الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بشيء لم ينفعه الله به، فلهذا السبب دعا لنفسه بهذا الدعاء.
وأما دعاؤه لبنيه، وهو الوجه الثالث من الإشكالات، فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أن إبراهيم دعا لبنيه من صلبه، ولم يعبد منهم أحد صنمًا قط.
الوجه الثاني: أنه أراد أولاده وأولاد أولاده الموجودين حالة الدعاء، ولا شك أن إبراهيم عليه السلام قد أجيب فيهم.
الوجه الثالث: قال الواحدي دعا لمن أذن الله أن يدعو له، فكأنه قال: وبني الذين أذنت لي في الدعاء لهم؛ لأن دعاء الأنبياء مستجاب، وقد كان من بنيه من عبد الصنم، فعلى هذا الوجه يكون هذا الدعاء من العام المخصوص.
الوجه الرابع: أن هذا مختص بالمؤمنين من أولاده، والدليل عليه أنه قال في آخر هذه الآية:{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه، فليس منه، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه اهـ من "الخازن".
37
- ثم قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} كرر النداء (1) رغبة في الإجابة وإظهارًا للتذلل والالتجاء إلى الله تعالى، وأتى بضمير جماعة المتكلمين؛ لأنه تقدم ذكره وذكر بنيه في قوله:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ} و {مِنْ ذُرِّيَّتِي} قال الفراء (2): {مِنَ} للتبعيض؛ أي: بعض ذريتي وهو إسماعيل ومن سيولد له، فإن إسكانه متضمن إسكانهم. وقال ابن الأنباري: أنها زائدة؛ أي: أسكنت ذريتي. والأول أولى؛ لأنه إنما أسكن إسماعيل، وهو بعض ولده. {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}؛ أي: بواد ليس فيه زرع وهو وادي مكة؛ لأنه واد بين جبلين جبل أبي قبيس وجبل أجياد، فإنها حجرية لا يوجد فيها زرع ولا ماء. وفي "بحر العلوم": وأما في زماننا فقد رزق الله أهله ماء جاريًا، وإنما لم يقل غير ذي ماء؛ لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي، وأنه يرزقها الماء، وعلم بالوحي أنه سيكون فيها ماء كثير، والله أعلم. وقوله:{عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} ظرف لـ {أَسْكَنْتُ}
(1) البحر المحيط.
(2)
الشوكاني.
والإضافة فيه للتشريف؛ أي: الذي يحرم فيه ما يستباح في غيره؛ لأنه عظيم الحرمة حرم الله التعرض له بسوء يوم خلق السماوات والأرض، وحرم فيه القتال والاصطياد، وأن يدخل فيه أحد بغير إحرام. وقيل غير ذلك. فإن قلت (1): كيف قال عند بيتك المحرم، ولم يكن هناك بيت حينئذٍ، وإنما بناه إبراهيم بعد ذلك؟ .. قلت: يحتمل أن الله عز وجل أوحى إليه وأعلمه أن له هناك بيتًا قد كان في سالف الزمان، وأنه سيعمر، فلذلك قال: عند بيتك المحرم. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: عند بيتك الذي كان، ثم رفع عند الطوفان. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى عند بيتك الذي جرى في سابق علمك أنه سيحدث في هذا المكان.
والمعنى: أي يا رب إني أسكنت بعض ذريتي وهم أولاد إسماعيل بواد غير ذي زرع، وهو وادي مكة عند بيتك الذي حرمت التعرض له والتهاون به، وجعلت ما حوله حرمًا لمكانه. {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} كرر النداء (2) لإظهار كمال العناية بما بعده، واللام فيه لام كي متعلقة بـ {أَسْكَنْتُ}؛ أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم متوجهين إليه متبركين به بدلالة قوله: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} على أنه لا غرض له دنيوي في إسكانهم عند البيت المحرم، وتخصيص الصلاة بالذكر من بين سائر شعائر الدين لفضلها، ولأن بيت الله لا يسعه إلا الصلاة وما في معناها وهي الأصل في إصلاح النفس، وكان قريش يمتنعون عن ذلك لزيادة كبرهم.
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ} ؛ أي: قلوب بعض الناس {تَهْوِي إِلَيْهِمْ} ؛ أي: تسرع إلى ذريتي بنقل المعاشات إليهم بسبب التجارات، وتحن إليهم لطلب حج البيت لا لأعيانهم، وتطير نحوهم محبة، و {مِنَ} في قوله:{مِنَ النَّاسِ} للتبعيض. وقيل: زائدة، ولا (3) يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى بدخولهم تحت لفظ الناس؛ لأن المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب
(1) الخازن.
(2)
روح البيان.
(3)
الشوكاني.
إليهم، لا توجيهها إلى الحج، ولو كان هذا مرادًا .. لقال: تهوي إليه، والأفئدة: جمع فؤاد؛ وهو القلب عبر به عن جميع البدن؛ لأنه أشرف عضو فيه. قال مجاهد: لو قال إبراهيم عليه السلام: أفئدة الناس لازدحمت على البيت فارس والروم. وقال ابن جبير: لَحجَّتهُ اليهود والنصارى.
وقرأ هشام في المتواتر بخلف عنه (1): {أفئيدة} بياء بعد الهمزة نص عليه الحلواني عنه، وخرج ذلك على الإشباع، ولما كان الإشباع لا يكون إلا في ضرورة الشعر .. حمل بعض العلماء هذه القراءة على أن هشامًا قرأ بتسهيل الهمزة كالياء، فعبر الراوي عنها بالياء، فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضًا عن الهمزة، وقرىء:{آفدة} على وزن فاعلة، فاحتمل أن يكون اسم فاعل من أفد؛ أي: دنا وقرب، وأن يكون جمع فؤاد، ويكون من باب القلب، وصار بالقلب أأفدة، فأبدلت الهمزة الساكنة ألفًا. وقرىء:{أفدَةَ} على وزن فعلة، فاحتمل أن يكون جمع فؤاد. وقراءة أم الهشيم:{أفودة} بالواو المكسورة بدل الهمزة. وقرأ زيد بن علي: {إفادة} على وزن إشارة، وما عدا قراءة الجمهور وهشام شاذ.
وقرأ الجمهور (2): {تَهْوِي إِلَيْهِمْ} - بكسر الواو من باب ضرب -؛ أي: تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقًا. وقرأ مسلمة بن عبد الله شاذ: {تهوي} بضم التاء مبنيًّا للمفعول من أهوى المنقولة بهمزة التعدية من هوى اللازم. وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ومجاهد شذوذًا أيضًا: {تهوي} - بفتح الواو مضارع هوى من باب فرح - بمعنى أحب وإلى زائدة، فيكون بمعنى، تحبهم.
{وَارْزُقْهُمْ} ؛ أي: ذريتي الذين أسكنتهم هناك، أو هم ومن يساكنهم من الناس، وإنما لم يخص الدعاء بالمؤمنين كما في قوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ
(1) البحر المحيط.
(2)
البحر المحيط.