المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشرك وتحريم الحلال قرينان - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي انقسام القلوب إلى صحيحٍ وسقيمٍ ومَيّتٍ

- ‌الباب الثانيفي ذكر حقيقة مرض القلب

- ‌ حال القلوب عند ورود الحق المنزل

- ‌الباب الثالثفي انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبعية وشرعية

- ‌الباب الرابعفي أن حياة القلب وإشراقه مادةُ كل خير فيه وموتَه وظلمتَه مادةُ كل شر فيه

- ‌ضرب الله سبحانه المثلَين المائيَّ والناريَّ لوحيه ولعباده

- ‌الباب الخامسفي أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدركًا للحقِّ مريدًا له، مُؤْثِرًا له على غيره

- ‌الباب السادسأنه لا سعادة للقلب ولا لذةَ ولا نعيمَ ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه

- ‌ المقدور يكتنفه(1)أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه

- ‌ تعلُّق العبد بما سوى الله تعالى مَضَرة عليه

- ‌مُحِبُّ الدنيا لا ينفكُّ من ثلاث: هَمٍّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي

- ‌ غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم بك، وإن أضرَّ ذلك بدينك ودنياك

- ‌الباب السابعفي أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه

- ‌الباب الثامنفي زكاة القلب

- ‌إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته

- ‌ الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته

- ‌ زكاة القلب موقوفة على طهارته

- ‌الباب التاسعفي طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

- ‌ خبث الملبس يُكسِبُ القلب هيئةً خبيثة

- ‌ العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه

- ‌ معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهِّرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد»

- ‌ عشق الصور المحرّمة نوع تَعَبُّدٍ لها

- ‌لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا

- ‌ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ

- ‌مَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين

- ‌ فوائد نظر العبد في حق الله عليه:

- ‌الباب الثاني عشرفي علاج مرض القلب بالشيطان

- ‌الباب الثالث عشرفي مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم

- ‌ تغيير الفطرة

- ‌ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها

- ‌الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه:

- ‌الفصل الأولفي النية في الطهارة والصلاة

- ‌ النية قصد فعل الشيء

- ‌إن شك في حصول نيّته فهو نوع جنون

- ‌الشرك وتحريم الحلال قرينان

- ‌ الأمور المبتدعة عند القبور مراتب:

- ‌ لا تجد أحدًا عُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى

- ‌فصلالاسم الثاني والثالث: الزور، واللغو

- ‌فصلالاسم الرابع: الباطل

- ‌ حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

- ‌ حديث عائشة رضي الله عنها:

- ‌المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة

- ‌المحرَّمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها

- ‌القربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها

- ‌الأفعال الموجبة للتحريم لا يُعتبر لها العقل، فضلًا عن القصد

- ‌ الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع

- ‌ الحيل نوعان: أقوال، وأفعال

الفصل: ‌الشرك وتحريم الحلال قرينان

السمحة».

فجمع بين كونها حنيفية وكونها سمحة، فهي حنيفية في التوحيد، سَمحة في العمل.

وضد الأمرين: الشرك وتحريم الحلال، وهما اللَّذانِ ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال:«إني خلقت عِبادي حُنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم [46 أ] أنزل به سلطانًا»

(1)

.

ف‌

‌الشرك وتحريم الحلال قرينان

. وهما اللذان عابهما الله في كتابه على المشركين في سورة الأنعام

(2)

والأعراف

(3)

.

وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم المتنطِّعين في الدِّين، وأخبر بهلكَتهم حيث يقول:«ألا هلك المتنطِّعون، ألا هلك المتنطِّعون، ألا هلك المتنطِّعون»

(4)

.

وقال ابن أبي شيبة

(5)

: حدثنا أبو أسامة، عن مِسْعر، قال: أخرج إليّ

(1)

أخرجه مسلم (2865) عن عياض بن حمار المجاشعي.

(2)

الآية 148.

(3)

الآية 33.

(4)

أخرجه مسلم (2670) عن ابن مسعود.

(5)

مسند ابن أبي شيبة (428)، وعنه أبو يعلى (5022)، ورواه ابن راهويه في مسنده ـ كما في المطالب العالية (3265) ـ عن أبي أسامة به، ورواه الدارمي (138) عن محمد بن قدامة، والطبراني في الكبير (10/ 174) ـ بالمرفوع فقط ـ والهروي في ذم الكلام (522) من طريق عثمان بن أبي شيبة، كلاهما عن أبي أسامة به، قال البوصيري في إتحاف الخيرة (7317)، والهيثمي في المجمع (10/ 440):«رواته ثقات» ، وهم من رجال الشيخين، لكن في سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه خلاف.

ص: 293

مَعْنُ بن عبد الرحمن كتابًا، وحلف بالله أنه خَطُّ أبيه، فإذا فيه: قال عبد الله: والله الذي لا إله غيره، ما رأيت أحدًا كان أشد على المتنطعين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رأيت بعده أشدَّ خوفًا عليهم من أبي بكر، وإني لأظن عمر كان أشد أهل الأرض خوفًا عليهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يبغض المتعمِّقين، حتى إنه لمَّا واصل بهم ورأى الهلال قال:«لو تأخر الهلال لواصلتُ وِصالًا يدعُ المتعمّقون تعمقهم» ؛ كالمنكِّل بهم

(1)

.

وكان الصحابة أقل الأمة تكلفًا، اقتداءً بنبيهم صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «من كان منكم مُستنًّا؛ فليستنّ بمن قد مات؛ فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولإقامة دينه، فاعْرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم؛ فإنهم كانوا على الهَدْي المستقيم»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (7299)، ومسلم (1103) عن أبي هريرة.

(2)

رواه ابن بطة ـ كما في منهاج السنة (2/ 39) ـ وابن عبد البر في جامع بيان العلم (926) والهروي في ذم الكلام (746) من طريق قتادة عنه، وقتادة لم يدرك ابنَ مسعود. وروى أبو نعيم في الحلية (1/ 305، 306) نحوَه عن ابن عمر. وروي عن الحسن البصري بعضُه أو قريب منه.

ص: 294

وقال أنس رضي الله عنه: «كنا عند عمر، فسمعته يقول: نُهِينا عن التكلف»

(1)

.

وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: «سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور بعده سُننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفها، من اقتدى بها فهو مهتدٍ، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتّبع غير سبيل المؤمنين ولّاه الله ما تولّى، وأصْلاه جهنم، وساءت مصيرًا»

(2)

.

وقال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب كان يقول: «سُنّتْ لكم السنن، وفُرِضت لكم الفرائض؛ وتُرِكتُم على الواضحة؛ إلا أن تميلوا بالناس يمينًا وشمالًا»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (7293).

(2)

رواه عبد الله بن أحمد في السنة (766)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1218) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، وابن أبي حاتم في تفسيره (5969) من طريق ابن وهب، والآجري في الشريعة (92، 139، 698) وأبو نعيم في الحلية (6/ 324) من طريق مطرف بن عبد الله، ثلاثتهم عن مالك به. ورواه اللالكائي في أصول الاعتقاد (134) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 435، 436) من طريق رشدين بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب عن عمر.

(3)

رواه مالك (1506)، ومسدد ـ كما في إتحاف الخيرة (3501) ـ وابن سعد في الطبقات (3/ 334) وابن شبّة في أخبار المدينة (1477) والحاكم (4513) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1220) وابن الجوزي في نواسخ القرآن (ص 35) عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر، وهذا إسناد رجاله رجال الصحيح، لكن في سماع ابن المسيب من عمر خلاف، قال ابن عبد البر في التمهيد (12/ 116):«رواية سعيد عن عمر تجري مجرى المتصل، وجائز الاحتجاج بها عندهم؛ لأنه قد رآه، وقد صحّح بعض العلماء سماعه منه» ، وصحّح هذا الأثر الشاطبي في الاعتصام (1/ 77).

ص: 295

وقال صلى الله عليه وسلم: «يَحمِل هذا العلمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»

(1)

.

فأخبر أن الغالين يُحرِّفون ما جاء به، والمبطلين ينتحلون أن باطلهم هو ما كان عليه، والجاهلون يتأوّلونه علي غير تأويله. وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاثة، فلولا أن الله سبحانه يقيم لدينه من ينفي عنه ذلك، لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء.

(1)

رواه ابن وضاح في البدع (1)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 256)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/ 17)، وابن حبان في الثقات (4/ 10)، والآجري في الشريعة (1، 2)، وابن عدي في الكامل (1/ 118، 146 - 147، 2/ 79)، وغيرهم من طرق عن معان بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرفوعًا، وهذا مرسل أو معضل، ووقع في سنده اضطراب، ومُعان ليّن الحديث كثير الإرسال؛ ولذا ضعَّفه ابن القطان في بيان الوهم (3/ 40)، والأبناسي في الشذا الفياح (1/ 239)، وقال ابن كثير في الباعث الحثيث (1/ 238):«في صحته نظر قوي، والأغلب عدم صحته» ، وفي الباب عن ابن عباس وابن عمرو وأبي هريرة وجابر بن سمرة وعلي وابن عمر وأنس وأبي أمامة وأبي الدرداء ومعاذ وابن مسعود، قال العراقي في التقييد والإيضاح (ص 139):«كلها ضعيفة، لا يثبت منها شيء، وليس فيها شيء يقوّي المرسل» ، وروى الخلال في العلل ــ كما في مفتاح دار السعادة (1/ 164) ــ عن مهنا قال: سألت أحمد عن حديث معان عن إبراهيم العذري فقلت لأحمد: كأنه موضوع! قال: لا هو صحيح. وممن ذهب إلى تقويته بتعدّد طرقه ابن القيم في طريق الهجرتين (ص 522)، والزركشي في النكت (3/ 334)، وقال القاسمي في قواعد التحديث (ص 49):«تعدد طرقه يقضي بحسنه كما جزم به العلائي» .

ص: 296

فصل

ومن ذلك: الوسوسةُ في مخارج الحروف، والتنطُّعُ فيها.

ونحن نذكر ما ذكره العلماء بألفاظهم:

قال أبو الفرج بن الجوزي

(1)

: «قد لَبّس إبليس على بعض المصلين في مخارج الحروف، فتراه يقول: الحمد، الحمد، فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة، وتارة يُلبِّس عليه في تحقيق التشديد في إخراج ضاد {المغضوب}. قال: ولقد رأيت من يخرج بُصاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده، والمراد تحقيق الحرف حسْبُ، وإبليس يُخْرِج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق، ويَشْغلهم بالمبالغة في الحروف عن فهم التلاوة، وكل هذه الوساوس من إبليس» .

وقال أبو محمد بن قُتيبة في «مشكل القرآن»

(2)

: «وقد كان الناس يقرأون القرآن بلغاتهم، ثم خَلَف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم، ليس لهم طبع اللغة، ولا علمُ التكلف، فهفَوا في كثير من الحروف، وزلُّوا وأخلُّوا، ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، [46 ب] وقرّبه من القلوب بالدين، فلم أرَ فيمن تتبعت

(3)

في وجوه قراءته أكثر تخليطًا ولا أشد اضطرابًا منه؛ لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره، ثم يؤصّل أصلًا ويخالفه إلى غيره بغير عِلَّةٍ، ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج

(1)

تلبيس إبليس (ص 140).

(2)

ص 58 ــ 60.

(3)

في الأصل: «ينعبث» ، وفي بعض النسخ:«يتعنت» . والتصويب من المصدر الذي نقل عنه المؤلف.

ص: 297

له إلا على طلب الحيلة الضعيفة. هذا إلى نَبْذِه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، بإفراطه في المدّ والهمز والإشباع، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام، وحَملِه المتعلِّمين على المذهب الصّعْب، وتَعْسيره على الأمة ما يَسّره الله تعالى، وتضييقه ما فَسَحه. ومن العجب أنه يُقرِئ الناس بهذه المذاهب، ويكره الصلاة بها! ففي أيّ موضع تُستعمل هذه القراءة، إن كانت الصلاة لا تجوز بها؟ وكان ابن عُيَينة يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه، أو ائتمّ بإمام يقرأ بقراءته: أن يعيد، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين، منهم بِشر بن الحارث، وأحمد بن حنبل.

وقد شُغف بقراءته عوامُّ الناس وسُوقتُهم، وليس ذلك إلا لما يرونه من مَشقّتها وصعوبتها، وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها، فإذا رأوه قد اختلف في أمّ الكتاب عشرًا، وفي مئة آية شهرًا، وفي السبع الطّول حَولًا، ورأوه عند قراءته مائِلَ الشِّدْقين، دارَّ الوَريديْن، راشحَ الجبينيَنِ: توهموا أن ذلك لفضلِه في القراءة، وحِذْقِه بها، وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خِيارِ السلف ولا التابعين، ولا القُرّاء

(1)

العالِمين، بل كانت سهلة رَسْلَة».

وقال الخلّال في «الجامع» : عن أبي عبد الله، أنه قال:«لا أحب قراءة فلان» ، يعني هذا الذي أشار إليه ابن قتيبة، وكرهها كراهية شديدة، وجعل يَعْجب من قراءته، وقال:«لا تعجبني، فإن كان رجلٌ يقبلُ منك فانْهَه» .

وحُكي عن ابن المبارك، عن الرّبيع بن أنس: أنه نهاه عنها.

وقال الفضلُ بن زياد: إن رجلًا قال لأبى عبد الله: فما أتركُ من قراءته؟ قال: «الإدغام والكسر، ليس يُعرف في لغة من لغات العرب» .

(1)

في الأصل: «القرأة» .

ص: 298

وسأله عبد الله ابنُه عنها، فقال:«أكره الكسر الشديد والإضجاع» .

وقال في موضع آخر: «إن لم يُدْغم ولم يُضْجع ذلك الإضجاع فلا بأس» .

وسأله الحسن بن محمد بن الحارث: أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة؟ قال: «أكرهه أشدَّ كراهة، إنما هي قراءة مُحْدَثة» ؛ وكرهها شديدًا حتى غضب.

وروى عنه ابن سِنْدِي أنه سئل عنها، فقال:«أكرهها أشد الكراهية» ، قيل له: ما تكره منها؟ قال: «هي قراءة مُحْدَثة، ما قرأ بها أحد» .

وروى جعفر بن محمد عنه، أنه سئل عنها فكرهها، وقال:«كرهها ابن إدريس» ، وأُراه قال:«وعبد الرحمن بن مهدي» ، وقال:«ما أدري، أيشٍ هذه القراءة؟» ، ثم قال:«وقراءتهم ليس تشبه كلام العرب» .

وقال عبد الرحمن بن مهدي: «لو صليتُ خلف من يقرأ بها لأعدتُ الصلاة» .

ونص أحمد على أنه يُعيد، وعنه رواية أخرى: أنه لا يعيد.

والمقصود: أن الأئمة

(1)

كرهوا التنطّع والغُلُوّ في النطق بالحرف.

ومن تأمّل هَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم، تبيّن له أن التنطع والتشدّق والوسوسة في إخراج الحرف ليس من سنّته.

(1)

م، ظ، ت:«الأمة» .

ص: 299

فصل

في الجواب عما احتج به أهل الوسواس

أما قولهم: إن ما نفعله احتياط لا وسواس.

قلنا: سمُّوه ما شئتم، فنحن نسألكم: هل هو موافق لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره وما كان عليه أصحابه؛ أو مخالف؟

فإن زعمتم أنه موافق فبَهْتٌ وكذب صريح، فإِذَنْ لا بد من الإقرار بعدم موافقته، وأنه مخالف له، فلا ينفعكم تسمية ذلك [47 أ] احتياطًا، وهذا نظير مَن ارتكب محظورًا وسماه بغير اسمه، كما تُسمَّى الخمر بغير اسمها، والربا: معاملة، والتحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله

(1)

: نكاحًا، ونَقْرَ الصلاة الذي

(2)

أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فاعله لم يصل

(3)

، وأنه لا تُجزئه صلاته ولا يقبلها الله منه: تخفيفًا! فهكذا تسمية الغُلُوِّ في الدين والتنطُّع احتياطًا.

وينبغي أن يُعلم أن الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويُثيبه الله عليه: الاحتياطُ في موافقةِ السنة، وترك مخالفتها، والاحتياط كلُّ الاحتياط في ذلك؛ وإلا فما احتاط لنفسه مَنْ خرج عن السنة، بل ترك حقيقة الاحتياط في ذلك.

(1)

كما في حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد (1/ 448)، والترمذي (1120)، والنسائي (6/ 149) وغيرهم. وإسناده صحيح.

(2)

في الأصل: «التي» . والتصويب من النسخ الأخرى.

(3)

أخرجه البخاري (793)، ومسلم (397) عن أبي هريرة في حديث المسيئ صلاته.

ص: 300

وكذلك المتسرعون إلى وقوع الطلاق في موارد النزاع الذي اختلف فيه الأئمة، كطلاق المكره، وطلاق السكران، والبَتّة، وجمع الثلاث، والطلاق بمجرد النية، والطلاق المؤجل المعلوم مجيءُ أجله، واليمين بالطلاق، وغير ذلك مما تنازع فيه العلماء إذا أوقعه المفتي تقليدًا بغير برهان، وقال: ذلك احتياط للفروج؛ فقد ترك معنى الاحتياط؛ فإنه يُحرِّم الفرج على هذا، ويبيحه لغيره، فأين الاحتياط هاهنا؟

بل لو أبقاه على حاله حتى تُجمع الأمة على تحريمه وإخراجه عمن هو حلال له، أو يأتي برهان من الله ورسوله على ذلك؛ لكان قد عمل بالاحتياط.

ونص على مثل ذلك الإمامُ أحمد في طلاق السكران. فقال في رواية أبى طالب: والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خَصْلة واحدة، والذي يأمر بالطلاق قد أتى خصلتين: حرمها عليه، وأحلها لغيره، فهذا خير من هذا. فلا يمكن الاحتياط في وقوع الطلاق إلا حيث أجمعت الأمة، أو كان هناك نص عن الله ورسوله يجب المصير إليه.

قال شيخنا: والاحتياط حسن ما لم يُفْضِ بصاحبه إلى مخالفة السُّنة، فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط.

وبهذا خرج الجواب عن احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الشبهات فقد اسْتَبرأ لدينه وعِرْضه» ، وقوله:«دَعْ ما يَريْبُك إلى ما لا يريبك» ، وقوله:«الإثم ما حاك في الصدر»

(1)

، فهذا كله من أقوى الحجج على بطلان الوسواس.

(1)

تقدم تخريج هذه الأحاديث. وفي م: «النفس» مكان «الصدر» .

ص: 301

فإن الشبهات ما يشتبه فيه الحق والباطل، والحلال والحرام، على وجه لا يكون فيه دليلٌ على أحد الجانبين، أو تتعارض الأمارتان عنده، فلا تترجح في ظنه إحداها، فيشتبه عليه هذا بهذا، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ترك المشتبه، والعدول إلى الواضح الجلي.

ومعلوم أن غاية الوسواس أن يشتبه على صاحبه: هل هو طاعة وقربة، أم معصية وبدعة؟ هذا أحسن أحواله، والواضح الجلي هو اجتماع طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سنّهُ للأمة قولاً وعملاً، فمن أراد ترك الشبهات عدل عن ذلك المشتبه إلى هذا الواضح؛ فكيف ولا شبهة بحمد الله هناك؟ إذ قد بينت

(1)

بالسنة أنه تَنَطّع وغلو، فالمصير إليه تركٌ للسنة، وأخذ بالبدعة، ترك لما يحبه الله ويرضاه، وأخذٌ بما يكرهه ويبغضه، ولا يُتقَرّب به إليه البتة؛ فإنه لا يُتَقرّب إليه إلا بما شرع، لا بما يهواه العبد ويفعله من تلقاء نفسه، فهذا هو الذي يحيك في الصدر، ويتردد في القلب، وهو حَوَازُّ القلوب.

وأما التمرة التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلها، وقال:«أخشى أن تكون من الصدقة» ؛ فذلك من باب اتقاء الشبهات، وترك ما اشتبه فيه الحلال بالحرام؛ فإن التمرة كانت قد وجدها في بيته، وكان يؤتَى بتَمْر الصدقة، يقسمه على من تحل له الصدقة، ويدخل بيتَه تمرٌ [47 ب] يقتات منه أهله، فكان في بيته النوعان، فلما وجد تلك التمرة لم يدرِ صلى الله عليه وسلم من أيّ النوعين هي؟ فأمسك عن أكلها، فهذا الحديث أصل في الورع واتقاء الشبهات، فما لأهل الوسواس وما لَه؟

وأما قولُكم: إن مالكًا أفتى فيمن طلق ولم يَدْرِ أواحدةً طلّق أم ثلاثًا؟

(1)

م: «ثبت» .

ص: 302

أنها ثلاث احتياطًا، فنعم هذا قول مالك، فكان ماذا؟ أفحُجّةٌ هو على الشافعي، وأبى حنيفة، وأحمد، وعلى كُلّ من خالفه في هذه المسألة؟ حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله.

وهذا القول مما يُحتج له، لا

(1)

مما يحتج به.

على أن هذا ليس من باب الوسواس في شيء، وإنما حجة هذا القول أن الطلاق يوجب تحريم الزوجة، والرّجْعَةُ ترفع ذلك التحريم، فهو يقول: قد تيَقّن سبب التحريم، وهو الطلاق، وشكّ في رَفْعِه بالرجعة، فإنه يحتمل أن يكون رجعيًّا فترفَعُهُ الرجعة، ويحتمل أن يكون ثلاثًا فلا ترفعه الرجعة، فقد تيقّن سبب التحريم، وشكَّ فيما يرفعه.

والجمهور يقولون: النكاح متيقن، والقاطع له المزيل لِحلّ الفرج مشكوك فيه، فإنه يحتمل أن يكون المَأْتِيُّ به رجعيًا فلا يزيل النكاح، ويحتمل أن يكون بائنًا فيزيله، فقد تَيَقَّنَّا يقين النكاح، وشككنا فيما يزيله، فالأصل بقاء النكاح حتى يُتَيقّن ما يرفعه.

فإن قلتم: فقد تيقن التحريم وشكَّ في التحليل.

قلنا: الرجعية ليست بحرام عندكم، ولهذا تجوّزون وطأها، ويكون رجعةً إذا نوى به الرجعة.

فإن قلتم: بل هي حرام، والرجعة حصلت بالنية حال الوطء.

قلنا: لا ينفعكم ذلك أيضًا؛ فإنه إنما تيقن تحريمًا يزول بالرجعة، لم يتيقن تحريمًا لا تؤثر فيه الرجعة.

(1)

«مما يحتج له لا» ساقطة من م.

ص: 303

وليس المقصود تقرير هذه المسألة، والمقصود أنه لا راحة في ذلك لأهل الوسواس.

فصل

وأما من حلف بالطلاق أن في هذه اللَّوْزة حَبّتين، ونحو ذلك مما لا يتيقنه الحالف، فبان

(1)

كما حلف عليه: فهذا لا يحنث عند الأكثرين.

وكذلك لو لم يتبين الحال واستمر مجهولاً؛ فإن النكاح ثابت بيقين، فلا يزيله بالشك.

ولمالك رحمه الله أصلٌ نازعه فيه غيره، وهو إيقاع الطلاق بالشك في الحنث، وإيقاعه بالشك في عدده كما تقدم، وإيقاعه بالشك في المطلقة، كما لو طلق واحدة من نسائه ثم أُنْسِيها، ووقف الحال مدة الإيلاء ولم يتبين، طُلِّقَ عليه الجميع.

وكما لو حلف أن هذا فلان أو حيوان، وهو غير متيقّن له، بل هو شاكٌّ حال الحَلفِ، فتبين أن الأمر كما حلف عليه؛ فإنه يحنث عنده، وتطلق امرأته.

فمن حلف على رجل أنه زيد، فتبيّن أنه غيره، أو لم يتبين أهو المحلوف عليه أم لا؟ حنث عنده، وإن تبين أنه المحلوف عليه، وكان حال اليمين لا يعلم حقيقته، ولا يغلب على ظنه، ولا طريق له إلى العلم به في العادة، فإنه يحنث عنده؛ لشكِّه حال الحلف.

فالحالف يحنث بالمخالفة لما حلف عليه: أما في الطلب فبأن يفعل ما حلف على تركه، وأما في الخبر فبأن يتبين كذبه.

(1)

في الأصل: «فان كان» . والمثبت من النسخ الأخرى.

ص: 304

وعند مالك يحنث بأمر آخر، وهو الشك حال اليمين، سواءٌ تبين صدقه أم لا.

وأبلغ من هذا أنه يحنِّث من حلف بالطلاق على إنسانٍ إلى جانبه أنه إنسان أو حجرٍ أنه حجر، ونحو ذلك مما لا شك فيه.

وعمدته في الموضعين: أن الحالف هازل؛ فإن من قال: أنت طالق إن لم تكوني امرأة، أو إن لم أكن رجلاً، لا معنى لكلامه إلا الهَزْلُ، فإن هذا مما لا غرض للعقلاء فيه.

قالوا: وإن لم يكن هذا هزلاً فإن الهزل لا حقيقة له.

وربما عللوا الحنث بأنه أراد أن يجزم الطلاق، ثم ندم، فوصله بما لا يفيد ليرفعه.

وأما في القسم الأول: فأصله فيه تغليب [48 أ] الحنث بالشك، كمن حلف ثم شك: هل حنث أم لا، فإنهم يأمرونه بفراق زوجته، وهل هو للوجوب أم للاستحباب؟ على قولين: الأول لابن القاسم، والثاني لمالك.

فمالك يراعي بقاء النكاح، وقد شككنا في زواله، والأصل البقاء.

وابن القاسم يقول: قد صار حلّ الوطء مشكوكًا فيه، فيجب عليه مفارقتها.

والأكثرون يقولون: لا يجب عليه مفارقتها، ولا يستحب له؛ فإن قاعدة الشريعة أن الشك لا يقوى على إزالة الأصل المعلوم، ولا يزول اليقين إلا بيقين أقوى منه أو مساوٍ له.

ص: 305

فصل

وأما مَن طلّق واحدة من نسائه ثم أُنسيها، أو طلق واحدة مبهمة ولم يُعيِّنها؛ فقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوال:

فقال أبو حنيفة، والشافعي، والثوري، وحماد: يختار أيتهن شاء، فيوقع

(1)

عليها الطلاق في المبهمة، وأما في المنسيّة فيُمسك عنهن، وينفق عليهن، حتى ينكشف الأمر. فإن مات الزوج قبل أن يُقْرعَ:

فقال أبو حنيفة: يقسم بينهن كلهن ميراث امرأة.

وقال الشافعي: يوقف ميراث امرأة حتى يصطلحن.

وقالت المالكية: إذا طلق واحدة منهن غير معلومة عنده، بأن قال: أنت طالق، ولا يدري مَنْ هي؟ طلق الجميع، وإن طلق واحدة معلومة، ثم أُنْسِيَهَا، وقف عنهن حتى يتذكر، فإن طال ذلك ضُرب له مدة المُولِي، فإن تذكر فيها وإلا طَلُق عليه الجميع، ولو قال: إحداكن طالق، ولم يعينها بالنية؛ طلق الجميع.

وقال أحمد: يُقرع بينهن في الصورتين، نص على ذلك في رواية جماعة من أصحابه، وحكاه عن علي، وابن عباس.

وظاهر المذهب الذي عليه جُلُّ الأصحاب: أنه لا فرق بين المبهمة والمنسية.

وقال صاحب «المغنى»

(2)

: يخرج المبهمة بالقرعة؛ وأما المنسية فإنه

(1)

في الأصل: «فوقع» .

(2)

المغني (10/ 519 وما بعدها).

ص: 306

يحرم عليه الجميع حتى تتبين المطلقة، ويؤخذ بنفقة الجميع، فإن مات أقرع بينهن للميراث.

قال: وقد روى إسماعيل بن سعيد، عن أحمد ما يدل على أن القرعة لا تستعمل في المنسية لمعرفة الحِلّ، وإنما تستعمل لمعرفة الميراث، فإنه قال: سألت أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه ولا يعلم أيتَهن طلَّق؟ قال: أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة. قلت: أرأيت إن مات هذا؟ قال: أقول بالقرعة؛ وذلك لأنه تصير القرعة على المال.

قال: وجماعة من روى عنه القرعة في المطلقة المنسية؛ إنما هو في التوريث، وأما في الحل فلا ينبغي أن تثبت بالقرعة، قال: وهذا قول أكثر أهل العلم.

واحتج الشيخ لصحة قوله بأنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية، فلم تحلّ له إحداهما بالقرعة؛ كما لو اشتبهت عليه بأجنبية لم يكن له عليها عقد، ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة، فلا ترفع الطلاق عمن وقع عليها

(1)

، ولاحتمال كون المطلقة غير من خرجت عليها القرعة، ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه، ولو ارتفع التحريم أو زال بالطلاق لما عاد بالذِّكْرِ، فيجب بقاء التحريم بعد القرعة كما كان قبلها.

قال: وقد قال الخِرَقي فيمن طلق امرأته؛ فلم يَدْرِ، أواحدةً طلق أم ثلاثًا؟ ومن حلف بالطلاق لا يأكل تمرة، فوقعت في تمر، فأكل منه واحدة: لا تحل له امرأته، حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها.

(1)

الأصل: «عليه» .

ص: 307

فحرّمها، مع أن الأصل بقاء النكاح، ولم يعارضه يقين

(1)

التحريم، فهاهنا أولى.

قال: وهكذا الحكم في كل موضع وقع الطلاق على امرأة بعينها، ثم اشتبهت بغيرها، مثل أن يرى [48 ب] امرأةً في رَوْزَنة، أو مُوَلِّيةً، فيقول: أنت طالق، ولا يعلم عينها من نسائه. وكذلك إذا وقع الطلاق على امرأة من نسائه في مسألة الطائر وشبهها؛ فإنه يحرم عليه جميع نسائه حتى تتبين المطلقة، ويؤخذ بنفقة الجميع؛ لأنهن محبوسات عليه، وإن أقرع بينهن لم تُفِدِ القرعة شيئًا.

ولا يحل لمن وقعت عليها القرعة التزويج؛ لأنها يجوز أن تكون غير المطلقة، ولا يحل للزوج غيرها لاحتمال أن تكون المطلقة.

وقال أصحابنا: إذا أقرع بينهن، فخرجت القرعة على إحداهن، ثبت حكم الطلاق فيها، فحل لها النكاح بعد قضاء عدتها، وحلّ للزوج مَنْ سواها، كما لو كان الطلاق في واحدة غير معينة.

وقال شيخنا: الصحيح استعمال القرعة في الصورتين.

قلت: وهو منصوص أحمد في رواية الجماعة.

وأما رواية الشالَنْجِي فإنه توقّف، وكره أن يقول في الطلاق بالقرعة، ولم يعين المنسية ولا المبهمة، وأكثر نصوصه على القرعة في الصورتين.

قال في رواية الميموني فيمن له أربع نسوة؛ طلّق واحدة منهن، ولم يَدْرِ: يقرع بينهن، وكذلك في الأعْبُد، فإن أقرع بينهن، فوقعت القرعة على

(1)

م: «نفس» .

ص: 308

واحدة، ثم ذكر التي طلق؛ رجعت هذه التي وقعت عليها القرعة، ويقع الطلاق على التي ذكر، فإن تزوجت فذاك شيء قد مَرّ.

وكذلك نقل أبو الحارث عنه في رجل له أربع نسوة؛ طلق إحداهن، ولم يكن له نِيّة في واحدة بعينها: يقرع بينهن، فأيتهن أصابتها القرعة فهي المطلقة، وكذلك إن قصد إلى واحدة بعينها ونَسِيها.

فنصَّ على القرعة في الصورتين، مُسَوِّيًا بينهما.

والذي أفتى به علي هو في المنسية، وبه احتج أحمد.

قال وَكيع: سمعت عبد الله

(1)

، قال: سألت أبا جعفر عن رجل كان له أربع نسوة وطلق إحداهن، لا يدرى أيتهن طلق؟ قال علي:«يقرع بينهن»

(2)

.

والأدلة الدالة على القرعة تتناول الصورتين، والمنسية قد صارت كالمجهولة شرعًا، فلا فرق بينها وبين المبهمة المجهولة، ولأن في الإيقاف والإمساك حتى يتذكر، وتحريم الجميع عليه، وإيجاب النفقة على الجميع: عدَّة مفاسد له وللزوجات، مندفعة شرعًا، ولأن القرعة أقرب إلى مقاصد الشرع ومصلحة الزوج والزوجات، مِنْ تركهنَّ معلقاتٍ، لا ذوات أزواج ولا أيامَى، وتركه هو معلقًا، لا ذا زوج ولا عَزَبًا.

(1)

في الأصل: «أبا عبد الله» . والتصويب من النسخ الأخرى والمغني.

(2)

قال ابن قدامة في المغني (10/ 522): روى عبد الله بن حميد قال: سألت أبا جعفر عن رجل قدم من خراسان وله أربع نسوة، قدم البصرة فطلّق إحداهن ونكح ثمّ مات، لا يدري الشهود أيّتهنّ طلّق، فقال: قال علي رضي الله عنه: «أقرع بين الأربع، وأنذر منهنّ واحدة، وقسم بينهنّ الميراث» ، وصحّحه ابن القيم في بدائع الفوائد (3/ 783).

ص: 309

وليس في الشريعة نظير ذلك، بل ليس فيها وقف الأحكام، بل الفصل وقطع الخصومات بأقرب الطرق، فإذا ضاقت الطرق، ولم يَبْقَ إلا القرعة، تعينت طريقًا، كما عينها الشارع في عدة قضايا، حيث لم يكن هناك غيرها، ولم يوقف الأمر إلى وقت الانكشاف؛ فإنه إذا علم أنه لا سبيل له إلا انكشاف الحال، كان إيقاف الأمر إلى آخر العمر مِنْ أعظم المفاسد التي لا تأتي بها الشريعة.

وغاية ما يقدّر أن القرعة تصيب التي لم يقع عليها الطلاق وتخطئ المطلقة، وهذا لا يضرها هاهنا؛ فإنه لما جُهِل كونها هي التي وقع عليها الطلاق صار المجهولُ كالمعدوم، وكل ما يقدّر من المفسدة في ذلك فمثلها في العتق سواءً، وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة على إخراج المعتق من غيره بالقرعة

(1)

.

وقد نص أحمد على حِلّ البُضْع بالقرعة. فقال في رواية ابن منصور وحنبل: «إذا زوّجها الوليان من رجلين، ولم يُعلم السابق منهما؛ أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حُكم أنه الأول» .

فإذا قويت القرعة [49 أ] على تعيين الزوج في حِلِّ البُضع له، فلأن تقوى على تعيين المطلقة في تحريم بُضْعها عنه أولى؛ فإن الطلاق مبنيٌّ على التغليب والسّراية، وهو أسرع نفوذًا وثبوتًا من النكاح من وجوه كثيرة.

وقول الشيخ أبي محمد قدس الله روحه: إنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية، فلم تحلَّ له إحداهما بالقرعة، كما لو اشتبهت بأجنبية لم يكن عليها عَقْدٌ.

(1)

كما في حديث عمران بن حصين الذي أخرجه مسلم (1668).

ص: 310

جوابه بالفرق بين حالتي الدوام والابتداء؛ فإنه هناك شكّ في هذه الأجنبية، هل حصل عليها عقد أم لا؟ والأصل فيها التحريم، فإذا اشتبهت بها الزوجة لم يُقْدِمْ على واحدة منهما، وهاهنا ثبت الحل و النكاح، وحصل الشك بعده، هل نزل التحريم في هذه أو في هذه؟ فإما أن يحرّما جميعًا، أو يحلا جميعًا، أو يقال له: اختر من ينزل عليه التحريم، أو يوقف الأمر أبدًا، أو تستعمل القرعة؟

والأقسام الأربعة الأُول باطلة، لا أصل لها في السنة، ولم يعتبرها الشارع؛ بخلاف القرعة.

وبالجملة فلا يصح إلحاق إحدى الصورتين بالأُخرى؛ إذ هناك تحريم متيقَّن، ونحن نشك في حله، وهنا حل متيقَّن، نشك في تحريمه بالنسبة إلى كل واحدة.

قوله: ولأن القرعة لا تزيل التحريم في المطلَّقة، ولا ترفع

(1)

الطلاق على من وقع عليه.

فيقال: إذا جُهِلت المطلَّقة، ولم يكن له سبيل إلى تعيينها، قامت القرعة مقام الشاهد والمخبر بأنها المطلقة للضرورة، حيث تعينت طريقًا، فالمطلقة المجهولة قد صار طلاقها بعينها كالمعدوم، ولو كانت مطلقةً في نفس الأمر؛ فإن الشارع لم يكلفنا بما في نفس الأمر، بل بما ظهر وبدا.

ولهذا لو نسي الطلاق بالكلية، وأقام على وطئها حتى تُوفي، كانت أحكامه أحكام الزوج، والنسب لاحقٌ به، والميراث ثابت، وهى مطلّقة في

(1)

الأصل: «ولا يرتفع» .

ص: 311

نفس الأمر، ولكن ليست مطلقة في حكم الله، كما لو طلع الهلال في نفس الأمر، ولم يَرهُ أحد من الناس، أو كان تحت الغَيم؛ فإنه لا يترتب عليه حكم الشهر، ولا يكون طالعًا في حكم الله، وإن كان طالعًا في نفس الأمر. ونظائر هذا كثيرة جدًا.

فغاية الأمر أن هذه مطلَّقة في نفس الأمر، ولا علم له بطلاقها، فلا تكون مطلَّقة في الحكم، كما لو نسي طلاقها.

قوله: ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه، ولو ارتفع التحريم أو زال الطلاق لما عاد بالذِّكْرِ.

جوابه: أن القرعة إنما عملت في

(1)

استمرار النسيان، فإذا زال النسيان بطل عمل القرعة، كما أن المتيمم إذا قدر على استعمال الماء بطل حكم تيممه؛ فإن التراب إنما يُعمَل عند العجز عن الماء، فإذا قدر عليه بطل حكمه، ونظائر ذلك كثيرة. منها: أن

(2)

الاجتهاد إنما يُعمل عند عدم النص فإذا تبين النص؛ فلا اجتهاد إلا في إبطال ما خالفه.

قوله: وقد قال الخرقي فيمن طلق امرأته ولم يَدرِ واحدةً طلَّق أم ثلاثًا: يلزمه الثلاث، ومن حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة، فوقعت في تمر، فأكل منه واحدة: لا تحل له امرأته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها، فحرمها، مع أن الأصل بقاء النكاح، ولم يعارضه يقين التحريم، فهاهنا أولى.

(1)

م: «مع» .

(2)

«أن» ساقطة من م.

ص: 312

فيقال: الخرقي نَصَّ على المسألتين مفرِّقًا بينهما في «مختصره» ، فقال: وإذا طلق واحدة من نسائه وأُنْسِيها أخرجت بالقرعة، وقال ما حكاه الشيخ عنه في الموضعين.

فأما من شك هل طلق واحدة أم ثلاثًا؟ فأكثر النصوص أنه إنما يلزمه واحدة، وهو ظاهر المذهب.

والخِرَقي اختار الرواية الأخرى، وهي مذهب مالك، وقد تقدم مأخذ القولين، وبيان الراجح منهما.

وعلى القول بلزوم الثلاث؛ فالفرق بين ذلك وبين [49 ب] إخراج المنسيَّة بالقرعة: أن المجهول في الشرع كالمعدوم، فقد جهلنا وقوع الطلاق بأي الزوجتين، فلم يتحقق تحريم إحداهما، ولم يكن لنا سبيل إلى تحريمهما ولا إباحتهما، والوقف مفسدة ظاهرة؛ فتعينت القرعة، بخلاف من أوقع على زوجته طلاقًا وشك في عدده، فإنه قد شك: هل يرتفع ذلك الطلاق بالرجعة أولا يرتفع بها؟ فألزمه بالثلاث، فظهر الفرق بينهما على هذا القول، وأما على المشهور من المذهب فلا إشكال.

وأما من حلف بالطلاق: لا يأكل تمرة، فوقعت في تمر، فأكل منه واحدة؛ فقد قال الخرقي: إنه يُمنع من وطء زوجته حتى يتيقن، وهذا يحتمل الكراهة والتحريم.

ومذهب الشافعي وأبي حنيفة: أنه لا يحنث، ولا يحرم عليه وطء زوجته، واختيار أبى الخطاب، وهو الصحيح.

وإن أراد به التحريم؛ فهو يشبه ما قاله هو ومالك فيمن طلَّق وشكَّ هل طلق واحدة أو ثلاثًا؟

ص: 313

فصل

وأما من حلف على يمين ثم نسيها، وقوله: يلزمه جميع

(1)

ما يحلف به، فقول شاذ جدًّا، وليس عن مالك؛ إنما

(2)

قاله بعض أصحابه، وسائر أهل العلم على خلافه، وأنه لا يلزمه شيء حتى يتيقن، كما لو شك: هل حلف أو لا؟

فإن قيل: ينبغي أن يلزمه كفارة يمين؛ لأنها الأقل.

قيل: موجَب الأيمان مختلف، فما من يمين إلا وهي مشكوك فيها، هل حلف بها أم لا؟

وعلى قول شيخنا: يلزمه كفارة يمينٍ حَسْبُ؛ لأن ذلك موجَبُ الأيمان كلها عنده.

فصل

وأما مَن حلف: ليفعلنّ كذا، ولم يُعَيِّن وقتًا، فعند الجمهور هو على التراخي إلى آخر عمره؛ إلا أن يعيِّن بنيّته وقتًا، فيتقيَّد به، فإن عزم على الترك بالكلية حنث حالة عَزْمه.

نصّ عليه أحمد.

وقال مالك: هو على حنثٍ حتى يفعل، فيُحالُ بينه وبين امرأته إلى أن يأتي بالمحلوف عليه.

(1)

ش: «كفارات جميع» .

(2)

«إنما» ساقطة من الأصل.

ص: 314

وهذا صحيحٌ على أصله في سدِّ الذرائع؛ فإنه إذا كان على التراخي إلى وقت الموت لم يكن لليمين فائدة، وصار لا فرق بين الحَلف وعدمه، والحملُ في ذلك على القرينة والعرف إن لم تكن نية، ولا يكاد اليمين يتجرّد عن هذه الثلاثة.

وأما تعليق الطلاق بوقت يجيء لا محالة، كرأس الشهر والسنة، وآخر النهار ونحوه؛ فللفقهاء في ذلك أربعة أقوالٍ:

أحدها: أنها لا تطلق بحال، وهذا مذهب ابن حزم، واختيار أبى عبد الرحمن الشافعي، وهو من أجَلِّ

(1)

أصحاب الوجوه.

وحجتهم: أن الطلاق لا يقبل التعليق بالشرط، كما لا يقبله النكاح، والبيع، والإجارة، والإبراء.

قالوا: والطلاق لا يقع في الحال، ولا عند مجيء الوقت. أما في الحال فلأنه لم يوقعه مُنَجَّزًا، وأما عند مجيء الوقت فلأنه لم يصدر منه طلاق حينئذٍ، ولم يتجدد سوى مجيء الزمان، ومجيء الزمان لا يكون طلاقًا.

وقابل هذا القول آخرون، وقالوا: يقع الطلاق في الحال، وهذا مذهب مالك، وجماعة من التابعين.

وحجتهم: أن قالوا: لو لم يقع في الحال لحصل منه استباحة وطء موقّت، وذلك غير جائز في الشرع؛ لأن استباحة الوطء فيه لا تكون إلا مُطلقًا غير موقّت، ولهذا حَرُم نكاح المتعة؛ لدخول الأجل فيه، وكذلك وطء المكاتبة. ألا ترى أنه لو عُرّي من الأجل، بأن يقول: إن جئتني بألف درهم فأنت حُرّة، لم يمنع ذلك الوطء.

(1)

الأصل: «وهو أجل من» .

ص: 315

قال المُوقِعون عند الأجل: لا يجوز أن يؤخذ حكم الدوام من حكم الابتداء؛ فإن الشريعة فرّقت بينهما في مواضع كثيرة؛ فإن ابتداء عقد النكاح في الإحرام فاسد دون دوامه، وابتداء عقده على المعتدة فاسد دون دوامه، وابتداء عقده على الأمة مع الطَّوْلِ وعدم خوف العَنَت فاسد دون دوامه، وابتداء عقده على الزانية فاسد ــ عند أحمد ومن وافقه ــ دون دوامه. ونظائر ذلك [50 أ] كثيرة جدًا.

قالوا: والمعنى الذي حَرُمَ لأجله نكاح المتعة: كون العقد موقّتًا من أصله، وهذا العقد مطلق، وإنما عرض له ما يبطله ويقطعه، فلا يبطل، كما لو علّق الطلاق بشرط، وهو يعلم أنها تفعله أو يفعله هو ولا بد؛ ولكن يجوز تخلفه.

والقول الثالث: أنه إن كان الطلاق المعلق بمجيء الوقت المعلوم ثلاثًا وقع في الحال، وإن كان رجعيًا لم يقع قبل مجيئه.

وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، نص عليها

(1)

في رواية مُهَنَّا: إذا قال: أنت طالق ثلاثًا قبل موتي بشهر: هي طالقٌ الساعةَ، كان سعيد بن المسيب والزُّهري لا يوقِّتون في الطلاق، قال مهنا: فقلت له: أفتتزوج هذه التي قال لها: أنت طالق قبل موتي بشهر؟ قال: لا؛ ولكن يمسك عن الوطء أبدًا حتى يموت، هذا لفظه.

وهو في غاية الإشكال، فإنه قد أوقع عليها الطلاق منجَّزًا، فكيف يمنعها من التزويج؟

(1)

كذا في الأصل، وفي بقية النسخ:«عليه» .

ص: 316

وقوله: «يمسك عن الوطء أبدًا» يدل على أنها زوجة؛ إلا أنه لا يطؤُها، وهذا لا يكون مع وقوع الطلاق؛ فإن الطلاق إذا وقع زالت أحكام الزوجية كلها.

فقد يقال: أخذ بالاحتياط فأوقع

(1)

الطلاق، ومنعها من التزويج للخلاف في ذلك، فحرَّم وطأها وهو أثر الطلاق، ومنعها من التزويج؛ لأن النكاح لم ينقطع بإجماع ولا نص.

ووجه هذا: أنه إذا كان الطلاق ثلاثًا لم يحلَّ وطؤها بعد الأجل، فيصير حِلُّ الوطء موقّتًا، وإن كان رجعيًا جاز له وطؤها بعد الأجل، فلا يصير الحِلُّ موقّتًا، وهذا أفقه من القول الأول.

والقول الرابع: أنها لا تطلق إلا عند مجيء الأجل، وهو قول الجمهور، وإنما تنازعوا: هل هو مُطَلِّقٌ في الحال، ومجيء الوقت شرط لنفوذ الطلاق، كما لو وكّله في الحال، وقال: لا تتصرف إلى رأس الشهر، فمجيء رأس الشهر شرط لنفوذ تصرفه، لا لحصول الوكالة، بخلاف ما إذا قال: إذا جاء رأس الشهر فقد وكَّلتك، ولهذا يفرّق الشافعي بينهما، فيصحح الأولى، ويبطل الثانية.

أو يقال: ليس مطلِّقًا في الحال، وإنما هو مطلِّق عند مجيء الأجل، فيقدَّر حينئذٍ أنه قال: أنت طالق، فيكون حصول الشرط وتقدير حصول «أنت طالق» معًا.

فعلى التقدير الأول: السبب تقدم، وتأخر شرط تأثيره، وعلى التقدير

(1)

الأصل: «فإذا دفع» تحريف.

ص: 317

الثانى: نفس السبب تأخر تقديرًا إلى مجيء الوقت، وكأنه قال: إذا جاء رأس الشهر فحينئذٍ أنا قائل لك: أنت طالق، فإذا جاء رأس الشهر قُدِّر قائلاً لذلك اللفظ المتقدم.

فمذهب الحنفية: أن الشرط يمتنع به وجود العلة، فإذا وجد الشرط وجدت العلة، فيصير وجودها مضافًا إلى الشرط، وقبل تحققه لم يكن المعلق عليه علة، بخلاف الوجوب؛ فإنه ثابت قبل مجيء الشرط، فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فالعلة للوقوع: التلفظ بالطلاق، والشرط الدخول، وتأثيره في امتناع وجود العلة قبله، فإذا وُجِدَ وُجِدَتْ.

وأصحاب الشافعي يقولون: أثر الشرط في تراخي الحكم، والعلة قد وُجدت، وإنما تراخى تأثيرها إلى وقت مجيء الشرط، فالمتقدم علة قد تأخر تأثيرها إلى مجيء الشرط.

فصل

وأما ما أفتى به الحسن وإبراهيم ومالك ــ في إحدى الروايتين عنه ــ: أن من شكّ هل انتقض وضوؤه أم لا؟ وجب عليه أن يتوضأ احتياطًا، ولا يدخل في الصلاة بطهارة مشكوك فيها.

فهذه مسألة

(1)

نزاع بين الفقهاء.

وقد قال الجمهور ــ منهم الشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة، وأصحابهم، ومالك في الرواية الأخرى عنه ــ: إنه لا يجب عليه الوضوء، وله أن يصلي بذلك الوضوء الذي تيقنه، وشك في انتقاضه.

(1)

م، ت:«منزلة» .

ص: 318

واحتجوا بما رواه مسلم في «صحيحه»

(1)

عن أبى هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه: أخَرجَ [50 ب] منه شيء أم لا؟ فلا يخرج من المسجد، حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» . وهذا يَعُمُّ المصلي وغيره.

وأصحاب القول الأول يقولون: الصلاة ثابتة في ذمَّته بيقين، وهو يشك في براءة الذمة منها بهذا الوضوء، فإنه على تقدير بقائه هي صحيحة، وعلى تقدير انتقاضه باطلة، فلم يتيقن براءة ذمته، ولأنه شك في شرط الصلاة: هل هو ثابت أم لا؟ فلا يدخل فيها بالشك.

والآخرون يجيبون عن هذا؛ بأنها صلاة مستندة إلى طهارة معلومة قد شك في بطلانها، فلا يلتفت إلى الشك، ولا يزيل اليقين به، كما لو شكّ: هل أصاب ثوبَه أو بدنَه نجاسةٌ؟ فإنه لا يجب عليه غَسْلُهُ، وقد دخل في الصلاة بالشك.

ففرَّقوا بينهما بفرقين:

أحدهما: أن اجتناب النجاسة ليس بشرط، ولهذا لا يجب نيَّته، وإنما هو مانع، والأصل عدمه، بخلاف الوضوء، فإنه شرط، وقد شك في ثبوته، فأين هذا من هذا؟

الثاني: أنه قد كان قبل الوضوء مُحْدِثًا، وهو الأصل فيه، فإذا شك في بقائه كان ذلك رجوعًا إلى الأصل، وليس الأصل فيه النجاسة، حتى نقول: إذا شك في حصولها رجعنا إلى أصل النجاسة، فهنا يرجع إلى أصل الطهارة، وهناك يرجع إلى أصل الحدث.

(1)

رقم (362). وقد تقدم.

ص: 319

قال الآخرون: أصل الحدث قد زال بيقين الطهارة، فصارت هي الأصل، فإذا شككنا في الحدث رجعنا إليه، فأين هذا من الوسواس المذموم شرعًا وعقلاً وعرفًا؟

فصل

وأما قولكم: إن من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غَسْلُهُ كله!

فليس هذا من باب الوسواس، وإنما ذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به؛ فإنه قد وجب عليه غسل جزء من ثوبه، ولا يعلمه بعينه، ولا سبيل إلى العلم بأداء هذا الواجب إلا بغسل جميعه.

فصل

وأما مسألة الثياب التي اشتبه الطاهر منها بالنجس؛ فهذه مسألة نزاع:

فذهب مالك في رواية عنه وأحمد إلى أنه يصلي في ثوب بعد ثوب، حتى يتيقن أنه صلى في ثوب طاهر.

وقال الجمهور ــ ومنهم أبو حنيفة، والشافعي، ومالك في الرواية الأخرى ــ: يتحرّى فيصلي في واحد منها صلاة واحدة، كما يتحرى في القِبلة.

وقال المُزني، وأبو ثَوْر: بل يصلي عُريانًا ولا يصلي في شيء منها؛ لأن الثوب النجس في الشرع كالمعدوم، والصلاة فيه حرام، وقد عَجَزَ عن السّتْرَة بثوب طاهر، فيسقط فرض السترة.

وهذا أضعف الأقوال.

ص: 320

والقول بالتحرِّي هو الراجح، سواء كثر عدد الثياب الطاهرة أو قَلَّ، وهو اختيار شيخنا.

وابن عقيل يُفَصّل، فيقول: إن كثر عدد الثياب تحرّى دفعًا للمشقة، وإن قلّ عمل باليقين.

قال شيخنا: اجتناب النجاسة من باب المحظور، فإذا تحرّى وغلب على ظنه طهارة ثوب منها، فصلّى فيه، لم يُحْكَم ببطلان صلاته بالشك؛ فإن الأصل عدم النجاسة، وقد شكّ فيها في هذا الثوب، فيصلي فيه، كما لو استعار ثوبًا أو اشتراه ولا يعلم حاله.

وقول أبي ثور في غاية الفساد؛ فإنه لو تَيقّن نجاسة الثوب لكانت صلاته فيه خيرًا وأحبَّ إلى الله من صلاته مُتجرِّدًا، بادِيَ السوءَة للناظرين.

وبكل حال فليس هذا من الوسواس المذموم.

فصل

وأما مسألة اشتباه الأواني؛ فكذلك ليست من باب الوسواس. وقد اختلف فيها الفقهاءُ اختلافًا متباينًا.

فقال أحمد: يتيمم ويتركها، وقال مَرّةً: يريقها ويتيمم؛ ليكون عادمًا للماء الطَّهور بيقين.

وقال أبو حنيفة: إن كان عدد الأواني الطاهرة أكثر تحرّى، وإن تساوت أو كثرت النجسة لم يتحرَّ.

وهذا اختيار أبي بكر، وابن شاقْلا، والنّجّاد من أصحاب أحمد.

وقال الشافعي، وبعض المالكية: يتحرى بكل حال.

ص: 321

وقال عبد الملك بن الماجِشُون: يتوضأ بكل واحد منها وضوءًا ويصلي.

وقال محمد بن مَسْلَمة من المالكية: يتوضأ من أحدها ويصلي، ثم يغسل ما [51 أ] أصابه منه، ثم يتوضأ من الآخر ويصلي.

وقالت طائفة ــ منهم شيخنا ــ: يتوضأ من أيها شاء، بناءً على أن الماء لا ينجُس إلا بالتغير، فتستحيل المسألة.

وليس هذا موضع ذكر حُجج هذه الأقوال وترجيح راجحها.

فصل

وأما إذا اشتبهت عليه القِبْلة؛ فالذي عليه أهل العلم كلهم: أنه يجتهد ويصلي صلاة واحدة.

وشذّ بعض الناس، فقال: يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات، وهذا قول شاذ مخالف للسنة، وإنما التزمه قائله في مسألة اشتباه الثياب، وهذا ونحوه من وجوه الالتزامات

(1)

عند المضايق طردًا لدليل المستدل: مما لا يُلتفت إليها، ولا يُعوَّل عليها.

ونظيره التزام من التزم اشتراط النية لإزالة النجاسة، لمّا ألزمهم أصحاب أبى حنيفة بذلك، قال بعضهم: نقول به.

ونظيره إدراك الجمعة والجماعة بإدراك تكبيرة مع الإمام، لَمّا ألزمت الحنفية من نازعها في ذلك بالتسوية بين الجمعة والجماعة التزمه بعضهم، وقال: نقول به.

(1)

م: «الالزامات» .

ص: 322

فصل

وأما من ترك صلاةً من يومٍ لا يعلم عينَها؛ فاختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال:

أحدها: أنه يلزمه خمس صلوات، نص عليه أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وإسحاق ـ؛ لأنه لا سبيل له إلى العلم ببراءة ذمته يقينًا إلا بذلك.

القول الثاني: أنه يصلي رباعية، ينوي بها ما عليه، ويجلس عَقِيبَ الثانية والثالثة والرابعة، وهذا قول الأوزاعي، وزُفَر بن الهُذَيل، ومحمد بن مقاتل من الحنفية؛ بناء على أنه يخرج من الصلاة بدون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وبدون السلام، وأن نية الفرضيّة تكفي من غير تعيين، كما في الزكاة

(1)

، ولا يضرّ جلوسه عَقِيبَ الثالثة إن كانت المنسية رباعية؛ لأنه زيادة من جنس الصلاة، لا على وجه العَمْدِ.

القول الثالث: أنه يجزئه أن يصلي فجرًا ومغربًا، ورباعية ينوي ما عليه؛ وهذا قول سفيان الثوري، ومحمد بن الحسن.

ويُخَرَّج على المذهب إذا قلنا بأن نية المكتوبة تكفي من غير تعيين.

وقد قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يُسأل: ما تقول في رجل ذكر أن عليه صلاة لم يعيِّنها، فصلى ركعتين وجلس فتشهد، ونوى بها الغَداة ولم يسلِّم، ثم قام فأتى بركعة وجلس وتشهد ونوى بها المغرب، وقام ولم يسلِّم، وأتى برابعة ثم جلس، فتشهد ونوى بها ظهرًا أو عصرًا أو عشاء الآخرة، ثم

(1)

م: «الصلاة» ، وهو خطأ.

ص: 323

سلَّم؟ فقال له أبي: «هذا يجزئه، ويقضي عنه على مذهب العراقيين؛ لأنهم اعتمدوا في التشهُّد على خبر ابن مسعود: «إذا قلت هذا فقد تمت صلاتك»

(1)

،

وأما على مذهب صاحبنا أبي عبد الله الشافعي ومذهبنا؛ لا يجزئ عنه؛ لأنا نذهب إلى قوله: «تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم»

(2)

،

(1)

رواه الطيالسي (275)، وابن الجعد (2593)، وأحمد (1/ 422)، والدارمي (1341)، وأبو داود (972)، والطحاوي في معاني الآثار (1519)، وغيرهم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وعلمه التشهد وقال:«إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد» ، وصححه ابن راهويه كما في فتح الباري لابن رجب (5/ 188)، وبيَّن ابن حبان (1962) والدارقطني (1/ 352 - 354) والبيهقي في الكبرى (2/ 174 - 175) أن هذا من كلام ابن مسعود أدرجه بعض الرواة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك قاله أبو علي النيسابوري وأبو بكر الخطيب وغيرهم من الحفاظ كما في فتح الباري (5/ 188)، وقال النووي في المجموع (3/ 481):«زيادة مدرجة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق الحفاظ» ، وقال ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 58):«الموقوف أشبه وأصحّ» ، وهو مخرج في صحيح سنن أبي داود (891) ..

(2)

رواه الشافعي في الأم (1/ 100)، وعبد الرزاق (2/ 72)، وابن أبي شيبة (1/ 208)، وأحمد (1/ 123، 129)، والدارمي (687)، وأبو داود (61، 618)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275)، والبزار (633)، وأبو يعلى (616)، وغيرهم من طرق عن الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن الحنفية عن علي مرفوعًا، قال الترمذي:«هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن، وعبد الله بن محمد بن عقيل صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه» ، وقال العقيلي في الضعفاء (2/ 137، 230): «في إسناده لين» ، وصححه ابن السكن كما في البدر المنير (3/ 449)، وابن العربي في العارضة (1/ 36)، وحسنه البغوي في شرح السنة (558)، والضياء في المختارة (718، 719)، والنووي في الخلاصة (1051)، وابن حجر في نتائج الأفكار (2/ 230)، وزكريا الأنصاري في أسنى المطالب (1/ 166)، وهو في صحيح سنن أبي داود (55). وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن زيد وابن عباس وأنس رضي الله عنهم.

ص: 324

ونذهب إلى الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها. هذا لفظه.

قال أبو البركات: فهذا من أحمد يبيِّن

(1)

أن قضاء الواحدة لا يجزئه؛ لتعذُّر التحليل المعتبر، لا لفَوْت نية التعيين، فإذا قضى ثلاثًا ــ كما قال الثوري ــ اندفع المفسد.

وبكل حالٍ؛ فليس في هذا راحة للموسوسين.

فصل

وأما من شك في صلاته فإنه يبني على اليقين؛ لأنه لا تبرأ ذمته منه بالشك.

وأما تحريم أكل الصيد إذا شك صاحبه: هل مات بالجرح أو بالماء؟ وتحريم أكله إذا خالط كلابه كلبًا من غيره؛ فهو الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد شك في سبب الحلّ، والأصلُ في الحيوان التحريم، فلا يُستباح بالشك في شرط حله، بخلاف ما إذا كان الأصل فيه الحل؛ فإنه لا يحرم بالشك في سبب تحريمه، كما لو اشترى ماءً أو طعامًا أو ثوبًا لا يعلم حاله جاز شربه وأكله ولبسه، وإن شك هل ينجس أم لا؟ فإن الشرط متى شقّ اعتباره، أو كان الأصل عدم المانع، لم يُلتفت إلى ذلك.

فالأول: كما إذا أُتي بلحم لا يعلم هل سَمّى عليه ذابحه أم لا؟ وهل ذكّاه في الحلق واللَّبّة، واستوفى شروط الذكاة أم لا؟ لم يحرم أكله؛ لمشقة

(1)

م: «تلوه» .

ص: 325

التفتيش عن ذلك.

وقد قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن ناسًا من الأعراب يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال:«سمُّوا أنتم وكلوا»

(1)

، مع أنه قد نُهي عن أكل ما لم يُذكر عليه اسم الله.

والثاني: كما ذكرنا من الماء والطعام واللباس؛ فإن الأصل فيها الطهارة، وقد شك في وجود المنجِّس، فلا يلتفت إليه.

فصل

وأما ما ذكرتموه عن ابن عمر وأبى هريرة رضي الله عنهما: فشيء تفرَّدا به، دون الصحابة، ولم يوافق ابنَ عمر على ذلك أحدٌ منهم، وكان ابن عمر يقول:«إن بي وسواسًا فلا تقتدوا بي»

(2)

.

وظاهر مذهب الشافعي وأحمد: أن غسل داخل العينين في الوضوء لا يُستحب، وإن أمِنَ الضررَ؛ لأنه لم يُنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله قط، ولا أمر به، وقد نقل وضوءه جماعة كعثمان

(3)

، وعلي

(4)

، وعبد الله بن زيد

(5)

،

(1)

أخرجه البخاري (2057) عن عائشة.

(2)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وروى ابن المنذر في الأوسط (1/ 440) عنه أنه قال:«إني لمولع بغسل قدمي، فلا تقتدوا بي» . وروى ابن أبي شيبة (7/ 117) ــ ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (1/ 310) ــ عن عبد الله بن نمير عن عاصم عمَّن حدَّثه قال: كان ابن عمر إذا رآه أحدٌ ظنّ أن به شيئًا من تتبُّعه آثار النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

أخرجه البخاري (159)، ومسلم (226).

(4)

أخرجه البخاري (5616).

(5)

أخرجه البخاري (185)، ومسلم (235).

ص: 326

والرُّبيع بنت مُعَوِّذ

(1)

، وغيرهم، فلم يقل أحد منهم: إنه غسل داخل عينيه.

وفى وجوبه في الجنابة روايتان عن أحمد، أصحهما أنه لا يجب، وهو قول الجمهور.

وعلى هذا فلا يجب غسلهما من النجاسة وأولى؛ لأن المضرَّة به أغلب؛ لزيادة التكرار والمعالجة.

وقالت الشافعية والحنفية: يجب؛ لأن إصابة النجاسة لهما تَنْدُر، فلا يشق غسلهما منها.

وغلا بعض الفقهاء من أصحاب أحمد، فأوجب غسلهما في الوضوء، وهو قولٌ لا يُلتفت إليه، ولا يُعرَّج عليه.

والصحيح أنه لا يجب غسلهما في وضوء، ولا جنابة، ولا نجاسة.

وأما فعل أبى هريرة رضي الله عنه: فهو شيء تأوّله، وخالفه فيه غيره، وكانوا ينكرونه عليه، وهذه المسألة تُلقّب بمسألة «إطالة الغرة» ، وإن كانت الغُرَّة في الوجه خاصة.

وقد اختلف الفقهاء في ذلك، وفيها روايتان عن الإمام أحمد:

إحداهما: تُستحب إطالتها، وبها قال أبو حنيفة، والشافعي، واختارها أبو البركات ابن تيمية وغيره.

والثانية: لا تُستحب، وهي مذهب مالك، وهى اختيار شيخنا أبي العباس.

(1)

أخرجه أبو داود (126)، والترمذي (33)، وابن ماجه (390).

ص: 327

والمستحبون يحتجون بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم الغُرّ المحَجّلون يوم القيامة من أثر الوضوء؛ فمن استطاع منكم فليُطِلْ غُرّته وتَحْجيله» . متفق عليه

(1)

، ولأن الحِلْية تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء

(2)

.

قال النافون للاستحباب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حَدَّ حدودًا فلا تعتدوها»

(3)

، والله سبحانه قد حدّ المرفقين والكعبين، فلا ينبغي تعدِّيهما، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَنقُل مَنْ نقل عنه وضوءه أنه تعدّاهما، ولأن ذلك أصل الوسواس ومادّته، ولأن فاعله إنما يفعله قُربةً وعبادةً، والعبادات مبناها

(1)

البخاري (136)، ومسلم (246). وقوله:«فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله» ليس مرفوعًا، بل هو مدرج من قولي أبي هريرة، وسيأتي كلام المؤلف عليه.

(2)

أخرجه مسلم (250) عن أبي هريرة.

(3)

جزء من حديث رواه مسدّد وابن أبي شيبة كما في إتحاف الخيرة (778)، والطبراني في الكبير (22/ 221)، والدارقطني (4/ 183)، والحاكم (7114)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 17)، والبيهقي في الكبرى (10/ 12)، وغيرهم من طريق مكحول عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وحسنه أبو بكر السمعاني كما في جامع العلوم والحكم (ص 276)، والنووي في الأربعين (30) وفي غيره، وصححه ابن القيم في الإعلام (1/ 249)، وابن كثير في تفسيره (1/ 621)، والبوصيري، والهيتمي في الزواجر (1/ 21)، لكن أعِلَّ بالوقف والقطع والانقطاع، قال ابن عساكر في معجمه (2/ 85):«هذا حديث غريب، ومكحول لم يسمع من أبي ثعلبة» ، وقال الذهبي في المهذب (8/ 3976):«موقوف ومنقطع؛ لم يلق مكحول أبا ثعلبة» ، وقال ابن حجر في المطالب العالية (2934):«رجاله ثقات إلا أنه منقطع» . وفي الباب عن أبي الدرداء وابن عباس وسلمان رضي الله عنهم.

ص: 328

على الاتباع، ولأن ذلك ذريعة إلى الغَسْلِ إلى الفخذ، وإلى الكتف، وهذا مما يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابَه لم يفعلوه ولا مرة واحدة، ولأن هذا من الغلُوِّ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إياكم والغلوّ في الدين»

(1)

، ولأنه تعمُّق، وهو منهي عنه، ولأنه عضو من أعضاء الطهارة، فكُرِهَ مجاوزته كالوجه.

وأما الحديث فراويه عن أبي هريرة عنه نُعَيْمٌ المُجْمِرُ، وقد قال:«لا أدري؛ قوله: «فمن استطاع منكم أن يطيل غرتَّه فليفعل» من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من قول أبي هريرة؟».

روى ذلك عنه الإمام أحمد في «المسند»

(2)

.

وأما حديث الحلية، فالحلية

(3)

المزيِّنة ما كان في مَحَلِّهِ، فإذا جاوز محلَّه لم يكن زينة.

فصل

وأما قولكم: إن الوسواس خير مما عليه أهل التفريط والاسترسال، وتمشية الأمر كيف اتفق، إلى آخره.

فلعمر الله إنهما لطرفا إفراطٍ وتفريطٍ، وغلو وتقصير، وزيادة [52 أ] ونقصان، وقد نهى الله سبحانه عن الأمرين في غير موضع؛ كقوله:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]، وقوله:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26]، وقوله:

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

مسند أحمد (2/ 334، 523) من طريق فليح بن سليمان عن نعيم المجمر.

(3)

«فالحلية» ساقطة من م.

ص: 329

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وقوله:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النّمَط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرِّطين، ولم يلحقوا بغُلُوّ المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وَسَطًا، وهى الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدلُ هو الوسط بين طرفي الجَوْرِ والتفريط، والآفاتُ إنما تتطرّق إلى الأطراف، والأوساط مَحْميَّة بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها. قال الشاعر:

كانَتْ هِيَ الوَسَط المَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ

بِهَا الحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا

(1)

فصل

ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يُرد الله فتنته: ما أوحاه قديمًا وحديثًا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابُها من دون الله، وعُبِدتْ قبورهم، واتُّخِذت أوثانًا، وبُنيت عليها الهياكل، وصُوّرت صورُ أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجسادًا لها ظلٌّ، ثم جُعلت أصنامًا، وعُبدت مع الله.

وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح، كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه، حيث يقول: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا

(1)

كذا ورد البيت في كتاب «الصلاة» للمؤلف (ص 396). وهو لأبي تمام في ديوانه (2/ 374) مع اختلاف في الرواية.

ص: 330

يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 21 ـ 24].

قال ابن جرير

(1)

: «وكان من خبر هؤلاء فيما بلغنا: ما حدثنا به ابن حُميد، حدثنا مِهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس: أن يَغوثَ ويَعوق ونسرًا كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوقَ لنا إلى العبادة إذا ذكرْناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقَون المطرَ، فعبدوهم» .

قال سفيان، عن أبيه، عن عِكْرمة قال:«كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون، كلُّهم على الإسلام»

(2)

.

حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا عبد الرزاق

(3)

، عن مَعْمر، عن قتادة؛ في هذه الآية، قال:«كانت آلهةً يعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب بعد ذلك، فكان وَدٌّ لكلبٍ بدُوْمَة الجَنْدَل، وكان سُواعٌ لهُذَيل، وكان يَغوث لبني غُطَيف من مُراد، وكان يَعوقُ لهَمْدَان، وكان نَسر لذي الكَلاع من حِمْيَر»

(4)

.

(1)

تفسير الطبري (23/ 639)، وفي سنده محمد بن حميد حافظٌ ضعيف، ومهران بن أبي عمر عنده غلط كثير في حديث سفيان الثوري.

(2)

تفسير الطبري (23/ 639) عن ابن حميد عن مهران عن سفيان به، ورواه أيضًا ابن سعد في الطبقات (1/ 42، 53) وابن عساكر في تاريخ دمشق (1/ 32، 62/ 242) عن قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري به.

(3)

«حدثنا عبد الرزاق» ساقطة من الأصل.

(4)

لم أقف عليه بهذا الإسناد عند الطبري، وهو إنما يروي تفسير عبد الرزاق في كتابه عن الحسن بن يحيى، وكثيرًا ما يقول:«حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر ــ وحدثنا الحسن بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر ــ عن قتادة» . وقد روى هذا الأثر في تفسيره (23/ 640) عن ابن عبد الأعلى عن ابن ثور عن معمر عن قتادة، ورواه أيضًا (23/ 639) عن بشر عن يزيد عن سعيد عن قتادة، ورواه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 320) عن معمر عن قتادة.

ص: 331

وقال الوالِبي، عن ابن عباس:«هذه أصنام كانت تُعْبَدُ في زمان نوح»

(1)

.

وقال البخاري

(2)

: حدثنا إبراهيم بن موسى: حدثنا هشام، عن ابن جُريج قال: قال عطاء، عن ابن عباس: «صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بَعْدُ، أما وَدٌّ فكانت لكَلْبٍ بدومة الجندل، وأما سُواع فكانت لهُذَيل، وأما يَغُوث فكانت لمراد، ثم لبني غُطيف بالجُرْف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهَمْدان، وأما نَسْر فكانت لحِمْيَر لآل ذي الكَلاع؛ أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطانُ إلى قومهم: أن انصبُوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعَبد

(3)

، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلمُ عُبِدت».

وقال غير واحد من السلف

(4)

: «كان هؤلاء قومًا صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمَدُ فعبدوهم» .

(1)

لم أقف عليه من هذا الطريق، ورواه ابن جرير في تفسيره (23/ 640) من طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (8/ 293) لابن المنذر.

(2)

برقم (4920).

(3)

الأصل: «يعبدوا» .

(4)

انظر: الدر المنثور (14/ 713) ط. التركي.

ص: 332

فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل، [52 ب] وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته

(1)

عن عائشة رضي الله عنها: أن أمّ سَلَمَة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كَنِيسة رأتها بأرضِ الحبشة يقال لها: ماريةُ، فذكرتْ له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح؛ بَنَوْا على قَبره مسْجدًا، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله» .

وفى لفظ آخر في «الصحيحين»

(2)

: أن أم حبيبة وأم سَلمة ذكرتا كنيسة رأينها.

فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور.

وهذا كان سبب عبادة اللات. فروى ابن جرير بإسناده عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، قال:«كان يَلُتّ لهم السّويق، فمات، فعكفوا على قبره»

(3)

.

وكذلك قال أبو الجَوْزاء عن ابن عباس: «كان يلتّ السويق للحاجّ»

(4)

.

(1)

البخاري (434)، ومسلم (528).

(2)

البخاري (3873)، ومسلم (528).

(3)

تفسير الطبري (22/ 523) عن عبد الرحمن ومؤمّل ومهران ــ فرَّقهم ــ عن سفيان به، ورواه عبد بن حميد في تفسيره ــ كما في مجموع الفتاوى (27/ 357) ــ عن قبيصة عن سفيان به ولفظه:«فمات فاتخذ قبره مصلّى» ، وعزاه في الدر المنثور (7/ 653) لابن المنذر.

(4)

رواه البخاري (4859).

ص: 333

فقد رأيتَ أن سبب عبادة يغوث ويعوق ونَسْر واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم.

قال شيخنا

(1)

: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور؛ هي التي أوقعت كثيرًا من الأُمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك؛ فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنه طلاسم للكواكب ونحو ذلك؛ فإن الشّرك بقبر الرجل الذي يُعتقد صلاحه أقربُ إلى النفوس من الشرك بخشَبة أو حَجَر.

ولهذا تَجد أهل الشرك كثيرًا يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادةً لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السَّحَر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد.

فلأجل هذه المفسدة حَسَم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقًا، وإن لم يقصد المصلي بَرَكة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بَرَكة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذٍ، وإن لم يقصد المصلي ما قصده المشركون، سدًّا للذريعة.

قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور، متبرِّكًا بالصلاة في تلك البُقعة، فهذا عين المحادّة لله ورسوله، والمخالفةِ لدينه، وابتداع دينٍ لم يأذن به الله؛ فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول

(1)

انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 192 وما بعدها).

ص: 334

الله صلى الله عليه وسلم: أن الصلاة عند القبور منهيّ عنها، وأنه لَعن من اتخذها مساجد، فمِنْ أعظم المحدثات وأسباب الشّرك: الصلاةُ عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، فقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه، فقد صرّح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها، متابعةً منهم للسنة الصحيحة الصريحة.

وصرَّح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة، والذي ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم؛ إحسانًا للظن بالعلماء، وأن لا يُظَنّ بهم أن يُجوّزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنُ فاعله، والنهي عنه.

ففي «صحيح مسلم»

(1)

عن جُندَب بن عبد الله البَجلي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت مُتخذًا من أمتي خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلاً، ألا وإن مَنْ كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد؛ [53 أ] ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك» .

وعن عائشة وعبد الله بن عباس، قالا: لما نُزِل برسول الله صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطرحُ خَمِيصةً له على وجهه، فإذا اغْتَمّ كشفها، فقال وهو كذلك:«لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ؛ يُحذّر ما صنعوا. متفق عليه

(2)

.

(1)

برقم (532).

(2)

البخاري (435)، ومسلم (531).

ص: 335

وفى «الصحيحين»

(1)

أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتَل الله اليهود! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .

وفى رواية مسلم

(2)

: «لعن الله اليهود والنصارى! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .

فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق مَنْ فعل ذلك من أهل الكتاب؛ ليُحذِّر أمته أن يفعلوا ذلك.

قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يَقُمْ منه: «لعن الله اليهود والنصارى! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، ولولا ذلك لأُبْرِزَ قبرهُ؛ غير أنه خُشي أن يُتخذ مسجدًا. متفق عليه

(3)

.

وقولها: «خُشيَ» هو بضم الخاء؛ تعليلاً لمنع إبراز قبره.

وروى الإمام أحمد في «مسنده»

(4)

بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود

(1)

البخاري (437)، ومسلم (530).

(2)

مسلم (530).

(3)

البخاري (1330)، ومسلم (529).

(4)

مسند أحمد (1/ 405، 435) من طريق زائدة عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق عن ابن مسعود، وبهذا السند رواه ابن أبي شيبة (3/ 30)، والبزار (1724)، وأبو يعلى (5316)، والشاشي (528)، والطبراني في الكبير (10/ 188)، وغيرهم، وصححه ابن خزيمة (789)، وابن حبان (2325، 6847)، وابن تيمية في شرح العمدة (4/ 428)، وحسنه في الاقتضاء (ص 330)، وقال الذهبي في السير (9/ 401):«هذا حديث حسن قوي الإسناد» ، وحسنه الهيثمي في المجمع (2/ 143) وقال (8/ 26):«عاصم ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح» ، وحسنه الشوكاني في شرح الصدور (ص 53)، والشنقيطي في الأضواء (2/ 296). وله طريق أخرى، فرواه أحمد (1/ 454) والبزار (1781) من طريق الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة السلماني عن ابن مسعود، وبمجموع الطريقين صححه الألباني في تحذير الساجد (ص 23). وفي الباب عن أبي عبيدة بن الجراح وعلي وعمران بن حصين رضي الله عنهم.

ص: 336

رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن من شِرار الناس من تُدرِكهم الساعة وهم أحياءٌ، والذين يتخذون القبور مساجد» .

وعن زيد بن ثابت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لعن الله اليهود! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . رواه الإمام أحمد

(1)

.

وعن ابن عباس، قال:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج» . رواه الإمام أحمد، وأهل «السنن»

(2)

.

(1)

مسند أحمد (5/ 184، 186) من طريق عقبة بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن زيد به، وبهذا الإسناد رواه عبد بن حميد (244)، والطبراني في الكبير (5/ 150)، قال الهيثمي في المجمع (2/ 143):«رجاله موثقون» ؛ وذلك لأن عقبة شيخ مجهول ذكره ابن حبان في الثقات، إلا أنّ الحديث صحيح لشواهده الكثيرة، ففي الباب عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة وأسامة وعلي وأبي بكر وعن عمر بن عبد العزيز والحسن بن الحسن وعبيد الله بن عبد الله وعمرو بن دينار مرسلًا.

(2)

مسند أحمد (1/ 229، 287، 324، 337)، سنن أبي داود (3238)، سنن الترمذي (320)، سنن النسائي (2043)، سنن ابن ماجه (1575) مقتصِرا على لعن زوارات القبور، ورواه أيضا الطيالسي (2733)، وابن الجعد (1500)، وابن أبي شيبة (2/ 151، 3/ 30)، وغيرهم من طريق محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس، قال الترمذي:«حديث حسن» ، وصححه ابن السكن كما في تحفة المحتاج (2/ 32)، وابن حبان (3179، 3180)، والحاكم (1384)، وابن دقيق العيد في الإلمام (574)، وحسنه البغوي في شرح السنة (510)، وقد اختُلف في أبي صالح من هو؟ فقيل: هو السمان، قال ابن رجب في الفتح (2/ 403):«وفيه بُعد» ، وأغرب ابن حبان فقال:«اسمه ميزان بصريّ ثقة» ، والجمهور على أنه باذان أو باذام مولى أم هانئ، قال ابن رجب:«ضعفه الإمام أحمد وقال: لم يصح عندي حديثه هذا، وقال مسلم في كتاب التفصيل: هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس» ، وهو في السلسلة الضعيفة (225). وفي الباب عن حسان بن ثابت وأبي هريرة رضي الله عنهما.

ص: 337

وفي «صحيح البخاري»

(1)

: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال: القبرَ، القبرَ.

وهذا يدل على أنه كان من المُسْتَقرِّ عند الصحابة رضي الله عنهم: ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور، وفعلُ أنس لا يدل على اعتقاد جوازه؛ فإنه لعله لم يَرَهُ، أو لم يعلم أنه قبر، أو ذَهل عنه، فلما نبَّهه عمر تنبَّه.

وقال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرضُ كلها مسجد إلا المقبرة والحمَّام» رواه الإمام أحمد، وأهل «السنن الأربعة» ، وصححه أبو حاتم بن حبان

(2)

.

(1)

هذا الأثر معلّق في أبواب المساجد من صحيح البخاري، باب: هل تُنبش قبور مشركي الجاهلية ويُتخذ مكانها مساجد؟ ورواه عبد الرزاق (1/ 404) ــ ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (2/ 186) ــ عن معمر عن ثابت عن أنس، صححه الألباني في تحذير الساجد (ص 35). ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (2/ 153) وابن منيع ــ كما في المطالب العالية (3/ 417) ــ والبيهقي في الكبرى (2/ 435) من طرق عن حميد عن أنس قال: قمت يوما أصلي وبين يديّ قبر لا أشعر به، فناداني عمر: القبر القبر. ورواه ابن أبي شيبة وابن منيع ــ كما في المطالب العالية ــ عن هشيم عن منصور عن الحسن عن أنس عن عمر، قال ابن حجر:«هذا خبر صحيح» .

(2)

تقدم تخريجه، وقد قال المصنف في عزوه فيما تقدّم:«رواه أهل السنن كلهم إلا النسائي» ، وهو أدقّ؛ فإن النسائي لم يخرجه.

ص: 338

وأبلغ من هذا: أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين المصلي وبين القِبلة.

فروى مسلم في «صحيحه»

(1)

عن أبي مَرْثَد الغَنَويّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تجلسوا على القبور، ولا تصلُّوا إليها» .

وفى هذا إبطالُ قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو باطل من عِدّة أوجه:

منها: أن الأحاديث كلَّها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله المعلِّلون بالنجاسة.

ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعًا أن هذا ليس لأجل النجاسة؛ فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء، ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، ليس للنجاسة عليها طريق البتة، فإن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طرِيُّون.

ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها.

ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرةَ والحمامَ، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر

(2)

الحُشوش والمجازر ونحوها

(3)

أولى من ذكر القبور.

(1)

برقم (972).

(2)

م: «ذلك» .

(3)

«ونحوها» ساقطة من الأصل.

ص: 339

ومنها: أن موضع مسجده صلى الله عليه وسلم كان مقبرة للمشركين، فنَبَش قبورَهم وسَوّاها واتخذه مسجدًا، ولم ينقل ذلك الترابَ، بل سوى الأرض ومهّدها وصلى فيه.

كما ثبت في «الصحيحين»

(1)

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فنزل بأعلى المدينة في حَيٍّ يقال [53 ب] لهم: بنو عمرو بن عَوْف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاءوا مُتَقَلِّدين السيوفَ، وكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر دونه

(2)

، وملأُ بَنِي النجار حوله، حتى ألْقى بفناء أبي أيوب، وكان يُحبّ أن يصلِّي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مَرابِض الغنم، وإنه أمَر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملأ بني النجار، فقال:«يا بني النجار! ثامِنُوني بحائطكم هذا» ، قالوا: لا والله، لا نطلبُ ثمنه إلا إلى الله، فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خَرِب، وفيه نخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنُبِشت، ثم بالخَرب فسُوِّيت، وبالنخل فقُطع، فصفّوا النخل قِبْلَة المسجد، وجعلوا عِضادَتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يَرْتَجزون. وذكر الحديث.

ومنها: أن فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عُبّاد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر، فإذا نهى عن ذلك سدًّا لذريعة التشبه الذي لا يكاد يخطر ببال المصلي؛ فكيف بهذه الذريعة القريبة التي كثيرًا ما تدعو صاحبها إلى الشرك، ودعاء الموتى، واستيجابهم، وطلب

(1)

البخاري (428)، ومسلم (524).

(2)

ح، ظ:«ردفه» .

ص: 340

الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها في المساجد، وغير ذلك، مما هو محادّة ظاهرة لله ورسوله؟

فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد منع الأمة من الفتنة بالقبور؛ كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم؟

ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر، فتزول اللعنة، وهو باطل قطعًا.

ومنها: أنه قرن في اللعنة بين متخذي المساجد عليها، وموقدي السُّرُج عليها، فهما في اللعنة قرينان، وفى ارتكاب الكبيرة صِنوان؛ فإن كل ما لَعَن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الكبائر، ومعلوم أن إيقاد السُّرج عليها إنما لُعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نُصُبًا يُوفِضُ إليه المشركون، كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليها، ولهذا قرن بينهما؛ فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها، وتعريض للفتنة بها، ولهذا حكى الله سبحانه عن المتغلِّبين على أمر أصحاب الكهف، أنهم قالوا:{لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21].

ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»

(1)

، فذِكْرُهُ ذلك عَقيبَ قوله: «اللهم

(1)

رواه مالك (414) ــ ومن طريقه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/ 240) ــ عن زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار به مرسلا، ورُوي موصولا من طريق أخرى عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد. ورواه الحميدي (1025) ــ ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (7/ 317) ــ وابن سعد (2/ 241) وأحمد (2/ 246) والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 47) والمفضل الجندي في فضائل المدينة (51) وأبو يعلى (6681) وغيرهم عن ابن عيينة عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا، قال البوصيري في إتحاف الخيرة (3/ 260):«رجاله ثقات» ، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (ص 217). وفي الباب عن عمر وعن سعيد بن أبي سعيد مولى المهري.

ص: 341

لا تجعل قبري وثنًا يعبد» تنبيه منه على سبب لحوق اللعن بهم، وهو توسُّلهم بذلك إلى أن تصير أوثانًا تُعبد.

وبالجملة؛ فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفَهِمَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده، جزم جزمًا لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه واللعن والنهي بصيغتيه ــ صيغة «لا تفعلوا» ، وصيغة «إني أنهاكم» ــ ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربَّه ومولاه، وقلّ نصيبه أو عُدِمَ من تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانةٌ لحِمَى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريدٌ له وغضب لربِّه أن يُعدَل به سواه.

فأبى المشركون إلا معصية لأمره، وارتكابًا لنهيه، وغَرّهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشدَّ لها تعظيمًا، وأشدَّ فيهم غلوًّا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد.

ولعَمْرُ الله مِنْ هذا [54 أ] الباب بعينه دُخِلَ على عُبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دُخِلَ على عبَّاد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة، فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، وهَدَى الله أهل التوحيد لسلوك طريقهم، وإنزالِهِمْ منازَلُهمْ التي أنزلهم الله إياها، من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم. وأمّا المشركون فعصوا أمرهم، وتنقَّصوهم في صورة التعظيم لهم.

ص: 342

قال الشافعي

(1)

رحمة الله عليه: «أكره أن يُعظَّم مخلوق حتى يُجعَل قبره مسجدًا، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس» .

وممَّن علل بالشرك ومشابهة اليهود والنصارى: الأثرَم في كتاب «ناسخ الحديث ومنسوخه» ؛ فقال بعد أن ذكر حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جُعلت لي الأرض مسجدًا إلا المقبرة والحمام»

(2)

، وحديث زيد بن جَبِيرَة

(3)

، عن داود بن الحُصين، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في سبع مواطن

(4)

، وذكر منها المقبرة؛ قال الأثرم:«إنما كُرِهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب؛ لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» .

(1)

نقله النووي في المجموع (5/ 314).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

في الأصل وبقية النسخ: «جبير» . والتصويب من مصادر التخريج.

(4)

رواه عبد بن حميد (765)، والترمذي (346، 347)، وابن ماجه (746)، والروياني (1431)، والطحاوي في شرح المعاني (2098)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 71)، وابن حبان في المجروحين (1/ 310)، وغيرهم، قال الترمذي:«إسناده ليس بذاك القويّ، وقد تُكلِّم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه» ، وضعّفه أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/ 148)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 190)، وابن عدي في الكامل (3/ 203)، وابن عبد البر في التمهيد (5/ 226)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 399)، وابن دحية في تنويره كما في البدر المنير (3/ 443)، والنووي في الخلاصة (941)، وابن الملقن، والشنقيطي في الأضواء (2/ 294)، والألباني في الإرواء (287). وروِي الحديث أيضًا من طريق أبي صالح عن الليث حدثني نافع عن ابن عمر عن عمر، ومن طريق الليث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر، ومال إلى تقويته ابن تيمية في شرح العمدة (4/ 432).

ص: 343

فصل

ومن ذلك اتخاذها عيدًا.

والعيد ما يُعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان:

فأما الزمان فكقوله صلى الله عليه وسلم: «يومُ عرفة ويوم النحر وأيامُ مِنًى عيدنا أهل الإسلام» . رواه أبو داود وغيره

(1)

.

وأما المكان فكما روى أبو داود في «سننه»

(2)

أن رجلًا قال: يا رسول

(1)

سنن أبي داود (2421)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (3/ 394)، وأحمد (4/ 152)، والدارمي (1764)، والترمذي (773)، والنسائي (3004)، والروياني (200، 203)، والطحاوي في معاني الآثار (3016)، والطبراني في الكبير (17/ 291) والأوسط (3185)، وغيرهم من طرق عن موسى بن علي عن أبيه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعًا، وصححه الترمذي، والطبري في تهذيب الآثار (1/ 351)، وابن خزيمة (2100)، وابن حبان (3603)، والحاكم (1586)، وأعلّه ابن عبد البر في التمهيد (21/ 163) بالتفرّد فقال:«انفرد به موسى بن علي عن أبيه، وما انفرد به فليس بالقويّ، وذِكرُ يوم عرفة في هذا الحديث غير محفوظ» ، وصححه ابن حجر في تغليق التعليق (2/ 385)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2090).

(2)

سنن أبي داود (3315) عن ثابت بن الضحاك، ورواه أيضًا الطبراني في الكبير (2/ 75)، والبيهقي في الكبرى (10/ 83) من طريق أبي داود، وصححه النووي في المجموع (8/ 467)، وابن تيمية في الاقتضاء (ص 186)، وابن دقيق العيد في الإلمام (873)، وابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص 309)، وابن كثير في إرشاد الفقيه (1/ 375)، وابن الملقن في البدر المنير (9/ 518)، وابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 439) وفي غيره، والصنعاني في السبل (4/ 114)، وابن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، وحسنه سليمان آل الشيخ في التيسير (ص 165)، وهو في السلسلة الصحيحة (2872). وفي الباب عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو وكردم ابن سفيان وميمونة بنت كردم وعن عكرمة بن خالد وابن جريج مرسلًا.

ص: 344

الله! إني نذرت أن أنْحَر

(1)

بِبُوانَةَ؟ فقال: «أبِها وثَنٌ من أوثان المشركين، أو عيد من أعيادهم؟» ، قال: لا، قال:«فأوفِ بنذرك» .

وكقوله: «لا تجعلوا قبري عيدًا»

(2)

.

والعيد: مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسمًا للمكان فهو المكان الذي يُقصد الاجتماع فيه وانْتِيابُه للعبادة أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنًى ومُزْدلِفَة وعرفة والمشاعِرَ جعلها الله عيدًا للحُنفاء ومثابةً، كما جعل أيام التعبُّد فيها عيدًا.

وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها، وعوّض الحنفاء منها: عيد الفطر، وعيد النحر، وأيام منًى، كما عوّضهم عن أعياد المشركين المكانية: بالكعبة البيت الحرام، وعرفة، ومنى، والمشاعر.

فاتخاذ القبور عيدًا هو من أعياد المشركين التي كانوا عليها قبل الإسلام، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَيّدِ القبور، منَبِّهًا به على غيره.

فقال أبو داود

(3)

: حدثنا أحمد بن صالح قال: قرأت على عبد الله بن نافع،

(1)

ح: «أنحر إبلًا» .

(2)

سيأتي تخريجه.

(3)

سنن أبي داود (2044)، ومن طريقه البيهقي في الشعب (3/ 491)، ورواه أيضًا أحمد (2/ 367) عن سريج، والطبراني في الأوسط (8030) من طريق مسلم بن عمرو الحذاء، كلاهما عن عبد الله بن نافع به، قال ابن تيمية في الاقتضاء (ص 321): «إسناده حسن، رواته كلهم ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه

ثم إن هذا الحديث مما يعرف من حفظه ليس مما ينكر؛ لأنه سنة مدنية، وهو محتاج إليها في فقهه، ومثل هذا يضبطه الفقيه، وللحديث شواهد من غير طريقه، فإن هذا الحديث يُروى من جهات أخرى، فما بقي منكرا»، وصححه النووي في الأذكار (ص 115) وفي غيره، وابن حجر في الفتح (6/ 488)، وحسنه ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص 121)، وابن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، وهو في صحيح سنن أبي داود (1780). ورواه أبو يعلى (6761) من طريق أبي بكر الحنفي عن عبد الله بن نافع عن العلاء بن عبد الرحمن عن الحسن بن علي بن أبي طالب به مرفوعًا، قال ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 88):«رواية مسلم ابن عمرو أشبه» .

ص: 345

أخبرني ابن أبي ذِئْب، عن سعيد المقبريِّ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» صلى الله عليه وسلم.

وهذا إسناد حسن، رواته كلهم ثقات مشاهير.

وقال أبو يَعْلى الموصليُّ في «مسنده»

(1)

: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة،

(1)

مسند أبي يعلى (469)، وهو في مصنف ابن أبي شيبة (2/ 150)، وعن ابن أبي شيبة أيضًا رواه البخاري في التاريخ الكبير (2/ 186)، ورواه الخطيب في الموضح (2/ 25) من طريق ابن أبي أويس عن جعفر به، وحسنه ابن تيمية في الرد على الأخنائي (ص 133)، وقال الهيثمي في المجمع (3/ 668):«فيه جعفر بن إبراهيم الجعفري، ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا، وبقية رجاله ثقات» ، وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص 294):«خبر محفوظ مشهور، وشواهده كثيرة» ، وحسنه السخاوي في القول البديع (ص 161). ورواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (20) عن ابن أبي أويس عن جعفر عمّن أخبره من أهل بيته عن علي بن الحسين به. ورواه البزار (509) من طريق ابن أبي أويس عن عيسى بن جعفر بن إبراهيم الطالبي عن علي بن عمر بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب مرفوعا، وقال:«هذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وقد روي بهذا الإسناد أحاديث صالحة فيها مناكير، فذكرنا هذا الحديث لأنه غير منكر» .

ص: 346

حدثنا زيد بن الحُباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولَد ذي الجناحين، حدثنا [علي بن عمر، عن أبيه، عن]

(1)

علي بن الحسين: أنه رأى رجلًا يجيء إلى فُرْجَةٍ كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي، عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:«لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا؛ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» .

رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في «مختارته»

(2)

.

وقال سعيد بن منصور [54 ب] في «السنن» : حدثنا حِبّان بن علي: حدثني محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المَهْري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلُّوا عليَّ حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني»

(3)

.

وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرنا سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب

(4)

عند القبر، فناداني

(1)

«علي بن عمر عن أبيه عن» ساقطة من النسخ، والمثبت من مصدر التخريج.

(2)

المختارة للضياء المقدسي (1/ 154) من طريق أبي يعلى.

(3)

هذا الحديث مرسل، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (13/ 61، 62) من طريق عبد الملك بن شعيب بن الليث عن أبيه عن جده عن ابن عجلان عن سهيل وسعيد ابن أبي سعيد مولى المهري عن الحسن به، وذكر قصة الرجل الذي كان يأتي القبر، قال الذهبي في السير (4/ 484):«هذا مرسل» .

(4)

ح: «علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب» .

ص: 347

وهو في بيت فاطمة يتعشّى، فقال: هَلُمّ إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلِّمْ، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا بيتي عيدًا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» . ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواءٌ

(1)

.

فهذان المرسلان ــ من هذين الوجهين المختلفين ــ يدلَّان على ثبوت الحديث؛ لا سيما وقد احتج من أرسله به، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يكن رُويَ من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد تقدّم مسندًا؟

قال شيخ الإسلام

(2)

قدَّس الله روحه: ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نَهى عن اتخاذه عيدًا، فقبر غيره أولى بالنهي، كائنًا من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله:«ولا تتخذوا بيوتكم قبورًا» أي: لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحرّي النافلة في البيوت، ونهى عن تحرّي العبادة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم، ثم إنه عقّب النهي عن اتخاذه عيدًا

(1)

رواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (30) عن إبراهيم بن حمزة عن عبد العزيز بن محمد به، ورواه عبد الرزاق (3/ 577) عن الثوري، وابن أبي شيبة (2/ 150، 3/ 30) عن أبي خالد الأحمر، كلاهما عن ابن عجلان عن سهيل به مختصرًا، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (13/ 61، 62) من طريق ابن عجلان عن سهيل وسعيد بن أبي سعيد مولى المهري عن الحسن به، ورواه ابن خزيمة في حديث علي بن حجر عن إسماعيل عن سهيل به نحوه، قال الألباني في أحكام الجنائز (ص 220):«مرسل إسناده قوي» .

(2)

في اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 172).

ص: 348

بقوله: «وصلوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» ، يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام؛ يحصل مع قربكم من قبري وبُعدكم، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدًا.

وقد حرّف هذه الأحاديث بعضُ من أخذ شبهًا من النصارى بالشرك، وشبهًا من اليهود بالتحريف، فقال: هذا أمرٌ بملازمة قبره، والعُكوف عنده، واعتياد قصده وانتيابه، ونهي أن يُجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرةً أو مرتين، فكأنه قال: لا تجعلوه بمنزلة العيد الذي يكون من الحوْل إلى الحول، واقصدوه كلّ ساعة وكلّ وقت!

وهذا مراغمة ومحادّة لله، ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم، وقَلْبٌ للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس والتلبيس بعد التناقض، فقاتل الله أهلَ الباطل أنّى يُؤفكون!

ولا ريب أن مَنْ أمَرَ الناسَ باعتياد أمرٍ وملازمته وكثرة انتيابه بقوله: «لا تجعلوا عيدًا» ؛ فهو إلى التلبيس وضدِّ البيان أقربُ منه إلى الدلالة والبيان، فإن لم يكن هذا تنقيصًا فليس للتنقيص حقيقة فينا، كمن يرمي أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم وحزبه بدائِه ومُصابه ويَنْسَلُّ كأنه بريء.

ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل إثمًا، وأخف عقوبةً من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته، وهكذا غُيّرت دياناتُ الرسل عليهم السلام، ولولا أن الله أقام لدينه الأنصارَ والأعوان الذابّين عنه لجَرى عليه ما جرى على الأديان قبله.

ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضُّلّال لم يَنْه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ويلعنْ فاعلَ ذلك؛ فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يُعبدُ الله

ص: 349

فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها، وأن يُعتاد قصدُها وانتيابها، ولا تُجعل كالعيد الذي يجيء من الحَوْل إلى الحول؟ وكيف يسأل ربَّه سبحانه [55 أ] أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك: ولولا ذلك لأُبرز قبرُه، ولكن خُشي أن يُتخذ مسجدًا؟ وكيف يقول:«لا تجعلوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليّ حيثما كنتم» ؟ وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضُّلال، الذين جمعوا بين الشرك والتحريف؟

وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجلَ أن يتحرّى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل بالحديث، وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين، عن جده علي رضي الله عنه، وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال.

وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن

(1)

شيخُ أهل بيته، كَرِه أن يقصد الرجلُ القبرَ إذا لم يكن يريد المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدًا.

قال شيخنا

(2)

: فانظر هذه السنّة، كيف مخرجُها من أهل المدينة وأهل البيت، الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قُربُ النسب، وقرب الدار! لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، وكانوا له أضبط.

فصل

ثم إن في اتخاذ القبور أعيادًا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضبُ لأجله كلُّ مَنْ في قلبه وقارٌ لله، وغَيْرة على التوحيد، وتهجين

(1)

ح: «الحسن بن الحسين» .

(2)

في اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 176).

ص: 350

وتقبيح للشرك، ولكن

ما لِجُرْحٍ بميِّتٍ إيلامُ

(1)

فمن مفاسد اتخاذها أعيادًا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على تُرابها، وعبادة أصحابها، والاستعانة

(2)

بهم، وسؤالُهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عُبّاد الأوثان يسألونها أوثانَهم.

فلو رأيت غُلاة المتخذين لها عيدًا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجِباه، وقَبّلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكَوْا حتى يُسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوْا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يُبدئ ولا يُعيد، ونادَوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنَوا منها صلَّوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر رُكّعًا سُجّدًا يبتغون فضلًا من الميت ورضوانًا، وقد ملأوا أكُفَّهم خيبة وخسرانًا، فَلِغَيْر الله بل للشيطان ما يُراق هناك من العَبَرات، ويرتفع من الأصوات، ويُطلب من الميت من الحاجات، ويُسأل من تفريج الكُربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليَّات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركًا وهُدًى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما

(1)

سبق ذكر صدر البيت وتخريجه.

(2)

ح، ت:«الاستغاثة» .

ص: 351

يفعل به وفْدُ البيت الحرام؟ ثم عَفّروا لَدَيْه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تُعفَّر كذلك بين يديه في السجود، ثم كمّلوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحِلاق، واستمتعوا بخَلاقهم من ذلك الوثن؛ إذ لم يكن لهم عند الله من خَلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتُهم ونُسكهم وقُربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يُهنِّئ بعضهم بعضًا، ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرًا وافرًا وحظًّا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلِّفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولو بحجِّك كل عام.

هذا؛ ولم نتجاوز فيما حكينا عنهم، ولا [55 ب] استقصينا جميع بِدَعهم وضلالهم؛ إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال، وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم، وكل من شَمَّ أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهمّ الأمور: سَدّ الذريعة إلى هذا المحظور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يؤول إليه، وأحكمُ في نَهْيه عنه وتوعُّده عليه، وأن الخير والهُدَى في اتباعه وطاعته، والشرّ والضلال في معصيته ومخالفته.

ورأيتُ لأبي الوفاء بن عَقيل في ذلك فصْلًا حسنًا

(1)

، فذكرته بلفظه، قال:

لما صعُبت التكاليف على الجهّال والطَّغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاعٍ وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور

(1)

انظر: تلبيس إبليس (ص 402).

ص: 352

وإكرامها

(1)

بما نهى عنه الشرع، من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكَتْب الرّقاع فيها: يا مولاي! افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبرُّكًا، وإفاضة الطِّيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخِرَق على الشجر، اقتداءً بمن عبد اللّات والعزّى، والويلُ عندهم لمن لم يُقَبِّل مَشهد الكفّ، ولم يتمسّح بآجُرّة مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته: الصديق أبو بكر أو محمد أو علي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجًا بالجِصّ والآجرّ، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يُرِق ماء الورد على القبر». انتهى.

ومن جمع بين سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم: رأى أحدهما مضادًّا للآخر، مناقضًا له، بحيث لا يجتمعان أبدًا.

فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها.

ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مَشاهد؛ مضاهاةً لبيوت الله.

ونهى عن إيقاد السُّرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها.

ونهى أن تُتخذ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.

وأمر بتسويتها، كما روى مسلم في «صحيحه»

(2)

عن أبي الهَيّاج

(1)

م: «إلزامها» .

(2)

برقم (969).

ص: 353

الأسدي، قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثُك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا أدَع تمثالًا إلا طَمَسْتُه، ولا قبرًا مُشرفًا إلا سَوّيْتُه.

وفى «صحيحه»

(1)

أيضًا عن ثُمامة بن شُفَيٍّ، قال: كنا مع فضالة بن عُبيد بأرض الروم بِرُودِس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فَضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها.

وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها من الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القِباب.

ونهى عن تجْصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم في «صحيحه»

(2)

عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه.

ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود في «سننه»

(3)

، عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تجصّص القبور، وأن يكتب عليها.

قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» .

(1)

برقم (968).

(2)

برقم (970).

(3)

سنن أبي داود (3228)، سنن الترمذي (1052)، ورواه أيضا النسائي (2027)، وابن ماجه (1562، 1563)، والطحاوي في معاني الآثار (2712)، والبيهقي في الكبرى (4/ 4) من طريق أبي داود، وصححه ابن حبان (3164)، وقال الحاكم (1/ 525):«هذا حديث على شرط مسلم، وقد خرج بإسناده غير الكتابة فإنها لفظة صحيحة غريبة» ، وصححه النووي في الخلاصة (2/ 1026)، وابن الملقن في البدر المنير (5/ 320)، والألباني في الإرواء (757). وهو في صحيح مسلم (970) لكن ليس فيه النهي عن الكتابة.

ص: 354

وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره.

ونهى أن يُزاد عليها غير ترابها، كما روى أبو داود

(1)

من حديث جابر أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يُجصَّص القبر، أو يكتب [56 أ] عليه، أو يزاد عليه.

وهؤلاء يزيدون عليه ــ سوى التراب ــ الآجُرّ والأحجار والجِصّ.

ونهى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن يُبنى القبر بآجر، وأوصى أن لا يُفعل ذلك بقبره

(2)

.

وأوصى الأسود بن يزيد أن لا تجعلوا على قبري آجرًّا

(3)

.

وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجُرّ على قبورهم

(4)

.

وأوصى أبو هريرة رضي الله عنه حين حضرته الوفاةُ: أن لا تضربوا عليّ فسطاطًا

(5)

.

(1)

سنن أبي داود (3228)، ورواه أيضا النسائي (2027)، والبيهقي في الكبرى (3/ 410)، وصححه النووي في المجموع (5/ 296)، والألباني في أحكام الجنائز (ص 204). وانظر: تخريج الحديث السابق.

(2)

لم أقف عليه، وذكره ابن قدامة في المغني (2/ 382).

(3)

رواه ابن سعد في الطبقات (6/ 75) وابن أبي شيبة (2/ 446) من طرق عن ابن عون عن إبراهيم عن الأسود به.

(4)

رواه عبد الرزاق (3/ 477) وابن أبي شيبة (3/ 25) عن الثوري عن مغيرة عن إبراهيم به، ورواه ابن أبي شيبة (3/ 25) أيضًا عن ابن مهدي عن سفيان عن منصور عن إبراهيم به.

(5)

رواه الطيالسي (2336)، وابن سعد (4/ 338)، وابن أبي شيبة (3/ 23)، وأحمد (2/ 292، 474)، وابن زبر في وصايا العلماء (ص 57، 58)، والبيهقي في الكبرى (4/ 21) عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن عبد الرحمن بن مهران عن أبي هريرة، وصحح إسناده ابن حجر في الإصابة (7/ 443)، وهو في السلسلة الصحيحة (444). ورواه عبد الرزاق (3/ 418) ــ ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط ــ عن معمر عن ابن أبي ذئب، وابن سعد (4/ 338) من طريق أبي معشر، كلاهما عن سعيد المقبري عن أبي هريرة.

ص: 355

وكره الإمام أحمد أن يُضرب على القبر فسطاط.

والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور، والمتخذينها

(1)

أعيادًا، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب: مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، محادُّون لما جاء به.

وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر، وقد صرّح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه.

قال أبو محمد المقدسي

(2)

: ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يُلْعَن مَنْ فعله، ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبَه تعظيمَ الأصنام. قال: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، يُحذّر ما صنعوا متفق عليه

(3)

. ولأن تخصيص

(4)

القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها، والتقرب إليها، وقد رُوِّينا أن ابتداء عبادة الأصنام

(1)

كذا في النسخ بإثبات النون.

(2)

هو ابن قدامة، انظر كلامه في: المغني (3/ 440، 441).

(3)

البخاري (4443)، ومسلم (531).

(4)

ح: «تجصيص» تصحيف.

ص: 356

تعظيمُ الأموات باتخاذ صورهم، والتمسح بها، والصلاة عندها». انتهى.

وقد آل الأمر بهؤلاء الضُّلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حَجًّا، ووضعوا له مناسك، حتى صنّف بعض غُلاتهم

(1)

في ذلك كتابًا وسماه «مناسك حج المشاهد» ؛ مضاهاةً منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عُبّاد الأصنام.

فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عمَّا تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حَصْره:

فمنها: تعظيمها المُوقِع في الافتتان بها.

ومنها: اتخاذها عيدًا.

ومنها: السفر إليها.

ومنها: مشابهة عبادة الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها، والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها وسدانتها، وعُبّادُها يُرجّحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضلَ من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيّمها ليلة يُطفأ القنديلَ المعلَّق عليها.

ومنها: النذر لها ولسدنتها.

ومنها: اعتقاد المشركين أن بها يُكشف البلاء، ويُنصر على الأعداء، ويُستنزل غيث السماء، وتُفرج الكرب، وتُقضى الحوائج، ويُنصر المظلوم، ويُجار الخائف، إلى غير ذلك.

(1)

هو ابن النعمان الملقب عند الرافضة بالمفيد.

ص: 357

ومنها: الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها، وإيقاد السُّرج عليها.

ومنها: الشرك الأكبر الذي يُفعل عندها.

ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم؛ فإنهم يؤذيهم ما يُفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح يكره ما يفعل النصارى عند قبورهم

(1)

، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ؛ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرؤون منهم، كما قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان: 17، 18]، قال الله للمشركين:{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} الآية [الفرقان: 19]، وقال تعالى [56 ب]:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} الآية [المائدة: 116]، وقال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 - 41].

ومنها: مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها.

ومنها: محادة الله ورسوله، ومناقضة ما شرعه فيها.

ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكثير، والإثم العظيم.

(1)

كذا في الأصل. في بعض النسخ: «قبره» . والمسيح رفعه الله إليه ولم يقبر بعدُ.

ص: 358

ومنها: إماتة السنن، وإحياء البدع.

ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبِّها إلى الله؛ فإن عُبّاد القبور يقصدونها من

(1)

التعظيم والاحترام والخشوع ورِقَّة القلب والعكوف بالهمة على الموتى ما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره، ولا قريب منه.

ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد، ودينُ الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم بضد ذلك، ولهذا لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين عَمروا المشاهد، وأخربوا المساجد.

ومنها: أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المَزُورِ بالدعاء له، والترحّم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلَبَ هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركات منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت، ولو لم يكن إلا بحرمانه بَركة ما شرعه الله من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له.

فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان، التي شرعها الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم وازِنْ بينها وبين زيارة أهل الإشراك، التي شرعها لهم الشيطان، واختر لنفسك.

(1)

ت، ش، ظ:«مع» .

ص: 359

قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلتي منه؛ يخرج من آخر الليل إلى البَقيع، فيقول:«السلام عليكم دار قوم مؤمنين! وأتاكم ما تُوعدون؛ غدًا مؤجَّلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بَقيع الغَرْقد» . رواه مسلم

(1)

.

وفى «صحيحه»

(2)

عنها أيضًا: أن جبريل عليه السلام أتاه، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفرَ لهم، قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين! ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم

(3)

للاحقون».

وفى «صحيحه»

(4)

أيضًا عن سليمان بن بُريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: «السلام على أهل الديار ــ وفي لفظ: السلام عليكم أهل الديار ــ من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» .

وعن بُريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليَزُرْ، ولا تقولوا هُجْرًا» رواه أحمد، والنسائي

(5)

.

(1)

برقم (974/ 102).

(2)

برقم (974/ 103).

(3)

«بكم» ساقطة من الأصل.

(4)

برقم (975).

(5)

مسند أحمد (5/ 361)، سنن النسائي (2033)، ورواه أيضا الطبراني في الأوسط (238، 2966)، والإسماعيلي في معجمه (192)، وصححه النووي في الخلاصة (2/ 1060)، والألباني في الإرواء (3/ 226). وهو عند مسلم (977) لكن ليس فيه النهي عن قول الهجر. وفي الباب عن أنس وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وثوبان وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو وأبي ذر وزيد بن الخطاب وجابر بن عبد الله وحيان الأنصاري وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم.

ص: 360

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور، سدًّا للذريعة، فلما تمكّن التوحيدُ في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هُجْرًا، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن زيارته غير مأذون فيها.

ومن أعظم الهُجْر: الشرك عندها قولًا وفعلًا.

وفى «صحيح مسلم»

(1)

، عن أبى هريرة [57 أ] رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور؛ فإنها تُذكّر الموت» .

وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إني كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة» . رواه الإمام أحمد

(2)

.

(1)

برقم (976).

(2)

مسند أحمد (1/ 145) من طريق ابن جدعان عن ربيعة بن النابغة عن أبيه عن علي به، وبهذا الإسناد رواه ابن أبي شيبة (3/ 29)، وأبو يعلى (278)، وعنه ابن عدي في الكامل (3/ 160)، قال الهيثمي في المجمع (4/ 26):«فيه النابغة، ذكره ابن أبي حاتم ولم يوثقه ولم يجرحه» ، وقال في موضع آخر (3/ 186):«فيه ربيعة بن النابغة، قال البخاري: لم يصح حديثه عن علي في الأضاحي» ، وهو هذا الحديث. ورواه مسدد ــ كما في إتحاف الخيرة (4/ 359) ــ من طريق ابن جدعان عن النابغة بن مخارق عن أبيه عن علي، قال البوصيري:«مدارها على علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف» .

ص: 361

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه، فقال:«السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم، ونحن بالأثر» . رواه أحمد، والترمذي وحسنه

(1)

.

وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروا القبور؛ فإنها تُزهّد في الدنيا، وتُذكّر الآخرة» . رواه ابن ماجه

(2)

.

(1)

لم أقف عليه عند أحمد، وهو في سنن الترمذي (1053) من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس به، وبهذا الإسناد رواه الطبراني في الكبير (12/ 107)، ومن طريقه الضياء في المختارة (532)، وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (4/ 220) وقال:«رجاله رجال الصحيح غير قابوس فمختلف فيه» ، وقال الألباني في أحكام الجنائز (ص 197):«لعل تحسين الترمذي لحديثه هذا إنما هو باعتبار شواهده، فإن معناه ثابت في الأحاديث الصحيحة» .

(2)

سنن ابن ماجه (1571) من طريق ابن جريج عن ابن هانئ عن مسروق عن ابن مسعود به، وبهذا الإسناد رواه الشاشي (397)، والحاكم (1387)، وعنه البيهقي في الكبرى (4/ 77)، وصححه ابن حبان (981)، والمنذري في الترغيب (4/ 189)، وقال البوصيري في المصباح (2/ 42):«إسناد حسن، أيوب بن هانئ مختلف فيه، وباقي رجاله على شرط مسلم» . ورواه عبد الرزاق (3/ 572) عن ابن جريج قال: حدِّثت عن مسروق به. ورواه ابن أبي شيبة (3/ 29) وأحمد (1/ 452) وأبو يعلى (5299) والدارقطني (4/ 259) من طريق فرقد السبخي عن جابر بن يزيد عن مسروق به نحوه، قال الدارقطني:«فرقد وجابر ضعيفان، ولا يصح» ، وضعفه الهيثمي في المجمع (4/ 28)، والبوصيري في إتحاف الخيرة (5/ 326) وقال:«لكن له شواهد» .

ص: 362

وروى الإمام أحمد

(1)

، عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإن فيها عِبْرة» .

فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُمته، وعلّمهم إياها، هل تجد فيها شيئًا مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مُضادّة لما هم عليه من كل وجه؟

وما أحسنَ ما قال مالكُ بن أنس رحمه الله: «لن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أوّلَها» .

ولكن كلما ضعُف تمسُّك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عُوّضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.

ولقد جَرّد السلف الصالحُ التوحيدَ، وحَمَوْا جانبه، حتى كان أحدُهم إذا سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد الدعاء، استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار

(1)

مسند أحمد (3/ 38) من طريق أسامة بن زيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمّه عن أبي سعيد، وبهذا الإسناد رواه عبد بن حميد (985)، والبيهقي في الكبرى (4/ 77)، وصححه الحاكم (1386)، وقال المنذري في الترغيب (4/ 189):«رواته محتج بهم في الصحيح» ، وتبعه الهيثمي في المجمع (3/ 184)، وحسنه الذهبي في المهذب (3/ 1426)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (ص 179). وروي عن محمد بن يحيى بن حبان مرسلًا. ورواه أحمد (3/ 63، 66) من طريق محمد بن عمرو بن ثابت عن أبيه عن أبي سعيد بنحوه. ورواه مالك (1031) ــ ومن طريقه البيهقي في الكبرى (4/ 77) ــ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أبي سعيد، قال البيهقي:«ربيعة لم يدرك أبا سعيد» ، وقال ابن عبد البر في التمهيد (3/ 214): «لم يسمع ربيعة من أبي سعيد، وهذا الحديث يتصل من غير حديث ربيعة ويستند إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طرق حسان

وهو حديث صحيح».

ص: 363

القبر، ثم دعا.

فقال سلمة بن وَرْدان: رأيتُ أنس بن مالك رضي الله عنه يُسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يُسندِ ظهره إلى جِدار القبر، ثم يدعو

(1)

.

ونص على ذلك الأئمةُ الأربعةُ: أنه يستقبل القِبْلة وقت الدعاء، حتى لا يدعو عند القبر؛ فإن الدعاء عبادة.

وفي «الترمذي»

(2)

وغيره مرفوعًا: «الدعاء هو العبادة» .

(1)

رواه ابن زبالة في أخبار المدينة ــ كما في الاقتضاء (ص 372) ــ عن عمر بن هارون عن سلمة بن وردان به، قال ابن تيمية:«محمد بن الحسن بن زبالة صاحبُ أخبار، وهو مضعَّف عند أهل الحديث؛ كالواقدي ونحوه، لكن يُستأنس بما يرويه ويُعتبر به» ، وعمر بن هارون البلخي واهٍ اتَّهمه بعضهم، وسلمة بن وردان ضعيف. وروى البيهقي في الشعب (3/ 491) من طريق ابن أبي الدنيا عن الحسن بن الصباح عن معن عن عبد الله بن منيب بن عبد الله بن أبي أمامة عن أبيه قال: رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف. ولم يذكر الدعاء، ومنيب قال عنه ابن حجر:«مقبول» .

(2)

سنن الترمذي (2969، 3247، 3372) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، ورواه أيضًا ابن المبارك في الزهد (1298، 1299)، والطيالسي (801)، وعبد الرزاق في التفسير (3/ 182)، وابن أبي شيبة (6/ 21)، وأحمد (4/ 267، 271، 276)، والبخاري في الأدب المفرد (714)، وأبو داود (1481)، والنسائي في الكبرى (11464)، وابن ماجه (3828)، وغيرهم، قال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» ، وصححه ابن حبان (890)، والحاكم (1802، 1803، 1804)، والنووي في الأذكار (1161)، والشوكاني في تفسيره (1/ 284)، وحسنه ابن حجر في الفتح (1/ 49)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (ص 194). وفي الباب عن البراء وأنس رضي الله عنهما.

ص: 364

فجرَّد السلفُ العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أَذِن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام على أصحابها، والاستغفار لهم، والترحّم عليهم.

وبالجملة فالميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له، ولهذا شُرع في الصلاة عليه من الدعاء له وجوبًا واستحبابًا ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي.

قال عوف بن مالك: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظتُ من دعائه وهو يقول:«اللهم اغفر له وارحمه، وعافِه واعفُ عنه، وأكرِمْ نُزُله، ووسّع مُدْخَله، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، ونَقّه من الخطايا كما نقّيت الثوب الأبيض من الدّنَس، وأبْدِلْه دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعِذْه من عذاب القبر ــ أو من عذاب النارـ» ؛ حتى تمنيتُ أن أكون أنا الميت، لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت. رواه مسلم

(1)

.

وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته على الجنازة: «اللهم أنت ربّها، وأنت خلقتها، وأنت هديتَها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بِسرها وعلانيتها، جئنا شُفعاء؛ فاغفر له» . رواه الإمام أحمد

(2)

.

(1)

برقم (963).

(2)

مسند أحمد (2/ 256، 345، 363، 458)، ورواه أيضا ابن أبي شيبة (2/ 488، 6/ 98)، وابن راهويه (287، 463)، وعبد بن حميد (1450)، وأبو داود (3202)، والنسائي في الكبرى (10915، 10916، 10917)، والطبراني في الدعاء (1179، 1180، 1181، 1183، 1184، 1185، 1186) وفي غيره، والبيهقي في الكبرى (4/ 42)، وغيرهم، وصححه النووي في الخلاصة (2/ 979)، وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (4/ 176)، مع أنّ في سنده اختلافًا كثيرًا، ورواه الطبري في تهذيب الآثار (292 ــ الجزء المفقود ـ) والفسوي في المعرفة (3/ 202) عن أبي هريرة موقوفًا. وفي الباب عن أنس وعلي وعن رجل من مزينة.

ص: 365

وفي «سنن أبي داود»

(1)

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا صليتم على الميت فأخْلِصوا له الدعاء» .

وقالت عائشة وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من ميت يصلي عليه أُمةٌ من المسلمين يبلُغون مئةً كُلُّهم يشفعون له؛ إلا شُفِّعوا فيه» رواه مسلم

(2)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما مِنْ رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلًا، لا يُشركون [57 ب] بالله شيئًا؛ إلا شفّعهم الله فيه» . رواه مسلم

(3)

.

فهذا مقصود الصلاة على الميت، وهو الدعاء له، والاستغفار، والشفاعة فيه.

ومعلوم أنه في قبره أشدّ حاجة منه على نَعْشِه؛ فإنه حينئذٍ مُعرَّض للسؤال وغيره.

(1)

سنن أبي داود (3201)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (4/ 40)، ورواه أيضًا ابن ماجه (1497)، والطبري في تهذيب الآثار (305، 306 ــ الجزء المفقود ـ)، والطبراني في الدعاء (1205، 1206)، وصححه ابن حبان (3076، 3077)، وفي سنده ابن إسحاق، وقد صرّح بالتحديث عند الطبري وابن حبان؛ ولذا حسَّنه الألباني في الإرواء (732).

(2)

برقم (947).

(3)

برقم (948).

ص: 366

وقد كان صلى الله عليه وسلم يقف على القبر بعد الدفن فيقول: «سلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل»

(1)

.

فعُلم أنه أحوج إلى الدعاء له بعد الدفن، فإذا كنا على جنازته ندعو له، لا نَدعو به، ونشفع له، لا نستشفع به، فبَعد الدفن أولى وأحرى.

فبدّل أهل البدع والشرك قولًا غير الذي قيل لهم، بدَّلوا الدعاءَ له بدعائه نفسه، والشفاعةَ له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة ــ التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحسانًا إلى الميت وإحسانًا إلى الزائر، وتذكيرًا بالآخرة ــ سؤال الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مُخّ العبادة، وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد، وأوقات الأسحار.

ومن المُحال أن يكون دعاء الموتى أو الدعاء بهم أو الدعاء عندهم مشروعًا وعملًا صالحًا، ويُصرف عنه القرونُ الثلاثة المفضّلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يُرْزَقَه الخُلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.

فهذه سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بِضْعًا وعشرين سَنةً، حتى توفاه الله، وهذه سُنّة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل يُمكنُ بَشرًا على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل

(1)

رواه أبو داود (3223)، وعبد الله بن أحمد في فضائل الصحابة (773)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (585)، والبيهقي في الكبرى (4/ 56)، والضياء في المختارة (388) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وصححه الحاكم (1372)، وحسنه المنذري كما في البدر المنير (5/ 331)، والنووي في المجموع (5/ 292) وفي غيره، وابن القيم في الروح (ص 13)، وهو في صحيح الترغيب (3511).

ص: 367

صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو منقطع: أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فَدَعَوْا عندها، وتمسّحوا بها، فضلًا أن يُصلّوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم؟ فَلْيُوقِفونا على أثر واحد، أو حرف واحد في ذلك.

بلى؛ يمكنهم أن يأتوا عن الخُلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر، حتى لقد وُجد في ذلك عدَّة مصنَّفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك، بلى؛ فيها من خلاف ذلك كثير، كما قدمناه من الأحاديث المرفوعة.

وأما آثار الصحابة فأكثر من أن يُحاط بها، وقد ذكرنا إنكار عمر على أنس صلاته عند القبر، وقوله له:«القبر القبر»

(1)

.

وقد ذكر محمد بن إسحاق في «مغازيه»

(2)

من زيادات يونس بن

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

السيرة لابن إسحاق (1/ 43 - 44)، ومن طريق ابن بكير رواه البيهقي في الدلائل (1/ 381)، قال ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 49):«هذا إسناد صحيح إلى أبي العالية» . ورواه نعيم في الفتن (37) عن محمد بن يزيد عن أبي خلدة بنحوه مقتصرًا على شأن المصحف. ويقوّيه ما رواه ابن أبي شيبة (7/ 4) عن شاذان عن حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن أنس أنهم لما فتحوا تستر قال: فوجد رجلًا أنفه ذراع في التابوت، كانوا يستظهرون أو يستمطرون به، فكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب عمر: إن هذا نبيّ من الأنبياء، والنار لا تأكل الأنبياء، والأرض لا تأكل الأنبياء، فكتب إليه أن انظر أنت وأصحابك فادفنوه في مكان لا يعلمه أحد غيركما، قال: فذهبتُ أنا وأبو موسى فدفنّاه. ولقصّة دفن دانيال طرق أخرى.

ص: 368

بكير

(1)

، عن أبي خَلدة خالد بن دينار، قال: حدثنا أبو العالية، قال: لما فتحنا تُسْتَر وجدنا في بيتِ مال الهُرْمُزان سريرًا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعا له كَعبًا، فنسخه بالعربية، فأنا أولُ رجل من العرب قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتُكم وأموركم ولُحون

(2)

كلامكم، وما هو كائن بعدُ، قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرًا متفرقة، فلما كان الليلُ دفنّاه وسوينا القبور كلها، لنُعَمِّيَه على الناس لا يَنْبشونه، فقلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حُبست عنهم أبرزوا السرير فيُمْطَرون، فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال، فقلت: مُنذْ كَمْ وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاث مئة سنة، قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا؛ إلا شُعيرات من قَفاه، إن لحوم الأنبياء لا تُبليها الأرض، ولا تأكلها السباع.

ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره؛ لئلا يفتتن به الناس، ولم يُبْرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون [58 أ] لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله، فهم قد اتخذوا من القبور أوثانًا مَنْ لا يُداني هذا ولا يقاربه، وأقاموا لها سَدنَة، وجعلوها معابد أعظم من المساجد.

فلو كان الدعاء عند القبور، والصلاة عندها، والتبرك بها فضيلةً أو سنة أو مباحًا، لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر عَلَمًا لذلك، ودعوا عنده،

(1)

م: «بكر» تحريف.

(2)

م: «لحوف» . ح: «لحوت» تحريف ..

ص: 369

وسنُّوا ذلك لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخُلوف التي خلفت بعدهم.

وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به، ولا دعا عنده، ولا استسقى به، ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفَّر الهِمم والدّواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه.

وحينئذٍ فلا يخلو: إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير تلك البقعة، أولا يكون:

فإن كان أفضل فكيف خفي علمًا وعملًا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلةً بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخُلوف علمًا وعملًا؟ ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء؛ فإن المضطر يتشبّثُ بكل سبب، وإن كان فيه كراهةٌ ما، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه؟ هذا محال طبعًا وشرعًا.

فتعيّن القسم الآخر، وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا هو مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذَريعة إلى ما تقدم من المفاسد، ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله البتة، بل استحبابُ الدعاء عندها شرعُ عبادةٍ لم يشرعها الله، ولم يُنزّل بها سلطانًا.

وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير.

ص: 370

فروى غير واحد عن المَعْرُور بن سُوَيد، قال: صليتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكة صلاة الصبح، فقرأ فيها:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]، و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]، ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين! مسجدٌ صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فهم يصلّون فيه، فقال: إنما هَلَك مَنْ كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتّبعون آثار أنبيائهم، ويتخذونها كنائس وبِيَعًا. فمن أدْرَكته الصلاة منكم في هذه المساجد فليُصَلّ، ومَنْ لا فَليَمْضِ ولا يتعمّدها

(1)

.

وكذلك أرسل عمر رضي الله تعالى عنه أيضًا؛ فقطَع الشجرة التي بايع تحتها أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

بل قد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة لمّا سألوه أن يجعل لهم شَجَرة يُعلّقون عليها أسلحتهم ومتاعَهم بخصوصها.

فروى البخاري في «صحيحه»

(3)

عن أبي واقِد اللَّيثي، قال: خرجنا مع

(1)

رواه عبد الرزاق (2/ 118)، وابن أبي شيبة (2/ 151)، والطحاوي في شرح المشكل (12/ 544 - 545) وغيرهم من طرق عن الأعمش عن المعرور به نحوه، وصححه ابن تيمية كما في المجموع (1/ 281، 27/ 33، 134، 171) وفي مواضع أخرى، وابن كثير في مسند الفاروق (1/ 142)، وابن حجر في الفتح (1/ 569)، والألباني في تحذير الساجد (ص 82).

(2)

سيأتي تخريجه.

(3)

ليس هو في صحيح البخاري، وقد نبَّه على ذلك في هامش ح. وسيعزوه فيما يأتي للترمذي، وهو في سننه (2180)، ورواه أيضا الطيالسي (1346)، وعبد الرزاق (11/ 369)، والحميدي (848)، وابن أبي شيبة (7/ 479)، وأحمد (5/ 218)، وابن أبي عاصم في السنة (76)، والنسائي في الكبرى (11185) من طريق عبد الرزاق، وأبو يعلى (1441) عن ابن أبي شيبة، وغيرُهم، قال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» ، وصححه ابن حبان (6702)، وابن القيم في هذا الكتاب، وابن باز كما في مجموع فتاويه (3/ 337، 355)، والألباني في ظلال الجنة (76). وفي الباب عن ابن عباس وعمرو بن عوف المزني.

ص: 371

رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ حُنَين، ونحن حَديثُو عَهدٍ بكفر، وللمشركين سِدْرَةٌ، يَعْكُفون حولها ويَنُوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذاتُ أنواطٍ، فمررنا بسِدْرةٍ، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذاتَ أنواطٍ، كما لهم ذاتُ أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]! لتركبنَّ سَنَنَ من كان قبلكم» .

فإذا كان اتخاذُ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذَ إله مع الله، مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها؛ فما الظن بالعكوف حول القبر، والدعاء به [58 ب] ودعائه، والدعاء عنده؟ فأيّ نِسبَةٍ للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر؟ لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون!

قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك

(1)

: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سِدْرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويَرجُون البُرءَ والشفاء من قِبَلها، ويَضْربُون بها المسامير والخِرَق؛ فهي ذاتُ أنواط، فاقطعوها.

ومن له خِبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره، عَلِمَ أن بين السلف وبين هؤلاء الخُلوف من البُعْد أبعد ما بين المشرق والمغرب، وأنهم على شيء والسلف على شيء، كما قيل:

(1)

هو الطرطوشي، انظر كلامه في الحوادث والبدع (ص 105) ط. عبد المجيد تركي.

ص: 372

سَارَتْ مُشَرّقَةً وَسِرْتَ مُغَرِّبًا

شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ ومُغرِّبِ

(1)

والأمر والله أعظم مما ذكرنا.

وقد ذكر البخاري في «الصحيح»

(2)

عن أمّ الدرداء رضي الله عنها، قالت: دخل عليَّ أبو الدرداء مُغضَبًا، فقلت له: ما لَك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم شيئًا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعًا!

وروى مالك في «الموطأ»

(3)

عن عمه أبي سُهيل بن مالك، عن أبيه، أنه قال: ما أعرف شيئًا مما أدركتُ عليه الناس إلا النّداء بالصلاة؛ يعني الصحابة رضي الله عنهم.

وقال الزهريّ: دخلت على أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكي، فقلت له: ما يُبكيك؟ فقال: ما أعرف شيئًا مما أدركتُ إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيّعت، ذكره البخاري

(4)

.

وفي لفظ آخر: ما كنت أعرف شيئًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قد أنكرته اليوم

(5)

.

(1)

البيت بلا نسبة في تاج العروس (شرق). وكان ينشده أبو إسحاق الشيرازي كما في الوافي بالوفيات (6/ 64)، والروض المعطار (ص 444).

(2)

برقم (650).

(3)

الموطأ (155)، ومن طريق مالك رواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (174).

(4)

صحيح البخاري (530).

(5)

أقرب ما وقفتُ عليه إلى هذا اللفظ ما ذكره ابن رجب في الفتح (3/ 56) قال: «ورواه حماد بن سلمة أن ثابتًا أخبره قال: قال أنس: ما شيء شهدته على عهد رسول الله إلا وقد أنكرته اليوم» الأثر.

ص: 373

وقال الحسن البصري: سأل رجل أبا الدرداء رضي الله عنه فقال: رحمك الله! لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا هل كان ينكر شيئًا مما نحن عليه؟ فغضب، واشتد غضبه، وقال: وهل كان يعرف شيئًا مما أنتم عليه؟

(1)

.

وقال المبارك بن فَضَالة: صلى الحسنُ الجمعة وجلس، فبكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد؟ فقال: تلومونني على البكاء، ولو أن رجلًا من المهاجرين اطّلع من باب مسجدكم ما عرف شيئًا مما كان عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم اليوم عليه؛ إلا قِبْلَتكم هذه!

(2)

.

وهذه هي الفتنة العظمى التي قال فيها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «كيف أنتم إذا لَبِستكم فتنة، يَهْرَم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجري على الناس، يتخذونها سُنة؛ إذا غُيّرت قيل: غُيّرت السنة، أو هذا منكر»

(3)

.

(1)

لم أقف على هذه الرواية، وروى البخاري (622) عن أم الدرداء قالت: دخل عليَّ أبو الدرداء وهو مغضَب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله، ما أعرف من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا أنهم يصلّون جميعًا.

(2)

ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (4/ 1)، ورواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (176) من طريق ابن عيينة عن ابن فضالة عن الحسن قال: لو أنّ رجلا أدرك السلف الأوّل ثم بعِث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا، قال: ووضع يده على خدّه ثم قال: إلا هذه الصلاة.

(3)

رواه ابن أبي شيبة (7/ 452)، والدارمي (185)، والشاشي (613)، والحاكم (8570)، والبيهقي في الشعب (5/ 361) من طرق عن الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود. ورواه معمر في جامعه (11/ 359) ـ ومن طريقه الخطابي في العزلة (ص 84) ــ عن قتادة عن ابن مسعود. ورواه الدارمي (186) وابن وضاح في البدع (261) وابن حزم في الإحكام (6/ 315) من طريق علقمة، ونعيم في الفتن (69) من طريق عمرو بن ميمون، وابن وضاح في البدع (78) من طريق زبيد اليامي، ثلاثتهم عن ابن مسعود. وهو في صحيح الترغيب (111). ورُوِي مرفوعًا.

ص: 374

وهذا مما يدل على أن العمل إذا جرى على خلاف السنة فلا عبرة به، ولا التفات إليه؛ فإن العمل قد جرى على خلاف السنة منذ زمن أبي الدرداء، وأنس، كما تقدم.

وذكر أبو العباس أحمد بن يحيى: حدثني محمد بن عُبيد بن ميمون، حدثني عبد الله بن إسحق الجعفري، قال: كان عبد الله بن الحسن يُكْثِرُ الجلوس إلى ربيعة، قال: فتذاكروا يومًا السّنن، فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا، فقال عبد الله: أرأيت إن كثر الجهّال، حتى يكونوا هم الحكّام، فهم الحجة على السنة؟ فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء

(1)

.

فصل

ومن أعظم مكايده: ما نصبَهُ للناس من الأنصاب والأزلام التي هي مِنْ عمله، وقد أمر الله تعالى باجتناب ذلك، وعَلّق الفلاح باجتنابه، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

فالأنصاب: كل ما نُصِب يُعْبد من دون الله من حجر، أو شجر، أو وثنٍ، أو قبرٍ، وهي [59 أ] جمع، واحدها نُصْب، كطنْب وأطناب.

(1)

رواه الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 380)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (27/ 372) من طريق أحمد بن يحيى به.

ص: 375

قال مجاهد

(1)

، وقتادة

(2)

، وابن جريج

(3)

: كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها، ويُشرِّحون اللحم عليها، وكانوا يعظِّمون هذه الحجارة ويعبدونها، قالوا: وليست بأصنام، إنما الصنم ما يُصَوَّر ويُنقش.

وقال ابن عباس

(4)

: هي الأصنام التي تُعَبد من دون الله.

وقال الزّجاج

(5)

: حجارة كانت لهم يعبدونها، وهي الأوثان.

(1)

أقوال هؤلاء المفسرين منقولة من البسيط للواحدي (7/ 248 ــ 249). وقول مجاهد: «النصُب: حجارة حول الكعبة، يذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجارة أعجب إليهم منها» رواه ابن جرير في تفسيره (11049، 11050، 11051، 11055) من طريق ابن أبي نجيح والقاسم بن أبي بزة عن مجاهد به، وعزاه في الدر المنثور (3/ 15) لعبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

قول قتادة: «النصب: حجارةٌ كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها، فنهى الله عن ذلك» رواه ابن جرير في تفسيره (11052).

(3)

قول ابن جريج: «النصُب ليست بأصنام، الصنم يصوَّر وينقش، وهذه حجارة تنصَب، ثلثمائة وستون حجرًا، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبَل من البيت، وشرَّحوا اللحم وجعلوه على الحجارة» رواه ابن جرير في تفسيره (11048)، وعزاه في الدر المنثور (6/ 56) لابن المنذر.

(4)

تفسير ابن عباس للنّصُب بالأصنام رواه البيهقي في الكبرى (9/ 249) من طريق ابن أبي طلحة عنه. وروى الطستي في مسائله ــ كما في الدر المنثور (3/ 14) ــ عن ابن عباس قال: «الأنصاب: الحجارة التي كانت العرب تعبدها من دون الله وتذبح لها» ، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (6754) عن عطاء عنه. وروى ابن جرير في تفسيره (11054) عن علي بن أبي طلحة عنه قال:«النصب: أنصاب كانوا يذبحون ويُهلُّون عليها» ، وعزاه في الدر المنثور (3/ 14) لابن المنذر.

(5)

معاني القرآن (2/ 146).

ص: 376

وقال الفرّاء

(1)

: هي الآلهة التي كانت تُعَبد، من أحجار

(2)

وغيرها.

وأصل اللفظة: الشيء المنصوب الذي يقصده من رآه، ومنه قوله تعالى:{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43].

قال ابن عباس

(3)

: إلى غاية أو عَلَمٍ يُسرعون.

وهو قول أكثر المفسرين.

وقال الحسن

(4)

: يعني: إلى أنصابهم، أيُّهم يستلمها أولًا.

قال الزجاج

(5)

: وهذا على قراءة من قرأ {نُصُب} بضمتين، كقوله:{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، قال: ومعناه: أصنام لهم.

والمقصود أن النُّصُب كل شيء نُصِبَ، من خشبة أو حجر أو عَلَم.

والإيفاض: الإسراع.

وأما الأزلام: فقال ابن عباس

(6)

: هي قداح كانوا يَستقسمون بها في

(1)

لم أجد قوله في معاني القرآن له. وهو في تهذيب اللغة (12/ 210)، والنقل هنا من البسيط.

(2)

م: «أشجار» .

(3)

هذه الأقوال منقولة من البسيط (22/ 238)،وقول ابن عباس رواه ابن جرير في تفسيره (23/ 625) من طريق عطية العوفي عنه قال:«كأنهم إلى عَلَم يسعون» .

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في الأهوال (74)، وابن جرير في تفسيره (23/ 625)، وابن أبي حاتم كما في فتح الباري (3/ 226)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 287) لعبد بن حميد.

(5)

معاني القرآن (5/ 224).

(6)

رواه ابن جرير في تفسيره (11073) والبيهقي في الكبرى (9/ 249) من طريق علي ابن أبي طلحة، وابن أبي حاتم في تفسيره (6755) من طريق عطاء، كلاهما عن ابن عباس به، وعزاه في الدر المنثور (3/ 14) لابن المنذر والطستي في مسائله.

ص: 377

الأُمور؛ أي يطلبون بها عِلْمَ ما قُسِم لهم.

وقال سعيد بن جُبير

(1)

: كانت لهم حَصَيات، إذا أراد أحدهم أن يغزو أو يجلس استقسم بها.

وقال أيضًا

(2)

: هي القِدْحان

(3)

اللذان كان يستقسم بهما أهل الجاهلية في أمورهم، أحدهما: عليه مكتوب أمرني ربي، والآخر: نهاني ربي، فإذا أرادوا أمرًا ضربوا بها، فإن خرج الذي عليه «أمرني» فعلوا ما همّوا به، وإن خرج الذي عليه:«نهاني» تركوه.

قال أبو عُبيد

(4)

: الاستقسام: طلبُ القسمة.

وقال المبرد: الاستقسام: أخذُ كلِّ واحدٍ قَسْمَه.

وقيل: الاستقسام: إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح، كقسم اليمين.

وقال الأزهري: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} [المائدة: 3]؛ أي: تطلبوا من جهة الأزلام ما قُسِم لكم من أحد الأمرين.

(1)

رواه ابن جرير في تفسيره (11059) وابن أبي حاتم في تفسيره (6756) من طريقين عن أبي حصين عنه.

(2)

رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (6757) من طريق ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عنه، ورواه ابن جرير في تفسيره (11058) من طريق أبي حصين عنه بمعناه.

(3)

في أكثر النسخ: «القدحين» . والتصويب من ح.

(4)

قول أبي عبيد ومَن بعده منقول من البسيط (7/ 250). وانظر: تهذيب اللغة (8/ 420).

ص: 378

وقال أبو إسحاق الزّجاج

(1)

وغيره: الاستقسام بالأزلام حرام. ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجِّم: لا تخرجْ من أجل نجم كذا، واخرُجْ من أجل طلوع نجم كذا؛ لأن الله تعالى يقول:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]، وذلك دخول في علم الله عز وجل الذي هو غيب عنا، فهو حرام كالأزلام التي ذكرها الله.

والمقصود أن الناس قد ابتُلوا بالأنصاب والأزلام، فالأنصاب للشرك والعبادة، والأزلام للتكهُّن، وطلب عِلْم ما استأثر الله به، هذه للعلم، وتلك للعمل، ودين الله سبحانه مضادّ لهذا وهذا، والذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطالهما، وكسرُ الأنصاب والأزلام.

فمن الأنصاب ما قد نصبه الشيطان للمشركين، من شجرة، أو عمود، أو وثن، أو قبر، أو خشبة، أو غير ذلك، والواجب هدم ذلك كله، ومَحْوُ أثره، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض، كما روى مسلم في «صحيحه»

(2)

عن أبي الهَيّاج الأسدي، قال: قال لي علي رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا أدع تمثالًا إلا طمستُه، ولا قبرًا مشرفًا الا سوّيتُه.

وعمّى الصحابة بأمر عمر بن الخطاب قبرَ دانيال، وأخفاه عن الناس

(3)

.

(1)

معاني القرآن (2/ 147). وانظر: البسيط (7/ 253).

(2)

برقم (969). وقد سبق.

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 379

ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بايع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أرسل فقطعها. رواه ابن وضّاح في كتابه

(1)

، فقال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بُويعَ تحتها النبي صلى الله عليه وسلم [59 ب] فقطعها؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلُّون تحتها، فخاف عليهم الفتنة. قال عيسى بن يونس: وهو عندنا من حديث ابن عون، عن نافع: أن الناس كانوا يأتون الشجرة، فقطعها عمر رضي الله عنه.

فإذا كان هذا فعل عمر رضي الله عنه بالشجرة التي ذكرها الله في القرآن، وبايع تحتها الصحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فماذا حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب والأوثان، التي قد عظمت الفتنة بها، واشتدت البَلِيّة بها؟

وأبلغ من ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هَدَم مسجد الضِّرار، ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فسادًا منه، كالمساجد المبنية على القبور؛ فإن حكم الإسلام فيها أن تُهدَم كلُّها، حتى تُسوَّى بالأرض، وهي أولى بالهدم من مسجد الضّرار، وكذلك القباب التي على القبور يجب هدمها كلها؛ لأنها أُسِّست على معصية الرسول، لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم؛ فبناءٌ أُسِّس على معصيته ومخالفته بناءٌ محرّمٌ، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعًا.

(1)

البدع والنهي عنها (100). ورواه ابن سعد في الطبقات (2/ 100) عن عبد الوهاب ابن عطاء، وابن أبي شيبة (2/ 150) عن معاذ بن معاذ، كلاهما عن عبد الله بن عون عن نافع قال: كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها شجرة الرضوان فيصلون عندها، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت. صحح ابن حجر في الفتح (7/ 448) إسناده عن نافع، وقال الألباني في تحذير الساجد (ص 83):«رجاله ثقات كلهم، لكنه منقطع بين نافع وعمر، فلعل الواسطة بينهما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما» .

ص: 380

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة كما تقدم. فهدم القباب والبناء والمساجد التي بُنيتْ عليها أولى وأحرى؛ لأنه لَعَن مُتخذي المساجد عليها، ونهى عن البناء عليها، فيجب المبادرة والمساعدة إلى هدم ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، ونهى عنه، والله يُقيم لدينه وسُنّة رسوله من ينصرهما، ويَذُبّ عنهما، فهو أشد غيرةً وأسرع تغييرًا.

وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر وطَفْيُه؛ فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصحُّ هذا الوقف، ولا يحل إثباته وتنفيذه.

قال الإمام أبو بكر الطرطوشي

(1)

: انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البُرْءَ والشفاء من قِبَلها، ويضربون بها المسامير والخِرَق؛ فهي ذات أنواط، فاقطعوها.

وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب «الحوادث والبدع»

(2)

: ومن هذا القسم أيضًا: ما قد عَمَّ به الابتلاء، من تزيين الشيطان للعامّة تخليق الحيطان والعُمُد، وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد، يحكي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها أحدًا ممن شُهِرَ بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك

(3)

، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى ان يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من بين عيون، وشجر، وحائط، وحجر.

(1)

في كتابه «الحوادث والبدع» (ص 105).

(2)

هو «الباعث على إنكار البدع والحوادث» (ص 34 وما بعدها).

(3)

«ذلك» ساقطة من م.

ص: 381

وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة، كعُوينة الحمى خارج باب تُوماء

(1)

، والعمود المخلّق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر، في نفس قارعة الطريق، سهّل الله تعالى قطْعها واجتثاثَها من أصلها! فما أشبهها بذات أنواط التي في الحديث.

ثم ساق حديث أبي واقدٍ: أنهم مَرّوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بشجرة عظيمة خضراء، يقال لها: ذات أنواط، وأنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلْ لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«الله أكبر! هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]؛ لترْكَبُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم» . قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح»

(2)

.

ثم ذكر ما صنعه بعض أهل العلم ببلاد إفريقية، أنه كان إلى جانبه عين تُسمى عين العافية، كان [60 أ] العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، فمن تعذّر عليه نكاحٌ أو ولد قال: امضُوا بي إلى العافية، فتعرف فيها الفتنة

(3)

، فخرج في السَّحَر فهدمها، وأذّن للصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسًا، قال: فما رفع لها رأس إلى الآن.

وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسّر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحِّدين، كالعامود المخَلّق، والنُّصْب الذي كان بمسجد النارنج عند المصلى ىعبده الجهال، والنُّصْب الذي كان تحت الطاحون، الذي عند مقابر النصارى، ينتابه الناس للتبرك به، وكان صورة

(1)

في الأصل: «توما» ، وهي ممدودة كما في معجم البلدان (2/ 59).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

ح: «الفقيه» .

ص: 382

صنم في نهر القَلّوط ينذرون له ويتبركون به، وقطع الله سبحانه النُّصْب الذي كان عند الرّحَبة يُسْرَج عنده، ويتبرك به المشركون، وكان عمودًا طويلًا على رأسه حجر كالكُرة، وعند مسجد درب الحجر نُصْب قد بُني عليه مسجد صغير، يعبده المشركون، يسَّر الله كَسْرَهُ.

فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت! ويقولون: إن هذا الحجر، وهذه الشجرة، وهذه العين تقبل النذر؛ أي: تقبل العبادة من دون الله تعالى، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، ويتمسّحون بذلك النُّصُب، ويستلمونه.

ولقد أنكر السَّلف التمسُّح بحجر المقام الذي أمر الله أن يُتخذ منه مُصلّى، كما ذكر الأزرقي في كتاب مكة

(1)

عن قتادة، في قوله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، قال: «إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها

(2)

؛ ذُكر لنا من رأى أثره وأصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخْلَوْلَق».

وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب: فتنة أنصاب

(3)

القبور، وهي أصل فتنة

(1)

أخبار مكة للأزرقي (2/ 27) من طريق عمر بن سهل بن مروان عن يزيد بن زُريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، ورواه أيضًا الطبري في تفسيره (2/ 35) عن بشر بن معاذ عن يزيد به، وعزاه في الدر المنثور (1/ 292) لعبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

«قبلها» ساقطة من الأصل.

(3)

ح، ت، ظ:«أصحاب» .

ص: 383

عبادة الأصنام، كما قاله السلف من الصحابة والتابعين، وقد تقدم.

ومن أعظم كيد الشيطان: أنه يَنْصِب لأهل الشرك قبر معظَّمٍ يُعظِّمه الناس، ثم يجعله وثنًا يُعبد من دون الله، ثم يُوحِي إلى أوليائه: أن مَنْ نهى عن عبادته واتخاذه عيدًا وجَعْلِه وثنًا؛ فقد تنقّصَه، وهضمه حقّه، فيسعى الجاهلون المشركون في قَتْله وعقوبته ويكفِّرونه؛ وذَنْبُه عند أهل الإشراك: أمْرُهُ بما أمر الله به ورسوله، ونهيُه عما نهى الله عنه ورسوله، مِن جَعْلِه وثنًا وعيدًا، وإيقاد السّرُج عليه، وبناء المساجد والقباب عليه، وتجصيصه، وإشادته، وتقبيله، واستلامه، ودعائه، أو الدعاء به، أو السفر إليه، أو الاستغاثة به من دون الله، مما قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضادّ لما بعث الله به رسوله من تجريد التوحيد لله، وأن لا يُعبدَ إلا الله.

فإذا نهى الموحّدُ عن ذلك غضب المشركون، واشمأزّت قلوبهم، وقالوا: قد تنقَّص أهلَ الرُّتَب العالية، وزعم أنهم لا حُرمة لهم ولا قَدْر، وسَرَى ذلك في نفوس الجهال والطّغام، وكثيرٍ ممن يُنسَب إلى العلم والدّين؛ حتى عادَوا أهل التوحيد، ورَمَوْهم بالعظائم، ونفّروا الناس عنهم، ووَالَوا أهل الشركِ وعظَّموهم، وزعموا أنهم هم أولياء الله، وأنصارُ دينه ورسوله!

ويأبى الله ذلك، فما كانوا أولياءه، إنْ أولياؤهُ إلا المتقون، المتبعون له، الموافقون له، العارفون بما جاء به، الدَّاعون إليه، لا المتشَبّعون بما لم يُعْطَوا، لابِسُو ثياب الزّور، الذين يصدّون الناس عن سُنة نبيهم، ويَبْغُونهم عِوَجًا، وهم يَحْسبون أنهم يُحسِنون صُنْعًا!

ص: 384

[60 ب] فصل

ولا تحسبْ أيُّها المُنْعَمُ عليه باتباع صراط الله المستقيم، صراط أهل نعمته ورحمته

(1)

وكرامته! أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانًا وأعيادًا وأنصابًا، والنهي عن اتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وإيقاد السُّرج عليها، والسفر إليها، والنذر إليها، واستلامها، وتقبيلها، وتعْفِير الجِباه في عَرَصاتها غَضٌّ من أصحابها، ولا تنقيصٌ لهم

(2)

، كما يحسبه أهل الإشراك والضلال؛ بل ذلك من إكرامهم، وتعظيمهم، واحترامهم، ومتابعتهم فيما يُحبونه، وتجنُّب ما يكرهونه، فأنت والله وليُّهم ومُحِبّهم، وناصر طريقتهم وسنتهم، وعلى هَدْيهم ومنهاجهم، وهؤلاء المشركون أعصَى الناس لهم، وأبعدهم من هَدْيهم ومتابعتهم، كالنصارى مع المسيح عليه السلام، واليهود مع موسى عليه السلام، والرافضة مع علي رضي الله عنه.

فأهل الحق أوْلَى بأهل الحق من أهل الباطل، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، و {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67].

فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضَتْ عن السّنَن، فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور مُعرضين عن طريقة مَنْ فيهَا وهَدْيِه وسُنته، مشتغلين بقبره عمّا أمرَ به ودَعا إليه! وتعظيمُ الأنبياء والصالحين ومحبَّتُهم إنما هو باتباع ما دَعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم، وسلوك طريقتهم، دون عبادة قبورهم، والعكوف عليها، واتخاذها أعيادًا.

(1)

«ورحمته» ساقطة من م.

(2)

في ح، ت، ش زيادة «ولا تنقص» .

ص: 385

فإن من اقتفى آثارهم كان متسبِّبًا

(1)

إلى تكثير أجورهم؛ باتباعه لهم، ودعوته الناس إلى اتّباعهم، فإذا أعرض عمَّا دعوا إليه، واشتغل بضدّه، حَرَمَ نفسَه وحَرَمَهم ذلك الأجرَ، فأيّ تعظيم لهم واحترام في هذا؟

وإنما اشتغل كثير من الناس بأنواع من العبادات المُبتدَعَة، التي يكرهها الله ورسوله؛ لإعراضهم عن المشروع أو بعضه، وإن قاموا بصورته الظاهرة فقد هَجروا حقيقته المقصودة منه؛ وإلا فَمَن

(2)

أقْبَلَ على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه، عارفًا بما اشتملت عليه من الكلِم الطيب والعمل الصالح، مُهتمًّا بها كل الاهتمام، أغْنَتْه عن الشرك، وكلُّ من قَصّر فيها أو في بعضها تجد فيه من الشرك بحسب ذلك.

ومن أصغى إلى كلام الله

(3)

بقلبه، وتدبّره وتفهّمه، أغناه عن السّماع الشيطاني الذي يصُدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، ويُنبت النفاق في القلب، وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بكلّيته، وحدّث نفسه باقتباس الهدَى والعلم منه لا من غيره، أغناه عن البدع والآراء والتخرّصات والشطَحات والخيالات، التي هي وساوس النفوس وتخيلاتها.

ومن بَعُدَ عن ذلك فلا بدّ له أن يتعوَّض عنه بما لا ينفعه، كما أن من عَمَرَ قلبه بمحبّة الله وذِكْرِه، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه، وأغناه أيضًا عن عِشْق الصور، وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه، أيُّ شيء استحسنه ملكه واستعبده.

(1)

الأصل، م، ش:«منتسبا» . والمثبت من بقية النسخ.

(2)

الأصل: «فمتى» .

(3)

زاد في ح: «ورسوله» .

ص: 386

فالمُعْرِض عن التوحيد مشركٌ شاء أم أبى، والمُعْرض عن السنة مبتدع ضالٌّ شاء أم أبى، والمُعْرِض عن محبة الله وذكره عبد الصّورِ شاء أم أبى، والله المستعان، وعليه التُّكْلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فصل

فإن قيل: فما الذي أوقع عُبّاد القبور في الافتتان بها، مع العلم بأن ساكنيها أموات، لا يملكون لهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا [61 أ] ولا حياة ولا نشورًا؟

قيل: أوقعهم في ذلك أمور:

منها: الجهل بحقيقة ما بعث اللهُ به رسولَه بل جميعَ الرسل من تحقيق التوحيد، وقَطْع أسباب الشرك، فقلّ نصيبُهم جدًّا من ذلك، ودعاهم الشيطانُ إلى الفتنة، ولم يكن عندهم من العلم ما يُبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعُصِموا بقدر ما معهم من العلم.

ومنها: أحاديث مكذوبة مُختلَقة، وضعها أشباه عُباد الأصنام من المقابرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تُناقض دينَه وما جاء به، كحديث:«إذا أعْيَتكُم الأمور فعليكم بأصحاب القبور»

(1)

، وحديث:«لو أحسَنَ أحدُكم ظنَّه بحجرٍ نفعه»

(2)

، وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقِضةٌ لدين الإسلام،

(1)

قال ابن تيمية كما في المجموع (1/ 356): «هذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة» ، وقال (11/ 293):«هو كذب باتفاق أهل المعرفة، وإنما هذا وَضعُ مَن فتح باب الشرك» .

(2)

قال ابن تيمية كما في المجموع (24/ 335): «هذا من المكذوبات التي لم يروها أحد من علماء المسلمين، ولا هو في شيء من كتب الحديث» ، وقال (11/ 513):«هو من كلام أهل الشرك والبهتان» ، وقال ابن القيم في المنار المنيف (319):«هو من وضع المشركين عباد الأوثان» ، وقال ابن حجر ــ كما في المقاصد الحسنة (ص 542) ــ والغزي في الجد الحثيث (391)، والعجلوني في كشف الخفاء (2462)، ومحمد الأمير المالكي في النخبة البهية (269):«لا أصل له» ، وأورده الفتّني في تذكرة الموضوعات (ص 28)، والقاري في الأسرار المرفوعة (376)، والكرمي في الفوائد الموضوعة (188)، والقاوقجي في اللؤلؤ المرصوع (445).

ص: 387

وضعَها المشركون، وراجت على أشباههم من الجهال الضُّلال، والله بعث رسوله بقتل من حَسَّن ظنَّه بالأحجار، وجَنّب أمّتَه الفتنةَ بالقبور، بكل طريق كما تقدم.

ومنها: حكايات حُكِيَتْ لهم عن تلك القبور: أن فلانًا استغاث بالقبر الفلاني في شِدة، فخلص منها، وفلان دعاه أو دعا به في حاجة، فقُضِيَتْ له، وفلان نزل به ضُرٌّ فاسترجى صاحبَ ذلك القبر، فكُشِفَ ضرُّه.

وعند السّدنة والمقابرية من ذلك شيء كثير يطول ذكره، وهم من أكذب خلق الله على الأحياء والأموات، والنفوسُ مُولَعةٌ بقضاء حوائجها، وإزالة ضروراتها، وتسمع بأن قبر فلان تِريْاق مُجرّب، والشيطان له تلطُّفٌ في الدعوة، فيدعوهم أولًا إلى الدعاء عنده، فيدعو العبدُ عنده بحُرْقَةٍ وانكسار وذِلّة، فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه لا لأجل القبر؛ فإنه لو دعاه كذلك في الحانة والخمارة والحمام والسوق أجابه، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيرًا في إجابة تلك الدعوة، والله سبحانه يجيب دعوة المضطرِّ ولو كان كافرًا، وقد قال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ

ص: 388

مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]، وقد قال الخليل:{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، فقال الله سبحانه وتعالى:{وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126].

فليس كلُّ من أجاب الله دعاءه يكون راضيًا عنه، ولا محبًّا له، ولا راضيًا بفعله، فإنه يجيب البَرّ والفاجر، والمؤمن والكافر. وكثير من الناس يدعو دعاءً يَعْتدي فيه، أو يُشرك في دعائه، أو يكون مما لا يجوز أن يُسأل، فيحصل له ذلك أو بعضه، فيظن أن عمله صالح مُرضٍ لله، ويكون بمنزلة من أُمْلِيَ له، وأُمِدّ بالمال والبنين، وهو يظن أن الله يُسارع له في الخيرات، وقد قال تعالى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44].

فالدعاء قد يكون عبادة، فيثاب عليه الداعي، وقد يكون دعاءَ مسألةٍ تُقضى به حاجته، ويكون مضرةً عليه، إما أن يعاقب بما يحصل له، أو تنقص به درجته، فتُقضى حاجتُه، ويعاقبه على ما جرى عليه من إضاعة حقوقه، وارتكاب حدوده.

والمقصود أن الشيطان بلُطف كيده يُحسِّن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار، فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجةً أخرى، من الدعاء عنده إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، وهذا أعظم من الذي قبله؛ فإن شأن الله أعظم من أن يُقسَم عليه، أو يُسألَ بأحدٍ من خلقه، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك.

ص: 389

فقال أبو الحسين القُدُورى في شرح «كتاب الكَرْخي»

(1)

: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: «لا ينبغي [61 ب] لأحد أن يدعو الله إلا به، قال: وأكره أن يقول: أسألك بمَعْقِد العزِّ من عرشك، وأكره أن يقول: بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام» .

قال أبو الحسين: أما المسألة بغير الله فمنكرة في قولهم؛ لأنه لا حقَّ لغير الله عليه، وإنما الحق لله على خلقه.

وأما قوله: «بمعْقد العِزِّ من عرشك» فكرهه أبو حنيفة، ورخّص فيه أبو يوسف. قال: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذلك

(2)

. قال: ولأن مَعْقد العزّ من العرش إنما يراد به القدرة التي خلق الله بها العرش، مع عظمته، فكأنه سأله بأوصافه.

(1)

شرح مختصر الكرخي مخطوط. والمسألة مذكورة في الهداية للمرغيناني (4/ 96)، ونتائج الأفكار لقاضي زاده أفندي (10/ 64)، والفتاوى الهندية (5/ 318)، وحاشية ابن عابدين (6/ 395 ـ 397). وفي نسخة ح:«أبو الحسن» وهو تصحيف.

(2)

رواه الحاكم في المائة له ــ كما في القول البديع (ص 329) ــ والبيهقي في الدعوات الكبير (392) والديلمي في مسند الفردوس (1845) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ومن طريق الحاكم رواه ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 142) وقال:«هذا حديث موضوع بلا شك» ، ونقل ابن عرّاق في تنزيه الشريعة (2/ 133) عن العراقي أنه ضعف إسناده في شرح الترمذي وأنه قال:«ومع ذلك فهو شاذّ مخالف للأحاديث الصحيحة» ، وقال السخاوي:«سنده واه بمرة، وأصح أسانيده ما رواه هشيم بن أبي ساسان عن ابن جريج عن عطاء قولَه» ، وحكم عليه بالوضع الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص 211)، وابن باز في فتاويه (26/ 270، 354)، والألباني في ضعيف الترغيب (418). وفي الباب عن أبي هريرة وأبي بكر رضي الله عنهما ولا يثبتان. وانظر: التنبيه على مشكلات الهداية لابن أبي العز (5/ 804).

ص: 390