، فسترته من الناس، لئلا يقولوا: إنه لا يحسن الوضوء؛ لقلة صَبّه الماء» .

وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يَبُلّ الثَّرى.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في «الصحيح»

(1)

: أنه توضأ من إناء، فأدخل يده فيه، ثم تمضمض واستنشق.

وكذلك كان في غُسْلِه يُدْخِلُ يده في الإناء، ويتناول الماء منه.

والموسوس لا يُجوِّز ذلك، ولعله أن يحكم بنجاسة الماء، أو يَسْلُبَهُ طَهوريَّته بذلك.

وبالجملة فلا تطاوعه نفسه لاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يأتي بمثل

(2)

ما أتى به أبدًا، وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر الفَرَق، قريبًا من خمسة أرطال بالدمشقيّ، يَغمِسان أيديَهما فيه، ويُفْرِغان عليهما؟

فالمُوَسْوِسُ يشمئزّ من ذلك كما يشمئز المشرك إذا ذُكِر الله وحده.

(1)

أخرجه البخاري (140) عن ابن عباس.

(2)

الأصل: «على» .

ص: 222

قال أصحاب الوسواس: إنما حملنا على ذلك الاحتياط لديننا، والعمل بقوله صلى الله عليه وسلم:«دع ما يَرِيْبك إلى ما لا يَرِيْبك»

(1)

، وقوله:«من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعِرضه»

(2)

، وقوله:«الإثم ما حاك في الصدر»

(3)

.

[38 ب] وقال بعض السلف: الإثم حَوَازُّ القلوب

(4)

.

(1)

رواه الطيالسي (1178)، وعبد الرزاق (3/ 117)، وأحمد (1/ 200)، والدرامي (2532)، والترمذي (2518)، والنسائي (5711)، وأبو يعلى (6762) وغيرهم من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال الترمذي:«حديث حسن صحيح» ، وصححه ابن خزيمة (2348)، وابن حبان (722)، والحاكم (2169، 2170، 7046)، وابن حجر في تغليق التعليق (3/ 211)، والعجلوني في كشف الخفاء (1/ 72)، وحسنه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1368)، والنووي في المجموع (1/ 182)، وقال الذهبي:«سنده قوي» ، وهو مخرج في الإرواء (12، 2074). وفي الباب عن عمر وابن عمر وأبي هريرة وواثلة وأنس ووابصة بن معبد وعن عطاء الخراساني مرسلًا.

(2)

أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) عن النعمان بن بشير.

(3)

أخرجه مسلم (2553) عن النواس بن سمعان.

(4)

ت: «جوار» . ش: «حزاز» . ح: «حوك» . وكله تحريف. وهو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، رواه هناد في الزهد (934)، وأبو داود في الزهد (125)، والطبراني في الكبير (9/ 149) من طريق الأعمش عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبي الأحوص عنه، ورواه العدني ـ كما في المطالب العالية (1590) ـ والطبراني في الكبير (9/ 149) من طريق منصور عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عنه، ورواه الطبراني أيضًا (9/ 150) من طريق منصور عن إبراهيم عنه بلفظ:«إياكم وأحواز الصدور» ، ورواه البيهقي في الشعب (5/ 458) من طريق حبيب بن سنان الأسدي عن أبي وائل عنه، وصححه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص 251)، وقال:«احتج به الإمام أحمد» ، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 424):«رواه الطبراني كله بأسانيد رجالها ثقات» ، وهو في السلسلة الصحيحة (2613). وجاء عن ابن مسعود مرفوعًا عند البيهقي في الشعب (4/ 367)، قال المنذري في الترغيب (3/ 25):«رواته لا أعلم فيهم مجروحًا، لكن قيل: صوابه الوقف» .

ص: 223

وقد وَجدَ النبي صلى الله عليه وسلم تمرةً، فقال:«لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها»

(1)

، أفلا تَرى أنه ترك أكلها احتياطًا؟

قد أفتى مالك من طلق امرأته وشَكّ هل هي واحدة أم ثلاث: بأنها ثلاث؛ احتياطًا للفروج.

وأفتى من حلف بالطلاق أن في هذه اللوزة حبَّتين، وهو لا يعلم ذلك، فبان الأمر كما حلف عليه: أنه حانث؛ لأنه حلف على ما لا يعلم.

وقال فيمن طلَّق واحدة من نسائه ثم أُنسيَها: تُطلَّق عليه جميع نسائه احتياطًا، وقطعًا للشك.

وقال أصحاب مالك فيمن حلف بيمين ثم نسيها: إنه يلزمه جميع ما يُحلَف به عادة، فيلزمه الطلاق، والعتاق، والصدقة بثلث المال، وكفارة الظهار، وكفارة اليمين بالله، والحج ماشيًا، ويقع الطلاق في جميع نسائه، ويعتق عليه جميع عبيده وإمائه، وهذا أحد القولين عندهم.

ومذهب مالك أيضًا: أنه إذا حلف ليفعلنّ كذا، أنه على حنث حتى يفعله، فيحال بينه وبين امرأته إذا كان حالفًا بالطلاق حتى يفعل، فإذا فعل خُلِّيَ بينه وبين امرأته.

(1)

أخرجه البخاري (2055)، ومسلم (1071) عن أنس بن مالك.

ص: 224

ومذهبه أيضًا: إذا قال: إذا جاء رأس الحَوْل فأنت طالق ثلاثًا: أنها تُطلَّق في الحال.

وهذا كله احتياط.

وقال الفقهاء: من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله.

وقالوا: إذا كان معه ثياب طاهرة وتنجّس منها ثياب، وشكَّ فيها، صلى في ثوب بعد ثوب بعدد النجس، وزاد صلاة ليتيقَّن براءة ذمته.

وقالوا: إذا اشتبهت الأواني الطاهرة بالنجسة أراق الجميع وتيمم.

وكذلك إذا اشتبهت عليه القبلة، فلا يدري في أي جهة، فإنه يصلي أربع صلوات عند بعض الأئمة؛ لتبرأ ذمته بيقين.

وقالوا: من ترك صلاة من يوم ثم نسيها وجب عليه أن يصلي خمس صلوات.

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من شك في صلاته أن يبني على اليقين

(1)

.

وحرَّم أكل الصيد إذا شك صاحبه: هل مات بسهمه أو بغيره

(2)

، كما إذا وقع في الماء.

وحرَّم أكله إذا خالط كلبه كلبًا آخر؛ للشك في تسمية صاحبه عليه.

وهذا باب يطول تتبُّعه. فالاحتياط والأخذ باليقين غير مُستنكر في الشرع، وإن سمَّيتموه وسواسًا.

(1)

أخرجه مسلم (571) عن أبي سعيد الخدري.

(2)

كما في حديث عدي بن حاتم الذي أخرجه البخاري (175)، ومسلم (1929).

ص: 225

وقد كان عبد الله بن عمر يغسل داخل عينيه في الطهارة حتى عمي

(1)

.

وكان أبو هريرة إذا توضأ أشرع في العَضُد، وإذا غسل رجليه أشرع في الساقين

(2)

.

فنحن إذا احتطنا لأنفسنا وأخذنا باليقين، وتركنا ما يَريب إلى ما لا يريب، وتركنا المشكوك

(3)

فيه للمتيقَّن المعلوم، وتجنبنا محلّ الاشتباه، لم نكن بذلك عن الشريعة خارجين، ولا في البدعة والجِينَ، وهل هذا إلا خير من التسهيل والاسترسال؟ حتى لا يبالي العبد بدينه، ولا يحتاط له، بل يُسهِّل الأشياء ويُمَشّي حالها، ولا يبالي كيف توضأ؟ ولا بأيّ ماءٍ توضأ؟ ولا بأيّ مكان صلى؟ ولا يبالي ما أصاب ذيله وثوبه، ولا يسأل عما عهد، بل يتغافل، ويحسّن ظنه، فهو مهمل لدينه لا يبالي ما شك فيه؛ ويحمل الأمور على الطهارة، وربما كانت أفحش النجاسة، ويدخل بالشك ويخرج بالشك، فأين هذا ممن استقصى في فعل ما أُمر به، واجتهد فيه، حتى لا يُخِلّ بشيء منه، وإن زاد على المأمور فإنما قصده بالزيادة تكميل المأمور، وأن لا ينقص منه شيئًا!

(1)

روى مالك (100) عن نافع أن ابن عمر كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فأفرغ على يده اليمنى فغسلها، ثم غسل فرجه، ثم مضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ونضَح في عينيه

ورواه عبد الرزاق (1/ 259) ومسدد ـ كما في المطالب العالية (166) ـ والبيهقي في الكبرى (1/ 177، 201) من طرق عن نافع عن ابن عمر قال: كان إذا اغتسل من الجنابة نضَح الماء في عينيه، وصححه ابن حجر، وليس عند أحدٍ منهم أنه عمي بسبب ذلك.

(2)

أخرجه مسلم (246) عنه.

(3)

م: «السلوك» تحريف.

ص: 226