المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد» - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي انقسام القلوب إلى صحيحٍ وسقيمٍ ومَيّتٍ

- ‌الباب الثانيفي ذكر حقيقة مرض القلب

- ‌ حال القلوب عند ورود الحق المنزل

- ‌الباب الثالثفي انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبعية وشرعية

- ‌الباب الرابعفي أن حياة القلب وإشراقه مادةُ كل خير فيه وموتَه وظلمتَه مادةُ كل شر فيه

- ‌ضرب الله سبحانه المثلَين المائيَّ والناريَّ لوحيه ولعباده

- ‌الباب الخامسفي أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدركًا للحقِّ مريدًا له، مُؤْثِرًا له على غيره

- ‌الباب السادسأنه لا سعادة للقلب ولا لذةَ ولا نعيمَ ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه

- ‌ المقدور يكتنفه(1)أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه

- ‌ تعلُّق العبد بما سوى الله تعالى مَضَرة عليه

- ‌مُحِبُّ الدنيا لا ينفكُّ من ثلاث: هَمٍّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي

- ‌ غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم بك، وإن أضرَّ ذلك بدينك ودنياك

- ‌الباب السابعفي أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه

- ‌الباب الثامنفي زكاة القلب

- ‌إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته

- ‌ الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته

- ‌ زكاة القلب موقوفة على طهارته

- ‌الباب التاسعفي طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

- ‌ خبث الملبس يُكسِبُ القلب هيئةً خبيثة

- ‌ العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه

- ‌ معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهِّرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد»

- ‌ عشق الصور المحرّمة نوع تَعَبُّدٍ لها

- ‌لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا

- ‌ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ

- ‌مَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين

- ‌ فوائد نظر العبد في حق الله عليه:

- ‌الباب الثاني عشرفي علاج مرض القلب بالشيطان

- ‌الباب الثالث عشرفي مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم

- ‌ تغيير الفطرة

- ‌ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها

- ‌الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه:

- ‌الفصل الأولفي النية في الطهارة والصلاة

- ‌ النية قصد فعل الشيء

- ‌إن شك في حصول نيّته فهو نوع جنون

- ‌الشرك وتحريم الحلال قرينان

- ‌ الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:

- ‌ لا تجد أحدًا عُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى

- ‌فصلالاسم الثاني والثالث: الزور، واللغو

- ‌فصلالاسم الرابع: الباطل

- ‌ حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

- ‌ حديث عائشة رضي الله عنها:

- ‌المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة

- ‌المحرَّمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها

- ‌القربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها

- ‌الأفعال الموجبة للتحريم لا يُعتبر لها العقل، فضلًا عن القصد

- ‌ الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع

- ‌ الحيل نوعان: أقوال، وأفعال

الفصل: ‌ معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد»

التوّابين، واجعلني من المتطهِّرين»

(1)

، فطهارة القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء. فلما اجتمع له طهوران صلح للدخول على الله، والوقوف بين يديه ومناجاته.

وسألت شيخ الإسلام عن‌

‌ معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهِّرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد»

(2)

، كيف تُطهَّر الخطايا بذلك؟ وما فائدة التخصيص بذلك؟ وقوله في لفظ آخر:«والماء البارد» ، والحارُّ أبلغ في الإنقاء؟

فقال: الخطايا تُوجب للقلب حرارةً ونجاسة وضعفًا، فتُرخي القلبَ، وتُضْرِمُ

(3)

فيه نارَ الشهوة، وتنجِّسه، فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمدُّ النار ويوقدها، ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه، والماء يغسل الخبث ويُطفئ النار، فإن كان باردًا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبردٌ كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدَّته، فكان أذهبَ لأثرِ الخطايا.

(1)

جزء من حديث رواه الترمذي (55) عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء» ، وأعله بالاضطراب، وهو في صحيح مسلم (234) بدون قوله:«اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» ، وحسنه ابن القيم في المنار المنيف (ص 121)، وصححه الألباني في الإرواء (96). وفي الباب عن علي وثوبان وأنس والبراء رضي الله عنهم.

(2)

أخرجه البخاري (744)، ومسلم (598) عن أبي هريرة.

(3)

م: «فيرتخي القلب وتضطرم» .

ص: 96

هذا معنى كلامه، وهو محتاجٌ إلى مزيد بيان وشرح، فاعلم أن هاهنا أربعة أمور: أمران حسِّيَّان، وأمران معنويَّان:

فالنجاسة التي تزول بالماء هي ومُزِيلها حسيَّان، وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار؛ هي ومزيلها معنويَّان، وصلاح القلب وحياته ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم من كل شطر قسمًا، نبّه به على القسم الآخر، فتضمنت كلماته الأقسام الأربعة في غاية الاختصار، وحسن البيان. كما في حديث الدعاء بعد الوضوء:«اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهِّرين» ؛ فإنه يتضمن ذكر الأقسام الأربعة.

ومن كمال بيانه صلى الله عليه وسلم، وتحقيقه لما يخبر به ويأمر به: تمثيل

(1)

الأمر المطلوب المعنوي بالأمر المحسوس، وهذا كثير في كلامه، كقوله في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه:«سل الله الهدى والسداد، واذكُر بالهدى هدايتَك الطريق، وبالسداد سَداد السّهم»

(2)

؛ وهذا من أبلغ التعليم والنصح، حيث أمره أن يذكر ــ إذا سأل الله الهدى إلى طريق رضاه وجنته ــ كونَه مسافرًا، وقد ضل عن الطريق، فلا يدري أين يتوجه، فطلع له رجل خبير بالطريق عالم بها، فسأله أن يدلَّه على الطريق، فهكذا شأن طريق الآخرة تمثيلاً لها بالطريق المحسوس للمسافر، وحاجة المسافر ــ إلى الله ــ سبحانه إلى من

(3)

يهديه تلك الطريق، أعظم من حاجة المسافر إلى بلد إلى من يدلُّه على الطريق الموصل إليها.

(1)

الأصل، م، ظ:«يمثل» ، ش:«مثل» ، والمثبت من ح، ت.

(2)

أخرجه مسلم (2725).

(3)

م: «أن» .

ص: 97

وكذلك السداد، هو إصابة القصد قولاً وعملاً؛ فَمَثَلُهُ مَثَلُ رامي السهم، إذا وقع سهمه في نفس الشيء الذي رماه؛ فقد سدّد سهمه وأصاب، ولم يقع باطلاً، فهكذا المصيب للحق في قوله وعمله بمنزلة المصيب في رميه، وكثيرًا ما يُقْرَنُ في القرآن هذا وهذا.

فمنه قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]؛ أمر الحاجّ بأن يتزودوا لسفرهم، ولا يسافروا بغير زاد، ثم نبههم على زاد سفر الآخرة، وهو التقوى، فكما أنه لا يصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يُبلِّغه إياه، فكذلك المسافر إلى الله والدار الآخرة لا يصل إلا بزاد من التقوى، [18 أ] فجمع بين الزادين.

ومنه قوله سبحانه وتعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]؛ فجمع بين الزينتين: زينة البدن باللباس، وزينة القلب بالتقوى؛ زينة الظاهر والباطن، وجمال الظاهر والباطن.

ومنه قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]؛ فنفى عنه الضلال الذي هو عذاب القلب والروح، والشقاء الذي هو عذاب البدن والروح أيضًا، فهو منعَّم القلب والبدن بالهدى والفلاح.

ومنه قول امرأة العزيز عن يوسف لما أرَتْهُ النسوةَ اللائمات لها في حُبِّه: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} ، فأرَتْهُنَّ جماله الظاهر، ثم قالت:{وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32]، فأخبرت عن جماله الباطن بعفَّته، فأخبرَتْهن بجمال باطنه، وأرتهُنَّ جمال ظاهره.

ص: 98

فنبَّه صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهم طهِّرْني من خطاياي بالماء والثلج والبرد» على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يُطهّرُهما ويُبرِّدهما ويقوّيهما، وتضمن دعاؤه سؤالَ هذا وهذا، والله أعلم.

وقريبٌ من هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: «غفرانك»

(1)

.

وفي هذا من السر ــ والله أعلم ــ أن النّجْوَ يُثقِل البدنَ ويؤذيه باحتباسه، والذنوب تُثقِل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه، فهما مُؤذيان مُضِرَّان بالبدن والقلب، فحمد الله عند خروجه على خلاصه منْ هذا المؤذي لبدنه، وخفة البدن وراحته، وسأله أن يُخلِّصه من المؤذي الآخر ويُرِيح قلبه منه ويخففه.

وأسرار كلماته وأدعيته صلى الله عليه وسلم فوق ما يخطر بالبال.

فصل

وقد وسَم الله سبحانه الشرك والزنى واللواط بالنجاسة والخبث في كتابه دون سائر الذنوب، وإن كانت مشتملة على ذلك، لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وقوله في حق اللوطية: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي

(1)

رواه أحمد (6/ 155)، والبخاري في الأدب المفرد (693)، وأبو داود (30)، والترمذي (7)، وابن ماجه (300)، وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها، وحسنه الترمذي، وصححه ابن الجارود (42)، وابن خزيمة (90)، وابن حبان (1444)، والحاكم (562)، والنووي في المجموع (2/ 75) وفي غيره، وابن الملقن في البدر المنير (2/ 394) وفي غيره، وابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 214)، وهو مخرج في الإرواء (52).

ص: 99

كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74]، وقالت اللوطية:{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]، فأقرُّوا مع شركهم وكفرهم أنهم هم الأخابث الأنجاس، وأن لوطًا وآله مطهرون من ذلك باجتنابهم له، وقال تعالى في حق الزُّناة:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26].

فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلَّظة، ونجاسة مخفَّفة، فالمغلَّظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الله لا يغفر أن يُشرَك به، والمخفَّفة: الشرك الأصغر؛ كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، والحلف به، وخوفه، ورجائه.

ونجاسة الشرك عينية، ولهذا جعل سبحانه المشرك نَجَسًا بفتح الجيم، ولم يقل: إنما المشركون نجِس بالكسر؛ فإن النجَس عين النجاسة، والنجِس بالكسر هو المتنجس، فالثوب إذا أصابه بول أو خمر نَجِسَ، والبول والخمر نجَس، فأنجس النجاسة الشرك، كما أنه أظلم الظلم؛ فإن النجَس في اللغة والشرع هو المستقْذَر الذي تُطْلَب مباعدتُه والبعد منه، بحيث لا يُلْمَسُ ولا يُشَمُّ ولا يُرى، فضلاً أن يُخالط ويلابس؛ لقذارته ونُفْرة الطباع السليمة منه، وكلما كان الحي أكمل حياةً وأصحَّ حياءً كان إبعاده لذلك [18 ب] أعظم، ونفرته منه أقوى.

فالأعيان النجسة إما أن تُؤذي البدن، أو القلب، أو تؤذيهما معًا. والنجَس قد يؤذي برائحته

(1)

، وقد يؤذي بملابسته، وإن لم تكن له رائحة كريهة.

(1)

الأصل: «تؤذي رائحته» . والمثبت من بقية النسخ.

ص: 100

والمقصود أن النجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة، وتارة تكون معنوية باطنة، فيغلب على الروح والقلب الخبثُ والنجاسة، حتى إن صاحب القلب الحي ليَشَمُّ من تلك الروح والقلب رائحةً خبيثة يتأذى بها، كما يتأذى من يشَمَّ رائحة النّتْن، ويظهر ذلك كثيرًا في عَرَقِهِ، حتى يجد لرائحة عَرَقِه نتنًا، فإن نَتْن القلب والروح يتصل بباطن البدن أكثر من ظاهره، والعَرق يَفِيض من الباطن، ولهذا كان الرجل الصالح طيبَ العرق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الناس عرقًا، قالت أم سُلَيم ــ وقد سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وهي تلتقطه ــ: هو من أطيب الطيب

(1)

.

فالنفس النجسة الخبيثة يقوى خبثُها ونجاستها حتى يبدوَ على الجسد، والنفسُ الطيبة بضدها، فإذا تجردت وخرجت من البدن وُجِدَ لهذه كأطيب نَفْحَة مسكٍ وُجِدتْ على وجه الأرض، ولتلك كأنتن ريح جِيفةٍ وُجدتْ على وجه الأرض.

والمقصود أن الشرك لما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، كان أبغضَ الأشياء إلى الله وأكرهَها له، وأشدها مقتًا لديه، ورتَّب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتِّبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نَجَس، ومنعَهم من قُرْبان حَرَمِهِ، وحرّم ذبائحهم ومناكحهم، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وجعلهم أعداءً له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يتخذوهم عبيدًا. وهذا لأن الشرك هَضْمٌ لحق الربوبية، وتنقُّصٌ لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، كما قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ

(1)

أخرجه مسلم (2331).

ص: 101

وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6].

فلم يُجمَع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جُمِع على أهل الإشراك؛ فإنهم ظنوا به ظنَّ السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحَّدوه حق توحيده، ولهذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قَدَروه حقَّ قدره في ثلاثة

(1)

مواضع من كتابه

(2)

؛ وكيف يَقدِرُه حقَّ قدره من جعل له عِدْلاً ونِدًّا يحبه، ويخافه، ويرجوه، ويَذِلُّ له، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويُؤْثِرُ مَرْضَاتَهُ؟

قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]، وقال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]؛ أي يجعلون له عِدْلاً في العبادة والمحبة والتعظيم.

وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا في النار أنها كانت ضلالاً وباطلاً، فيقولوا لآلهتهم وهم في النار مَعَهُمْ:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98]، ومعلوم أنهم ما سوَّوهم

(3)

به في الذات والصفات والأفعال، ولا

(1)

م، ظ، ت:«ثلاث» .

(2)

هي في سورة الأنعام/91، وسورة الحج/ 74، وسورة الزمر/ 67.

(3)

الأصل: «ساووهم» .

ص: 102

قالوا: إن آلهتهم خلقت السماوات والأرض، وإنها تحيي وتميت، [19 أ] وإنما سوَّوها

(1)

به في محبتهم لها، وتعظيمهم لها، وعبادتهم إياها، كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب

(2)

إلى الإسلام.

ومن العجب أنهم يَنْسُبون أهل التوحيد إلى التنقُّص بالمشايخ والأنبياء والصالحين، وما ذنبهم إلا أن قالوا: إنهم عبيد، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وإنهم لا يشفعون لعابديهم أبدًا، بل قد حرَّم الله شفاعتَهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها له سبحانه، والولاية له، فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع.

فالشرك والتعطيل مبنيَّان على سوء الظن بالله، ولهذا قال إمام الحنفاء عليه السلام لخصمائه من المشركين:{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 86، 87]، وإن كان المعنى: ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به، وقد عبدتم معه غيره، وجعلتم له نِدًّا؟ فأنت تجد تحت هذا التهديد: ما ظننتم بربكم من السوء حتى عبدتم معه غيره؟

فإن المشرك إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يُدبِّر أمرَ العالم معه من وزير أو ظهير أو عون، وهذا أعظم التنقيص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته، وكلُّ ما سواه فقير إليه بذاته، وإما أن يظن أنه سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك، وإما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يُعْلِمَهُ الواسطة، أو لا

(1)

الأصل: «ساووها» .

(2)

في بعض النسخ: «ينسب» .

ص: 103

يرحم حتى تجعله الواسطة يرحم، أو لا يكفي وحدَه، أو لا يفعل ما يريد بالعبد

(1)

حتى يشفع عنده الواسطة، كما يشفع المخلوق عند المخلوق، فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به، وتكثُّرِه به من القِلّة، وتعزُّزِه به من الذّلة، أو لا يجيب دعاء عباده، حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه، كما هو حال ملوك الدنيا، وهذا أصل شرك الخلق، أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم، حتى ترفع الوسائط إليه ذلك، أو يظن أن للمخلوق عليه حقًا؛ فهو يُقْسِم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه بذلك المخلوق، كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يَعِزُّ عليهم ولا يمكنهم مخالفته.

وكل هذا تنقُّصٌ للربوبية، وهَضْمٌ لحقها، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله وخوفِه ورجائه والتوكلِ عليه والإنابةِ إليه من قلب المشرك؛ بسبب قسمة ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به، فينقص ويضعف أو يضمحلُّ ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء؛ بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عَبَده من دونه.

فالشرك ملزومٌ لتنقُّص الرب سبحانه، والتنقص لازم له ضرورةً، شاء المشرك أم أبى، ولهذا اقتضى حمدُه سبحانه وكمالُ ربوبيته ألا يغفره، وأن يُخلِّد صاحبَه في العذاب الأليم، ويجعله أشقى البرية، فلا تجد مشركًا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه، وإن زعم أنه يُعظِّمه

(2)

بذلك، كما أنك لا تجد مبتدعًا إلا وهو متنقص للرسول، وإن زعم أنه معظِّم له بتلك البدعة؛ فإنه

(1)

م، ث، ظ:«العبد» ، والمثبت من ح.

(2)

في م: «معظِّم له» .

ص: 104

يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب، ويزعم أنها هي السنة إن كان جاهلاً مقلِّدًا، وإن كان مستبصرًا في بدعته فهو مشاقٌّ لله ورسوله.

فالمتنقِّصون المنقوصون عند الله ورسوله وأوليائه: هم أهل الشرك والبدعة، ولا سيما من بَنَى دينه على أن كلام الله ورسوله أدلة لفظية لا تفيد الىقين، ولا تُغني من الىقين والعلم شيئًا. فيا لله [19 ب] للمسلمين! أيُّ شيء فات هذا من التنقص؟

وكذلك من نفى صفات الكمال عن الرب تعالى، خشيةَ ما يتوهمه من التشبيه والتجسيم لله؛ فقد جاء من التنقص بضدِّ ما وصف اللهُ سبحانه به نفسَه من الكمال.

والمقصود أن هاتين الطائفتين هم أهل التنقص في الحقيقة، بل هم أعظم الناس تنقصًا، لبّس عليهم الشيطان، حتى ظنوا أن تنقُّصهم هو الكمال، ولهذا كانت البدعة قرينة الشرك في كتاب الله تعالى، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

فالإثم والبغي قرينان، والشرك والبدعة قرينان.

فصل

وأما نجاسة الذنوب والمعاصي فإنها بوجه آخر؛ فإنها لا تستلزم تنقيص الربوبية، ولا سوء الظن بالله عز وجل، ولهذا لم يُرتِّب الله سبحانه عليها من العقوبات والأحكام ما رتبه على الشرك، وهكذا

(1)

استقرّت الشريعة على

(1)

م: «ولهذا» .

ص: 105