المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ}. {وَاجْنُبْنِي} - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٤

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ}. {وَاجْنُبْنِي}

كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ} .

{وَاجْنُبْنِي} يا رب؛ أي: باعدني {و} باعد {بَنِيَّ} وذريتي عن {أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} والأوثان؛ أي: ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإِسلام، والبعد عن الأصنام، وقد استجيب دعاؤه في بعض بنيه دون بعض ولا ضير في ذلك.

قيل: أراد (1) بنيه من صلبه، وكانوا ثمانية، وقيل: أراد من كان موجودًا حال دعوته من بنيه وبني بنيه، وقيل: أراد جميع ذريته ما تناسلوا، ويؤيد القول الأول ما قيل من أنه لم يعبد أحد من أولاد إبراهيم صنمًا، والصنم: هو التمثال الذي كانت تصنعه أهل الجاهلية من الأحجار ونحوها فيعبدونه؛ أي: واجعلنا في جانب بعيد من عبادتها؛ أي: ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة الإِسلام، والبعد عن عبادة الأصنام، وإلا فهو معصوم عن عبادتها، وكذا بعض بنيه معصومون كإسماعيل وإسحاق.

قال بعضهم (2): رأى إبراهيم قومًا يعبدون الأصنام، فخاف على بنيه فدعا. والجمهور على أن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه من رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو بن لحي كبير خزاعة، فهو أول من غير دين إبراهيم، وشرع للعرب الضلالات، وهو أول من نصب الأوثان في الكعبة وعبدها، وأمر الناس بعبادتها، وقد كان أكثر الناس في الأرض المقدسة عبدة الأوثان، وكان إبراهيم يعرفه، فخاف سرايته إلى كل بلد فيه واحد من أولاده، فعصم أولاده الصلبية من ذلك، وهي المرادة من قوله:{وَبَنِيَّ} فإنه لم يعبد أحد منهم الصنم لا هو ولا أحفاده. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر الثقفي شذوذًا (3): {وأجنبني} بقطع الهمزة على أنه من أجنب الرباعي.

‌36

- وقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} تعليل لقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ}

(1) الشوكاني.

(2)

روح البيان.

(3)

البحر المحيط.

ص: 417

وأما إعادة النداء بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ

} إلخ فلتأكيد النداء الأول، وكثرة الابتهال والتضرع إليه، وأنث الأصنام؛ لأنه جمع ما لا يعقل يخبر عنه أخبار المؤنث؛ أي: وإنما سألت منك العصمة، واستعذت بك من إضلالهن؛ لأنهن؛ أي: لأن الأصنام أضللن كثيرًا من الناس. أسند الإضلال إلى الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل؛ لأنها سبب لضلالهم، فكأنها أضلتهم؛ أي: يا رب إن الأصنام أزلن كثيرًا من الناس عن طريق الهدى وسبيل الحق حتى عبدوهن، وكفروا بك {فَمَنْ تَبِعَنِي} من الناس على ما أنا عليه من الإيمان بك، وإخلاص العبادة لك، والبعد عن عبادة الأوثان {فَإِنَّهُ مِنِّي}؛ أي: من أهل ديني، ومستن بسنتي، وجارٍ على طريقتي. جعل أهل ملته كنفسه مبالغة. {وَمَنْ عَصَانِي} وخالف أمري، فلم يتابعني، ولم يقبل مني ما دعوته إليه، وأشرك بك {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} له؛ أي: فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة عليه، وهدايته إلى الصراط المستقيم. قيل: قال هذا (1) قبل أن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به، كما وقع منه الاستغفار لأبيه وهو مشرك، كذا قال ابن الأنباري. وقيل: المراد هنا: عصيانه فيما دون الشرك. وقيل: إن هذه المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك.

فصل

واعلم: أنه قد توجه على هذه الآية إشكالات، وهي من وجوه (2):

الأول: أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يجعل مكة آمنة، ثم إن جماعة من الجبابرة وغيرهم قد أغاروا عليها، وأخافوا أهلها.

الوجه الثاني: أن الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام معصومون من عبادة الأصنام، وإذا كان كذلك، فما الفائدة في قوله: اجنبني عن عبادتها؟

(1) الشوكاني.

(2)

الخازن.

ص: 418

الوجه الثالث: أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه أيضًا أن يُجنب بنيه عبادة الأصنام، وقد وجد كثير من بنيه عبد الأصنام مثل كفار قريش، وغيرهم ممن ينسب إلى إبراهيم عليه السلام.

وقد يجاب عنها بوجوه كثيرة، فالجواب عن الوجه الأول من وجهين:

أحدهما: أن إبراهيم عليه السلام لما فرع من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد الله تعالى، ولم يقدر أحد على خراب مكة، وأورد على هذا ما ورد في "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة". أخرجاه في "الصحيحين". وأجيب عنه بأن قوله: {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} ، يعني: إلى قرب القيامة وخراب الدنيا. وقيل: هو عام مخصوص بقصة ذي السويقتين، فلا تعارض بين النصين.

الوجه الثاني: أن يكون المراد: اجعل أهل هذا البلد آمنين، وعلى هذا الوجه أكثر العلماء من المفسرين وغيرهم، وعلى هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله:{وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وأهل مكة آمنون من ذلك حتى إن من التجأ إلى مكة .. أمن على نفسه وماله من ذلك، وحتى أن الوحوش إذا كانت خارجة من الحرم استوحشت، فإذا دخلت الحرم .. أمنت واستأنست لعلمها أنه لا يهيجها أحد في الحرم، وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها.

وأما الجواب عن الوجه الثاني فمن وجوه أيضًا:

الوجه الأول: أن دعاء إبراهيم عليه السلام لنفسه لزيادة العصمة، والتثبيت، فهو كقوله:{وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} .

والوجه الثاني: أن إبراهيم عليه السلام وإن كان يعلم أن الله سبحانه وتعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه دعا بهذا الدعاء هضمًا للنفس، وإظهارًا للعجز والحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى ورحمته، وأن أحدًا لا يقدر على نفع نفسه

ص: 419