الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مخلوقًا. وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} من العموم الذي يراد به الخصوص؛ لأن الله تعالى خلق كل شيء وهو غير مخلوق. قال الزجّاج: والمعنى أنه خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقًا، ألا ترى أنه تعالى شيء وهو غير مخلوق انتهى.
{وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْوَاحِدُ} ؛ أي: الفرد الذي لا ثاني له {الْقَهَّارُ} ؛ أي: الغالب على كل شيء سواه، فكل ما عداه مربوب مقهور مغلوب، فكيف تعبدون غيره وتشركون به ما لا يضر ولا ينفع.
17
- ثم ضرب سبحانه مثلًا آخر للحق وذويه وللباطل ومنتحليه، فقال:{أَنْزَلَ} سبحانه {مِنَ السَّمَاءِ} ؛ أي: من السحاب {مَاءً} ؛ أي: مطرًا كثيرًا، والتنوين (1) فيه للتكثير أو للنوعية {فَسَالَتْ}؛ أي: فجرت بذلك الماء {أَوْدِيَةٌ} ؛ أي: أنهار كثيرة {بِقَدَرِهَا} ؛ أي: بحسب مقدار تلك الأودية في الصغر والكبر، فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتسع الوادي كثر الماء. والأودية جمع وادٍ كنادٍ وأندية، وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما. وفي قوله:{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} توسع؛ أي: سال ماؤها، ومعنى بقدرها؛ أي: بقدر مائها؛ لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها.
وفي "روح البيان": {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} ؛ أي: مطرًا ينحدر منها إلى السحاب، ومنه إلى الأرض، وهو رد لمن زعم أنه يأخذه من البحر ومن زعم أن المطر إنما يتحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء، فينعقد هناك من شدة برد الهواء، ثم ينزل مرة أخرى، وعن ابن (2) عباس رضي الله عنهما أن تحت العرش بحرًا ينزل منه أرزاق الحيوانات يوحي الله إليه، فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء الدنيا، ويوحي إلى السحاب أن غربله فيغربله، فليس من قطرة تقطر إلا ومعها ملك يضعها موضعها، ولا ينزل من السماء قطرة إلا بكيل
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.
معلوم ووزن معلوم إلا ما كان يوم الطوفان من ماء، فإنه نزل بغير كيل ولا وزن انتهى.
شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر (1)؛ إذ نفع نزول القرآن يعم كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب؛ إذ الأودية يستكن فيها الماء كما يستكن القرآن والإيمان في قلوب المؤمنين {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ}؛ أي: حمل ورفع السيفُ الجاري في الوادي {زَبَدًا} ؛ أي: غشاء {رَابِيًا} ؛ أي: منتفخًا مرتفعًا فوق الماء طافيًا عليه. والزبد: اسم لكل ما علا وجه الماء من رغوة وغيرها، سواء حصل بالغليان والاضطراب أو بغيره، وهذا هو المثل الأول ضربه الله للحق والباطل، والإيمان والكفر.
والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الوادي وتدفعه الرياح، فكذلك يذهب الكفر ويضمحل.
والمعنى (2): أي أنزل من السحاب مطرًا فسالت مياه الأودية بحسب مقدارها في الصغر والكبر، فحمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدًا عاليًا مرتفعًا فوقه طافيًا عليه، وقد تم المثل الأول. ثم شرع سبحانه في ذكر المثل الثاني، فقال:{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} خبر مقدم لقوله: زبد مثله، و {عَلَيْهِ} متعلق بـ {يُوقِدُونَ} ، والإيقاد: جع النار تحت الشيء ليذوب، و {فِي النَّارِ} حال من الضمير في {عَلَيْهِ}؛ أي: ومما يوقد الناس عليه من جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد، حالة كونه ثابتًا في النار ليذوب ويخلص عن الخبث. وقوله:{ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} مفعول لأجله؛ أي: لأجل طلب اتخاذ زينة من حليٍّ كالسوار والطوق، أو اتخاذ متاع كالأواني والقدور وغيرها من آلات الحرب والحصد وأدوات المصانع وأدوات القتال والنزال {زَبَدٌ}؛ أي: وسخ وخبث {مِثْلُهُ} ؛ أي: مثل زبد الماء ووسخه في أن كلًّا منهما شيء من الأكدار، المعني؛ أي: وزبد مثل زبد السيل كائن وناشىء من الجواهر التي
(1) الشوكاني.
(2)
المراغي.
يوقدون عليها النار {كَذَلِكَ} ؛ أي: مثل هذا التبيين للأمور الأربعة الماء والجوهر والزبدين {يَضْرِبُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى، ويبين {الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}؛ أي: الإيمان والكفر؛ أي: يبين مثلهما وشبههما في الثبات والاضمحلال؛ أي: وما مثل الحق والباطل إذا اجتمعا إلا مثل السيل والجوهر وزبديهما، فكما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل، فالباطل لا ثبات له ولا دوام أمام الحق. ثم فصل هذا بقوله:{فَأَمَّا الزَّبَدُ} من الماء والجوهر {فَيَذْهَبُ جُفَاءً} ؛ أي: مضمحلًا متلاشيًا لا منفعة فيه ولا بقاء له؛ أي: فينعدم مرميًّا؛ أي: يرميه الماء إلى الساحل ويرميه الكير {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} من الماء الصافي والجوهر الخالص {فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: يبقى ويثبت في الأرض، فالماء يثبت بعضه في منافعه، ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والآبار والجوهر، يصاغ من بعضه أنواع الحلي، ويتخذ من بعضه أصناف الآلات، فينتفع بكل من ذلك مدة طويلة.
والمعنى (1): أي فأما الزبد الذي يعلو السيل .. فيذهب مرميًّا في جانبي الوادي، ويعلق بالشجر، وتنسفه الرياح، وكذلك خبث الحديد والنحاس والذهب والفضة يذهب ولا يرجع منه شيء، وأما ما ينفع الناس من الماء والذهب والفضة .. فيمكث في الأرض، فالماء نشربه ونسقي به الأرض، فينبت جيد الزرع الذي ينتفع به الناس والحيوان. والذهب والفضة نستعملهما في الحلي وصك النقود، والحديد والنحاس ونحوهما نستعملها في متاعنا من الحرث والحصد، وفي المعامل والمصانع ووسائل الدفاع ونحو ذلك.
واعلم: أن وجه (2) المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل، والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة: أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبدًا رابيًا فوقه، وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب من الأجسام المنطرقة، فإنَّ أصله من المعادن التي تنبت في الأرض، فيخالطها التراب، فإذا أذيب صار
(1) المراغي.
(2)
الشوكاني.
ذلك التراب الذي خالطها خبثًا مرتفعًا فوقها.
وقال الزجاج: مثلُ المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان له كمثل الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الذهب والفضة وسائر الجواهر؛ لأنها كلها تبقى منتفعًا بها. ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به. اهـ.
{كَذَلِكَ} ؛ أي: مثل ذلك الضرب العجيب {يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} ؛ أي: يبين الله أمثال الحق والباطل، فيجعلها في غاية الوضوح؛ أي: ومثل ضربنا لهذه الأمثال البديعة التي توضح للناس ما أشكل عليهم من أمور دينهم، وتظهر الفوارق بين الحق والباطل والكفر والإيمان نضرب لهم الأمثال، ونبين لهم الأشباه في كل باب حتى تستبين لهم طريق الهدى، فيسلكوها، وطرق الباطل فينحرفوا عنها، وتتم لهم سعادة المعاش والمعاد، ويكونوا المثل العليا بين الناس كما قال:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .
وفي "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به، ونفع به الناس فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلت به".
وروى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحُجَزكم عن النار: هلم عن النار، فتغلبوني فتقتحمون فيها".