الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيما بيننا؛ أي: مثل (1) هذا الجزاء الأوفى نجزي الظالمين بالسرقة، قالوا ذلك ثقة بكمال برائتهم منها، وهم عما فعل بهم غافلون، وهذا تأكيد منهم بعد تأكيد لثقتهم ببراءة أنفسهم. وهذه الجملة (2) من بقية كلام إخوة يوسف، وقيل: من كلام أصحاب يوسف جوابًا لقول إخوته ذلك، فردوا لتفتيش أوعيتهم إلى يوسف عليه السلام من المكان (3) الذي لحقهم فيه جماعة الملك، وتقدم أنهم وصلوا إلى خارج مصر، وقيل: إلى بلبيس. اهـ. "شيخنا".
76
- {فَبَدَأَ} يوسف بعد ما رجعوا إليه {بِأَوْعِيَتِهِمْ} ؛ أي: بتفتيش أوعية الأخوة العشرة التي تشتمل عليها رحالهم {قَبْلَ} تفتيش {وِعَاءِ أَخِيهِ} الشقيق بنيامين؛ لنفي التهمة وابتعادًا عن الشبهة بطريق الحيلة. روي أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه .. قال: ما أظن هذا أخذ شيئًا، فقال إخوة يوسف: والله لا نتركك حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا. وقرأ الحسن:{من وعاء} - بضم الواو - وجاء كذلك عن نافع. وقرأ ابن جبير: {من إعاء} - بإبدال الواو المكسورة همزة - كما قالوا إشاح وإسادة في وشاح ووسادة، وذلك مطرد في لغة هذيل يبدلون من الواو المكسورة الواقعة أولًا همزةً وهاتان القراءتان شاذتان.
وأنث الضمير الراجع إلى الصواع في قوله: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا} نظرًا لمعنى السقاية، أو لكون الصواع يذكر ويؤنث؛ أي: ثم بعد أن فرغ يوسف من تفتيش أوعيتهم فتش وعاء أخيه، فاستخرجها {مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ}؛ أي: أخرج الصواع والسقاية من رحل أخيه بنيامين، فقال له فرَّجك الله كما فرجتني.
فلما وجد الصاع مدسوسًا في رحل بنيامين (4)، واستخرج منه نكسوا رؤوسهم وانقطعت ألسنتهم، فأخَذوا بنيامين مع ما معه من الصواع، وردوه إلى يوسف، وأخذوا يشتمونه بالعبرانية، وقالوا له: يا لص ما حملك على سرقة صاع الملك، ولا يزال ينالنا منك بلاء كما لقينا من ابن راحيل، فقال بنيامين: بل ما
(1) المراح.
(2)
الفتوحات.
(3)
روح البيان.
(4)
روح البيان.
لقي إبنا راحيل البلاء إلا منكم، فأما يوسف فقد علمتم ما فعلتم به، وأما أنا فسرقتموني؛ أي: نسبتموني إلى السرقة قالوا: فمن جعل الإناء في متاعك؟ أليس قد خرج من رحلك؟ قال: إن كنتم سرقتم بضاعتكم الأولى وجعلتموها في رحالكم، فكذلك أنا سرقت الصاع وجعلته في رحلي، فقال روبيل: لقد صدق، وأراد بنيامين أن يخبرهم بخبر يوسف، فذكر وصيته له فسكت.
{كَذَلِكَ} ؛ أي: مثل ذلك الكيد العجيب والتدبير الخفي، وهو عبارة عن إرشاد الإخوة إلى الإفتاء المذكور بإجرائه على ألسنتهم، وبحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا {كِدْنَا لِيُوسُفَ}؛ أي:(1) صنعنا له ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس الصواع وما يتلوه. والكيد في الأصل عبارة عن المكر والخديعة، وهو أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه.
أي: مثل (2) ذلك الحكم الذي ذكره إخوة يوسف من استرقاق السارق حكمنا به ليوسف، والمعنى: كما ألهمنا إخوة يوسف أن احكموا أن جزاء السارق أن يسترق .. كذلك ألهمنا يوسف ما فعله من دس الصواع في رحل أخيه ليضمه إليه على ما حكم به إخوته. والكيد (3) مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة، ونهايته إلقاء المخدوع من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل إلى دفعه، وهو محمول في حقه سبحانه على النهاية لا على البداية. وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف شرعًا ثابتًا.
وقوله: {مَا كَانَ} يوسف {لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} بنيامين {فِي دِينِ الْمَلِكِ} ؛ أي: في دين ملك مصر وحكمه قضائه وشريعته التي كان عليها استئناف تعليل لما صنعه الله تعالى من الكيد ليوسف، أو تفسير له كأنه قيل: لماذا فعل يوسف ذلك؟ فقيل: لأنه لم يكن ليأخذ أخاه بما فعل في دين ملك مصر في أمر
(1) الخازن.
(2)
الشوكاني.
(3)
روح البيان.
السارق؛ أي: في حكمه وقضائه إلا بما فعل.
بل كل دين الملك وقضاؤه أن يضرب السارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة كما هو دين يعقوب وشريعته.
وحاصله: أن يوسف ما كان يتمكن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفًا لدين الملك وشريعته لولا ما كاد الله له ودبره وأرادوه حتى وجد السبيل إليه؛ وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم: إن جزاء السارق الاسترقاق، فكان قولهم هذا هو بمشيئة الله تعالى وتدبيره، وهو معنى قوله:{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ؛ أي: لم يكن يوسف يأخذ أخاه في حكم الملك بسبب من الأسباب إلا بسبب مشيئة الله تعالى وهو حكم أبيه، فالاستثناء من أعم الأحوال؛ أي: لم يكن يتمكن من أخذه وضمه إليه في دين الملك بالسرقة التي نسبها إليه في حال من الأحوال إلا حال مشيئته تعالى التي هي عبارة عن إرادته لذلك الكيد، وإلا حال مشيئته للأخذ بذلك الوجه. قال الكواشي: لولا شريعة أبيه لما تمكن من أخذ أخيه. انتهى. ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية الشريفة منكرة بحسب الظاهر؛ لأنها تهمة باطلة، وكان من شأن يوسف أن يتباعد عنها ويتحاماها إلا بوحي من الله تعالى .. بين أنه فعل ذلك بإذن الله ومشيئته، فقال:{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ؛ أي: إنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، لا أنه هو الذي اخترع هذه المكيدة؛ لأن ذلك كله كان إلهامًا من الله ليوسف وإخوته حتى جرى الأمر على وفق المراد.
{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ} ؛ أي: نرفع إلى درجات كثيرة ورتب عالية من العلم {مَنْ نَشَاءُ} رفعه في العلم من عبادنا حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة كما رفعنا يوسف على إخوته في العلم، والمعنى: نرفع درجات من نشاء بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف بذلك. وانتصاب (1){دَرَجَاتٍ} : إما على المصدرية؛ أي: نرفع رفع درجات، وإما على الظرفية؛
(1) المراغي.
أي: في درجات، أو بنزع الخافض؛ أي: إلى درجات.
والمعنى (1): أي: نرفع من نشاء درجات كثيرة في العلم والإيمان، نريه وجوه الصواب في بلوغ المراد كما رفعنا درجات يوسف على إخوته في كل شيء. وفي هذا (2) إيماء إلى أن العلم الشريف أشرف المقامات وأعلى الدرجات؛ لأن الله تعالى مدح يوسف ورفع درجته على إخوته بالعلم، وبما ألهمه على وجه الهداية والصواب في الأمور كلها. وقرأ الكوفيون حمزة والكسائي وعاصم وابن محيصن (3):{نَرفَع} - بنون - {دَرَجَاتٍ} - منونًا - {من يشاء} - بالنون -. وباقي السبعة كذلك إلا أنهم أضافوا {دَرَجَاتٍ} . وقرأ يعقوب بالياء في: {يرفع} و {يشاء} ؛ أي: يرفع الله تعالى درجات من يشاء رفع درجاته. وقرأ عيسى البصرة شاذًا: {نَرْفَع} - بالنون - {دَرَجَاتٍ} - منونًا - {من يشاء} - بالياء -. قال صاحب "اللوامح": وهذه قراءة مرغوب عنها تلاوة وجملة، وإن لم يمكن إنكارها. وقال ابن عطية، وقرأ الجمهور:{نَرْفَع} على ضمير المعظم، وكذلك {نَشَاءُ}. وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب بالياء؛ أي: الله تعالى. انتهى.
{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ؛ أي: وفوق كل صاحب علم من الخلائق {عَلِيمٌ} ؛ أي: من هو أوسع وأكثر منه إحاطة بالعلم، وأرفع درجة منه فيه إلى أن يصل الأمر إلى من أحاط بكل شيء علمًا، وهو فوق كل ذي علم. يعني: ليس من عالم إلا وفوقه أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى، وعليم صيغة مبالغة، أو المعنى: وفوق كل ذي علم من العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم، وهو الله عز وجل، ذكره النسفي.
وخلاصة ذلك: أن إخوة يوسف كانوا علماء فضلاء إلا أن يوسف كان أعلم منهم. وقرأ عبد الله شاذًا (4): {وفوق كل ذي عالم} فخرَّجت على زيادة ذي، أو على أن قوله:{عالم} مصدر بمعنى علم كالباطل، أو على أن التقدير:
(1) الخازن.
(2)
البحر المحيط.
(3)
البحر المحيط.
(4)
الخازن.