الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ميل الطبع ورغبة النفس، فلا يعارض قوله تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} ؛ لأن الواقع فيما بينهم المخالة لله، أو من قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة، وإنما ينتفع فيه بالطاعة التي من جملتها إقامة الصلاة والإنفاق لوجه الله تعالى وادخار المال، وترك إنفاقه إنما يقع غالبًا للتجارات والمهاداة، فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة، فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت.
والمعنى (1): أن يوم القيامة لا بيع فيه حتى يفتدى المقصر في العمل نفسه من عذاب الله بدفع عوض عن ذلك، وليس هناك مخاللة حتى يشفع الخليل لخليله، وينقذه من العذاب، فأمرهم سبحانه بالإنفاق في وجوه الخير مما رزقهم ما داموا في الحياة الدنيا قادرين على إنفاق أموالهم من قبل أن يأتي يوم القيامة، فإنهم لا يقدرون على ذلك، بل لا مال لهم إذ ذاك، فالجملة أعني (2):{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} لتأكيد مضمون الأمر بالإنفاق مما رزقهم الله تعالى، ويمكن أن يكون فيها أيضًا تأكيد لمضمون الأمر بإقامة الصلاة، وذلك لأن تركها كثيرًا ما يكون بسبب الاشتغال بالبيع ورعاية حقوق الأخلاء.
والخلاصة (3): وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي اليوم الذي لا تنفع فيه فدية، ولا تجدي فيه صداقة، فلا يشفع خليل لخليل، ولا يصفح عن عقابه لمخالته لصديقه، بل هناك العدل والقسط، كما قال جل جلاله:{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وقال أيضًا:{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} .
32
- ولما (4) أطال سبحانه وتعالى الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء، كان حصول السعادة بمعرفة الله وصفاته، والشقاوة بالجهل بذلك .. ختم وصفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته، فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
(1) الشوكاني.
(2)
الشوكاني.
(3)
المراغي.
(4)
البحر المحيط.
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وذكر عشرة أنواع من "الدلائل" فذكر أولًا إبداعه وإنشاءه السماوات والأرض، ثم أعقب بباقي الدلائل وأبرزها في جملة مستقلة، ليدل وينبه على أن كل جملة منها مستقلة في الدلالة، ولم يجعل متعلقاتها معطوفات عطف المفرد على المفرد. وفي "الفتوحات" (1): ذكر لهذا الموصول سبع صلات تشتمل على عشرة أدلة على وحدانية الله تعالى، ولفظ الجلالة مبتدأ، أو الموصول خبره.
والمعنى: الله الذي يستحق منكم العبادة هو الإله الذي أبدع واخترع وأوجد السماوات السبع على غير مثال سبق، وأوجد ما فيها من الأجرام العلوية، وخلق الأرض وما فيها من المخلوقات، وقدم السماوات على الأرض؛ لأنها بمنزلة الذكر من الأنثى، وبدأ بذكر خلق السماوات والأرض؛ لأنهما أعظم المخلوقات الشاهدة الدالة على وجود الصانع المختار القادر الحكيم. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من السحاب، فإن كل ما علاك سماء، أو من الفلك، فإن المطر منه يبتدىء إلى السحاب، ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه ظواهر النصوص، وهذا القول أرجح عند بعضهم؛ لأن الله تعالى زاد بيان نعمه على عباده، فبين أولًا خلق السماوات والأرض، ثم أشار إلى ما فيها من كليات المنافع، لكنه قدم وأخر كتأخير تسخير الشمس والقمر؛ ليدل على أن كلا من هذه النعم نعمة على حدة، ولو أريد السحاب لم يوجد التقابل التام وأيًّا ما كان، فـ {مِنَ} ابتدائية {مَاءً}؛ أي: نوعًا من أنواع الماء، وهو المطر، فتنكير الماء هنا للنوعية {فَأَخْرَجَ بِهِ}؛ أي: فأنبت بذلك الماء الذي أودع فيه القوة الفاعلية، كما أنه أودع في الأرض القوة القابلية {مِنَ الثَّمَرَاتِ} المتنوعة {رِزْقًا لَكُمْ} يا بني آدم تعيشون به، وهو بمعنى المرزوق شامل للمطعوم والملبوس، وهو مفعول به لـ {أخرج} و {من} للتبيين حال منه، كقولك: أنفقت من الدراهم ألفًا؛ أي: رزقًا هو الثمرات، و {لَكُمْ} صفة له. وقيل: للتبعيض؛ لأن الثمرات منها ما هو رزق لبني آدم، ومنها ما ليس برزق لهم، وهو ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به، كأنه قيل: أنزل من
(1) روح البيان.
السماء بعض الماء، فأخرج به بعض الثمرات؛ ليكون بعض رزقكم. والمعنى (1): الله الذي خلق لكم السماوات والأرض هنا أكبر خلقًا منكم، وفيهما من المنافع لكم ما تعلمون وما لا تعلمون وتقدم تفصيل هذا في مواضع متعددة من كتابه الكريم، وأنزل من السماء غيثًا أحيا به الشجر والزرع، فأثمرت لكم رزقًا تأكلون منه وتعيشون به.
ولما ذكر (2) الله سبحانه وتعالى إنعامه بإنزال المطر وإخراج الثمر، لأجل الرزق والانتفاع به من ذكر نعمته على عباده بتسخير السفن الجارية على الماء؛ لأجل الانتفاع بها في جلب ذلك الرزق الذي هو الثمرات وغيرها من بلد إلى بلد آخر فهي من تمام نعمة الله على عباده، فقال:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ} ؛ أي: وذلل لكم السفن - جمع ذلك بمعنى سفينة - بأن أقدركم على صنعتها واستعمالها بما ألهمكم كيفية ذلك {لِتَجْرِيَ} ؛ أي: تلك الفلك والسفن {بِأَمْرِهِ} ؛ أي: بإرادته إلى حيث توجهتم وانطوى (3) في تسخير الفلك تسخير البحار وتسخير الرياح. وفي "أنوار المشارق": يجوز ركوب البحر للرجال والنساء عند غلبة السلامة، كذا قال الجمهور، وكره ركوبه للنساء؛ لأن الستر فيه لا يمكنهن غالبًا ولا غض البصر عن المتصرفين فيه، ولا يؤمن من انكشاف عوراتهن في تصرفهن لا سيما فيما صغر من السفن مع ضرورتهن إلى قضاء الحاجة بحضرة الرجال.
والمعنى: أي وذلل لكم السفن بأن أقدركم على صنعها وجعلها طافية على وجه الماء تجري عليه بأمره تعالى، وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها المسافات الشاسعة من إقليم إلى إقليم؛ لجلب ما هناك إلى هنا ونقل ما هنا إلى هناك {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ}؛ أي: المياه العظيمة الجارية في الأنهار العظام تشق الأرض شقًّا من قطر إلى قطر، وتسخيرها: جعلها معدة لانتفاعكم بها حيث تشربون منها، وتتخذون منها جداول تسقون بها زروعكم وحدائقكم وما أشبه ذلك. ولما (4) كان ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزرع والثمرات ولا في الشراب أيضًا .. ذكر نعمته على عباده في تسخير الأنهار، وتفجير العيون؛ لأجل
(1) المراغي.
(2)
الخازن.
(3)
روح البيان.
(4)
الخازن.