المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المستعد والقابل دون المنكر والباطل. والمعنى (1): ولكن أكثر الناس - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٤

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: المستعد والقابل دون المنكر والباطل. والمعنى (1): ولكن أكثر الناس

المستعد والقابل دون المنكر والباطل. والمعنى (1): ولكن أكثر الناس لا يصدقون بما أنزل عليك من ربك، ولا يقرون بهذا القرآن وما فيه من بديع الأمثال والحكم والأحكام التي تناسب مختلف العصور والأزمان، والتي لو سار الناس على سننها لسعدوا في الدنيا والآخرة، وقد سلك المسلمون سبيلها في عصورهم الأولى، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، وامتلكوا أكثر المعمور في ذلك الحين، وثلُّوا عروش كسرى والروم، ودانت لهم الرقاب، وساسوا الملك سياسة شهد لهم أعداؤهم بأنها كانت سياسة عدل ورفق، وأخذٍ على يد الظالم لإنصاف المظلوم، فلله دين رفع من قدر أهله حتى أوصلهم إلى السماكين، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا معالمه، وألقوها ورائهم ظهريًّا، فحاق بهم ما كانوا يكسبون، وصاروا أذلة بعد أن كانوا أعزة، ومستعبدين بعد أن كانوا سادة، تابعين بعد أن كانوا متبوعين {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} والآية بمعنى قوله:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} .

‌2

- ثم ذكر سبحانه وتعالى أدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته؛ بعضها سماوي، وبعضها أرضي، وذكر من الأولى ثلاثة أمور:

الأول منها: ما ذكره بقوله: {اللَّهُ} ؛ أي: الإله الذي يستحق منكم العبادة أيها العباد هو الإله {الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} السبع؛ أي: خلقها (2) مرفوعة بينها وبين الأرض مسيرة خمس مئة عام، لا أن تكون موضوعة فرفعها؛ أي: خلقها ورفعها {بِغَيْرِ عَمَدٍ} ودعائم وأساطين {تَرَوْنَهَا} ؛ أي: ترون أيها العباد تلك العمد، فالضمير راجع إلى العمد، والجملة صفة لها؛ أي: خلق السموات حالة كونها خالية من عند مرئية، وانتفاء العمد المرئية يحتمل أن يكون لانتفاء العمد والرؤية جميعًا؛ أي: لا عمد لها فلا ترى، ويحتمل أن يكون لانتفاء الرؤية فقط بأن يكون لها عماد غير مرئي؛ وهو القدرة، فإنه تعالى يمسكها مرفوعة بقدرته، فكأنها عماد لها، أو العدل؛ لأن بالعدل قامت السماوات والأرض؛ أي:

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

ص: 162

العلويات والسفليات.

ويدل (1) على كون {تَرَوْنَهَا} صفة لـ {عَمَدٍ} قراءة أبيّ شذوذًا: {ترونه} فعاد الضمير مذكرًا على لفظ {عَمَدٍ} ؛ إذ هو اسم جمع لعمود، وقياس جمعه عمد - بضمتين - كرسول ورسل. ويجوز أن يكون {تَرَوْنَهَا} جملة مستأنفة، فالضمير راجع إلى {السَّمَاوَاتِ} كأنه قيل: ما الدليل على أن السماوات مرفوعة بغير عمد؟ .. فأجيب أنكم ترونها غير معمودة. والمعنى (2): أنه تعالى خلق السماوات مرفوعات عن الأرض بغير عمد، بل بأمره وتسخيره على أبعاد لا يدرك مداها، وأنتم ترونها كذلك بلا عمد من تحتها تسندها، ولا علاقة من فوقها تمسكها. وقرأ الجمهور (3):{عَمَدٍ} - بفتحتين -، وقرأ أبو حيوة ويحيى بن وثاب شذوذًا {عُمُدٍ} بضمتين كقراءة أبيّ.

والثاني منها: ما ذكره بقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وكلمة (4){ثُمَّ} لبيان تفاضل الخلقين وتفاوتهما، فإن العرش أفضل من السماوات، لا للتراخي في الوقت لتقدمه عليها. وفي "السمين": ثم هنا لمجرد العطف لا للترتيب؛ لأن الاستواء على العرش غير مرتب على رفع السماوات اهـ؛ أي: ثم (5) استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير العظيم استواء يليق بعظمته وجلاله، يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من النظام، وإرادته وحكمته من إحكام وإتقان، والاستواء على العرش صفة ثابتة لله تعالى بلا كيف نعتقدها ولا نعطلها، لا نكيفها ولا نمثلها كما هو مقرر في موضعه من علم الكلام، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى.

والثالث منها: ما ذكره بقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} ؛ أي: ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق ومصالح العباد. وقال في "بحر العلوم" معنى

(1) البحر المحيط.

(2)

المراغي.

(3)

البحر المحيط.

(4)

روح البيان.

(5)

المراغي.

ص: 163

تسخيرهما: كونهما نافعتين للناس حيث يعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر، وينوران لهم في الليل والنهار، ويدرآن الظلمات، ويصلحان الأرض والأبدان والأشجار والنباتات. {كُلٌّ} منهما {يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: يسير إلى وقت معلوم، فاللام بمعنى إلى؛ وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي تكور عندها الشمس ويخسف القمر وتنكدر النجوم وتنتثر. وقيل: المراد بالأجل المسمى: درجاتهما: ومنازلهما التي ينتهيان إليها لا يجاوزانها؛ وهي سنة للشمس وشهر للقمر، فللشمس والقمر منازل كل منهما يغرب في كل ليلة في منزل، ويطلع في منزل آخر حتى ينتهي إلى أقصى المنازل.

والمعنى: أي وذلل الشمس والقمر، وجعلهما طائعين لما يراد منهما لمنافع خلقه، فكل منهما يسير في منازله إلى وقت معين، فالشمس تقطع فلكها في سنة، والقمر في شهر لا يختلف جري كل منهما عن النظام الذي قدر له، وإليه الإشارة بقوله:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} وبقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} كما سبق إيضاح هذا في سورتي "يونس" و"هود". قال بعضهم: وهذا المعنى هو الحق في تفسير الآية كما فسرها به ابن عباس رضي الله عنه.

وبعد أن ذكر هذه الدلائل قال: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} ؛ أي: أمر العالم وحده؛ أي: يقضي سبحانه وتعالى، ويدبر أمر ملكوته من الإعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، ومغفرة الذنوب وتفريج الكروب، ورفع قوم ووضع آخرين، وغير ذلك؛ أي: إنه تعالى يتصرف في ملكه على أتم الحالات وأكمل الوجوه، فهو يحيي ويميت، ويوجد ويعدم، ويغني ويفقر، وينزل الوحي على من يشاء من عباده، وفي ذلك برهان ساطع على القدرة والرحمة، فإن اختصاص كل شيء بوضع خاص وصفةٍ معنية لا يكون إلا من مدبر اقتضت حكمته أن يكون كذلك، فتدبيره لعالم الأجسام كتدبيره لعالم الأرواح، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير، لا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبير شيء عن تدبير آخر، كما هو شأن المخلوقات في هذه الدنيا، وكذلك هو دليل أيضًا على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته، لا يشبه شيئًا من مخلوقاته.

ص: 164

{يُفَصِّلُ} ؛ أي: يبين سبحانه وتعالى {الْآيَاتِ} ؛ أي: البراهين الدالة على وحدته في ألوهيته وربوبيته، وكمال قدرته، وعجيب حكمته التي منها ما تقدم من رفع السماء بغير عمد، وتسخير الشمس والقمر وجريهما إلى أجل مسمى. وقرأ النخعي وأبو رزين وأبان بن تقلب عن قتادة شذوذًا:{ندبر الأمر نفصل} بالنون فيهما.

وكذا قال أبو عمرو الداني عن الحسن فيهما، ووافق في {نفصل} بالنون الخفاف وعبد الواحد عن أبي عمرو وهبيرة عن حفص شذوذًا. وقال صاحب "اللوامح": جاء عن الحسن والأعمش شذوذًا: {نفصل} بالنون فقط ذكره في "البحر" أبو حيان. والمعنى (1): أي: يلبس الموجودات ثوب الوجود بنظام محكم دقيق، ويوجد بينها ارتباطات تجعلها كأنها سلسلة متصلة الحلقات لا انفصام لبعضها عن بعض، فالمجموعة الشمسية من الشمس والقمر والكواكب مرتبطة في حركاتها بنظام خاص بوساطة الجاذبية لا تحيد عن سننه، ولا تجد معدلًا عن السير فيه بحسب النهج الذي قدر لها، ولا تزال كذلك حتى ينتهي العالم، فيحدث حينئذ تغيير لأوضاعها واختلال لحركاتها {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)} .

وهكذا الموجودات الأرضية لها أسباب تعقبها مسببات بإذن الواحد الأحد، فالزارع يحرث أرضه ويلقي فيها الحب، ثم يسقيها ويضع فيها السماد، ويوالي سقيها حتى تؤتي أكلها، فإذا فقدت حلقة من تلك السلسلة .. باء صاحب الزرع بالخسران، فلم يحصل على شيء، أو حصل على القليل التافه الذي لا يعدل التعب والنصب الذي فعله. وقيل (2): إن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان:

الأول: الموجودات المشاهدة، وهي خلق السماوات والأرض وما فيهما

(1) المراغي.

(2)

الخازن.

ص: 165

من العجائب، وأحوال الشمس والقمر وسائر النجوم، وهذا قد تقدم ذكره.

والقسم الثاني: الموجودات الحادثة في العالم، وهي الموت بعد الحياة، والفقر بعد الغنى، والضعف بعد القوة إلى غير ذلك من أحوال هذا العالم، وكل ذلك مما يدل على وجود الصانع وكمال قدرته.

ثم أبان سبحانه وتعالى أن هذا التدبير للأمور والتفصيل للآيات الدالين على القدرة الكاملة، والحكمة الشاملة جاء لحكمة اقتضتهما: وهي الإيقان بالبعث لفصل القضاء، ومجازاة كل عامل بما عمل {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} فإما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم، وإلى ذلك أشار بقوله:{لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} ؛ أي: يبين (1) الله سبحانه وتعالى الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته؛ لكي توقنوا وتصدقوا بلقائه والمصير إليه بعد الموت؛ لأن من قدر على إيجاد الإنسان من العدم قادر على إيجاده وإحيائه بعد موته، واليقين صفة من صفات العلم، وهو فوق المعرفة والدراية، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك، يقال منه: استيقن وأيقن بمعنى: علم؛ أي (2): لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات توقنون بذلك لا تشكون فيه ولا تمترون في صدقه. قال في "بحر العلوم": {لعل} (3) مستعار لمعنى الإرادة لتلاحظ معناها ومعنى الترجي، والمعنى عليه؛ أي: يفصل الآيات إرادة أن تتأملوا وتنظروا فيها، فتستدلوا بها عليه وعلى وحدته وقدرته وحكمته، وتتيقنوا أن من قدر على خلق السموات والأرض والعرش، وتسخير الشمس والقمر مع عظمها، وتدبير الأمور كلها .. كان على خلق الإنسان مع مهانته، وعلى إعادته وجزائه أقدر.

وخلاصة هذه العبرة (4): أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية العظيمة من الشمس والقمر وسائر الكواكب في الجوّ بلا عمد، ودبر الأمور بغاية الإحكام والدقة، ولم يشغله شأن عن شأن .. ليس بالبعيد عليه أن يرد الأرواح

(1) الخازن.

(2)

الشوكاني.

(3)

روح البيان.

(4)

المراغي.

ص: 166