الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدَّارِ}: {يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} : مصدر مضاف إلى مفعوله؛ أي: بما عاهدوا لله وعقدوه على أنفسهم من الشهادة والاعتراف بربوبيته حين قالوا في عالم الذر بلى شهدنا. {وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} ؛ أي: العهد المؤكد باليمين؛ أي: لا يخلفون ذلك العهد الذي بينهم وبين ربهم الذي وثقوه وأكدوه بالأيمان، وكذا عهودهم بينهم وبين الناس، فهذا تعميم بعد تخصيص؛ لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها. ويحتمل (1) أن يكون الأمر بالعكس، فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله؛ وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه، ويراد بالميثاق: ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذر المذكور في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ
…
} الآية.
والمعنى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} ؛ أي: الذين يوفون بما عقدوه على أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وفيما بينهم وبين العباد، وشهدت فطرهم في هذه الحياة بصحته، وأنزل عليهم في الكتاب إيجابه. قال قتادة: إن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين موضعًا من القرآن عناية بأمره واهتمامًا بشأنه {وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} ؛ أي: العهد الذي وثقوه وأكدوه بينهم وبين ربهم من الإيمان به، وبينهم وبين الناس من العقود كالبيع والشراء وسائر المعاملات والعهود التي تعاهدوا على الوفاء بها إلى أجل. وفي الحديث:"آية المنافق ثلاث: إذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث كذب".
21
- {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ} مفعوله محذوف تقديره: ما أمرهم الله {بِهِ} من الإيمان والرحم وغيرهما، وقوله:{أَنْ يُوصَلَ} بدل من الضمير المجرور؛ أي: أمرهم بوصله، ومعنى وصل الإيمان (2): أن يؤمنوا بجميع الكتب والرسل ولا يفرقوا بين أحد منهم. وفي "المراح" وصل ما أمر الله به (3): هو رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد، فيدخل فيه صلة الرحم والقرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان
(1) الشوكاني.
(2)
الخازن.
(3)
المراح.
وعيادة المريض وشهود الجنائز، وإفشاء السلام على الناس والتبسم في وجوههم وكف الأذى عنهم، ومن تمام المواصلة المصافحة عند الملاقاة، ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة وغيرها. ويدخل في العباد كل حيوان حتى الدجاجة والهرة. وعن الفضيل: أن العبد لو أحسن الإحسان كله، وكانت له دجاجة، فأساء إليها .. لم يكن من المحسنين.
وهذه الآية يندرج فيها أمور (1):
الأول: صلة الرحم، واختلف في حدّ الرحم التي يجب صلتها، فقيل: كل ذي رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكرًا والآخر أنثى حرمت مناكحتهما، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال والخالات، وقيل: هو عام في كل ذي رحم محرمًا كان أو غير محرم، وارثًا كان أو غير وارث، وهذا القول هو الصواب. قال النواوي: وهذا أصحّ، والمحرم من لا يحل له نكاحها على التأبيد لحرمتها، فقولنا: على التأبيد احتراز عن أخت الزوجة، وقولنا: لحرمتها احتراز عن الملاعنة، فإن تحريمها ليس لحرمتها، بل للتغليظ.
والثاني: الإيمان بكل الأنبياء عليهم السلام، فقولهم: نؤمن ببعض ونكفر ببعض قطعٌ لما أمر الله به أن يوصل.
والثالث: موالاة المؤمنين، فإنه يستحب استحبابًا شديدًا زيارة الإخوان والصالحين والجيران والأصدقاء والأقارب وإكرامهم وبرهم وصلتهم، وضبط ذلك يختلف باختلاف أحوالهم ومراتبهم وفراغهم، وينبغي للزائر أن تكون زيارته على وجه لا يكرهون، وفي وقت يرتضون، فإن رأى أخاه يحب زيارته ويأنس به أكثر زيارته والجلوس عنده، وإن رآه منشغلًا بعبادة أو غيرها، أو رآه يحب الخلوة يقل زيارته حتى لا يشغله عن عمله، وكذا عائد المريض لا يطيل الجلوس عنده إلا أن يأنس به المريض، ومن تمام المواصلة المصافحة عند الملاقاة كما مر آنفًا.
(1) روح البيان.
والرابع: مراعاة حقوق كافة الخلق حتى الهرة والدجاجة. والمعنى: أي: والذين (1) يصلون الرحم التي أصرهم الله تعالى بوصلها، فيعاملون الأقارب بالمودة والحسنى، ويحسنون إلى المحاويج وذوي الخلة منهم بإيصال الخير إليهم ودفع الأذى عنهم بقدر الاستطاعة، ويصلون المؤمنين بسبب قرابة الإيمان بالإحسان إليهم ونصرتهم والشفقة عليهم، وإفشاء السلام وعيادة المرضى، ومراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران، والرفقة في السفر إلى غير ذلك مما مر آنفًا. وأكثر المفسرين على أن المراد بالوصل هنا صلة الرحم.
واعلم (2): أن قطع الرحم حرام، والصلة واجبة، ومعناها: التفقد بالزيارة والإهداء والإعانة بالقول والفعل، وعدم النسيان، وأقله التسليم وإرسال السلام والمكتوب، ولا توقيت فيها في الشرع، بل العبرة بالعرف والعادة كذا في "شرح الطريقة" وصلة الرحم سبب لزيادة الرزق. وزيادة العمر، وهي أسرع أثرًا كعقوق الوالدين، فإن العاق لهما لا يمهل في الأغلب، ولا تنزل الملائكة على قوم فيهم قاطع رحم.
فصل في ذكر الأحاديث الواردة في صلة الرحم وقطيعتها
عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: "أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته"، أو قال:"بتته". أخرجه أبو داود والترمذي.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله". متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن يبسط له في رزقه، وأن يُنْسَأ له في أثره، فليصل رحمه". أخرجه البخاري، صلة الرحم: ميرة الأهل والأقارب والإحسان إليهم، وضدُّه: القطع.
(1) المراغي.
(2)
روح البيان.