المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌16 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٤

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ‌ ‌16 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير

‌16

- {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى: {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والاستفهام فيه للتقرير؛ أي: من مالك السماوات والأرض، ومن مدبرهما وخالقهما؟ فسيقولون: الله؛ لأنهم مقرون بأن الله خالق السماوات وما فيها والأرض وما فيها، فهذا أجابوك بذلك فـ {قُلِ} أنت يا محمد:{اللَّهُ} رب السماوات والأرض ومالكهما وخالقهما ومتولي أمرهما؛ إذ لا جواب لهم سواه؛ لأنه البين الذي لا مراء فيه؛ أي: قل لهم (1): الذي خلقها وأنشأها وسواها على أتم موضع وأحكم بناء هو الله، وقد أمر عليه السلام ليجيب بذلك؛ للإشارة إلى أنه هو وهم سواء في ذلك الجواب الذي لا محيص منه، وهم لا ينكرونه البتة كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} .

وقيل (2): لما قال هذه المقالة للمشركين عطفوا عليه، وقال: أحب أنت، فأمره الله أن يجيبهم بقوله:{قُلِ اللَّهُ} ؛ أي: قل يا محمد الله خالقهما وربهما. وقيل: إنما جاء السؤال والجواب من جهة واحدة؛ لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق كل شيء، فلما لم ينكروا ذلك وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:{اللَّهُ} ، فكأنهم قالوا ذلك أيضًا، ثم ألزمهم الحجة على عبادتهم الأصنام بقوله:{قُلِ} يا محمد للمشركين {أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ} تعالى {أَوْلِيَاءَ} وآلهة يعني الأصنام، فالهمزة فيه للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أعلمتم أن ربهما هو الذي ينقاد لأمره من فيهما كافة، فاتخذتم من دونه تعالى أصنامًا {أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ} أولئك الأولياء {لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}؛ أي: لا يستطيعون لأنفسهم جلب نفع إليها ولا دفع ضرر عنها، وإذا عجزوا عن جلب النفع إلى أنفسهم، ودفع الضرر عنها .. كانوا عن نفع الغير ودفع الضرر عنه أعجز، ومن هو كذلك، فكيف يعبد ويتخذ وليًّا وهذا تجهيل لهم وشهادة على غباوتهم وضلالتهم التي ليس بعدها ضلال. وفي "روح البيان" الهمزة (3) للإنكار، والفاء للاستبعاد؛ أي: أبعد إقراركم هذا وعلمكم بأنه تعالى

(1) المراغي.

(2)

الخازن.

(3)

روح البيان.

ص: 215

صانع العالم ومالكه اتخذتم من دونه تعالى أصنامًا، وعبدتم من غيره تعالى أولياء وأربابًا، لا يستجلبون لأنفسهم نفعًا ولا يدفعون عنها ضررًا، فبالأولى أن يكونوا عاجزين عن تحصيل المنفعة للغير ودفع المضرة عن الغير، فإذا عجزوا عن ذلك كانت عبادتهم محض العبث والسفه، وهو منكر بعيد من مقتضى العقل.

وخلاصة ذلك (1): أفبعد أن علمتم أنه هو الخالق لهذا الخلق العظيم تتخذون من دونه أولياء هم غاية في العجز، وجعلتم ما كان يجب أن يكون سببًا في الاعتراف بالوحدانية، وهو علمكم بذلك سببًا في إشراككم به سواه من أضعف خلقه، وهو بمعنى قوله:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} .

ثم ضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا للمشركين الذين يعبدون الأصنام، والمؤمنين الذين يعترفون بأن لا رب غيره ولا معبود سواه، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، فقال:{قُلْ} لهم يا محمد {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى} في دينه وهو الكافر {وَالْبَصِيرُ} فيه وهو الموحد، فإن الأول جاهل لما يجب عليه وما يلزمه، والثاني عالم بذلك، والاستفهام فيه للتقريع والتوبيخ. والكلام على التشبيه (2)؛ أي: فكما لا يستوي الأعمى والبصير في الحس، كذلك لا يستوي المشرك الجاهل بعظمة الله وثوابه وعقابه، وقدرته مع الموحد العالم بذلك.

والمعنى: أي قل لهم (3) مصوِّرًا سخيف آرائهم مفنِّدًا قبيح معتقداتهم: هل يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئًا ولا يهتدي لمحجة يسلكها إلا بأن يهدى بدليل، والبصير الذي يهدي الأعمى لسلوك الطريق؟ لا شك أن الجواب أنهما غير متساويين، فكذلك المؤمن الذي يبصر الحق فيتبعه، ويعرف الهدى فيسلكه لا يستوي هو وإياكم، وأنتم لا تعرفون حقًّا ولا تبصرون رشدًا.

ثم ضرب مثلًا للكفر والإيمان بقوله: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ} و {أَمْ} هنا

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

(3)

المراغي.

ص: 216

منقطعة تقدر ببل وبهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل (1) أهل تستوي الظلمات التي لا ترى فيها الطريق، فتسلك {وَالنُّورُ} الذي يبصر به الأشياء ويجلو ضوؤه الظلام؟ لا شك أن الجواب عن ذلك أنهما لا يستويان، فكذلك الكفر باللهِ صاحبه منه في حيرة يضرب أبدًا في غمرة لا يهتدي إلى حقيقة، ولا يصل إلى صواب، والإيمان باللهِ صاحبه منه في ضياء، فهو يعمل على علم بربه ومعرفة منه بأنه يثيبه على إحسانه ويعاقبه على إساءته، ويرزقه من حيث لا يحتسب ويكلؤه بعنايته في كل وقت وحين، فهو يفوض أمره إليه إذا أظلمت الخطوب وتعددت في نظره مدلهمات الحوادث. والكلام (2) على التشبيه أيضًا؛ أي: فكما لا تستوي الظلمات والنور، كذلك لا يستوي الشرك والإنكار، والتوحيد والمعرفة، ووحد النور وجمع الظلمة؛ لأن طريق الحق واحد والباطل طرقه كثيرة، كشرك اليهود وشرك النصارى وشرك عبدة الأوثان وشرك المجوس وغيرها بخلاف التوحيد. وقرأ (3) الأخوان حمزة والكنسائي وأبو بكر:{أم هل يستوي} - بالياء - والجمهور: {تستوي} بالتاء الفوقية. و {أَمْ} في قوله: {أَمْ هَلْ} منقطعة تتقدر بـ {بل} والهمزة على المختار، والتقدير: بل أهل تستوي، و {هَلْ} وإن نابت عن همزة الاستفهام في كثير من المواضع، فقد جامعتها في قول الشاعر:

أهْلٌ رَأوْنَا بِوَادِيْ

الفَقْرِ ذِيْ الأكَمِ

وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأن تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى، وهل بعد أم المنقطعة يجوز أن يؤتى بها لشبهها بالأدوات الاسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كقوله:{أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} . ويجوز أن لا يؤتى بها بعد أم المنقطعة؛ لأن أم تتضمنها، فلم يكونوا ليجمعوا بين أم والهمزة، لذلك ذكره أبو حيان في "البحر".

و {أَمْ} في قوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار.

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

(3)

البحر المحيط.

ص: 217

وجملة {خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} صفة لـ {شُرَكَاءَ} ؛ أي: بل أجعل هؤلاء المشركون لله سبحانه وتعالى شركاء وآلهة يستحقون العبادة معه تعالى خلقوا؛ أي: خلق أولئك الشركاء سماوات وأرضين وشمسًا وقمرًا وجبالًا وبحارًا وجنًّا وإنسًا كخلقه تعالى إياهن؛ أي: خلقوا مخلوقًا مماثلًا لما خلقه الله تعالى. {فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} ؛ أي: فاشتبه (1) عليهم مخلوق الله بمخلوق الشركاء حتى يقولوا: قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه، فاستحقوا العبادة، فنتخذهم له شركاء، ونعبدهم كما يعبد، ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلًا أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق. وهذا الاستفهام إنكاري (2)؛ أي: ليس الأمر كذلك حتى يشتبه عليهم الأمر، بل إذا تفكروا بعقولهم وجدوا الله تعالى هو المنفرد بخلق سائر الأشياء، والشركاء مخلوقون له أيضًا لا يخلقون شيئًا حتى يشتبه خلق الله بخلق الشركاء، وإذا كان الأمر كذلك .. فقد لزمتهم الحجة؛ وهو قوله تعالى:{قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . والمعنى؛ أي: بل (3) أخلق أوثانكم التي اتخذتموها معبودات من دون الله خلقًا كخلقه، فاشتبه عليكم أمرها فيما خلقت وخلق الله، فجعلتموها له شركاء من أجل ذلك، أم أن بكم الجهل والبعد عن الصواب؛ إذ لا يخفى على من له مسكة من العقل أن عبادة ما لا يضر ولا ينفع من الجهل بحقيقة المعبود ومن يجب له التذلل والخضوع والإنابة والزلفى والإخبات إليه، وإنما الواجب عبادة من يرجى نفعه ويخشى عقابه وضره، وهو الذي يرزقه ويمونه آناء الليل وأطراف النهار، وإذا كان الأمر كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الألوهية محض الجهل.

ثم ذكر فذلكة لما تقدم، ونتيجة لما سبق من الأدلة والأمثال التي ضربت بها، فقال:{قُلِ} يا محمد لهؤلاء المشركين مبيِّنًا لهم وجه الحق {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} من الأجسام والأعراض، لا خالق غير الله فيشاركه في العبادة؛ أي: الله خالقكم وخالق أوثانكم، وخالق كل شيء مما يصح أن يكون

(1) النسفي.

(2)

الخازن.

(3)

المراغي.

ص: 218