المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مع الجحد. قال الشاعر: فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارَهَا … سُرَادِقُ يَوْمٍ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٤

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: مع الجحد. قال الشاعر: فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارَهَا … سُرَادِقُ يَوْمٍ

مع الجحد.

قال الشاعر:

فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارَهَا

سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِيْ رِيَاحٍ تَرَفَّعُ

أي: ما برحت.

{حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم حكي ذلك عن أبي عبيدة وغيره، ومنه قول الشاعر:

سَرَ هَمِّي فَأمْرَضَنِيْ

وَقَدْمَا زَادَنِي مَرَضَا

كَذَاكَ الحُبُّ قَبْلَ الْيَوْ

مِ مِمَّا يُوْرِثُ الْحَرَضَا

وقال عبد الله بن عمر العرجي (1):

إِنِّيْ امْرُؤٌ لَجَّ بِيْ حُبٌّ فَأحْرَضَنِيْ

حَتَّى بَلِيْتُ وَحَتَى شَفَّنِيْ السَّقَمُ

ومعنى: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} ؛ أي: (2) تالفًا، وقال ابن عباس ومجاهد: دنفًا؛ أي: ملازمًا للمرض، وقال قتادة: هرمًا، والضحاك: باليًا داثرًا، ومحمد بن إسحاق: فاسدًا لا عقل لك. وقال الفراء: الحارض: الفاسد الجسم والعقل وكذا الحرض. وقال ابن زيد: الحرض الذي قد ردَّ إلى أرذل العمر. وقال الربيع بن أنس: يابس الجلد على العظم. وقال المؤرِّخ: ذائبًا من الهم. وقال الأخفش، ذاهبًا، وابن الأنباري: هالكًا، وكلها متقاربة.

‌86

- فأجابهم والتمس لنفسه معذرة على الحزن كما حكاه الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: {قَالَ} يعقوب عليه السلام، وهذه الجملة مستأنفة في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قال يعقوب لهم حين قالوا له ما قالوا؟ فقيل: قال يعقوب جوابًا لأولاده اللائمين له: لا تلوموني يا أولاد على حزني وبكائي، وأنا لم أشك إليكم حزني ولا إلى أحد من خلق الله، بل {إِنَّمَا أَشْكُو} وأظهر {بَثِّي}؛ أي:

(1) زاد المسير.

(2)

القرطبي.

ص: 87

شديد حزني وهمي {وَحُزْنِي} ؛ أي: وقليل حزني {إِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى ملتجئًا إلى جنابه متضرعًا لدى بابه في دفعه. وقد (1) ذكر المفسرون أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب .. كان ذلك حزنًا، وإن لم يقدر على كتمه كان ذلك بثًا، فالبث على هذا أعظم الحزن وأصعبه. والحزن (2): أعم من البث، فإذا عطف على الخاص يراد به الأفراد الباقية، فيكون المعنى: لا أذكر الحزن العظيم والحزن القليل إلا مع الله، لا مع غيره من الناس. وقيل: البث الهم، وقيل: هو الحاجة. وعلى هذا القول يكون عطف الحزن على البث واضح المعنى. وقرأ الجمهور: {حُزْني} - بضم الحاء وسكون الزاي -. وقرأ (3) الحسن وعيسى: {وحَزَني} - بفتحتين -. وقرأ قتادة بضمتين، وما عدا قراءة الجمهور شاذ.

فإن قيل (4): لِمَ قال يعقوب {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ، ثم قال:{يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} ، وقال:{إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} ؟ فكيف يكون الصبر مع الشكوى؟

قيل: ليس هذا إلا شكاية من النفس إلى خالقها، وهو جائز، ألا ترى أن أيوب عليه السلام قال:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وقال تعالى مع شكواه إلى ربه في حقه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} لأنه شكا منه إليه، وبكى منه عليه، فهو المعذور لديه؛ لأن حقيقة الصبر ومعناه الحقيقي حبس النفس ومنعها عن الشكوى إلى الغير، وترك الركون إلى الغير، وتحمل الأذى والابتلاء لصدوره من قضائه وقدره، كما قيل بلسان الحقيقة:

كُلُّ شَيءٍ مِنَ الملِيْحِ مَلِيْحُ

لَكنِ الصَّبْرُ عَنْهُ غَيْرُ مَلِيْحِ

وقيل أيضًا:

وَالصَّبْرُ عَنْكَ فَمَذْمُوْمٌ عَوَاقِبُهُ

وَالصَّبْرُ فِي سَائرِ الأَشْيَاءِ مَحْمُوْدُ

وذلك لأن المحب لا يصبر عن حضرة المحبوب، فلا يزال يعرض حاله

(1) الشوكاني.

(2)

روح البيان.

(3)

البحر المحيط.

(4)

روح البيان.

ص: 88

وافتقاره إلى حضرته، ولسان العشق لسان التضرع والحكاية، لا لسان الجزع والشكاية، فشكاية العارف الواقف في صورة الشكوى حكاية حاله وتضرعه وافتقاره إلى حبيبه.

وروى الحاكم (1) - أبو عبد الله - في "صحيحه" من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان ليعقوب أخ مؤاخ" فقال له ذا يوم: يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك، وما الذي قوس ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري، فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوّس ظهري فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: أما تستحيي أن تشكو إلى غيري؛ فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو، ثم قال يعقوب: أي رب؛ أما ترحم الشيخ الكثير أذهبت بصري، وقوست ظهري، فاردد عليَّ ريحانتاي أشمهما شمة قبل الموت، ثم اصنع بي يا رب ما شئت، فأتاه جبريل فقال: يا يقعوب إن الله يقرأ عليك السلام، ويقول: أبشر فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك، إصنع طعامًا للمساكين، فإن أحب عبادي إلي المساكين، وهل تدري لم أذهبت بصرك وقوست ظهرك وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؛ لأنكم ذبحتم شاة، فأتاكم فلان المسكين وهو صائم، فلم تطعموه منها، فكان يعقوب بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديًا فنادى ألا من أراد الغداء من المساكين .. فليتغد مع يعقوب، وإذا كان صائمًا أمر مناديًا فنادى من كان صائمًا .. فليفطر مع يعقوب.

وقال وهب بن منبِّه (2): أوحى الله تعالى إلى يعقوب: أتدري لما عاقبتك، وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا، قال: لأنك شويت عناقًا، وقترت على جارك، وأكلت ولم تطعمه، وذكر بعضهم أن السبب في ذلك أن يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها وهي تخور، فلم يرحمها.

(1) زاد المسير.

(2)

زاد المسير.

ص: 89