الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتحقيق: أنه لا نزاع بين الفريقين؛ فإنها واحدة باعتبار ذاتها، وثلاثة
(1)
باعتبار صفاتها، فإذا اعتُبرت بنفسها فهي واحدة، وإن [23 ب] اعتُبرت مع كل صفة دون الأخرى فهي متعددة، وما أظنهم يقولون: إن لكل أحد ثلاث أنفس؛ كل نفس قائمة بذاتها، مساوية للأخرى في الحد والحقيقة، وأنه إذا قُبض العبد قُبضت له ثلاثة أنفس، كل واحدة مستقلة بنفسها!
وحيث ذكر سبحانه النفس وأضافها إلى صاحبها؛ فإنما ذكرها بلفظ الإفراد، وهكذا في سائر الأحاديث، ولم يجئ في موضع واحد:«نفوسك» و «نفوسه» ، ولا «أنفسك» و «أنفسه» ؛ وإنما جاءت مجموعة عند إرادة العموم، كقوله تعالى:{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]، أو عند إضافتها إلى الجمع؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:«إنما أنفسنا بيد الله»
(2)
، ولو كانت في الإنسان ثلاثة أنفس لجاءت مجموعة إذا أضيفت إليه؛ ولو في موضع واحد.
فالنفس إذا سَكَنَتْ إلى الله، واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه، فهي مطمئنة، وهي التي يقال لها عند الموافاة
(3)
: {يَاأَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ
(27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28].
قال ابن عباس: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} ، يقول: المصدِّقة
(4)
.
(1)
كذا في النسخ «ثلاثة» في جميع المواضع.
(2)
هذا من قول عليّ رضي الله عنه لما أيقظه النبي صلى الله عليه وسلم هو وفاطمة لقيام الليل، رواه البخاري (1075)، ومسلم (775).
(3)
ح: «الوفاة» .
(4)
رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 423) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (8/ 514) لابن المنذر.
وقال قتادة: «هو المؤمن، اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله»
(1)
.
وقال الحسن: «المطمئنة بما قال الله، والمصدقة بما قال»
(2)
.
وقال مجاهد: «هي المُنيبة المُخْبتة التي أيقنت أن الله ربُّها، وضربت جأشًا لأمره وطاعته، وأيقنت بلقائه»
(3)
.
وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذِكْره، ولم تسكن إلى سواه، فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذِكْره، واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره، واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته، واطمأنت إلى الرضا به ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، واطمأنت إلى قضائه وقدره، واطمأنت إلى كفايته وحَسْبِه وضمانه، فاطمأنت بأنه وحده ربها، وإلهها، ومعبودها، ومليكها، ومالك أمرها كلِّه، وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عينٍ.
وإذا كانت بضدِّ ذلك فهي أمَّارة بالسوء، تأمر صاحبها بما تهواه من شهوات الغيّ واتباع الباطل، فهي مأوى كل سوء، إن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه، وقد أخبر سبحانه أنها أمّارة بالسوء، ولم يقل: آمرة؛ لكثرة
(1)
رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 423)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 515) لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
رواه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 372)، وابن جرير في تفسيره (24/ 423) عن معمر عن قتادة والحسن.
(3)
رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 423 - 424)، وعزا بعضه في الدر المنثور (8/ 514) لسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ذلك منها، وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله، وجعلها زاكيةً تأمر صاحبها بالخير، فذلك من رحمة الله، لا منها، فإنها بذاتها أمارة بالسوء؛ لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة إلا من رحمه الله
(1)
، والعلمُ والعدلُ طارئٌ عليها بإلهام ربِّها وفاطرها لها ذلك، فإذا لم يُلِهمْها رشدَها بقيتْ على ظلمها وجهلها، فلم تكن أمَّارة إلا بموجب الجهل والظلم، فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زَكَتْ منهم نفس واحدة.
فإذا أراد سبحانه بها خيرًا جعل فيها ما تزكو به وتصلح من الإرادات والتصورات، وإذا لم يُرِدْ بها ذلك تركها على حالها التي خُلقت عليها من الجهل والظلم.
وسبب الظلم: إما جهل، وإما حاجة، وهي في الأصل جاهلة، والحاجة لازمة لها، فلذلك كان أمرها بالسوء أمرًا لازمًا
(2)
لها إن لم تدركها رحمة الله وفضله.
وبهذا يُعلم أن ضرورة العبد إلى ربه فوق كل ضرورة، ولا تُشبِهها ضرورة تُقاس بها؛ فإنه إن أمسك عنه رحمته وتوفيقه وهدايته طرفة عينٍ خسِر وهلك.
فصل
وأما اللوّامة فاختُلِف [24 أ] في اشتقاق هذه اللفظة: هل هو من التلوُّم؛ وهو التلوُّن والتردد؟ أو من اللوم؟ وعبارات السلف تدور على هذين المعنيين.
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما اللوامة؟ قال: «هي النفس اللَّؤوم»
(1)
.
وقال مجاهد: «هي التي تَنْدَم على ما فات، وتلوم عليه»
(2)
.
وقال قتادة: «هي الفاجرة»
(3)
.
وقال عكرمة: «تلوم على الخير والشر»
(4)
.
وقال عطاء عن ابن عباس: «كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة: يلوم المحسنُ نفسَه أن لا يكون ازداد إحسانًا، ويلوم المسيءُ نفسَه أن لا يكون رجع عن إساءته»
(5)
.
(6)
.
(1)
رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 49)، وصححه الحاكم (3877)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 342) لابن المنذر.
(2)
رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 50)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 43)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 343) لعبد بن حميد.
(3)
رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 50)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 342) لعبد بن حميد.
(4)
رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 49).
(5)
انظر: البسيط للواحدي (22/ 475).
(6)
رواه أحمد في الزهد (ص 281) عن روح، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (4) من طريق أبي عامر العقدي، كلاهما عن قرة بن خالد عن الحسن، ولفظه:«إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه يقول: ما أردت بكلمتي؟ يقول: ما أردتُ بأكلتي؟ ما أردتُ بحديث نفسي؟ فلا تراه إلا يعاتبها، وإن الفاجر يمضي قدمًا فلا يعاتب نفسه» ، وعزاه في الدر المنثور (8/ 343) لعبد بن حميد.
فهذه عباراتُ من ذَهب إلى أنها من اللَّوْم.
وأما من جعلها من التلوُّم فلكثرة ترددها وتلوُّمها، وأنها لا تستقر على حال واحدة.
والأول أظهر؛ فإن هذا المعنى لو أُريد لقيل: المتلوِّمة، كما يقال: المتلونة والمترددة، ولكن هو من لوازم القول الأول؛ فإنها لتلُّومِها وعدم ثباتها تفعل الشيء ثم تلوم عليه، فالتلوّم من لوازم اللوم.
والنفس قد تكون تارة أمّارةً، وتارة لوامةً، وتارة مطمئنةً، بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل فيها
(1)
هذا وهذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها، فكونها مطمئنةً وصفُ مدحٍ لها، وكونها أمّارةً بالسوء وصفُ ذمٍّ لها، وكونها لوامةً ينقسم إلى المدح والذم، بحسب ما تلوم عليه.
والمقصود ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه، وله علاجان: محاسبتها، ومخالفتها.
وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها، وفي الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث شدّاد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكَيّس من دان نفسَه، وعمِلَ لما بعد الموت، والعاجز من أتبعَ نفسَه هواها، وتمنّى على الله»
(2)
، دان نفسه أي: حاسبها.
(1)
ح: «منها» .
(2)
مسند أحمد (4/ 124)، ورواه أيضًا ابن المبارك في الزهد (171)، والطيالسي (1122)، والترمذي (2459)، وابن ماجه (4260)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (1)، والبزار (3489)، والطبراني في الكبير (7/ 281، 248)، وابن عدي في الكامل (2/ 39)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 267، 8/ 174)، وغيرهم، قال الترمذي:«هذا حديث حسن» ، وصححه الحاكم (191، 7639)، وتعقبه الذهبي بقوله:«لا والله، أبو بكر بن أبي مريم واه» ، وهو في السلسلة الضعيفة (5319).
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال:«حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تُحاسِبوا أنفسَكم اليومَ، وَتَزَيّنوا للعرض الأكبر؛ يومئذٍ تُعرَضون لا تخفى منكم خافية»
(1)
.
وذكر أيضًا عن الحسن، قال:«لا يُلفَى المؤمنُ إلا يُحاسِبُ نفسه: ما أردتُ بكلمتي؟ وماذا أردتُ بأكلتي؟ وماذا أردت بشَرْبتي؟ والفاجر يمضي قُدُمًا، لا يُحاسِب نفسَه»
(2)
.
وقال قتادة في قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]: «أضاع نفسَه وغُبِن، مع ذلك تراه حافظًا لمالِه مضيِّعًا لدينه»
(3)
.
وقال الحسن: «إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت المحاسبة من همَّته»
(4)
.
(1)
الزهد لأحمد (ص 120)، ورواه أيضًا ابن المبارك في الزهد (306)، وابن أبي شيبة (7/ 96)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (2)، والدينوري في المجالسة (1291)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 52)، وغيرهم من أوجه عن عمر، وهو في السلسلة الضعيفة (1201).
(2)
تقدم تخريجه قريبًا. وفي ح: «ماذا أردت تعملين
…
تأكلين
…
تشربين».
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (5) بنحوه.
(4)
رواه الحسين المروزي في زوائد الزهد (1103)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (6)، والدينوري في المجالسة (1917، 2692)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 145 - 146)، من طرق عن الحسن.
وقال ميمون بن مِهران: «لا يكون العبد تقيًّا حتى يكون لنفسه أشدَّ محاسبةً من الشريك لشريكه»
(1)
، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك.
وقال ميمون بن مهران أيضًا: «إنّ التقي أشدُّ محاسبةً لنفسه من سلطان عَاصٍ، ومن شريك شحيح»
(2)
.
(3)
.
(1)
رواه وكيع في الزهد (239)، وابن أبي شيبة (7/ 195، 235)، وهناد في الزهد (1228)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (7) عن جعفر بن برقان عن ميمون، ورواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 43) من طريق وكيع ومن طريق ابن أبي الدنيا.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (9) عن أبي موسى العبدي عن أبي المليح عن ميمون.
(3)
رواه ابن البنّاء في الرسالة المغنية (19) من طريق أحمد، ولم أقف عليه عنده. ورواه ابن المبارك في الزهد (313)، وعبد الرزاق (11/ 21 - 22)، وهناد في الزهد (1226)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (12)، وفي العقل (29)، والبيهقي في الشعب (4/ 164 - 165). ومن طريق عبد الرزاق رواه الخطابي في العزلة (ص 99)، ومن طريق ابن المبارك رواه الخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 220).
وقد رُوي هذا مرفوعًا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أبو حاتم ابنُ حبان وغيره
(1)
.
وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح، فيضع إصبعه فيه، ثم يقول: حَسِّ يا حُنَيفُ! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟»
(2)
.
وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عُمَّاله: «حاسِبْ نفسَك في الرخاء قبل حساب الشدة؛ فإن من حاسب نفسه في الرخاءِ قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألْهَتْهُ حياتُه وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة»
(3)
.
(1)
صحيح ابن حبان (361) عن أبي ذر رضي الله عنه في حديث طويل فيه جملة من الحِكم والمواعظ، وفيه ذكر عدد الأنبياء وعدد الرسل وعدد الكتب، ورواه أيضًا أبو نعيم في الحلية (1/ 18 - 19، 166 - 168)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (23/ 273 ـ 279)، وغيرهم، قال ابن كثير في تفسيره (1/ 778):«ذكر ابن الجوزي هذا الحديث في كتابه الموضوعات، واتَّهم به إبراهيم بن هشام، ولا شكَّ أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث» ، وهو في ضعيف الترغيب (1352)، وانظر: البدر المنير (4/ 353 ـ 357)، والسلسلة الضعيفة (1910، 5638).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (13)، وعبد الله في زوائد الزهد (ص 235) عن مولى كان يصحَب الأحنف بن قيس، ومن طريق عبد الله رواه الخطيب في تاريخ بغداد (10/ 30)، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (24/ 324) من طريق ابن أبي الدنيا ومن طريق الخطيب، ورواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 44) من طريق ابن أبي الدنيا.
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (16)، والبيهقي في الشعب (7/ 366)، وفي الزهد الكبير (462) من طريق جعفر بن برقان عن عمر، ومن طريق البيهقي رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (44/ 321، 357).
(1)
.
وقال مالك بن دينار: «رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبةَ كذا؟ ألستِ صاحبةَ كذا؟! ثم زَمَّها، ثم خَطَمَها، ثم ألزمها كتابَ الله عز وجل، فكان لها قائدًا»
(2)
.
وقد مُثِّلَتِ النفسُ مع صاحبها بالشريك في المال، فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولًا، ثم
(1)
رواه ابن المبارك في الزهد (307)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 157)، ومن طريق ابن المبارك رواه ابن أبي شيبة (7/ 188 - 189)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (17)، والدينوري في المجالسة (1556)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 41 - 42)، والمزي في تهذيب الكمال (31/ 531).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (8)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (56/ 420).
بمطالعة
(1)
ما يعمل، والإشراف عليه ومراقبته ثانيًا، ثم بمحاسبته ثالثًا، ثم يمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعًا، فكذلك النفس؛ يُشارطها
(2)
أولًا على حفظ الجوارح السبعة التي حِفْظُها هو رأس المال؛ والربح بعد ذلك، فمن ليس له رأس مال؛ فكيف يطمع في الربح؟
وهذه الجوارح السبعة ــ وهي العين، والأذن، والفم، واللسان، والفرج، واليد، والرِّجل ــ هي مركب العَطَب والنجاة، فمنها عطب مَنْ عطب بإهمالها وعدمِ حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها، فحِفْظُها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر؛ قال تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وقال:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37]، وقال:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وقال تعالى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]، وَقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].
فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها، فلا يُهملها، فإنه إن أهملها لحظة وقعتْ
(3)
في الخيانة ولا بدَّ، فإن تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة، حتى يذْهَبَ رأس المال
(1)
م: «يطالعه» .
(2)
م، ت، ظ:«شارطها» .
(3)
كذا في الأصل، وفي بعض النسخ:«رتعت» .
كلُّه، فمتى أحسّ بالنقصان [25 أ] انتقل إلى المحاسبة؛ فحينئذٍ يتبيَّنُ له حقيقة الربح والخسران، فإذا أحس بالخسران وتيقَّنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه، من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة في المستقبل، ولا مطمع له في فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن والاستبدال بغيره؛ فإنه لا بدَّ له منه، فليجتهد في مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله.
ويُعينه على هذه المراقبة والمحاسبةِ معرفتُه أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدًا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدًا.
ويعينه عليها أيضًا معرفتُه أن ربح هذه التجارة سُكْنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وخسارتها دخول النار، والحجاب عن الرب تعالى، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم.
فحقٌّ على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر: أن لا يغفُلَ عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها، وسكناتها، وخطراتها، وخطواتها
(1)
، فكل نَفَسٍ من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا خَطَرَ لها، يمكن أن يُشترى به كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبدَ الآباد، فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يَجلِب هلاكَه: خسران عظيم، لا يَسمح بمثله إلا أجهلُ الناس وأحمقهم وأقلهم عقلًا، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30].
(1)
«وخطواتها» ساقطة من الأصل.
فصل
ومحاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل، ونوع بعده.
فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همته وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.
قال الحسن: «رحم الله عبدًا وقف عند همِّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر»
(1)
.
وشرح هذا بعضهم، فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهَمّ به العبدُ
(2)
وقف أولًا، ونظر: هل ذلك العمل مقدور له أم غير مقدور ولا مستطاع؟ فإن لم يكن مقدورًا لم يُقْدِم عليه، وإن كان مقدورًا وقف وقفة أُخري ونظر: هل فعلُه خير من ترْكه، أو تركه خير من فعله؟ فإن كان الثاني تركه ولم يُقْدِم عليه، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة، ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله وثوابه، أم إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يُقدمِ عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه؛ لئلا تعتاد النفس الشرك، ويخفّ عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يَخِف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله، حتى يصير أثقل شيء عليها، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى، ونظر: هل هو مُعانٌ عليه، وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجًا إلى ذلك؛ أم لا؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده مُعانًا عليه فليُقْدِم عليه
(1)
رواه البيهقي في الشعب (5/ 458).
(2)
«العبد» ساقطة من م.
فإنه منصور، ولا يفوت النجاح إلا من فوات خصلةٍ من هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح.
فهذه أربع مقامات، يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل الفعل؛ فلا كلُّ ما يريد العبد فَعله يكون مقدورًا له، ولا كلُّ ما يكون مقدورًا له يكون فعله خيرًا له من تركه، ولا كلُّ ما يكون فعله خيرًا له من تركه [25 ب] يفعله لله، ولا كلُّ ما يفعله لله يكون مُعانًا عليه، فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يُقدم عليه، وما يُحجِم عنه.
فصل
النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعة قصّرت فيها من حق الله؛ فلم تُوقِعها على الوجه الذي ينبغي.
وحق الله في الطاعة بمراعاة ستة أمور قد تقدمت، وهي: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود مِنّة الله عليه فيه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله. فيحاسب نفسَه: هل وَفّى هذه المقامات حقَّها؟ وهل أتى بها في هذه الطاعة؟
الثاني: أن يحاسب نفسه على عمل كان تركُه خيرًا له من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد: لِمَ فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحًا فيه، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظَّفَرُ به.
فصل
وأضرّ ما عليه: الإهمالُ، وتركُ المحاسبة، والاسترسالُ، وتسهيلُ الأمور، وتمشيتُها؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور: يُغمِض عينيه عن العواقب، ويُمشِّي الحال، ويتكل على العفو؛ فيهمل
(1)
محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب، وأنِس بها، وعَسُر عليه فطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحِمْية أسهل من الفطام وتركِ المألوف والمعتاد.
قال ابن أبى الدنيا: حدثني رجل من قريش ذكر أنه من ولد طلحة بن عبيد الله، قال: كان توبة بن الصمَّة بالرقة، وكان محاسبًا لنفسه، فحسب يومًا، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها، فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمس مائة يوم، فصرخ، وقال: يا ويلتا! ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب؟ كيف وفى كل يوم آلاف من الذنوب؟ ثم خرّ مغشيًّا عليه، فإذا هو ميت، فسمعوا قائلًا يقول: "يا لكِ ركضةً إلى الفردوس الأعلى!»
(2)
.
وجِمَاع ذلك: أن يحاسب نفسه أولًا على الفرائض، فإن تذكَّر فيها نقصًا تداركه، إما بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها على المناهي؛ فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خُلِق له تداركه بالذِّكْر والإقبال على الله، ثم يحاسبها بما تكلم به، أو مشت إليه رجلاه، أو بطشته يداه، أو سمعته أذناه: ماذا
(1)
م: «فيهمل» .
(2)
محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (76)، ورواه من طريقه البيهقي في الشعب (1/ 533).
أردتِ بهذا؟ ولمن فعلتيه
(1)
؟ وعلى أي وجه فعلتيه؟ ويعلم أنه لابد أن يُنشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لمن فعلته؟ وديوان: كيف فعلته؟
فالأول: سؤال عن الإخلاص، والثاني: سؤال عن المتابعة، قال تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]، وقال تعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6، 7]، وقال تعالى:{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8].
فإذا سُئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين؟
قال مقاتل
(2)
: «يقول تعالى: أخذنا ميثاقهم؛ لكي يسأل الله الصادقين ــ يعني به النبيين ــ عن تبليغ الرسالة» .
وقال مجاهد: «يسأل المبلِّغين المؤدِّين عن الرسل»
(3)
، يعني: هل بلَّغوا عنهم؟ كما يسأل الرسلَ: هل بلَّغوا عن الله؟
والتحقيق: [26 أ] أن الآية تتناول هذا وهذا، فالصادقون هم الرسل والمبلغون عنهم، فيسأل الرسل عن تبليغ رسالاته، ويسأل المبلِّغين عنهم عن تبليغ ما بلَّغتهم الرسل، ثم يسأل الذين بَلَغتهم الرسالة: ماذا أجابوا المرسلين؟ كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65].
(1)
كذا في الأصل، وفي بعض النسخ:«فعلته» .
(2)
تفسيره (3/ 36).
(3)
رواه ابن جرير في تفسيره (20/ 214) من طرق عن مجاهد، وعزاه في الدر المنثور (6/ 568) للفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
قال قتادة: كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فيُسأل عن المعبود وعن العبادة
(1)
.
وقال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8].
قال محمد بن جرير: «يقول تعالى: ثم ليسألنكم الله عز وجل عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا: ماذا عملتم فيه؟ ومن أين وصلتم إليه؟ وفيمَ أصبتموه؟ وماذا عملتم به؟»
(2)
.
وقال قتادة: «إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمته وحقه»
(3)
.
والنعيم المسؤول عنه نوعان:
نوع أُخذ من حِلِّه وصُرف في حقه، فيُسأل عن شُكره.
ونوع أُخذ بغير حِلِّه، وصُرف في غير حقه، فيُسأل عن مُسْتخرجه ومصرفه.
فإذا كان العبد مسؤولًا ومحاسبًا على كل شيء، حتى على سمعه وبصره وقلبه، كما قال تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يُناقش الحساب.
(1)
ذكره ابن تيمية كما في المجموع (15/ 105)، وابن القيم في طريق الهجرتين (ص 443)، وفي مدارج السالكين (1/ 341) من كلام أبي العالية، ولم أقف عليه.
(2)
انظر تفسيره (24/ 586).
(3)
رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 586) من طريق سعيد ومعمر ـ فرَّقهما ـ عن قتادة، وعزاه في الدر المنثور (8/ 612) لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقد دلَّ على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]، يقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: من الصالحات التي تُنجِيه، أم من السيئات التي تُوبِقه؟
قال قتادة: «ما زال ربُّكم يُقرِّب الساعة حتى جعلها كغدٍ»
(1)
.
والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها.
فصل
وفى محاسبة النفس عدة مصالح:
منها: الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مَقَتها في ذات الله.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء، قال:«لا يفقه الرجل كلَّ الفقه حتى يَمقُت الناسَ في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه؛ فيكون لها أشدَّ مقتًا»
(2)
.
(1)
رواه ابن جرير في تفسيره (23/ 299).
(2)
الزهد لأحمد (ص 134)، ورواه أيضًا عبد الرزاق (11/ 255)، وابن أبي شيبة (7/ 110)، وأبو داود في الزهد (ص 228)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (23)، وابن جرير في تفسيره (1/ 8)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (47/ 172 - 173)، من طرق عن أيوب عن أبي قلابة عنه، ورواه أبو نعيم في الحلية (1/ 211) من طريق أحمد، والبيهقي في الأسماء والصفات (619) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (792) من طريق عبد الرزاق، قال ابن حجر في الفتح (13/ 383):«رجاله ثقات إلا إنه منقطع» .
وقال مُطرِّف بن عبد الله: «لولا ما أعلم من نفسي لقَليتُ الناس»
(1)
.
وقال مُطرِّفٌ في دعائه بعرفة: «اللهم لا تَرُدَّ الناس لأجلي»
(2)
.
وقال بكرُ بن عبد الله المُزني: «لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غُفِر لهم، لولا أني كنت فيهم»
(3)
.
وقال أيوب السختياني: «إذا ذُكر الصالحون كنتُ عنهم بمعْزِل»
(4)
.
ولما احتُضِر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة، فقال له حماد: يا أبا عبد الله! أليس قد أمنت مما
(5)
كنت تخافه؟ وتقدمُ على مَنْ ترجوه، وهو أرحم الراحمين؟ فقال: يا أبا سلمة! أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال: إي والله، إني لأرجو ذلك
(6)
.
(1)
رواه ابن سعد في الطبقات (7/ 144)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 210) من طريق مهدي بن ميمون عن غيلان، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (24) من طريق إسماعيل بن علية عن صالح بن رستم، كلاهما عن مطرف، ولفظه من الطريق الأول:«لو حمدتُ نفسي لقليتُ الناس» .
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (25) عن رجل من بني نهشل عن مطرف.
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (26) من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه عن بكر بن عبد الله أو عن رجل، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الشعب (6/ 302).
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (28)، وابن عدي في الكامل (1/ 62)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 5 - 6)، والبيهقي في الشعب (6/ 302)، كلهم من طريق وهيب ابن خالد عن أيوب.
(5)
في الأصل: «آمنت بمن» .
(6)
رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (30) عن عبد الله بن داود قال: لما حضرت سفيان الثوري الوفاة قال لرجل: أدخل عليّ رجلين .. وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 151) عن ابن أبجر قال: لما حضرت سفيان الوفاة قال: يا ابن أبجر، قد نزل بي ما ترى فانظر من يحضرني
…
وذكر القصة.
وذكر ابن زيد
(1)
عن مسلم بن سعيد الواسطي، قال: أخبرني حمّاد بن جعفر بن زيد، أن أباه أخبره، قال: خرجنا في غزوة إلى كابُل، وفي الجيش صِلة بن أشيَم، فنزل الناس عند العتمة، فصلّوا ثم اضطجع، فقلت: لأرمُقَنّ عمله، فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثب فدخل غيضةً قريبًا منا، فدخلتُ على إثره، فتوضأ، ثم قام يصلي، وجاء أسدٌ حتى دنا منه، فصعدت في شجرةٍ، فتراهُ التفت أو عدّهُ جروًا! فلما سجد قلت: الآن يفترسه، فجلس ثم سلم، ثم قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكان آخر، فولّى وإن له لزئيرًا، أقول: تصدّع الجبال منه، قال: فما زال كذلك يصلي؛ حتى [26 ب] كان عند الصبح جلس، فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تُجِيرني من النار، ومثلي يجترئ أن يسألك الجنة، قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحتُ وبي من الفترة
(2)
شيءٌ الله به عالم
(3)
.
وقال يونس بن عبيد: «إني لأجد مئة خصلة من خصال الخير؛ ما أعلم أن في نفسي منها واحدةً
(4)
.
(1)
«ابن زيد» ساقطة من م.
(2)
ش: الفزع.
(3)
رواه ابن المبارك في الزهد (863)، ومن طريقه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (33) والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (836) وأبو نعيم في الحلية (2/ 240).
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (34) عن محمد بن عمر المقدمي، وأبو نعيم في الحلية (3/ 18) من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي، كلاهما عن سعيد بن عامر قال: بلغني عن يونس بن عبيد
…
ورواه المزي في تهذيب الكمال (32/ 524) من طريق أبي نعيم. وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 307) عن بشر بن الحارث عن يونس بن عبيد.
وقال محمد بن واسع: «لو كان للذنوب ريح ما قَدَرَ أحد أن يجلس إليّ»
(1)
.
وذكر ابن أبى الدنيا عن الجَلْدِ بن أيوب، قال:«كان راهب في بني إسرائيل في صومعة منذ ستين سنة، فأُتي في منامه، فقيل له: إن فلانًا الإسكاف خير منك ــ ليلة بعد ليلة ــ فأتى الإسكاف، فسأله عن عمله، فقال: إني رجل لا يكاد يمر بي أحد إلا ظننته أنه في الجنة وأنا في النار، ففُضِّل على الراهب بإزرائه على نفسه»
(2)
.
وذُكر داود الطائي عند بعض الأمراء، فأثنوا عليه، فقال:«لو يعلم الناس بعض ما نحن عليه ما ذلّ لنا لسانٌ بذكر خير أبدًا»
(3)
.
وقال أبو حفص: من لم يَتَّهِمْ نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في
(1)
ذكره أحمد في الورع (ص 152)، ورواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (37) عن إسماعيل بن علية قال: بلغني عن محمد بن واسع، ورواه أبو نعيم في الحلية (2/ 349) عن ابن علية عن يونس عن محمد بن واسع، ورواه الدينوري في المجالسة (157) من طريق عمارة بن زاذان، وابن عساكر في تاريخ دمشق (56/ 158) من طريق سفيان، كلاهما عن محمد بن واسع.
(2)
محاسبة النفس (41)، وقد اختصر المؤلف سياقه.
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (42)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (7/ 359).
جميع الأحوال، ولم يجرَّها إلى مكروهها في سائر أوقاته، كان مغرورًا، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها»
(1)
.
فالنفس داعية إلى المهالك، مُعينةٌ للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متَّبعة لكل سوء؛ فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة.
فالنعمة التي لا خَطَر لها: الخروج منها، والتخلصُ من رِقِّها، فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله، وأعرفُ الناس بها أشدُّهم إزراءً عليها، ومقتًا لها.
قال ابن أبى حاتم في «تفسيره»
(2)
: حدثنا علي بن الحسن
(3)
، حدثنا المُقَدَّمي، حدثنا عامر بن صالح عن أبيه، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال: اللهم اغفر لي ظلمي وكفري، فقال قائل: يا أمير المؤمنين! هذا الظلم، فما بال الكفر؟ قال:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} .
قال: وحدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، عن الصلت بن دينار، حدثنا بقية بن صُهبان
(4)
الهُنائي، قال: سألت عائشة عن قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الآية [فاطر: 32] فقالت: يا بني! هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى
(1)
انظر: الرسالة القشيرية (ص 189). وأبو حفص هذا هو عمرو وقيل: عمر بن سلمة النيسابوري، له ترجمة في طبقات الصوفية (ص 103 - 109)، وحلية الأولياء (10/ 229 - 230).
(2)
عزاه إليه في الدر المنثور (5/ 45).
(3)
ح: «الحسين» .
(4)
ح: «نبهاني» .
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة والرزق، وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم»؛ فجعلت نفسها معنا
(1)
.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شَرِيكٌ، عن عاصم، عن أبى وائل عن مسروق، قال: دخل عبد الرحمن على أم سلمة، فقالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ مِنْ أصْحَابي لمَنْ لا يَرَانِي بَعْدَ أَنْ أَمُوتَ أَبَدًا» ، فخرج عبد الرّحمن من عندها مذعورًا، حتّى دخل على عمر، فقال له: اسمع ما تقول أمّك! فقام عمر حتّى أتاها؛ فدخل عليها فسألها، ثمّ قال: أنشدك بالله، أمنهم أنا؟ قالت: لا، ولن أبرّئ بعدك أحدًا
(2)
.
(1)
هو في مسند أبي داود الطيالسي (1489)، ورواه أيضًا الطبراني في الأوسط (6094) والثعلبي في الكشف والبيان (8/ 109) من طريق الصلت، وعزاه في الدر المنثور (7/ 24) لعبد بن حميد وابن مردويه، وصححه الحاكم (3593)، وتعقبه الذهبي بقوله:«الصلت قال النسائي: ليس بثقة، وقال أحمد: ليس بالقوي» ، وقال الهيثمي في المجمع (7/ 216):«فيه الصلت بن دينار وهو متروك» ، وضعفه البوصيري في إتحاف الخيرة (6/ 258)، وهو في السلسلة الضعيفة (3235).
(2)
مسند أحمد (6/ 312)، ورواه أحمد أيضًا (6/ 298) عن أسود بن عامر، والطبراني في الكبير (23/ 317) من طريق أبي نعيم، كلاهما عن شريك به. ورواه الطبراني (23/ 318) من طريق عمرو بن أبي قيس وإسرائيل ـ فرَّقهما ـ عن عاصم به. ورواه ابن راهويه في مسنده (1913)، وأحمد (6/ 290، 307، 317)، والبرقي في مسند عبد الرحمن بن عوف (46)، وأبو يعلى (7003)، والطبراني في الكبير (23/ 319) من طرق عن الأعمش عن أبي وائل عن أم سلمة، قال الهيثمي في المجمع (9/ 72):«رواه البزار ورجاله رجال الصحيح» ، وهو في السلسلة الصحيحة (2982).