الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الظلمات، إذ المقصود من إيجاد العوالم وإنشاء النشآت كلها ظهور الإنسان الكامل، وقد حصل وهو الواحد الذي كالألف وهو السواد الأعظم، فلا تقتضي الحكمة إتفاق الكل على الحق؛ لأن لله تعالى جمالًا وجلالًا لابدّ لكليهما من أثر.
والمعنى: هذا القرآن الذي نتلوه عليك كتاب أنزلناه إليك أيها الرسول؛ لتنقذ (1) الناس من ظلمات الضلالة والكفر إلى نور الإيمان وضيائه، وتبصَّر به أهل الجهل والعمى سبيل الرشاد والهدى بما اشتمل عليه من واضح الآيات البينات المرشدة إلى النظر في حقائق الكون الدالة على وحدانية الله تعالى، وأنه لا شريك له، وأن الواجب عبادته وحده، ثم دعاؤه لجلب النفع وكشف التفسير، وفيها أيضًا سعادة البشر وصلاحهم في الدنيا والآخرة بإذن ربهم، وتوفيقه ولطفه بهم لإرسال نور الهدى إلى قلوبهم، فيسلكون طرق الفلاح والصلاح.
وقوله: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} بدل من قوله: {إِلَى النُّورِ} بتكرير العامل وإضافة الصراط إلى العزيز، وهو الله على سبيل التعظيم له، والمراد به: دين الإِسلام، فإنه طريق موصل إلى الجنة والقربة والوصلة، والعزيز: الغالب الذي ينتقم لأهل دينه من أعدائهم، والحميد: المحمود الذي يستوجب بذلك الحمد من عباده.
والمعنى: لتخرج الناس إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الذي ارتضاه الله لخلقه وشرعه لهم؛ وهو العزيز الذي لا يغالب المحمود في جميع أفعاله وأقواله وأمره ونهيه. ونحو الآية قوله تعالىِ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ
…
} الآية، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
…
} الآية. وقوله: {اللَّهِ} بالجر عطف بيان لـ {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ؛ لأنه علم للذات الواجب الوجود الخالق العالم،
2
- وقوله: {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} من الموجودات من العقلاء وغيرهم صفة للجلالة؛
(1) المراغي.
أي: هو الله المتصف بملك ما فيهما خلقًا وتصرفًا وتدبيرًا.
وفيه (1) إشارة إلى أن سير السائرين إلى الله لا ينتهي بالسير في الصفات وهو العزيز الحميد، وإنما ينتهي بالسير في الذات وهو الله، فالمكونات أفعاله، فمن بقي في أفعاله لا يصل إلى صفاته، ومن بقي في صفاته لا يصل إلى ذاته، ومن وصل إلى ذاته وصولًا بلا اتصال ولا انفصال، بل وصولًا بالخروج من أنانيته إلى هويته تعالى ينتفع به في صفاته وأفعاله، قال الملّا الجامي رحمه الله تعالى:
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إلا مَا
…
عَلَّمْتَ وَأَلْهَمْتَ لَنَا إِلْهَامًا
وهذه (2) الجملة الدالة على عظمة خالق الأكوان المنفرد بالعظمة والسلطان قد كررت في كثير من سور الكتاب الكريم للتنبيه إلى أن من أهم مقاصد هذا الدين أن يكون في المسلمين حكماء ربانيون يتفهمون حقائق هذا الكون، ويدركون أسرار بدائعه، ويستخرجون للناس ما في باطن الأرض، وينتفعون بما في ظاهرها، ويتأملون وما في السماوات من بديع الصنع وما تقدمه لنا من الخير العميم الذي ينتفع منه الإنسان والحيوان في مأكلهما ومشربهما ومسكنهما وسائر حاجاتهما ومرافقهما.
وجاء في سورة يوسف توبيخًا للغافلين، وحثًّا لهمم المستبصرين:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} ومع كل هذا فوا أسفًا رأينا كثيرًا من المسلمين الذين تتلى عليهم هذه الآية صباح مساء يكتفون بمجرد تلاوتها والإيمان بها دون بحث ولا تفهم لمغزاها ولا المراد منها، ولا استبصار بما تنطوي عليه من المقاصد والمرامي، ولو كان ذلك كافيًا؛ لكان ذكر الخبز حين الجوع كافيًا في الشبع، والنظر إلى الماء كافيًا في الري.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (3): {الله} - بالرفع - على أنه خبر مبتدأ
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
(3)
البحر المحيط والشوكاني.