المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

واعلم (1): أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٤

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: واعلم (1): أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ

واعلم (1): أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . قال صاحب "الكشاف" في تفسير الآية: أتاهم من جهة الدين، وكان حليمًا موفقًا، فكلمهم مستفهمًا على معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب فـ {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ} أقبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه يعني: هل علمتم قبحه، فتبتم إلى الله منه، لأن علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجر إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحًا لهم في الدين، لا معاتبة وتثريبًا إيثارًا لحق الله تعالى على حق نفسه في ذلك المقال الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، ويستنفي المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسمحها، ولله حصا عقولهم ما أوزنها وأرجحها. اهـ.

وكان سؤاله (2) إياهم عما فعلوا بيوسف وأخيه هو سؤال العارف بأمرهم فيه من البداية إلى النهاية مصدقًا لما أوحاه الله إليه حين ألقوه في غيابة الجبّ من قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . إذ يبعد أن يعرف هذا سواه.

‌90

- ولما أرادوا أن يثبتوا من ذلك ويستيقنوا به وجهوا إليه سؤالًا هو سؤال المتعجب المستغرب لما يسمع وقالوا: {أإنك لَأَنْتَ يُوسُفُ} ؛ أي: قالوا هل من المؤكد قطعًا أنك أنت يوسف، وقد عجبوا من أنهم يترددون عليه مدى سنتين أو أكثر وهم لا يعرفونه، وهو يعرفهم، ويكتم نفسه، والاستفهام فيه للتقرير.

قرأ ابن كثير وقتادة وابن محيصن (3): {أَإِنَّكَ} على لفظ الخبر بغير همزة استفهام، والظاهر أنها مرادة، ويبعد حمله على الخبر المحض. وقرأ (4) نافع:{أينك} - بفتح الألف غير ممدودة وبالياء -. وقرأ أبو عمرو: {آينك} - بمد الألف وبالياء - وهو رواية قالون عن نافع. والباقون: {أإنك} بهمزتين وكل ذلك

(1) الخازن.

(2)

المراغي.

(3)

البحر المحيط.

(4)

المراح.

ص: 95

على الاستفهام؛ لأنهم فهموا من فحوى كلامه عليه السلام، أو من إبصار ثناياه وقت تبسمه عند تكلمه بذلك.

وقال: من قرأ على الخبر إن الأخوة لم يعرفوا يوسف حتى رفع التاج عن رأسه، فرأوا في قرنه علامة تشبه الشامة البيضاء كما كان ليعقوب وإسحاق مثل ذلك، فلما عرفوه بتلك العلامة قالوا ذلك.

{قالَ} يوسف عليه السلام جوابًا لهم {أَنَا يُوسُفُ} الذي ظلمتموني غاية الظلم، وقد نصرني الله تعالى فأكرمني وأوصلني إلى أسمى المراتب، أنا ذلك العاجز الذي أردتم قتله بإلقائه في غيابة الجبّ، ثم صرت إلى ما ترون {وَهَذَا}؛ أي: بنيامين {أَخِي} ؛ أي: شقيقي الذي فرقتم بيني وبينه وظلمتموه، ثم أنعم الله عليه بما تبصرون {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا}؛ أي: أنعم الله تعالى علينا، فجمع بيننا بعد الفرقة، وأعزنا بعد الذلة وآنسنا بعد الوحشة، وخلصنا مما ابتلينا به. وقيل: منَّ علينا بكل عز وخير في الدنيا والآخرة. وقيل: منَّ علينا بالسلامة في ديننا ودنيانا. وفيه إيماء إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين؛ لأنه أخي لا أخوكم.

قال بعض العلماء (1): إنما أظهر الاسم في قوله: {أَنَا يُوسُفُ} ولم يقل أنا هو تعظيمًا لما نزل به من ظلم إخوته له، وما عوضه الله من النصر والظفر والملك؛ فكأنه قال: أنا يوسف المظلوم الذي ظلمتموني، وقصدتم قتلي بأن ألقيتموني في الجبّ، ثم بعتموني بأبخس الأثمان، ثم صرت إلى ما ترون، فكان تحت ظهور الاسم هذه المعاني كلها. ولهذا قال:{وَهَذَا أَخِي} وهم يعرفونه؛ لأنه قصد به أيضًا وهذا أخي المظلوم كما ظلمتموني، ثم صرت أنا وهو إلى ما ترون، وهو قوله:{قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بكل عز وخير في الدنيا والآخرة {إِنَّهُ} ؛ أي: إن الشأن والحال {مَنْ يَتَّقِ} الله سبحانه وتعالى بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات {وَيَصْبِر} على المحن والبلايا والإذاية {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يُضِيعُ} ولا يبطل {أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} بالتقوى والصبر؛

(1) الخازن.

ص: 96

أي: لا يضيع أجرهم، فوضع المحسنين موضع المضمر لاشتماله على المتقين والصابرين. وقيل المعنى: من يتق مولاه ويصبر على بلواه. وقيل: من يتق الزنا ويصبر على العزوبة قاله ابن عباس. وقال مجاهد: يتقي المعصية ويصبر على السجن.

والمعنى (1): أن الحق الذي نطقت به الشرائع وأرشدت إليه التجارب هو من يتق الله فيما به أمر وعنه نهى، ويصبر على ما أصابه من المحن وفتن الشهوات والأهواء، فلا يستعجل الأقدار بشيء قبل أوانه، فإن الله لا يضيع أجره في الدنيا، ثم يؤتيه أجره في الآخرة.

وفي الآية شهادة له من ربه بأنه من المحسنين المتقين لله، وبأن من كان مطيعًا لنفسه الأمارة بالسوء ومتبعًا لنزغات الشيطان .. فإن عاقبته الخزي في الدنيا والنكال في الآخرة إلا من تاب وعمل صالحًا، ثم اهتدى. وقرأ (2) قنبل ابن كثير:{من يتقي} - بالياء - وصلًا ووقفًا. فقيل: هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة، وهذه الياء إشباع وقيل: جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول: لم يرمي زيد، وقد حكوا ذلك لغةً، وقيل غير ذلك. وقرأ الباقون بحذفها وصلًا ووقفًا، والإعراب على قراءتهم ظاهر واضح.

تنبيه: فإن قيل: لِمَ لَمْ يعرف يوسف إخوته بنفسه في أول مرة ليبشروا أباهم به، وبما هو عليه من حسن حال وبسطة وجاه، فيكون في ذلك السرور كل السرور له؟

فالجواب عن ذلك: ما أجاب به ابن القيم في كتابه "الإغاثة الكبرى" قال رحمه الله تعالى: لو عرفهم بنفسه في أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم، ولم يحل ذلك المحل، وهذه سنَّة الله تعالى في الغايات العظيمة الحميدة إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ له أسبابًا من المحن والبلايا والمشاق،

(1) المراغي.

(2)

البحر المحيط.

ص: 97